بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فاعلم أن الاختلاف في مسألة الأسماء والأحكام – أي وَصْف الرجل بالإيمان أو الكفر، ومِنْ ثَمَّ الحكم عليه بالجنة أو النار – أول خلاف وقع في هذه الأمة، وظهر به الفَرْق بين أهل السنة، والخوارج والمعتزلة والمرجئة.
ثم اعلم أن الحُكْم على الناس بالتكفير والتفسيق أمره عظيم عند الله – كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله- ولذلك وضع له أهل السنة ضوابط وقيودًا وأصولاً, حتى يكون إطلاق ذلك صوابًا, بعيدًا عن الإفراط والتفريط, لما لذلك من آثار سيئة على الفرد والمجتمع, كما سيأتي تفصيله – إن شاء الله تعالى- إلا أنني أحب التنبيه على أمور قبل الكلام عن هذه الضوابط، فمن ذلك:
1- أهل السنة إنما يُحَذِّرون من الإفراط أو التفريط في هذه الأحكام, أما إذا كان الحكم الصادر من العالم المتأهِّل لذلك قد رُوعيتْ فيه ضوابطه وأصوله؛ فإنهم لا يمنعون من جواز إطلاق الحكم حينئذٍ, بل يتقربون إلى الله تعالى بذلك, وإلا وقعوا في الحكم بغير ما أنزل الله, إنما يذمون التجاوز للحد, أو التقصير عنه, ولذا فهم يذمون منهج الفِرَق المُفْرِطة في ذلك كالخوارج, والمعتزلة, والرافضة, وغيرهم, كما يذمون منهج الفرق المُفَرِّطة في ذلك كالمرجئة, فإن كلا طرفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذميمُ.
2 – الخلل في هذا الباب الخطير يؤدي إلى الفوضى, واستحلال الدماء والأعراض والأموال, ويُقطِّع أوصال المجتمع المسلم, وهذا مما يريده الشيطان وحزبه, يقول الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {الأنعام:159} وقال تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا] {آل عمران:103} وقال عز وجل: [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ] {الشُّورى:13} وقال جل وعلا: [وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ(31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(32) ]. {الرُّوم}. ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض”([1]).
فلا بد من تحرير هذه الضوابط, ومراعاتها بدقة؛ حتى لا تصل الأمة إلى هذا الحد المدمِّر من فساد ذات البين، وحتى يحافظوا على وَحْدتهم، وأُلْفتهم، وقوتهم.
3 – لا شك أن الخلل في هذا الأمر العظيم له أسباب كثيرة, فمنها:
أ – عدم الرجوع إلى الكتاب والسنة في معرفة الأحكام الشرعية, إنما يحْتكمون في هذا الأمر الخطير إلى قواعد مُحْدَثة, وأقوالٍ عارية عن الأدلة, وحظوظ نفسية, وعصبية جاهلية, والله عز وجل يقول: [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ] {البقرة:231} وقال تعالى: [إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى] {النَّجم:23} فترى بعض الناس هَمَّه إطلاق أحكام الكفر على الآخرين، فإذا ذكرْتَ له ضوابط أهل السنة، وحررْت له أدلتها، وأخبرتَه أن هذا المقام ليس كلأً مباحًا لكل أحد، وشَعَر بتضييق الخناق في هذا؛ قال: بناءً على هذا فلا يوجد كافر، أو من نكفِّر إذًا؟ وكأن الغلو في التكفير، وتوسيع دائرته على الأفراد والمجتمعات غاية شرعية، ومقصد من مقاصد الشريعة من أول وهلة!! ألم يعلم هذا القائل أن الواجب شرعًا دعوة الناس إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والشفقة عليهم، والحرص على هدايتهم، والفرح باستقامتهم، والتألم لإعراضهم، كما وصف الله رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بحرصه على المؤمنين، فقال سبحانه: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:128} بل قال الله عز وجل مُسَلّيًا نبيه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في صبره على دعوة الكفار، وحرصه على هدايتهم: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا] {الكهف:6} قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري – رحمه الله- في تفسير هذه الآية: “يعني تعالى ذكره بذلك: فلعلك يا محمد قاتل نفسك ومهلكها على آثار قومك الذين قالوا لك: [لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا] {الإسراء:90} تمردًا منهم على ربهم، إن هم لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنزلته عليك، فيصدِّقوا بأنه من عند الله؛ حُزْنًا وتلَهُّفًا ووجْدًا، بإدبارهم عنك، وإعراضهم عما أتيتهم به، وتركهم الإيمان بك” اهـ([2]).
فأين الحرص على هداية الخلْق أولاً، والسعي في تبليغهم دين الله، وإزالة الشبهات عنهم – لهدايتهم لا للتسرع في إلقاء الأحكام عليهم إن لم ينقادوا-؟ وأين التلطُّف في دعوتهم، وعدم إعانة شياطين الجن والإنس عليهم؟ أين هذا كله قبل الاندفاع إلى تكفير المسلمين، والحكم بخروجهم من ملة الإسلام؟
نعم، تكفير من لم يدخل في الإسلام أصلاً، ومن ارتد ردة صحيحة صريحة، وأفتى بذلك العلماء ومراجع الأمة، كل ذلك لا يتعارض مع دعوته بالحكمة، ومجادلته بالتي هي أحسن، أو إقامة الحد عليه إذا استوفى شروط ذلك كله، وانتفت عنه موانعه؛ وكل هذا مما جاءت به الشريعة الشاملة الكاملة.
ب – ومن أسباب الخلل في هذا الباب: التأويلات الفاسدة, وأَخْذُ أحكام هذا الباب عن غير أهله الفاقهين فيه، ولا شك أن الرجوع إلى فهم الصحابة – رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان من علماء هذه الأمة هو سبيل النجاة، والأدلة والتاريخ يشهدان بذلك.
وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه “الصلاة وحكم تاركها” (ص26) تقسيم الكفر إلى أكبر وأصغر، ثم قال: “وهذا التفصيل هو قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر ولوازمها، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين…” الخ، ثم ذكر انقسام الكفر، والشرك، والنفاق، والفسق إلى أكبر وأصغر.
ويُذْكَر هنا ما أخرجه الخطيب: أن أحد الخوارج أُدخل على المأمون، فقال: ما حملك على خلافنا؟ قال: آية في كتاب الله تعالى، قال: وما هي؟ قال: قوله: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44} فقال له المأمون: ألك عِلْمٌ بأنها منزلة؟ – أي هل أنت متيقن من كونها آية من القرآن الكريم؟- قال: نعم، قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة، قال: فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل، فارْض بإجماعهم في التأويل، قال: صَدَقْتَ، السلام عليك يا أمير المؤمنين اهـ([3])، وهذه الحكاية وإن لم يصح سندها؛ إلا أن المعنى صحيح، أي فكما صدَّقنا الصحابة – رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان في الرواية، فلْنأخذ بمنهجهم في الدراية، وكما قَبِلْنا نقْلهم للتنـزيل؛ فلْنقْبلْ فهمهم للتأويل.
جـ – ومن أسباب هذا الخلل في باب التكفير: لَبْس الحق بالباطل, وترْك بعض الحق, وأَخْذ بعض الباطل, وهذا ناتج عن الكلام في أمر لم تُجْمَع أدلته، ولم يُرْجَع فيه إلى أهله.
د- التساهل في ظُلْم الناس, ووجود النزعة العدوانية عليهم, كما جرى من الخوارج في ظلمهم وتكفيرهم للصحابة، وقتل بعض الخلفاء الراشدين – وإن أَلْبسوا ذلك لباس التديُّن والتأويل- بل تجرَّأ أصلهم ذو الخويصرة على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: “اعدل يا محمد“([4]).
هـ – تفسير المصطلحات الشرعية بغير الشرع, وتوسع بعضهم في الرجوع في هذا الباب إلى كُتَّاب عصريين، وشباب متهورين، واعتماد كثير منهم على كتب اللغة في تفسير القرآن والسنة, مع أن الألفاظ منها شرعي لا يفسِّره إلا الشرع وأهل العلم المتخصصون فيه: كالصلاة، والصوم, والإيمان, والكفر, ومنها كلام لغوي يُرجع فيه إلى كتب اللغة: كالشمس والقمر, ومنها عُرْفي يُرجع فيه إلى العُرف, كالمرض والسفر المرخِّصَيْن في الفطر والقصر.
و- عدم إعذار بعضهم الناسَ بالعجز والخطأ, ويرون ذلك تفريطًا منهم يُعاقَبون عليه بالتكفير، ومِنْ ثَمَّ الحكم عليهم باستحلال دمائهم.
ز- ومن خلال الضوابط التي ستُذكر يمكن القول: بأن الإخلال بأي ضابط منها سبب من أسباب الإخلال بهذا الباب, والله أعلم.
4- ومن الأمور التي يُنَبَّه عليها: أن الخطأ في إكفار مسلم أعظم عند الله من الخطأ في الحكم بإسلام كافر:
واعلم أن الخطأ في هاتين المسألتين ليس سواء, وكثير ممن اختل عندهم الميزان الشرعي في باب التكفير, وغَلَوْا في ذلك؛ يهدِّدون مخالفيهم بأن الخطأ فيهما سواء, ويقولون لمخالفهم: كما تُنكر علينا الإقدام على التكفير لمسلم في نظرك؛ فنحن ننكر عليك الإحجام عن تكفير الكافر في نظرنا، والذي تسمية أنت -خَطَأً- مسلمًا!! وهذه مكيدة يصطادون بها كثيرًا ممن لم يستبصر بأدلة هذا الباب, فيندفع في تكفير المسلمين، خشية أن يقع في الحكم بغير ما أنزل الله إن لم يكفِّر الكافر!! وبيان خلل ذلك من وجوه:
(أ) لقد وَرَدَ التحذير من التجرؤ على تكفير المسلم, والخطأ في هذا الباب دون أهلية لذلك، ولم يرِدْ مثله في الخطأ في إبقاء حكم الإسلام على مسلم وقع في مُكَفِّر: قولاً أو فعلاً, أو اعتقادًا, أو الخطأ في الحكم بإدخال كافر في الإسلام أظهر شعيرة من شعائر الإسلام.
فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “أيّما امرئ قال لأخيه: يا كافر, فقد باء بها أحدهما, إن كان كما قال؛ وإلا رجعتْ عليه“([5]) وفي رواية([6]): “لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق, ولا يرميه بالكفر؛ إلا ارتدت عليه, إن لم يكن صاحبه كذلك“وفي رواية أخرى([7]): “من لعن مؤمنًا؛ فهو كقتله, ومن قذف مؤمنًا بكفر؛ فهو كقتله” ولما قال عابد بني إسرائيل لفاجرهم : والله لا يغفر الله لك أبدًا([8]) قال تعالى كما في الحديث القدسي: “من ذا الذي يتألَّى عليّ؟ هل كنتَ بي عالماً؟ أم كنتَ على ما في يدي قادراً؟ اذهبوا به – أي بالرقيع- إلى الجنة, وبهذا – أي العابد المتجرئ على الله- إلى النار” فقال أبو هريرة: قال كلمة أَوْبقتْ دنياه وآخرته.
