تصحيح المفاهيم

حقيقة موقف الشيخ الألباني رحمه الله من أخطاء الجماعات الإسلامية

سلسلة تصحيح المفاهيم

لفضيلة الشيخ أبي الحسن السليماني

(حقيقة موقف الشيخ الألباني رحمه الله من أخطاء الجماعات الإسلامية)

 

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فقد انتشر منذ وقت مقطع صوتي لشيخنا المحدِّث المجد محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- فخشيتُ أن يُفْهَم على غير وجهه، وعلى خلاف ما عليه علماء السلف وأتباعهم من الخلف، بل على خلاف صنيع شيخنا نفسه –رحمه الله- وخلاصة ما ذَكَرَهُ شيخنا -رحمه الله- في هذا المقطع: أن الحرب إذا كانت بين الدعاة إلى الإسلام والدعاة إلى العلمانية؛ فلا ينبغي ذِكْر أخطاء الجماعات الإسلامية، وهاكم نصَّ الجواب –حسْب ما جاء في هذا المقطع المشار إليه، دون مراعاة القواعد النحوية:

يقول شيخنا العلامة الألباني -رحمه الله تعالى-: “الآن الحرب بين الإسلام وبين العلمانية ، ففي هذا الوضْع ما ينبغي للرجل المسلم الغيور على الإسلام أنه يِجِي في سبيل بيان موقفه من بعض الجماعات الإسلامية، التي عندها انحراف قليل أو كثير عن الإسلام ، ما ينبغي الدخول في هذه التفاصيل ما دام الجماعات الإسلامية كلها ضد هذه الهجمة الشرسة العلمانية ، فهنا ما فيه مجال أنه يِجِي ــ يعني ــ يَشْفِي غيظ صدور المؤمنين، بأن يقول: هؤلاء من الإسلاميين ، هؤلاء على الحق ، وهؤلاء منحرفين قليل عن الحق ، وهؤلاء منحرفين كثير عن الحق ، هذا ليس مجاله ــ بارك الله فيك ــ الآن جبهتان: إسلامية فيها كذا، وفيها كذا، وفيها كذا ، وجبهة أخرى ما فيها كذا وكذا، كُلُّهم جبهةٌ، الكُفرُ والضلالُ، كُلُّهم يجتمعون على محاربة الإسلام ، فهنا ما ينبغي نحن أن نطلب مثل هذا المحاضِر، أنه يُرينا موقفه المحدد الدقيق من كل هذه الجماعات الإسلامية ، هذا لكل مقام مقال كما يقال” اهـ من المقطع الصوتي، وهو على اليوتيوب بعنوان: (الحرب بين الإسلام والعلمانية، والتفصيل في حال الجماعات الإسلامية).

وقد عَرضْتُ هذا المقطع على إخواني في مجموعة مجالس رابطة أهل الحديث باليمن؛ لأنظر فَهْمَهُم وقدرتهم على وضع كلام أهل العلم في موضعه الصحيح –هذا إذا سَلِم هذا المقطع من البتر المؤثِّر، أو من وضْعه في غير سياقه، كما ادعى بعضهم- فقصدت بهذا معرفة قدراتهم على فهم كلام أهل العلم دون إفراط أو تفريط؛ لأن الدعوة إذا كان القائمون عليها غير أسوياء في فهم كلام السلف، وأتْباعهم من الخلف، وغير قادرين على رد الشبهات جميعها؛ فلا نأمن عليها من انحراف مسيرتها نحو الغلو أو الجفاء، وهما واديا الهلَكة والتهلكة، وهما سبيلا شياطين الإنس والجن، اللذان لا يبالي إبليس بأيهما –أو في أيهما- هلك ابن آدم.

والحق: أنني حمدتُ الله –عز وجل- على ما وجدتُ عليِه إخواننا، من فَهْمٍ رائق، ونَهْجٍ صادق من خلال فهمهم لذلكم المقطع الصوتي، وقد وعَدْتُ إخواني بذِكْر ما عندي بعد الاطلاع على ما عندهم، وهذا أوان الوفاء بما وعدتُ به، فأقول -مستعينًا بالله، وملخّصًا ما عندي في عدة نقاط– أرجو بمراعاة مجموعها أن يُوَفَّق السالك في طريق الدعوة إلى الله إلى لزوم سبيل الاعتدال والتوسط:

1- للباطل صُور كثيرة، ومتفاوتة المراتب: قوة وضعْفًا، وثِقَلاً وخِفَّةً، وإسرارًا وإعلانًا.

