السؤال: بعض الناس يرى أن صلاة التراويح في البيت أفضل من صلاتها جماعة في المسجد , وسمعنا بعضهم يقول : صلاتها في المسجد بدعة ؛ فهل هذا صحيح أم لا ؟
الجواب : لا شك أن من قال : صلاة التراويح في المسجد بدعة ؛ فإنه يجهل كثيرًا من أقوال أهل العلم , ولم يعط المسألة حقها من النظر ، هذا إذا كان قائل ذلك صاحب علم وسنة , أما إذا كان صاحب بدعة وهوى ؛ فلا تلفت إليه ولا إلى ما قال .
وهذه المسالة قد تكلم فيها أهل العلم , فذهب جمهور العلماء إلى استحباب صلاة التراويح جماعة في المساجد ، وذهب بعضهم إلى استحباب صلاتها في البيوت , ومع ذلك وضعوا لها شروطًا .
واستدل القائلون بصلاتها في البيوت بأدلة منها :
(1) حديث عائشة : أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – خرج ليلة من جوف البيت , فصلى في المسجد , وصلى رجال بصلاته , فأصبح الناس فتحدثوا , فاجتمع أكثر منهم , فصلى , فصلوا معه , وأصبح الناس , فتحدثوا , فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة ؛ فخرج رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – , فصُلِّي بصلاته , فلما كانت الليلة الرابعة ؛ عجز المسجد عن أهله , حتى خرج لصلاة الصبح , فلما قضى الفجر ؛ أقبل على الناس , فتشهد , ثم قال : ” أما بعد : فإنه لم يَخْفَ عليّ مكانُكم , ولكنِّي خشيتُ أن تفرض عليكم ؛ فتعجزوا عنها ” . متفق عليه , وعند البخاري : فتُوُفِّي رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – والأمر على ذلك . قـالوا : فهـذا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – صلى في بيته , وبعد أن صلى في المسجد ترك ، ورجع للصلاة في البيت .
(2) واستدلوا بحديث زيد بن ثابت المتفق عليه , في قصة صلاتهم بصلاته – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – , وفيه : ” قد عرفتُ الذي رأيتُ من صنيعكم , فصلّوا أيها الناس في بيوتكم , فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ” . قالوا : فهذا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يرشدهم إلى الصلاة في البيت , مع أنهم يطلبون منه أن يصلي بهم التراويح في المسجد .
(3) واستدلوا على ذلك بآثار صحّ منها أن ابن عمر جاءه رجل ، فقال : أصلي خلف الإمام في رمضان ؟ قال : أتقرأ القرآن ؟ قال : نعم , قال : أفتنصت كأنك حمار ؟ صلّ في بيتك . وصحّ عن سالم ، ونافع ، والقاسم ترك الصلاة في المسجد مع الجماعة .
وأما أدلة الجمهور باستحباب صلاة التراويح في المساجد ؛ فكثيرة ، منها:
(1) حديث عائشة السابق , فقالوا : صلاة رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في المسجد بالمسلمين دليل على استحباب ذلك , وإنما تركها خشية أن تفرض على المسلمين , ويعجزون عن ذلك ، فلما زالت العلة ، وأَمِنَ عمر من المحذور – وهو فرضها على المسلمين مع عجزهم عنها – جمع الناس .
2) حديث أبي ذر – رضي الله عنه – قال : صمنا مع رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – رمضان , فلم يقم بنا النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – حتى بقي سبع من الشهر , فقام بنا ، حتى ذهب نحوٌ من ثلث الليل , ثم كانت سادسة ؛ فلم يقم بنا , فلما كانت الخامسة قام بنا ، حتى ذهب نحوٌ من شطر الليل , قلنا : يا رسول الله ! لو نفلْتنا قيام هذه الليلة , قال : ” إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف ؛ حُسِب له قيام ليلة “ . قال : ثم كانت الرابعة , فلم يقم بنا ، فلما بقي ثلث من الشهر ؛ أرسل إلى بناته ونسائه , وحشد الناس , فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح , ثم لم يقم بنا شيئًا من الشهر ، والفلاح هو السحور . وهو حديث صحيح قد رواه النسائي وأبو داود وغيرهما .
(3) حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال : خرج رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ذات ليلة في رمضان , فرأى ناسًا في ناحية المسجد يصلون , فقال : ” ما يصنع هؤلاء ؟ “ قال قائل : يا رسول الله ! هؤلاء ناس ليس معهم قرآن , وأبي بن كعب يقرأ وهم معه يصلون بصلاته , قال : ” قد أحسنوا “ ، أو ” قد أصابوا ” . ولم يكره ذلك لهم . أخرجه البيهقي , وسنده فيه بحث , ولعل القول بقبوله أولى ، والله أعلم .
(4) أن عمر جمع الناس عندما رآهم يصلون أوزاعًا متفرقين على أُبيِّ بن كعب . أخرجه البخاري .
(5) واستدلوا أيضًا بآثار أكثرها ضعيف .
وأجاب بعض أهل العلم على حديث زيد بن ثابت : ” خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ” بجوابين :
(1) أن الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لم يجبهم إلى طلبهم خشية أن تفرض عليهم , وفي ذلك الوقت كانت الصلاة في حق المخاطبين في البيت أفضل من الصلاة في الجماعة , خشية أن تفرض عليهم , ولما تناهت الفروض ، وأُمِن المحذور ؛ رجع الأمر إلى الأصل , وهو الصلاة جماعة في المسجد , وقد قال بذلك البيهقي في “السنن الصغير” و”فضائل الأوقات” .