فهذه أدلة كلها في التحذير من الإفراط في التكفير والتفسيق, فأين الأدلة التي وردت في مقابلها بتهديد من أخطأ في الحكم بإسلام كافر إذا كان مُدَّعِي التسوية مصيبًا؟!
(ب) المتأمل في سيرة النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يجد أنه كان يقبل إسلام الأفراد, والجماعات, والقبائل في الوفود بمجرد كلمة “أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله” مع أن بعضهم قد يُسْلم طمعًا في دنيا, أو خوفاً من سيف, أي عن رغبة أو رهبة, ولا يُخْلِص دينه لله, كالمنافقين, فكان قبول دخولهم في الإسلام سهلاً, ثم تجري عليهم أحكام الإسلام مباشرة, حتى لو كان دخولهم فيه بكلمة واحدة, أو بإشارة, أو بكلمة ظاهرها سيء، لكنهم ما قصدوا هذا المعنى، كبني جُدَيْمة عندما قالوا: “صبأنا” وقد عجزوا عن قولهم: “أسلمْنا” أو نحو ذلك.
وأما إخراجهم من الإسلام بعد دخولهم فيه فيكون بعد الاستتابة, وإقامة الحجة, والاستفصال, وإزالة الشبهة, وقَطْع العذر, ولم يأت قبل الحكم بإسلامهم إمهالهم عدة أيام حتى يتعرفوا على الدين من جميع جوانبه، وحتى لا يُحكم لهم بالإسلام إلا بعد ثبوت تيقنهم بكل ما هو مطلوب منهم إذا دخلوا في الإسلام!! وسيأتي – إن شاء الله تعالى- موقف رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مِنْ حاطِبٍ عندما والَى المشركين, وكيف استفصل في دوافع فعله المحرَّم، وهذا دليل على الفرق بين الإدخال في الإسلام لمن كان كافرًا في الأصل، وبين إخراج المسلم من الإسلام بعد دخوله فيه, وكل هذا من باب الترغيب في الدخول في الإسلام, والمبالغة في حَقْنِ الدماء, والعمل بالظاهر دون الغوص في السرائر، أما مذهب الغلو في التكفير للأفراد والمجتمعات فيغلِّب جانب إهدار الدماء، وإخراج المسلمين من الإسلام جماعاتٍ وأفرادًا, وهذا بخلاف مقصود الشرع.
ومن الأدلة على ذلك: قصة الرجل المشرك الذي كان إذا مَالَ على طائفة من المسلمين قتلها, وأنزل بها النكاية، فلما رآه أسامة بن زيد – حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وابن حِبِّه- أخذته الغيرة الإيمانية على الدماء المسلمة التي عَبَثَ بها هذا المشرك, فلما رفع عليه السيف ليقتله, قال المشرك عندما رأى بريق السيف: لا اله إلا الله, فظن أسامة أنه ما قالها إلى تعوذًا من السيف؛ إذْ لو كان مؤمنًا حقًّا لردعه إيمانه عن فعله بالمسلمين قُبيْل كلمته هذه بقليل, فقتله أسامة غضبًا منه لله عز وجل، ولدينه، وأوليائه, فلما علم رسول الله – صلى الله عليه وعلى وآله وسلم- بذلك أنكر عليه، وقال: “أَقَتَلْتَهُ بعد أن قال لا إله إلا الله” فاعتذر أسامة بما سبق, ولولا إنكار رسول الله – صلى عليه وعلى آله وسلم- عليه؛ لكان لعذره وجاهة عند كثير من الناس لما سبق, لكن العبرة في إنكار رسول الله – صلى عليه وعلى آله وسلم- لا فيما اعتذر به أسامة, فقد قال أسامة معتذرًا: ما قالها إلا تعوذًا يا رسول الله, فقال له رسول الله – صلى عليه وعلى آله وسلم-: “هلا شَقَقْتَ عن قلبه لتعْلَم أقالها تعوُّذًا أم لا؟” فقال أسامة -وقد أدرك خطأه-: استغفر لي يا رسول الله, فقال له رسول الله – صلى عليه وعلى آله وسلم-: “كيف أنت إذا جاءت لا إله إلا الله يوم القيامة”؟! فكرر أسامة طلب الاستغفار, ورسول الله – صلى عليه وعلى آله وسلم- لم يَزِدْ على قوله: “كيف أنت إذا جاءت لا إله إلا الله يوم القيامة”؟! حتى قال أسامة: حتى تَمَنَّيْتُ أني لم أكن أسلمْتُ قبل يومئٍذ!!([9]).
وجه الشاهد من القصة: أن رسول الله – صلى عليه وعلى آله وسلم- حَكَمَ بإسلام الرجل لمجرد الكلمة التي قالها مع قيام الشبهة حوله, وهي أنه قال ما قال تعوُّذًا من السيف، لا رغبة في الإسلام، وقَبِل من الرجل إسلامه دون تردد، وأهمل العمل بالشبهة في حالة الدخول في الإسلام، كأن يرفض كلمته للشبهة، أو يتوقف في الحكم بإسلامه مدة من الزمن، حتى يطمئن إلى صحة قصده واختياره للإسلام عما سواه من الأديان!! وأما الشبهة إذا قامت حول مسلم ثبت إسلامه، ثم وقع في مكفِّر, وكان هناك احتمال بتكفيره, واحتمال آخر ببقائه على الإسلام؛ حَكَمْنا ببقائه على الإسلام, حَقْنًا لدمه، وعملاً بالأصل المتيقَّن حتى يثبت خلافه، فالشبهة تُراعَى عند الإخراج لا عند الإدخال, وهذا من باب تغليب حقن الدماء على إهدارها, فهل يستويان مثلا؟!
نعم لا يلزم من الحكم بالإسلام عدم التحري مطلقًا، فقد حكم الله بإيمان المهاجرات، مع طلب الامتحان لهن، بسبب الشبهة الطارئة على صدقهن في الهجرة والإيمان، ولما سينبني على ذلك من ردّ المهر للكفار، وغير ذلك، ومع وجود الشبهة القوية، ومع وجود الأمر بالامتحان؛ فقد حكم الله بإيمانهن، كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] {الممتحنة:10} فسمّاهن سبحانه وتعالى مؤمنات مع الشبهة والأمر بالامتحان، إنما جُعِل الامتحان لما سيترتب على ذلك من أحكام، ومنها جواز نكاحهن، ولاشك أن هذا لا يُكتفى فيه بمجرد الظاهر، فلا تعارض بين قبول إسلام من أظهر ما يدل على إسلامه وبين التحري والحذر.
وبنحو ذلك ما ذكره المقداد بن الأسود – رضي الله عنه- لرسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا رسول الله, أرأيت لو أن رجلاً ضربني بسيف, وأراد قَتْلِي, فقطَع يدي, ولاذَ مِنِّي بشجرة, فلما تَمكَّنْتُ منه؛ قال: أشهد أن لا إله إلا الله, أفأضربه؟ قال: “لا تقتلْه؛ فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله, وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال“([10]).
وللعلماء كلام في تفسير المراد بالمنزلة هنا: هل هي منزلة الإسلام والكفر, أم منزلة عصمة الدم وإهداره مع بقائه على الكفر؟ وهذا لا يهمنا في هذا المقام، إنما يهمنا أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد حَكَم بإسلامه وعِصْمة دمه مع الشبهة، وهذا بخلاف صنيع المخالفين.
وبنحو ذلك أيضًا قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] {النساء:94} وسبب نزولها الذي يذكره المفسرون: أن سرية من المسلمين مرُّوا على رجل في غُنيمات له, فلما رآهم؛ فرِح بهم، وقال: السلام عليكم، فقتلوه, ظنًّا منهم أنه ما قال ذلك إلا تَعوُّذًا من السيف, فنزلت الآية تأمرهم بالتثبت والتبين, بل ذُكِر الأمر بالتبين مرتين في آية واحدة؛ لأهمية التبين قبل الإقدام على تكفير مسلم, وقتله, ولم يؤمر بالتبين في الحكم بدخول كافر في الإسلام مع وجود احتمال أنه ما أسلم إلا مكيدة في الإسلام, وقد سبق بيان حُكْمِ الله تعالى بامتحان المؤمنات المهاجرات لما قامت حولهن شبهة, ومع ذلك سماهن مؤمنات, ولم يكفِّرهن، أو يحكم بالتوقف في الحكم بإسلامهن، فلا هن مؤمنات، ولا هن كافرات، فإن ذلك مصادم لصريح الآية: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ……] {الممتحنة:10} وكذا الحكم بإسلام المنافقين مع ما يظهر من خبيث سرائرهم في لَحْنِ القول، كل هذا يدل على أن الشريعة جاءت بالتسهيل في قبول ما يدل على الإسلام, وأما الإخراج من الإسلام فشديد, ولذا فلا بد من استيفاء شروط ذلك وانتفاء موانعه، فأين التسوية المزعومة بين الأمرين؟!
(ج) ومما يدل على الاستفصال عند ورود الاحتمال في الإخراج من الإسلام: قصةُ حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله عنه- عندما أرسل كتابًا إلى كفار قريش، يخبرهم بتجهيز الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم – جيشًا لفتح مكة([11]) وسمى الله عز وجل هذا الفعل موالاةً للكفار, فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] {الممتحنة:1} فسمى الله فعله موالاة للكفار, وإلقاءً وإسرارًا بالمودة إليهم, وَوَصَفَ مَنْ فَعَل ذلك بأنه قد ضل سواء السبيل, ومع ذلك لم يُكَفِّر حاطبًا بعينه, بل ذكر الخطاب للمؤمنين، فقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا…..] وحاطِبٌ داخل في عموم ذلك, لأن الموالاة تنقسم إلى قسمين, موالاة تامة مُكَفِّرة, وهي ما كانت عن حب لدينهم, ورغبة في نصرتهم, وإجلال وتقدير لهم, وموالاة ناقصة غير مُخْرِجة من الإسلام، وهي ما كانت عن حب في دنياهم, مع كراهية دينهم الباطل.
وقد نهى الله عن موالاة الكفار, فقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {المائدة:51} وقال تعالى: [بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا(139) ]. {النساء}. ويقول سبحانه: [أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] {الحشر:11} .
وقد قال القرطبي ([12]): “مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُه على عورات المسلمين, ويُنَبِّه عليهم, ويُعَرِّف عدوهم بأخبارهم؛ لم يكن بذلك كافرا, إذا كان فعله لغرض دنيوي, واعتقاده على ذلك سليم, كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد, ولم ينو الردة عن دينه” اهـ.
وقول الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لحاطب: “ما حَمَلَكَ على ما صنعتَ يا حاطب“؟ دليل على التريُّث قبل إطلاق التكفير على أمر يحتمل التكفير وما دونه, وإذا كان الأمر لا يحتمل إلا التكفير؛ فهناك أمر زائد على ذلك وهو: أنه ينبغي التريُّث حتى نتأكد من استيفاء شروط الحكم بالتكفير أو التفسيق وانتفاء موانعه, أم لا؟ فإذا تخلّف شرط, أو وُجِدَ مانع؛ فلا تكفير ولا تفسيق.