2- من المقاصد الكبرى في شريعتنا المطهرة: مراعاة الأولويات، وذلك عند تزاحم المقاصد والمفاسد، ومن ذلك: ارتكاب المفسدة الصغرى لدرْء المفسدة العظمى، عند تعذُّر درئهما جميعًا، وكذا مراعاة القدرة والاستطاعة، فالتكاليف تختلف في لزومها والتسهيل فيها، وكذلك في التعجيل بها او التأجيل لها، بحسب قدرة المكلَّف وعَجْزِهِ، فَفَرْقٌ بين زمن التمكين والاستخلاف، وزمن الخوف والاستضعاف، ولا يخفى عليكم طبيعة التكاليف الشرعية في العهد المكي والعهد المدني، وأن المسلمين بعد زمن النبوة عملوا بالجميع من ذلك، كُلاً في موضعه حسب قدراتهم –أفرادًا وجماعات- فمن كان قويا قادرًا على تحقيق مقاصد الشريعة؛ أخذ بما في العهد المدني من تكاليف: من الأمر والنهي، والجهاد في سبيل الله -وإن كان المسلمون في أماكن أخرى مستضعفين- ومن كان في بلده عاجزًا ضعيفًا، وسيفتح على نفسه وغيره باب الفتن إذا غيَّر المنكر بيده؛ أخذ بنصوص الصبر والعفو والإعراض- وإن كان بعض المسلمين أقوياء، ولهم شوكة وهيْبة في أماكن أخرى.

3- والأمر كذلك في القدرة وعدمها على القيام بالواجبات كلها من جميع جوانبها، فمن كان قادرًا على إنكار المنكر بجميع صُوَرِهِ؛ لزمه القيام بذلك، بشرط أن يحقق بإنكاره المقاصد الشرعية، أو ما أمكنه منها، ومن كان عاجزًا عن إنكار المنكر كله؛ أنكر منه ما هو قادر عليه، ولا يَشْفَع له عَجْزُه عن إنكار منكرٍ ما في تَرْكِ إنكار منكر آخر، وهو قادر على إنكاره دون مفسدة أكبر.

4- الصراع بين الحق والباطل –ومن ذلك العلمانية- مستمر حتى تضع الحرب أوزارها، فلو تركنا الإنكار على أخطاء من ينتسب إلى الإسلام بحجة أن هناك من هم أشد ضررًا وكيدًا وخبثًا؛ لتركنا الإنكار لأخطاء المسلمين –لاسيما من ينتسب إلى الدعوة منهم- ما حَيِينَا، لكون الصراع بين الحق والباطل مستمرًا، ولأن الصراع إذا انتهى معهم –على جهة الافتراض العقلي- فسيظهر باطل آخر أشد منه من طائفة أخرى، وحسب ما نراه في التاريخ: أنه قَلّما انقرضت فِرْقة مِنْ فِرَقِ الباطل، وإلا فأكثر فِرَقِ الباطل تزداد انحرافًا وانتشارًا يوما بعد يوم، لاسيما والباطل يملك المال والسلاح والإعلام … وغير ذلك، ويوجِّه هذا كله لحرب الحق، وقمْع أهله، ونشر الباطل، وتزيين لونه وشَكْلِهِ.

5- إنكار المنكر على الجماعات الدعوية لا يلزم منه الصراع معهم، والانشغال عن منكر العلمانيين -ومن هم على شاكلتهم- وترْك خندق الدفاع عن الإسلام أمام هجمتهم الشرسة الحاقدة، فمعلوم أن إنكار المنكر له مراتب، ويكون باليد، أو باللسان، أو بالقلب، وأنه يبدأ بالنصح بالتي هي أحسن، ويليه –عند عدم قبول النصح- البيان بالأدلة الشرعية لنوع المخالفة وأثرها على الأمة، دون تشنيع، أو تشهير، أو حِرْصٍ على عدم استجابة المخطئ، ورجوعه إلى الصواب، للاستمرار في الولوغ في عِرْضه، ثم يَتْبَعُ ذلك –إذا كان الشخص صاحب هوى ولجاجة وإسراف، وحِرْصٍ على جمع الأتباع حوله- التحذير منه ومن اتِّباعه، ثم يَتْبَعُ ذلك مقاطعته، أو هجره، ودعوة من كان هَجْرُه إياه يَرْدَعه إلى القيام بهجره؛ إذا كان ذلك أنفع له ولغيره من المسلمين.