(2) أن حديث زيد بن ثابت فيما لم يأت نص باستحباب صلاته جماعة في المسجد , أما إذا ورد نص بذلك – كما في صلاة التراويح – ؛ فيستثنى ذلك من حديث زيد ، والله أعلم .
وأما الآثار عن ابن عمر وغيره في ترك صلاة التراويح في المساجد ؛ فهو اجتهـاد منهم – رضي الله عنهم – والعبرة بالدليل , وقد سبقت أدلة من السنة وفعل الصحابة بخلاف ذلك ، ومعلوم أن الذين يستطيعون أن يقرؤوا الكثير من القرآن في صلاتهم قليل في الأمة ، وأن الذين ينشطون في الصلاة وحدهم أقل ، فلو قلنا بقول ابن عمر ؛ لأدى ذلك إلى فوات الخير على كثير من عوام المسلمين ، لقلة نشاطهم ، وكثرة مشاغلهم ، لكن من صلى مع إمامه حتى ينصرف ، ونشط لصلاة أخرى وحده ؛ فلا أعلم مانعًا يمنعه من ذلك ، والأمر في ذلك واسع ، ومراعاة أغلب الناس في الفتوى مقدم على مراعاة حال آحادهم ، والأقوياء منهم على العبادة ، والله أعلم .
وأما كون عمر لم يصل معهم ؛ فقد يكون لاشتغاله بأمور المسلمين ، أو صلاته آخر الليل , كما قال ابن عبد البر .
وقد صحّ أن عمر عندما سمع هيعة الناس قبل الفجر قال : ما هذا ؟ فقال ابن عباس : الناس حين خرجوا من المسجد , قال : ما بقي من الليل أحب إليّ مما ذهب . أخرجه عبد الرزاق وغيره . وفي هذا تفضيل للصلاة آخر الليل على الصلاة أول الليل , ولا يلزم من ذلك تفضيل صلاة الفرد على صلاة الجماعة . قاله الحافظ في ” الفتح ” .
وقد سئل أحمد – رحمه الله – عن ذلك فاستحب إحياء السنة في المساجد .
ففي “سؤالات أبي داود” ص (62) : قال أبو داود : سمعت أحمد قيل له : يعجبك أن يصلي الرجل مع الناس في رمضان أو وحده ؟ قال : يصلي مع الناس , وسمعته أيضًا يقول : يعجبني أن يصلي مع الإمام ، ويوتر معه , قال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ” إن رجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف ؛ كَتب الله له بقية ليلته ” قيل لأحمد – وأنا أسمع – يوتر الإمام بثلاث , أوتر (أو أنصرف) فأوتر وحدي ؟ قال: نعم , يوتر -أي : مع الإمام- قيل : يضجون في القنوت ؟ قال: أوْتر معه , قيل لأحمد -وأنا أسمع- يؤخر القيام -يعني التراويح- إلى آخر الليل ؟ قال : لا , سنة المسلمين أحبّ إليّ , وكان أحمد يقوم مع الناس حتى يوتر معهم , ولا ينصرف حتى ينصرف الإمام , شهدته شهر رمضان كله يوتر مع الإمام , إلا أن ليلة لم أحضر اهـ .
وقال الليث بن سعد : ” لو أن الناس كلهم قاموا في رمضان لأنفسهم وأهليهم حتى يترك المسجد لا يقوم فيه ؛ لكان ينبغي أن يخرجوا إلى المسجد , حتى يقوموا في رمضان ؛ لأن قيام رمضان من الأمر الذي لا ينبغي للناس تركه , وهو مما سنّ عمر للمسلمين , وجَمَعَهُمْ عليه , وأما إذا كانت الجماعة قد قامت في المسجد ؛ فلا بأس أن يقوم الرجل لنفسه في بيته وأهل بيته ” اهـ . من “الاستذكار” و”التمهيد” .
وابن عبد البر ممن نصر القول بالصلاة في البيوت , ثم قال : ” إلا أن قيـام رمضان لابد أن يقـام اتباعًا لعمر , واستدلالاً بسنة رسـول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في ذلك , فإذا قامت الصلاة في المسجد ؛ فالأفضل عندي حينئذٍ : حيث تصلح للمصلي نيته وخشوعه وإخباته ، وتدبر ما يتلوه في صلاته , حيث كان ذلك مع قيام سنة عمر, فهو أفضل – إن شاء الله تعالى – وبالله التوفيق ” اهـ . “التمهيد” (8/120) .
وقال الحاكم في “المستدرك” بعد ذكر حديث النعمان بن بشير في صلاة الصحابة مع النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” وفيه الدليل الواضح أن صلاة التراويح في مساجد المسلمين سنة مسنونة…” ا هـ .
وقد قال الحافظ في “الفتح” (4/ 252) : ” وعند الشافعي في أصل المسألة ثلاثة أوجه: ثالثها من كان يحفظ القرآن , ولا يخاف من الكسل, ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه ؛ فصلاته في الجماعة والبيت سواء , فمن فقد بعض ذلك ؛ فصلاته في الجماعة أفضل ” اهـ .
وكل هذا الموافق للسنة وفعل الصحابة مقدم على ما ذهب إليه الإمام مالك – رحمه الله – , من الصلاة في البيت , ونقل عن جماعة أنهم فعلوا ذلك , مع أنه قال : لمن يقوى على ذلك ، والعلم عند الله تعالى .