ولما حمل عمر – رضي الله عنه- فِعْلَ حاطب على الكفر الأكبر – وهو النفاق الموجب لضرب العنق- بَّين له النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن الأمر ليس كذلك, ولما قال حاطب: والله يا رسول الله, ما فَعَلْتُهُ رغبةً في الكفر, ولا رِدَّةً عن ديني, ولكن لكل واحد منكم قرابة في مكة,وأنا أعلم أن الله ناصرك, وليس لي عندهم قرابة, و لي صبيان عندهم, فأردت أن تكون لي يد عندهم؛ قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “صَدَقَ حاطب” فلما استأذن عمر في قتله؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “ما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” وفي هذا الجواب فوائد:
1- العبرة بجواب رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا باستئذان عمر في القتل؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رد على عمر رأيه بقتل حاطب، وإن لم يَرُدَّ عليه رأيه بقتْل من دلَّ على عورات المسلمين في الجملة.
2- قول رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في أهل بدر ليس معناه: وإن كَفَرَ الرجل من أهل بدر فهو مغفور له, لأن الكفر يحبط عمل صاحب الرسالة لو فرضنا إمكان وقع ذلك منه, – فضلاً عن البدري- إلا أن الله عز وجل عصم الرسل من الكفر والكبائر، ومع ذلك فلو وقع هذا منهم لحبط عمل من وقع منه ذلك لقوله تعالى: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ] {الزُّمر:65} فهل يكون من شهد بدرًا أعظم مكانة عند الله من صاحب الرسالة ؟
3- معلوم أن الذنوب ثلاثة أقسام: صغائر, وكبائر, وشرك, فالصغائر تُغْفَر باجتناب الكبائر، وذلك حُكْم عام لأهل بدر وغيرهم, لقوله تعالى: [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا] {النساء:31} أي نكفِّر مادون الكبائر، وهي الصغائر, ومعلوم أيضًا أن الشرك لا يُكَفِّره إلا التوبة، لقوله تعالى: [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] {النساء:48} وهذا عام في أهل بدر وغيرهم, إذًا فماذا بقي خصيصة ومزية لأهل بدر عن غيرهم، كما يدل الحديث السابق؟ لم يبق لهم إلا قسم الكبائر, فغيرهم لا يُكَفِّرها في حقهم إلا التوبة, وإلا فهو معرَّض للوعيد, أما أهل بدر فيغفر الله لهم بالتوبة, أو بشهود بدر, وإن كان أهل بدر أتقى لله وأعلم به من إصرارهم على صغيرة فضلاً عن كبيرة, فظهر من هذا أن جواب رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على عمر يشير إلى أنها موالاة من قسم الكبيرة لا من قسم الشرك الموجِب للنفاق والقتل.
والمقصود هنا: أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الذي قَبِلَ إسلام مَنْ قتله أسامة لنطقه بالشهادة مع الشبهة، وحذَّر المقداد من الإقدام على قتْل من قَطَع يده, وقد أراد قتله لنطقه بالشهادة مع وجود الشبهة أيضًا, وودى بني جذيمة الذين قتلهم خالد, ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا, فقالوا, صبأْنا, صبأْنا, وقال: “اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد”([13]) قاله مرتين، وقَبِلَ إسلام الوفود مع احتمال أن يكون بينهم أحد من المنافقين الذين مردوا على النفاق من الأعراب الذين هم حول المدينة, وهو – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا يْعلَمهم, والله عز وجل وحده الذي يعلمهم، كل هذا في جهة الإدخال في الإسلام، ولما حَدَثَ مِنْ حاطب أمر يحتمل التكفير وغيره – وهذا في جهة الإخراج من الإسلام- لم يحمِلْه رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على الكفر, بل سأله واستفصله, وصدّقه على قوله, بأنه لم يفعل ما فعل رغبة في الكفر, وأنكر على عمر عندما حمل فعله على النفاق, واستأذن النبيَّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في ضَرْب عنقه, وإن كان غير حاطب قد يفعله نفاقًا وردة، كل هذا يدل على أن الشريعة جاءت بالتسهيل والتيسير في أمر الدخول في الإسلام, والتشديد في أمر الإخراج منه, فكيف يُدَّعى أنهما سواء؟!
(د) ومن الأدلة على التفرقة قاعدة: الخطأ في العفْو أسهل من الخطأ في العقوبة، وهي مأخوذة من عمومات في الشريعة، ومن حديث: “لأن يخطئ أحدكم في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة“([14])، وهو مع ضعفه من جهة الإسناد؛ إلا أنه موافق لمقاصد الشريعة:
وذلك أن من أخطأ في العفو, وظهر له خطأه بعد ذلك؛ فإنه يمكنه الاستدراك لما فاته, بخلاف من أخطأ فكفَّر رجلاً, فقُتل هذا الرجل رِدَّةً, ثم اتضح بعد ذلك أن الحكم بكفره كان خطأ, فلا يمكن الاستدراك بعد ذلك!!
(هـ) قاعدة: ادرأوا الحدود بالشبهات, وقد رُوي ذلك مرفوعًا، ولا يصح([15]).
(و) من حُكِمَ له بالإسلام فلا يخرج منه إلا بيقين,وحصول اليقين لا يكون مع وجود شك أو احتمال, بخلاف الحال عند الحكم بدخوله الإسلام.
فهذه أدلة ظاهرة على عدم التسوية بين الخطأ في تكفير مسلم, والخطأ في الحكم بإسلام كافر, وأن الأول أعظم عند الله, وسيرة رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تدل على ذلك أيضًا, والله أعلم.
5- كلامنا في هذا البحث إنما هو في الرجل المسلم المحكوم بإسلامه, إذا وقع في مُكَفِّر, فلا بد عند إخراجه من الإسلام الذي ينتمي إليه من مراعاة شروط وموانع, أما الكافر الأصلي – الذي لم يدخل في الإسلام أصلاً: كتابيًّا كان أو وثنيًّا- فردًا كان أو طائفة, أو أمة, فليس كلامنا في ذلك, بل من حكم على اليهود والنصارى بأنهم مسلمون؛ فهو إما جاهل ملبَّس عليه, أو شاك في حكم الله, أو معاند والأمران الأخيران مُكَفِّران؛ والجاهل الملبَّس عليه يُعَلَّم, فقد حَكَمَ الله بكُفْر هؤلاء في القرآن في كثير من الآيات، منها قوله تعالى: [لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ] {البيِّنة:1} وقوله تعالى: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ] {المائدة:73} وقوله سبحانه: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ] {المائدة:17} وقوله تعالى: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] {المائدة:82} وقول رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “والذي نفس محمد بيده, لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني, ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أُرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار“([16]) لذا فقول من قال: “من لم يكفِّر الكافر فهو كافر” محمول على من لم يُكَفِّر الكفار الأصليين الذين صرح القرآن وصرحت السنة بتكفيرهم، وكذلك مَنْ صَرَّح الله تعالى ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بكفره بعينه كفرعون, وأبي لهب, وهامان, وقارون…الخ، أما المسلم الذي فعل فعلاً، واختُلف في تكفيره بسبب الأمر الطارئ عليه، سواء كان ذلك للاختلاف في الدليل: هل هو صريح في التكفير أم لا؟ وكذلك إذا سلمنا بتصريح الدليل على الكفر؛ فهل المعيَّن قد استوفى شروط التكفير أم لا؟ ففي هذه الحالة أو تلك لا تُطبَّق قاعدة: “من لم يُكفِّر الكافر؛ فهو كافر” والحال كذلك، والله أعلم.
6- يجب الحذر من مجالسة الدعاة إلى هذا الفكر الغالي في الأحكام على الآخرين, والحذر من كتبهم، ورسائلهم، ومواقعهم على شبكة “الانترنت” وغيرها، وكذا يُحذر من مجالسة الدعاة إلى التفريط في باب الأحكام على الآخرين, والطامسين لمعالم الدين وقواعده في الولاء والبراء، والتحذير من صور الشرك، فكلاهما حاكم بغير ما أنزل الله, وقد قال تعالى: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ] {النساء:140} ويقول سبحانه: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] {الأنعام:68} والنصوص كثيرة عن السلف في عدم مجالسة مَنْ أَحْدَثَ في الدين, إلا بتفاصيل معروفة عند أهل العلم, والله أعلم.
– وبعد الفراغ من هذه الأمور التي لزم التنبيه عليها؛ فهذا وقت الشروع في ذكر الضوابط والأصول التي أكّد عليها علماء السنة, حذرًا من الإفراط والتفريط:
الأول: التكفير والتفسيق أمر أو حُكْم شرعي سَمْعي, وهو كغيره من الأحكام الشرعية من هذه الجهة, لكنه من أهم الأحكام التي يجب الرجوع فيها إلى دليل من الكتاب والسنة, فلا يجوز أن يكون التكفير, أو التفسيق, أو التبديع أو التضليل راجعًا إلى هوى, أو عصبية, أو ذوق, أو عادة, أو سياسة, أو منام, أو انتقام وانتصار للنفس…أو غير ذلك؛ لأن الحاكم بشيء مما سبق مُبَلِّغ عن الله عز وجل, فلا بد أن يستند في كلامه إلى نص شرعي, والأدلة على ذلك كثيرة, منها:
أ- قوله تعالى: [قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {الأعراف:33} ويقول تعالى: [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] {الإسراء:36} ويقول سبحانه:[إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ] {النور:15} وغير ذلك من آيات.
وقد ترجم علماء أهل السنة هذه النصوص وما في معناها ترجمة عملية واضحة في هذا الباب, فلم يُكفِّروا إلا من قام الدليل على كُفْره, بل إن من كفَّرهم ظلمًا وعدوانًا وإسرافًا لم يُكَفِّروه إذا كان لا يستحق ذلك, فالخوارج كفَّروا عليًا والصحابة – رضي الله عنهم جميعًا-، ومع ذلك لما سئل عنهم – رضي الله عنه- فلم يكفِّرهم, مع أنهم يكفَّرونه, وآل أمرهم إلى أن استحلوا دمه بالتأويل الفاسد, فلما قيل له: أُكُفَّارٌ هم؟ قال: مِنَ الكُفْر قد فرُّوا, قيل: أمنافقون؟ قال: المنافق يذكر الله قليلاً، وهم يذكرون الله كثيرًا, قيل له: فما هم؟ قال: قوم بغوْا علينا، فقاتلناهم([17])، فلم ينتصر لنفسه ولإخوانه الذين قُتلوا في القتال – وهم أفضل من ملئ الأرض من الخوارج- ولم يقل: لقد كفَّروني، وأنا مُبَشَّر بالجنة، ومناقبي مشهورة؛ إذًا فهم كفار، لأن من كفَّر مسلمًا بدون حق فهو أوْلى بهذه الكلمة!! هكذا فقْه أئمة الصحابة ومن بعدهم لهذه النصوص، لا فقه المتهورين.
وهذا الإمام أحمد وعلماء عصره قد كفَّرهم الجهميةُ, وعذّبوهم, وعاملوهم معاملة الكفار, وقتلوا بعض العلماء كأحمد بن نصر الخزاعي, وسجنوا الآخرين…الخ, ومع ذلك لم يكفِّرهم بأعيانهم – في الجملة- أحمد ولا غيره لجهلهم, ودخول الشبهة عليهم, وإن كانت هذه المقالة قد كفَّر السلف من قال بها، بل صرَّح بكفرهم خمسمائة من العلماء، كما ذكر أسماءهم اللالكائي في “شرح اعتقاد أصول أهل السنة والجماعة”([18])، وقال الإمام ابن القيم في “نونيته”([19]):
ولقد تقلَّد كُفْرَهم خمسون في | عَشْرٍ من العلماء في البلدان |
واللالكائيُّ الإمامُ حكاه عنهم | بل قد حكاه قبْلَه الطبرانِي |
ومع هذا التكفير العام لمن قال بهذه المقالة، فقد كان السلف يصلّون وراء هؤلاء الأئمة, وهم يقولون بخلْق القرآن, ولا يرون نزع اليد من الطاعة, بل قد حَلَّل الإمام أحمدُ – أي سامح- الأئمة الذين عذبوه, ولو كانوا كفارًا عنده ما حَلَّلَهم, كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-([20]).
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله- قَد عُذِّبا, وأُهينا, ومع ذلك فهما من أبعد الناس عن تكفير من أساء إليهما, دَعْ عنك من هو دونهم في الإساءة إليهما!! بل قد أفتى علماء عصر شيخ الإسلام ابن تيمية بقتله وحِلِّ دمه، فلما تغيرت الأحوال، وأراد الأمير قتل هؤلاء، فزع ليستصدر الفتوى بحل دمائهم من شيخ الإسلام، فأبى عليه، وقال: “فشرعْتُ في مدحهم، والثناء عليهم، وشُكْرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجِدْ مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حَلٍّ من حقي، ومن جهتي…” قال: “فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف – قاضي المالكية- يقول بعد ذلك: ما رأينا أفتى من ابن تيمية، لم نُبْق ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا”([21]).
ومع أن العلماء ردُّوا على من خالفهم, وما تركوا لهم شاذّة ولا فاذَّة إلا ورجموها بشُهب الأدلة الساطعة, وحذّروا مِنْ طُرُق أهل الغواية والضلالة المكفِّرين لعلماء السنة؛ إلا أنه لم يُشْهَر عنهم -مع كثرتهم وتطاول القرون- أنهم كَفَّروا أحدًا ممن كفَّرهم بدون دليل شرعي, أو من باب رَدَّة الفعل، والانتقام للنفْس، ولا يلزم الإصابة في كل الحالات, إلا أن الإصابة فيهم أكثر, وهم بين أجر وأجرين, ولذا شاع عن أهل السنة أنهم يُخطِّئون ولا يكفِّرون, فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخطِّئون ولا يُكَفِّرون…الخ([22])، وهذا محمول على من كان خطؤه ليس كفرًا صريحًا, أو من وقع في الكفر الصريح لكن عن خطأ, أو تأويل, أو جهل, ونحو ذلك, فكانوا حقًّا: أعلم الناس بالحق, وأرحم الناس بالخلق, ولا يلزم من ذلك أنه لا يوجد فيهم من هو خلاف ذلك, كلا, إلا أنهم ينكرون على من خالف ذلك منهم، وإن كان من أئمتهم, فضلاً عمن هو دونه, وهم على ما فيهم في الجملة أفضل من غيرهم من الطوائف, فما كان فيهم من شر- مع إنكاره على القريب والبعيد- فهو في غيرهم أكثر, وما كان عند غيرهم من خير فهو فيهم أكثر, فلله دَرُّهم, وعلى الله أجرهم, وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المعنى([23]).
الثاني من الضوابط: أن الأحكام على الناس لا تُقْبل إلا من أهل العلم الشرعي, كالعلماء الكبار والقضاة المختصين, أما المبتدئون في الطلب, والخطباء المتحمسون بلا زمام ولا خطام، والكُتَّاب الذين اختلطت مشاربهم، والطلاب الذين لم يتأهلوا لذلك؛ فليس لهم الحق في الخوض في الأحكام على الأفراد, وإلا أفسدوا أكثر مما يصلحون, والواقع يشهد بذلك، فقد كفَّر بعضهم بعضًا بعد تكفيرهم المجتمعات، وكثير من الأفراد، فلما اختلفوا في بعض المخالفين لهم؛ رَجع بعضهم على بعض بالتكفير، وهذا من شؤم الغلو والإفراط!!
والأدلة السابقة في التحذير من القول على الله بغير علم شاملة لهذا أيضًا, ولو فُتح هذا الباب لمن دبَّ ودرج لأفسد أمة بأسْرها!!
ومن العجب أنك تجد بعض الطلاب إذا سُئل عن أحكام المسح على الخفين, أو الشُّفْعة, أو الكفارات؛ قال: لا أدري, سلُوا العلماء – ويُشْكر على ذلك- فإذا سئل عن مسائل الكفر والإيمان, ومسْح الرقاب, وإزهاق الأنفس؛ أفتى في المجتمعات والأفراد بجسارة لا توصف!! فهلا تورّع عن العظيم الخطير, كما تورع عن القليل اليسير؟! ألا يسعه في الثانية ما وسعه في الأولى, فيقول: لا أدري, سلُوا العلماء؟! ألا يحمد الله عز وجل أن كفاه الله بمن يتولى هذه الأحكام ويكفيه المؤنة؟! لماذا هذه الجرأة في غير موضعها؟ لماذا هذه التضحية بالحسنات وتوزيعها على العِبَاد بسبب ظلمهم، وأي ظلم أعظم من التكفير لهم بالمجموع؟ فإذا نفدت الحسنات؛ طارت سيئات العِبَاد من ميزانهم إلى ميزانه, ظلمات بعضها فوق بعض!!
قال الشيخ عبد الطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رده على من خاض في قضايا التكفير بدون أهلية: “…لا يتكلم فيها –أي في مسائل التكفير- إلا العلماء من ذوي الألباب, ومن رُزق الفهم عن الله, وأُوتي الحكمة وفَصْل الخطاب, والكلام في هذا يتوقف على ما قدمناه, ومعرفة أصول كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها, وأعرض عنها, وعن تفاصيلها…” اهـ ([24]).
الثالث: الحكم على الناس – لاسيما في أمر التكفير- يجب أن يكون بعَدْلٍ وورع:
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8} وقال تعالى: [وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ] {الشُّورى:15} وقال سبحانه: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] {الأنعام:152} وقال عز وجل: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] {النحل:90} .
ومن صُور عدم العدل أو الإجحاف:
أ- إطلاق الحكم على الجميع لخطأ فرد من جماعة أو طائفة، دون النظر إلى موقع هذا المخطئ في هذه الطائفة؟ وهل هذا قول كبارها وأئمتها، أو قول أحد علمائها، أو مجرد أحد أفرادها؟
ب- الأحكام بِوَكْسٍ أو شَطَطٍ على المخالف والموافق, وانظر موقف اليهود من إسلام عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- .
جـ- عدم أَخْذ كلام الرجل جميعه, وحَمْل بعضه على بعض لمعرفة حقيقة قوله، قبْل تحميله ما لم يدُرْ بخَلَده من عقائد ومقالات.
د- نسبة القول المنسوخ أو الخطأ إلى الرجل مع العلم بتراجعه عنه.
هـ- إغفال القرائن التي تحف الكلام فتزيل مشكله, وتوضح غامضه, سواء كان ذلك في السياق والسباق واللحاق، الذي لا يتجرد عنه كلام العقلاء، أو كان ذلك مما لا يُفْهَم إلا من خلال معرفة المنهج العام للرجل في غير هذا الموضع المشْكِل الموهِم، فالكلمة الواحدة يقولها رجلان, فتكون ذَمًّا في حق بعضهم, ومدحًا في حق الآخر, باعتبار منهجه العام الذي يسير عليه، ففي «مدارج السالكين»([25]) ذكر الإمام ابن القيم – رحمه الله- كلامًا لأبي إسماعيل الهروي الملقب بـ(شيخ الإسلام)، ظاهره القول بالاتحاد، وهذا قول فرقة ضلَّت ضلالاً بعيدًا، ومع ذلك فقد حمله على محمل حسن – مع تخطئته إياه في العبارة- ثم قال: «والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل، وسيرته، ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر عليه، وقد كان شيخ الإسلام -قدّس الله روحه-([26]) راسخًا في إثبات الصفات، ونَفْي التعطيل، ومعاداة أهله، وله في ذلك كُتُبٌ، مثل كتاب «ذم الكلام» وغير ذلك مما يخالف طريقة المعطلة والحلولية والاتحادية…»الخ اهـ.
الرابع: مَنْ ثَبَتَ إسلامه بيقين؛ فلا يزول عنه إلا بيقين, وإلا كان تركًا لليقين وعملاً بالشك، وهذا معيب عند العقلاء، فضلاً عن العلماء.
والأدلة التي سبقت في عدم إخراج المسلم من الإسلام لمجرد إتيانه بمُكفِّر لوجود شبهة تمنع تكفيره داخلة في هذا الأصل أيضًا.
وقد يُعبِّر بعضهم عن ذلك بقولهم: لا تكفير من الاحتمال أو الشبهة, ولأن التكفير بأمر يحتمل التكفير وغيره: جُرْأَة في أمر يجب فيه التورع والأخْذ بالأحوط, والله أعلم.
الخامس: الأحكام في الدنيا تجري على الظاهر للعِبَاد، والله يتولى السرائر, أما في الآخرة فعلَى ما في عِلْم الله عز وجل والحقيقة, كما أن الأحكام على آخر ما عليه الرجل لا أَوَّله.
وهذه قاعدة لا شك فيها, لأن تكلف غير الظاهر مُتَعسِّر أو متَعذِّر, إذ لا يَعْلَم ما في القلوب إلا الله عز وجل, والأدلة على هذه القاعدة كثيرة, منها:
أ- قولة – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “من صلَّى صلاتنا, واستقبل قبلتنا, وأكل ذبيحتنا؛ فهو المسلم: له ما للمسلمين, وعليه ما على المسلمين“([27])
ب- وقوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله, فإذا قالوها؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام, وحسابهم على الله عز وجل“([28]) أي: ولستُ مُكَلَّفًا أن أطالبهم وأعاقبهم على غير ما يلزمهم في الظاهر.
جـ- وقوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “إني لم أُومَرْ أن أُنَقِّب عن قلوب الناس, ولا أشق بطونهم”([29])
د- الإنكار على أسامة بن زيد – رضي الله عنه- في قَتْله من قال: لا إله إلا الله, وقد سبق ذِكْره مفصَّلاً, وفيه: “هلا شَقَقْتَ عن قلبه، لتعلم أقالها تَعَوُّذًا أم لا؟”([30])
هـ- حديث المقداد بن الأسود,([31]) وقد سبق.
و- معاملة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- للمنافقين حسب ظاهرهم, مع علمه بسوء طويتهم, وخبث سريرتهم.
ز- قول عمر – رضي الله عنه- “إن أناسًا كانوا يُؤاخذون بالوحي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وإن الوحي قد انقطع, وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا؛ أمِنَّاه وقَرَّبْناه, وليس إلينا من سريرته شيء, الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا؛ لم نأمَنْه, ولم نُصَدِّقْه, وإن قال: إن سريرته حسنة“([32]).
ومن الأدلة على أن الحكم على ما مات عليه الرجل, أي على آخر الأمرين منه، قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] {آل عمران:91} وقوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] {البقرة:161} وقوله تعالى: [وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] {البقرة:217} وحديث: “إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة, حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها…”([33]).
ولو آخذنا الناس بالمنسوخ من أقوالهم، وبعقائدهم التي تابوا منها؛ لزم تكفير الصحابة – رضي الله عنهم- الذين أخرجهم الإسلام من الكفر إلى الإيمان، وهذا قول لايشك في بطلانه عاقل!!
السادس: الحكم المُطْلَق أو العام لا يستلزم الحكم على المعين بذلك:
فالعلماء يُقَرِّرون أن هناك فَرْقًا بين الحكم العام, والحكم على الشخص, فَفَرق بين الحكم على القول أو الفعل أو الاعتقاد، وبين الحكم على القائل أو الفاعل أو المعتقِد، وليس كل من وقع في الكفر أو البدعة، وقع عليه الكفر أو البدعة.
ومع ذلك فإن إطلاق الحكم العام فيه فوئد, منها:
أ- بيان حكم الشرع في الأقوال والأفعال والعقائد, ولا شك أن في هذا فائدة نشر العلم, وبيان أحكام الشريعة, وفي هذا صيانة لها من الاندثار والضياع.
ب- رَدْعُ وزَجْرُ الناس عن الوقوع في المكفرات أو المفسِّقات, وفي ذلك فائدة عظيمة, وهي صيانة المجتمع المسلم من الْحَوْم حول ما حرم الله, فإن ذلك موجب لضياعه وتدميره, ولو لم يسمع الناس تحذير الشرع من القول أو الفعل الفلاني لتقحَّموا فيه عن جهل.
فظهر أن إطلاق الحكم العام بين الناس فيه صيانة للشريعة من الاندثار, وصيانة للمجتمع من المعاصي المفضية للدمار.
لكن إنزال الحكم العام على المعيَّن لا يكون إلا بعد استيفاء الشروط, وانتقاء الموانع, فإذا تخلَّف شرط من شروط التكفير أو التفسيق أو التبديع, أو بقي مانع من موانع هذا الحكم على المعيَّن؛ فلا يُحكم على المعين بشيء من ذلك, والأصل أن يبقى المرء على ما هو عليه قبل إتيانه بما أتى به, حتى يتم استيفاء جميع الشروط فيه وانتفاء جميع الموانع عنه.
فعندنا مسألتان:
الأولى: مسألة التأصيل: وهي الحكم العام المأخوذ من نصوص الشريعة وقواعدها وأصولها, والخطأ في ذلك خطأ في إبلاغ الشريعة للناس, وهذه المسألة يقوم بها العلماء, وطلاب العلم, ولا بأس بالعامي الحاذق الفطن أن يحكي كلام العلماء فيها، ولا يستقل هو بحكم من عند نفسه.
الثانية: مسألة التنزيل: وهي الحكم على المعين, أو الفرد, أو القائل, أو الفاعل, والخطأ في هذه المسألة خطأ في حق مَنْ يُحْكَم عليه, وتشويه لأحكام الشريعة بوضعها في غير موضعها, ولذا فلا يقوم بهذه المسألة إلا العلماء والقضاة الذين سيترتب على حكمهم أمور معلومة في الشريعة, لكن لا بأس لطالب العلم أن ينصح الشخص, أو يحذره, أو يخبره بكلام أهل العلم فيما أتى به, كل ذلك لردع وزجر الفاعل عن فعله, أما الحكم على الشخص, ومعاملته على ضوء هذا الحكم؛ فلا يكون إلا بالرجوع إلى ولي الأمر, الذي يستدعي له جماعة من العلماء و القضاة؛ ليناصحوه, أو يستتيبوه، ويبيِّنوا له حكم الشرع فيما وقع فيه, فإن كان عنده شبهة أزالوها, وبينوا له خطأه, فإن رجع وأناب؛ فهذا من فضل الله, وهذا ما يحبه أهل الإيمان, فإنهم لا يفرحون بزلة أخيهم؛ لقوله تعالى: [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ] {الزُّمر:7} وإن أصَرَّ وعاند؛ حكموا عليه بما يستحقه, ونفَّذَ وليُّ الأمر حكمهم في الشخص المحكوم عليه, فإن اتفق العلماء عمل ولاة الأمور بموجَب اتفاقهم, وإن اختلفوا تأنَّوْا في أمر الرجل, وإن استمر الشخص في الإصرار على ادعاء شبهة عنده؛ فإنهم سيميزون بين من يجادل بالباطل حفاظًا على أَتْباعه وأطماعه, وبين من يبحث عن الحق, وهو صادق في ذلك.
وإن لم يكن هناك وليّ أمر يقوم بذلك, واحتاج الناس إلى بيان حكم هذا الرجل – وإن لم تُطبَّق عليه الأحكام اللازمة لذلك- فلا بأس أن يجتمع علماء القُطْر, أو البلدة – إذا كانوا متأهلين لهذا الأمر- ليقوموا بما سبق بيانه, إذا أُمنت الفتنة، وكان في ذلك القيام ببعض ما أمر الله به، وإلا فالأصل النصيحة بالتي هي أحسن, وبيان الحكم الشرعي العام فيما أتي به المرء, وأما الأحكام فلا يتناولها إلا المؤهلون لها.
فإن قيل: لماذا لا يُقبل ذلك من آحاد طلاب العلم؟ فالجواب: سبق أن لا تكفير مع الشبهة والاحتمال, وأعلمُ الناسِ بالأحكام, وبدلالات الألفاظ, وبموارد الإجمال والاحتمال: هم أهل العلم والرفق والحلم, وهذه مسائل يعظم الخَطْبُ بالخطأ فيها, فلا يتناولها إلا أهلها, وقد جَرَّبنا جرأة طلبة العلم – أعني المبتدئين، والمتعجلين، والغيورين بلا ضوابط منهم- في هذا الباب, وجَرَّ ذلك مفاسد لا قِبَل للأمة بها, ولأننا عبر تاريخ المسلمين لم نعلم أن هذا الأمر قد رُدَّ إلى غير العلماء والقضاة, ولأن العلماء هم أهل العلم, والخشية من الله, والتُّؤدة والتثبت؛ فنأمن من جهتهم من ظلم أحد أو مجاملته على حساب الشريعة, بخلاف من هو دونهم في هذا كله, فحَدِّث ولا حرج، والله المستعان.
فإن قيل: ما هي الشروط الواجب توافرها, والموانع الواجب انتفاؤها قبل الحُكم على المعين؟
فالجواب: أن هذه الشروط والموانع هي:
1- العقل, ومقابله الجنون, فالعقل شرط, والجنون مانع, فلا تكليف مع الجنون, لقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يَبْلُغ, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن المجنون حتى يُفيق”([34]).
2- البلوغ, ومقابله الطفولة أو الصِّبا، وللبلوغ علامات معروفة عند أهل العلم في الذَّكَر والأنثى, وجمهورهم على أن من بلغ خمسة عشر عامًا, ولم تظهر عليه علامات البلوغ -ذكرًا كان أو أنثى- فإن الأحكام تجري عليه, أما إذا لم تظهر عليه هذه العلامات, أو لم يبلغ هذا السن؛ فلا تجري عليه أحكام التكفير أو التفسيق ونحوهما, للحديث السابق, وفيه: “…عن الصبي حتى يَبْلُغ…”
3- العلم, ومقابله الجهل, سواء كان الجهل بمعنى خُلُوّ النفس من العلم, وهو الجهل اليسير, أو بمعنى اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه, وهو من الجهل المرَكَّب.
ومن الأدلة على أن الجهل عُذْر: قوله تعالى: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {التوبة:115} ومع أن سبب النزول في قوم استغفروا لأقاربهم المشركين، ولم يكن قد نزل نهْي عن ذلك؛ إلا أن العبرة بعموم المعنى، وليس خصوص السبب، والجاهل بالحكم في حُكْم من لم يعلم به أصلا، ومن لم يعلم بالحكم – مع عدم تفريطه- في حُكم من لم يُنَـزَّل عليه الحكم أصلاً، ولا تكليف إلا بعد العلم والبلاغ، والآية عامة في كل ما يُحكم به على المخالف بالضلال، بعد أن عُدَّ في جملة المهتدين، لقوله تعالى: [إِذْ هَدَاهُمْ] {التوبة:115} .
ومن الأحاديث:
أ- قصة الرجل الذي أوصى بنيه بإحراقه، وفيه: “لئن قَدَرَ الله عليَّ ليعذبَنَّي عذابًا ما عَذَّبه أحدًا من العالمين“([35]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرَّق هذا التفرُّق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد: من إنكاره لقدرة الله، وإنكاره معاد الأبدان وإن تَفَرَّقَتْ؛ كُفْر، لكنه كان مع إيمانه بالله، وإيمانه بأمره، وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاًّ في هذا الظن مخطئًا، فغفر الله له ذلك“([36]).
ب- أهدى رجل لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- راوية خمر، فقال له: “هل علمتَ أن الله قد حَرَّمها؟” فقال: لا، فسارّه رجل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “بم سارَرْتَه؟” قال: أمرته أن يبيعها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “إن الذي حرَّم شربها حرّم بيعها“([37]) ففتح الرجل المزادتين حتى ذهب ما فيهما, هذا والخمر حرمتها أكيده، ولكن الجاهل له حكم آخر.
ج- قصة ذات أنواط ([38]): فبعض المسلمين طلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن يجعل لهم ذات أنواط مثل المشركين، وهي شجرة كان المشركون إذا مروا بها يُعَلِّقون بها سيوفهم، معتقدين أن هذا جالب للنصر على عدوهم، وهذا اعتقاد مكَفِّر، ولما كان هؤلاء الصحابة المتكلِّمون بذلك حدثاء عهد بالإسلام؛ عَذَرهم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولم يحكم بكفرهم واستتابتهم، إنما حذرهم من هذه المقالة المشابهة لمقالة بني إسرائيل لموسى -عليه السلام-.
د- ولقد دَفَعَ عمرُ الحدَّ عن امرأة حديثة عهد بإسلام لما زنت، ووجدها تستهل به, أي لا تبالي بالإفْصاح عنه، ولا تكتمه, لعدم علمها بتحريم الزنا([39])، والزنا معلوم تحريمه من الدين بالضرورة، لكن الجهل في حق هذه المرأة – لحداثة عهدها بالإسلام- كان سببًا في عدم عقوبتها بموجَب فعلها.
نعم، هناك تفصيل بين من تمكن من العلم، ولم يُحلْ بينه وبين العلم حائل إلا الإعراض والزهد فيه وفي أهله، وبين من كان جهله بسبب عدم تمكنه من العلم، فالثاني معذور بخلاف الأول، لكنه حتى يصل الباحث في حال شخص ما إلى جَعْلِهِ من أحد النوعين؛ فهذا يحتاج إلى وقت، وجُهد، ونَظَر، وأثناء هذا كله: فالأصل عدم حَمْلِه على النوع الأسوأ حتى يظهر أنه كذلك.
فإن قيل: إن العلماء لا يعذرون إلا من كان حديث عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية.
فالجواب من وجهين:
أ- أن هذا القول منهم على سبيل المثال لا الحصر، أو لأن الجهل في حق هذين الصنفين أكثر من غيرهما، وهذا لا يمنع من جهل بعض من يعيش في الحاضرة وما حولها جهلاً يُعْذَر به.
ب- لو سلمنا بأن كلامهم على سبيل الحصر، ثم رأينا من يقع في مُكفِّر، ولا ندري أهو جاهل أم لا، وهل جهله لكونه أحد الصنفين المذكورين أم لا؛ فمع هذا الاحتمال لا يمكن التسرع في تكفيره بعينه حتى يثبت لنا أنه ليس من هذين الصنفين، فآل الأمر أيضًا إلى عدم تكفيره قبل إقامة الحجة، وإبلاغه الحكم الشرعي فيما فعل، ومن ثَمَّ عناده وإصرارُه، أو إعراضه وعدم مبالاته!!
4- ومن شروط التكفير: قَصْد الفعل أو القول أو الاعتقاد المُكَفِّر، وإن لم يَعْلم المرء أنه كُفْر، لأنه لا يُشترط في التكفير أن يقصد الكافر فعل الكفر فيما يراه هو، لأنه لو كان كذلك لما كفر اليهود والنصارى، فإن أكثرهم كفر وهو يظن أنه يحسن صنعا، قال تعالى: [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104) ] {الكهف} وقال تعالى: [فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] {الأعراف:30} فمن قصد الفعل المكفِّر – وإن لم يعلم أنه كُفْر- وعلم بأنه منهي عنه، فقد توافر فيه شرط القصد، ثم إذا ظهر أنه جاهل يُعَلَّم، فإن أصرَّ كَفَرَ بهذا، ويُنظر في بقية الشروط والموانع، أي أنه إذا بلغه حكم الله فيما أتى، فلا يُشترط أن يُسلِّم لمن يقيم عليه الحجة بذلك، شريطة ألا يكون المحكوم عليه عالمًا؛ لاحتمال أنه اجتهد ورأى في حُكْم المسألة خلاف ما يرى العالم الذي يقيم عليه الحجة – وهذا لا يكون في المسائل المجْمَع عليها-.
والخلاصة: أنه لا يُشترط أن يقول: نعم أنا أفعل الكفر، وسأستمر على ذلك، إنما يُشترط أن يُبَلَّغ حكم الله ممن تقوم به الحجة، وأن يُخْبرَ أن ما هو عليه كُفْرٌ أكبر, فإن أصر وعاند كَفَرَ، بعد مراعاة بقية الشروط والموانع، والله أعلم.
والقصد منه عام وخاص, فالعام: هو تحقيق الإرادة الجازمة لتحقيق الفعل على وجه الرضا والاختيار, بحيث يكون الإنسان مخيرًا بين أن يفعل الفعل أولا يفعله, وهذا هو مناط التكليف.
وأما القصد الخاص: وهو إرادة فِعْل الكفر أو الفسق أو البدعة مع العلم بحكم ذلك, فقد سبق أن هذا ليس شرطًا في التكفير, والله أعلم.
والقَصْد مقابله الخطأ, فالخطأ مانع من موانع التكفير أو الفسق أو البدعة, ولهذا أدلة كثيرة, منها:
أ- قوله تعالى: [وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {الأحزاب:5} .
وقوله سبحانه وتعالى: [رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] {البقرة:286} وعند مسلم ([40]) أن الله عز وجل قال: “قد فعلتُ“.
ب- وحديث: “إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه“([41]).
جـ- وحديث: الرجل الذي وجد راحلته بعد ما ضلَّتْ عليه, وأيقن بالهلكة, فقال: “اللهم أنت عبدي, وأنا ربك” أخطأ من شدة الفرح([42]).
والخطأ ضد الصواب, والمخطئ: من أراد الصواب فصار إلى غيره, أو من أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل.
والمقصود بالخطأ الذي يُعذر به صاحبه: هو ما صدر من باحث عن الحق مجتهد في الوصول إليه, إلا أنه لم يُوفَّق للصواب, بخلاف المخطئ بتفريطه, وتعديه حدود الله, وسلوكه السبيل الذي يُنْهَى عنها, فهذا هو الظالم لنفسه, ومن أهل الوعيد, قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- ([43])
والمقصود بالإعذار في الخطأ والنسيان – المنافييْن للقصد-: رفع الإثم والحرج, لا الحكم بأنه أخطأ في كذا أو كذا, كما لو قتل مؤمنًا خطأً, أو أتلف مال غيره, فالإثم مترتب على المقاصد والنيات, والناسي والمخطئ لا قَصْد لهما, فلا إثم عليهما, وأما رفْع الأحكام فليس مرادًا, فيحُتاج في ثبوتها أو نفيها إلى دليل آخر, قاله الحافظ ابن رجب([44]).
والخطأ في حق العلماء المجتهدين, أو طلاب العلم المؤهلين يكون عن تأويل في الاجتهاد, فخرج من باب الخطأ في التأويل: العامة وأشباههم من المتجرئين غير المؤهلين.
والخطأ في التأويل منه مذموم يأثم به صاحبه, وهو ما يُفضي إلى تعطيل أحكام الشريعة, فإنه من أكبر أصول الضلال والانحراف, حيث كان ذريعة لغلاة الجهمية والباطنية والرافضة والصوفية الحلولية والاتحادية في تأويل التكاليف الشرعية على غير حقيقتها, أو إسقاطها, أو الإلحاد في أسماء الله وصفاته بنفْي جميعها أو جُلِّها.
ومن التأويل ما يكون من قبل الخطأ, وتكون المخالفة دون قصد, ويكون سببها الجهل بحقيقة المراد من الأدلة.
والتأويل السائغ: ما كان من جنس التأويلات التي تتعلق بالفروع العلمية والعملية, وقد قال الحافظ: “يقول العلماء: كل متأول معذور بتأويله, ليس بآثم: إذا كان تأويله سائغًا في لغة العرب, وكان له وجْه في العلم” اهـ([45])
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “إن المتأول الذي قَصَدَ متابعة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا يُكفَّر, بل ولا يُفَسَّق إذ اجتهد فأخطأ, وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية, أما مسائل العقائد فأكثر الناس كَفَّر المخطئين فيها, وهذا القول لا يُعْرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان, ولا عن أحد من أئمة المسلمين, وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع“اهـ([46])
ومن الأدلة على أن الخطأ في التأويل مانع وعذر لمن قصد متابعة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا من قصد إفساد الدين وتدميره ما يلي:
أ- حديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “إذا اجتهد الحاكم فأصاب؛ فله أجران, وإذا اجتهد فأخطأ؛ فله أجر“([47])
ب- خَطَأُ قدامة بين مظعون في استباحته شُرْب الخمر، متأولاً قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {المائدة:93} فدفَع عمر حُكْم الكفر عنه لتأويله, وأقام عليه الحد لشرب الخمر([48]).
جـ- فتوى ابن عباس: “إنما الربا في النسيئة” وأجاز بيع الصاعين بالصاع؛ لحصره الربا في النسيئة, فأباح بعض صور الربا المحرم عن تأويل.
د- عدم تكفير الأئمة وجماهير السلف لأهل الأهواء, رغم ما ينتحلونه من عقائد تصادم أصول الدين وقواعده, وذلك للتأويل الذي زاغوا بسببه.
الخامس: ومن شروط التكفير: الاختيار, ومقابله الإكراه, وفي كلام بعضهم جَمْع بين القصد والاختيار, وله وجْه, إذ لا يُتصور أن رجلاً يختار فعلاً وهو غير قاصد له, وعلى كل حال فالإكراه مانع من موانع التكفير والتفسيق وغيرهما.
والإكراه: هو حَمْلُ الغير قهرًا على ما ينافي رضاه واختياره, أو إلزام الغير بما لا يريده.
وله شروط:
أ- أن يكون المكرِه -بكسر الراء- قادرًا على إنفاذ وعيده.
ب- أن يكون المكرَه – بفتح الراء- عاجزًا عن دفع الضرر عن نفسه, ولو بالفرار.
جـ- أن يغلب على ظن المكرَه -بفتح الراء- وقوع ما هُدِّد به.
د- أن يكون الضرر المترتب على عصيان المكرِه -بكسر الراء- كبيرًا: كقتْل, أو قطْع عضو, أو ضرْب شديد, أو حبْس طويل, أو قطْع رزق يتضرر بقطعه, فإن كان المكرَه -بفتح الراء- من أصحاب المروءات والوجاهة؛ اعْتُبِر في حقه يسير الحبس، والشتم، والأذى المعنوي ضررًا كبيرًا, وإكراهًا, قاله الجمهور اهـ([49])، ومن الأدلة على أن الإكراه عُذْرٌ:
أ- قوله تعالى: [مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {النحل:106} والمشهور في كتب التفسير أنها نزلت في عمار بن ياسر والمؤمنين الذين عُذِّبوا في مكة.
ب- قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “رُفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرهوا عليه” وقد سبق.
6- ومن شروط التكفير: القدرة, ومقابلها العجز, ولا شك أن مناط التكليف الاستطاعة, فقد قال تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] {الحج:78} وقال سبحانه: [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286} وقال عز وجل: [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا] {الطَّلاق:7} ويقول عز وجل: [إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99) ]. {النساء}.
وهذا النجاشي – رحمه الله- قد عَجَزَ عن الهجرة إلى الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-, وفاتته أحكام كثيرة، لم يعلم بها بسبب عدم قدرته على الهجرة, ومع ذلك أثنى عليه رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-, وصلى عليه صلاة الغائب.
فهذه شروط التكفير التي يجب توافرها, وهذه موانع يجب انتفاؤها قبل الحكم على المعين بالتكفير أو التفسيق أو نحوهما.
ومن هنا صرح العلماء بأنه لا يلزم من إطلاق الحكم العام الحكمُ على المعين إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
فإن قيل: إنما يُعذر بالجهل في التكفير لا التبديع والتفسيق؛ فالجواب من وجوه:
1- أن الأدلة عامة، فمن فرّق فعليه الدليل.
2- أن ما سبق من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره مما لم أذكره عام، بل صريح في عدم التفسيق إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة، ومن فرّق فعليه أن ينقل عنهم خلافه.
3- أن أدلة التحذير من الكفر أكثر وأشهر في الكتاب والسنة من أدلة التحذير من المفسِّقات، فإذا سلمتم بالعذر في الأكثر وضوحًا؛ لزمكم أن تُسَلِّموا بالعذر في الأقل وضوحًا، أو الأكثر خفاءً، والمشهور في كتب أهل العلم عكس هذا القول، فلا يعذرون في المكفِّرات، ويعذرون فيما هو دونها، والله أعلم.
فإن قيل: لا عُذر في الأمور الواضحة، ومنها الوقوع في المكفِّرات، إنما العذر فيما هو دون ذلك، أي في المسائل الخفية، فالجواب: أن الأدلة عامة، ومن كان مسلمًا ووقع في مكفِّر ظانًّا أنه من الإسلام – لجهله، أو خطأه، أو تأويله- فلا يُخرج من الإسلام إلا بعد إظهار مخالفته لما ظن فيه الموافق لدين، ومن نظر في صنيع العلماء مع أهل الأهواء الغلاة؛ علم أنهم لم يكفروهم بأعيانهم دون إقامة الحجة، وسيأتي من كلامهم ما يدل على ذلك، نعم إذا وقع في مُكفِّر ليس للقرْبة به معنى أو شبهة؛ فلا يُعْذر، لكن حتى يتبين هذا من ذاك؛ فلا تكفير، والله أعلم.
وقد طَبَّق السلف هذا الأصل في التفرقة بين الحكم العام والحكم على المعيَّن تطبيقًا صحيحًا, بل إن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بين ذلك في قصة الرجل كان يشرب الخمر كثيرًا, ويقام عليه الحد, ويعود لشربها, حتى قال رجل: لعنه الله, ما أكثر ما يُؤتى به, فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ” لا تلعنوه؛ فو الله ما علمتُ إنه يحب الله ورسوله“([50]).
هذا, مع أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد لعن في الخمر عشرة أشياء: “عاصرها، ومعتصرها – أي طالب عصرها- وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراه له“([51]) فلما أنزل بعض الصحابة الحكم العام على المعيَّن دون علمه بمانع يمنع اللعنة في حق هذا الرجل؛ رَدَّ عليه رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبين له ما يمنع لعنه بعينه.
ومن أمثلة كلام أهل العلم في ذلك:
أ- قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “إني من أعظم الناس نَهْيًا عن أن يُنْسَب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية, إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة, وفاسقًا أخرى, وعاصيًا أخرى” اهـ([52]).
ب- وقال أيضًا: “إن التكفير له شروط وموانع، قد تنتفي في حق المعين, وإن تكفير المطلق لا يلزم منه تكفير المعين, إلا إذا وُجدت الشروط, وانتفت الموانع, يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفِّروا أكثر من تكلم بهذا الكلام“([53]) وقال: “حتى يقوم فيه المقتضِي – أي للتكفير- الذي لا معارض له” اهـ([54]) وقال: “لابد من إقامة الحجة, وإزالة الشبهة“([55])
جـ- وقال ابن أبي العز: “وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد, وأنه كافر؟ قلنا: لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة, فإن من أعظم البغي أن يُشْهد على معيَّن أن الله لا يغفر له, ولا يرحمه, بل يخلده في النار, فإن هذا حكم الكافر بعد الموت” اهـ([56]).
السادس: ومن ضوابط وأصول التكفير: أنه لا يُحْكم على الرجل بلازم كلامه أو مآله, إلا إذا عُرض عليه لازم قوله والتزمه، وأقرّ بأنه قوله أيضًا, وإنما يُحكم عليه بصريح كلامه, وقد يقول بعضهم: لا يلزم من الكفر في المآل الكفْرُ في الحال, أو لازم القول ليس بقول إلا إذا التزمه.
وهذا من رحمة الإسلام وعَدْله؛ فقد يتكلم المرء بكلام لا يستحضر لوازمه وما يؤول إليه, فتحميله هذه اللوازم مباشرةً دون معرفة رضاه بها أم لا؛ ليس من الرحمة التي جاء بها هذا الدين, لكن إذا عُرض عليه كلامه, وأُخْبِر بلوازمه الفاحشة التي لا تنفك عنه, فإن قَبِلَها؛ فيُحكم عليه بما يستحق, وإلا كان متناقضًا, ولا يلزم من تناقضه أن يكون كافرا, فإن التناقض شيء, والكفر شيء آخر, وقد قال الشاطبي: -رحمه الله-([57]) : “والذي كنا نسمعه من الشيوخ: أن مذهب المحققين من أهل الأصول: أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال, كيف والكافر([58]) ينكر ذلك أشد الإنكار, ويرمي مخالفه به” اهـ.
السابع: لا يَلْزم مِنْ نفْي الإيمان عمن قال كذا، أو فَعَلَ كذا وقوع الكفر أصلاً, فقد يكون هذا لنفْي الكمال الواجب للإيمان, لا لنفْي أصل الإيمان, ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-“والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, والله لا يؤمن” قيل: من يا رسول الله؟ قال: “الذي لا يأمن جارُه بوائقَه“([59]) .
ونحو ذلك ما ورد في الأحاديث: “ليس منا…” أو “…فهو منهم” أو “لا يدخل الجنة…” أو “…فهو في النار” و “…فقد كفر” أو “…فقد أشرك” ونحو هذا، فلابد من معرفة المراد بهذه النصوص: هل المراد نَفْي أصل الإيمان، أو كماله الواجب؟ ولا يصح حَمْلها أو حَمْل بعضها على نفي المستحب، لأن تارك المستحب لا يقال في حقه: “ليس منا” أو: “لا يؤمن” …الخ، ولو تأكدنا من أن المراد نفْي أصل الإيمان؛ فبقي مراعاة الشروط والموانع الأخرى.
الثامن: الكفر مضاد للإيمان, فيكون بالقول والعمل والاعتقاد, كما أن الإيمان قول وعمل واعتقاد, والكفر له أصول وشُعب, كما أن الإيمان له أصول وشُعب, فإذا كان القول أو الفعل أو الاعتقاد ينافي أصل الإيمان, ويوافق أصل الكفر؛ فهو كفر أكبر, وإذا كان ينافي بعض شُعب الإيمان وواجباته, ويوافق بعض شُعب الكفر – التي لم تبلغ إلى درجة أصول الكفر- فهذا نَقْصٌ – بالصاد المهملة- في الإيمان, ونَفْيٌ لكماله الواجب لا أصل الإيمان.
ومع أن التكذيب والجحود أعظم أنواع الكفر وأُسُّه؛ لكن الكفر ليس محصورًا فيهما، فالكفر يكون: بالتكذيب، والجحود، والشك، والنفاق، والإعراض، والاستهزاء، والتولِّي، وغير ذلك مما نصَّ عليه أهل العلم، وإن كان بعضها مترادفًا لمعنى واحد، أو داخلاً في نوع آخر من أنواع الكفر، أو عائدًا إليه، إلا أن الحصر للكفر في التكذيب قول مجانب للصواب.
التاسع: ما كان كفرًا بذاته, أي أنه من أصول الكفر, فلا يُشترط في التكفير به استحلال فاعله, إنما يُشترط الاستحلال في المعاصي والذنوب التي هي دون الكفر، فإن الاستحلال لما حرم الله نوع مستقل من أنواع الكفر، بعد مراعاة شروطه وضوابطه، ولا يُشترط في التكفير للمعين توافر نوعين فأكثر من أنواع الكفر، بل هذا من زيادة الطغيان والجرأة على الله تعالى.
(تنبيه): استحلال المحرم كتحريم ما أوجبه الله في التكفير به، فمن استحل الفواحش والكبائر، كمن حرّم أداء الزكاة، وصوم رمضان، وبرَّ الوالدين، وصلة الرحم، وغير ذلك من الواجبات الشرعية المقطوع بوجوبها دون تأويل يُعْذَر به.
العاشر: الكفر كفران: أكبر وأصغر, وبعضهم يقول: كفر اعتقادي, وكفر عملي, وليس ذلك دقيقًا, فالكفر العملي منه ما هو أكبر وأصغر أيضًا, ومنه ما يدل على اعتقاد أمر مكفِّر, ومنه دون ذلك, وهناك أمور مكفرة سواء دلت على اعتقاد أمرٍ مُكَفِّرٍ أم لا, ولا يُشترط معرفة اعتقاد المرء فيها, إنما هي كفْر مجرد, كمن سجد لصنم, أو سب الرب عز وجل, أو رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-, وادعى أنه فعل ذلك إغاظة لفلان, أو تقليد لفلان، وإلا فهو لا يعتقد ذلك, فلا يُقبل منه هذا, ويُحكم بكفره وإن أصرَّ على ذلك بعد مراعاة الشروط والموانع.
وكذا الشرك شركان: أكبر وأصغر, والنفاق نفاقان: اعتقادي وعملي, أو أكبر وأصغر, والفسق فسقان, والظلم ظلمان, والذنب ذنبان, والمعصية معصيتان, والبدعة بدعتان, والجهل جهلان, والضلال ضلالان,…الخ، ولا بد من الرجوع في تفصيل ذلك إلى سياق الأدلة, والجمع بينها, وشروح العلماء, وإلا فهذا مَظِنة مزلة أقدام, وضلال أفهام, والله المستعان.
الحادي عشر: المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الكبيرة أو الكبائر وإن أصرّ عليها, والإصرار عدم التوبة من الذنب، ولا يَكْفُر المرء به ما لم يستحل ذلك, والاستحلال منه قولي, ومنه عملي, فالقولي: هو جَعْل الحرام الصريح المجمع عليه حلالاً, وبنحوه – في المعنى- جَعْل الحلال الصريح المجمع عليه حرامًا دون تأويل فيهما, والتأويل عُذْر حتى يُزال عن صاحبه اللبس, وأما الاستحلال العملي فظاهر من حرص فاعل المعصية عليها, وفرحه بالظَّفَر بها, والصواب أنه لا يُكَفَّر إلا بالاستحلال القولي, وإلا كفَّرنا كثيرًا من ذوي المعاصي والذنوب.
ومن الأدلة على أن الإصرار على الذنب ليس كفرًا مخرجًا من الملة: قوله تعالى: [إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء:48} فقسَّمت الآية الذنوب إلى قسمين، وهما: الشرك، وما دونه، وحكمتْ بحكمين؛ الأول: أن الشرك لا يُغفر، أي إذا لم يتب صاحبه، فإنه لا يكفِّر الشرك إلا التوبة، والثاني: المغفرة لمن شاء الله له ذلك، ممن وقع فيما هو دون الشرك، أي دخول الشخص تحت المشيئة، وهذا فيمن لم يتب، وإلا لو تابوا لغُفر لهم جميعًا، لا لبعضهم الذي يشاء الله ذلك له، دون التائب الآخر، فإن الله عز وجل يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، والتوبة تجُبُّ ما قبلها، فدلت الآية على أن من يدخل تحت المشيئة ليس تائبًا، وهذا هو تعريف المُصِرُّ على ذنبه، ولو كان مشركًا بإصراره؛ لأُلحق بالقسم الأول، فلما غايرت الآية بينهما؛ دل ذلك على تغاير أحكامهما، والله أعلم.
ومن الأدلة أيضًا: قوله تعالى فيمن يرمون المحصنات: [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ(4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5) ] {النور}.
فالآية الكريمة قد ذكرت ثلاث عقوبات لمن قذفوا امرأة محصنة:
أ- الجلْد.
ب- رد شهادتهم على الأبدية، أي كلما قدَّموا شهادتهم رُدَّتْ.
ج- الحكم بفسقهم.
ثم استثنت الآية الثانية بعد ذلك التائبين، ومعلوم أن من لم يتب حتى جُلِد، فلا مجال بعد ذلك لاستدراك أمر الجلْد بعد التوبة، وأما الحكم برد الشهادة الأبدية، كما في قوله تعالى: [وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا] فإنه دليل على بقاء حياة القاذف بعد الحد وقبل وبعد التوبة، ولو كان كافرًا لضُربت عنقه، لحديث: “من بدَّل دينه فاقتلوه“([60]).
فطالما أنه حَيٌّ، ويعرض شهادته في أمور دنيوية أخرى أو دينية، ويُكْتَفَى برد شهادته فقط؛ كل هذا دليل على عدم كفره، مع أنه لم يتب، لأنه لو تاب لقُبلت شهادته، ورُفع عنه حكم الفسْق، وثبتت له العدالة.
فهذا قاذف، والقذف من كبائر الذنوب، ومُصِر على القَذْف، ولم يتب منه، ومع ذلك فهو حَيٌّ يعرض شهادته من حين لآخر، فيُكتفى بردها فقط دون قتله، فكل هذا يدل على إسلامه مع إصراره على ما هو دون الشرك، فالْمُصِرُّ من جملة أهل الإسلام، لا من الكفرةُ المشركين، وليس هذا من باب فتح المجال للعصاة في الاستمرار عليها، فإن ذلك يجرّهم إلى الشرك الأكبر، ولكن ذلك في مقام دفع غلو من غلا في هذا الباب، والله أعلم.
الثاني عشر: المعلوم من الدين بالضرورة أَمْرٌ إضافي نسبي, يتغير من زمن إلى زمن, ومن مكان إلى مكان, ومن شخص إلى آخر, فقد يكون أحد الواجبات معلومًا في زمن ما, أو مكان ما, أو لشخص ما, ولا يكون كذلك الأمر نفسه في زمن آخر, أو مكان آخر, أو لشخص آخر, ولذلك لا يُطبق كلُّ ما يُقرأ عن العلماء في هذا المعنى في أي زمان, أو مكان, أو على أي شخص حتى يُنظر: هل خالف المعلوم بالضرورة من الدين عنده, أو عند أهل زمانه وأمثاله, أم لا؟ وحديث حذيفة – رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: “يَدْرُس الإسلام كما يَدْرُس وشْي الثوب، حتى لا يُدرَى ما صيام، ولا صلاة، ولا نُسك، ولا صدقة، وليُسْرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها “فقال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟! فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثًا، كل ذلك يُعْرِض عليه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، قال: يا صلة، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار”([61]) فهذا دليل على أن هناك طوائف قد تجهل وجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج، بل وبقية الواجبات إلا كلمة التوحيد، وهل هناك معلوم من الدين بالضرورة أشهر من هذه الأمور التي جهلتها هذه الطوائف؟ فالمسألة نسبية إضافية، تختلف من شخص لآخر، ومن زمن لآخر، ومن بلد لآخر، والله أعلم.
الثالث عشر: لابد من فهم كلام العلماء على مرادهم, لا على المعنى الحادث بعدهم, كقولهم: “من لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر” يريدون من لم يقر بأن حكم الله في التحليل والتحريم لازم له, وأنه داخل في جملة المخاطَبين به, والمكَلَّفين به, وأنه مُعَرَّض للوعيد إذا خالفه, فمن لم يُقرَّ بذلك فهو كافر, وهذا حق لا مِرْية فيه، فإن من لم يقرّ بذلك؛ لم يقرّ بأنه مُلْزَم بحكم الله عز وجل وحكم رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهل يشك أحد في كُفْر من كان كذلك؟ وليس المراد من هذه العبارة: من لم يتحاكم عمليًّا إلى الكتاب والسنة؛ فهو كافر، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في “منهاج السنة”([62]): “ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله؛ فهو كافر…” إلى أن قال: “بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحْكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى، كسواليف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفْر، فإن كثيرًا من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم، التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله؛ فهم كفار، وإلا كانوا جُهالاً كمن تقدم أمرهم،….” إلى أن قال: “فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم؛ فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، وأما من كان ملتزمًا لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرًا، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة” اهـ فتأمل إثباته الالتزام ظاهرًا وباطنًا، مع وجود المعصية واتباع الهوى في العمل، مما يدل على أن المراد بالالتزام الإقرار بالحكم وإعلان أنه لازم للمرء، ومخاطَب به، وهذا كله عمل قلبي، لا مجرد عمل الجارحة.
الرابع عشر: يُفرِّق كثير من العلماء بين قوله: “فلان كافر”, وقوله: “كَفَر فلان” أو “هذا كُفْر”، أو “الكُفْر” بالألف واللام، فلا بد من التأكد من عبارة العالم قبل نسبة القول بالتكفير إليه.
كما أن كثيرًا منهم يطلق الحكم بالكفر على من فعل كذا, ويعني بذلك بيان حكم الفعل أو القول أو الاعتقاد, لا الحكم على المعَّين، وقد سبق هذا مفصلاً، فلا يصح نسبة القول بالتكفير للعالم الفلاني إلا بعد معرفة وجْه كلامه.
(تنبيه): قد يقول قائل: الشخص الذي يعمل أمرًا مكفِّرًا، ولم نتمكن من إقامة الحجة عليه، إما لعدم قدرتنا على الوصول إليه، أو لعدم وجود من يقيم الحجة عليه، ويبين له حُكم الله فيما يقوم به، ويزيل الشُّبَهة العالقة بذهنه، والتي حملتْه على الوقوع فيما وقع فيه، ولم نعلم بمن أقام الحجة عليه من كبار العلماء، أو من اللجان العلمية، فما حكمه حتى يتم ذلك؟ وكيف نتعامل معه؟
الجواب: الأصل إبقاء حُكم الإسلام عليه، لأن الدين الذي ينتمي إليه، ويجب نصحه بالتي هي أحسن، والتحذير من اتباعه فيما ذهب إليه، والتعامل معه بما يوافق الشرع، فإن كان وليّ أمر؛ فالأصل السمع والطاعة له في المعروف، وعدم خَلْع اليد من الطاعة، وإن كان إمام مسجد، ويترتب على ترك الصلاة معه ترك الجماعة بالكلية، ويتعذر تغييره؛ فالأصل الصلاة وراءه، لأنه مسلم في الجملة، أما إن أمكن تغييره بلا فتنة أكبر، أو أمكن الصلاة خلف غيره في مسجد آخر؛ فتُترك الصلاة معه، إخمادًا لفتنته، ولأن الإمامة للخيار منا، للأحاديث الواردة في ذلك، والله أعلم.
(خاتمة): لاشك أن الحوار العلمي الرصين سبب في صَدِّ الفتن ظاهرًا وباطنًا، بخلاف الاعتماد على القدرة والتنكيل بالمخالف، وعدم التعويل على الحوار العلمي؛ سبب لفتن كثيرة، وقد قال المأمون الخليفة العباسي: “غَلَبَةُ الحُجة أحبُّ إليَّ من غَلَبَة القدرة؛ لأن غَلَبَة القدرة تزول بزوالها، وغَلَبَةُ الحجة لا يُزيلها شيء” اهـ([63]).
هذا ما تيسَّر بيانه على وجه الاختصار، وإلا فالمقام يحتاج إلى مزيد إضافة أدلة وآثار تؤكد صحة هذه الضوابط.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
كتبه:
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
دار الحديث بمأرب
20/10/1430هـ
([1]) البخاري رقم (121) ومسلم رقم (65) من حديث جرير.
([3]) أخرجه الخطيب في “تاريخ بغداد” (11/434) ترجمة عبد الله أمير المؤمنين المأمون بن هارون الرشيد، ومن طريق الخطيب أخرجه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (33/306) وفي سنده من هو مطعون فيهم.
([4]) أخرجه البخاري رقم (3610) ومسلم برقم (1064).
([5]) أخرجه البخاري (6104) ومسلم (60) واللفظ له.
([6]) أخرجها البخاري (6045) واللفظ له، ومسلم (61).
([8]) وهذا مقتضى الحكم على المخالف بالكفر وليس هو كذلك, لأن حكم الكافر عدم المغفرة له أبدا، أو تحريم الجنة عليه، أو الخلود أبد الآبدين في جهنم، فمن ولج هذا الباب بلا ضوابط تعرض لهذا الوعيد, ومن ولج بحق فهو بين أجر وأجرين.
([9]) أخرجه البخاري (4269) مختصرًا, ومسلم (96).
([10]) أخرجه البخاري (4019، 6865) ومسلم (95).
([11]) أخرجه البخاري (3007) ومسلم (2494).
([12]) “الجامع لأحكام القرآن” (18/52)
([14]) ضعيف الإسناد؛ انظر “الضعيفة” (2197).
([15]) وقد ضعّفه شيخنا الألباني – رحمه الله- في “الإرواء” (7/343 برقم 2316).
([17]) أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف” برقم (37929) والمروزي في “تعظيم قدر الصلاة” برقم (591) بسند حسن.
([19]) “متن القصيدة النونية” (42).
([20]) انظر “مجموع الفتاوى” (7/508) ، (12/489).
([21]) انظر “العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية” لابن عبد الهادي (ص221).
([22]) انظر “منهاج السنة النبوية” (5/251).
([23]) انظر “مجموع الفتاوى” (12/455).
[24]) “أصول وضوابط في التكفير” (16-18)
([26]) يعني أبا إسماعيل الهروي.
([27]) أخرجه بنحوه البخاري (393).
([28]) أخرجه البخاري (2946) ومسلم (20).
([29]) أخرجه البخاري (4351) ومسلم (1064).
([30]) أخرجه البخاري مختصًا برقم (4269 ، 6872).
([31]) أخرجه البخاري (4019، 6865) ومسلم (95).
([33]) أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643).
([34]) صحيح، انظر “الإرواء” (2/ صـ 4/برقم 297).
([35]) أخرجه البخاري (3481) ومسلم (2756).
([36]) انظر “مجموع الفتاوى” (11/ 409)
([38]) أخرجها أحمد (21900) والترمذي (2180) وانظر “ظلال الجنة” لشيخنا الألباني – رحمه الله- برقم (76).
([39]) ضعيف، أخرجه الشافعي في “المسند” ومن طريقه البيهقي، انظر “الإرواء” (7/342/2314) ويحتاج إلى مزيد نظر حديثي.
([41]) صحيح، انظر “الإرواء” (1/123 برقم 82).
([42]) أخرجه البخاري مختصرًا (6309) ومسلم (2747) واللفظ له.
([43]) انظر “مجموع الفتاوى” (3/317).
([44]) انظر “جامع العلوم والحكم” (ص 352-354).
([46]) انظر “منهاج السنة النبوية” (5/239).
([47]) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716).
([48]) صحيح، أخرجه عبد الرزاق في “مصنفه” برقم (17076) والبيهقي في “الكبرى” (8/315).
([49]) انظر “المغني” (10/353).
([51]) أخرجه الترمذي وابن ماجه، وصححه شيخنا الألباني – رحمه الله- بشواهده في “غاية المرام” (ص54/برقم 60)، وانظر “الإرواء” تحت رقم (1529).
([52])انظر “مجموع الفتاوى” (3/229).
([53]) انظر “مجموع الفتاوى” (12/488,487,466), فالجهمية قاموا ضد أهل السنة, فقتلوا من قتلوا, وعذَّبوا، وسجنوا، واستحكمت فتنتهم أكثر من عشرين سنة, وأقامها ثلاثة من الخلفاء: المأمون, والمعتصم, والواثق, ومع ذلك فسيرة الأئمة معهم تدل على عدم تكفيرهم بأعيانهم, مع أن مقالتهم قد كَفَّر بها أكثرُ من خمسمائة عالم, قال ابن القيم في نونيته كما سبق.
([54]) انظر “مجموع الفتاوى” (3/281) (12/498) (28/500-501).
([55]) انظر “مجموع الفتاوى” (12/466).
([56]) انظر “شرح الطحاوية” (ص 357).
([58]) أي على قول المخالف, أو: الذي يلزم من قوله الكفر.
([61]) أخرجه ابن ماجه (4049) والحاكم (4/473 ، 545) وهو صحيح.
([63]) “تاريخ بغداد” (1/479) ، (11/434) ترجمة عبد الله أمير المؤمنين المأمون بن هارون الرشيد.