أما أن يكون الإنكار بغلو وإسراف، وجهالة أو حماقة وانحراف، أو ظلم وإسْفاف؛ فهذا لا يجوز فِعْلُهُ مع غير المسلمين، فكيف بالمسلمين؟

6- أحيانا يتعين إنكار المنكر الصادر من المسلم الداعية –وإن كان رجلا صالحا في الجملة- إذا كان الاغترار به أكثر، أو كان هذا المنتسب إلى الدعوة صاحب تلبيس وزخرفة لباطله، وهَمّه جَمْعُ الأتباع والأطماع، وكان هناك من يُحسن به الظن: لعبادته، أو حُسْن سَمْته، وكريم شِيَمهِ.

وأحيانًا يكون غير المسلم ضعيفًا خاملا، لا أثر له على المسلمين، ويقول كلامًا منكرًا من القول وزورًا، واضح البُطْلان، ولا يخفى أمره وحاله على أقل المسلمين معرفة، وإن كان هذا نادرًا؛ فعند ذاك قد يكون التحذير منه تنويهًا بذكْره الخامل، وفتح باب فتنة برغبة الجاهل في معرفة كلامه، وهذه حالة نادرة، وإلا فالأصل أن غير المسلمين قادرون على تزويق باطلهم، وزخرفته، وإضلال الناس به؛ لما سبق من امتلاكهم وسائل وأسباب القوة المادية، والعسكرية، والفكرية، والإعلامية …الخ، التي تُضِلُّ بها الملايين من المسلمين، فلكل مقام مقال، ولكل حادثٍ حديث، وليس الحكم واحدًا في جميع الأحوال، والأقوال، والأفعال.

7- ليس هناك جماعة من الجماعات تملك الحق المطلق، وأنها سالمة أو معصومة من أي خطأ، فلا معصوم في هذه الأمة إلا رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والإجماع المتيقَّن، وأما ما دونهما فيعتريه الخطأ، يَقِلُّ أو يَكْثُر، والحق لا يثبت بمجرد الدعاوى المجردة، فمن ادعى أنه في جماعة تسير على منهج السلف، وواقعُهُ بخلاف ذلك؛ فلا نُسلِّم له دعواه، ونحذِّر من خطئه، فضلا عن غيره ممن ينتمي إلى دعوات منحرفة اسمًا ومعنى.

8- يجب إنكار الخطأ حيثما كان، ومع من كان، بشرط مراعاة الضوابط التي نصَّ عليها أهل العلم.

9- أن الدعوة تحتاج إلى أن يُحصِّن الدعاةُ إخوانهم وأبناءهم من الشبهات، فالشبهات خطّافة، والقلوب ضعيفة، وبيان الشبهات إنما يكون بالحكمة والموعظة الحسنة، ومراعاة الضوابط، وتحقيق المقاصد الشرعية في الحال والمآل، فهذا العمل من الجهاد في سبيل الله بالحجة والبيان، لمن كان أهلا لذلك.

وفي بعض الحالات قد يتعين النكير الشديد على المخالف، ولهذه الحالة شروطها، وعليها يتنزَّل كلام جماعة من أئمة السلف على بعض أهل البدع، وإن كان عنده جوانب أخرى من الخير، وإنما العيبُ في جَعْل جميع صور الإنكار لكل الأخطاء، وعلى جميع المخطئين من هذا الصنف من الإنكار، أو استنكار استعمال هذا الأسلوب مطلقًا، والحق وسَطٌ بين طرفين، وهُدًى بين ضلالتين، ووادٍ بين جَبَلين.

10- بينما يُوَضِّح المسلم لإخوانه أخطاء الجماعات؛ فهو يُوَضِّح لهم –أيضًا- رتبة هذه الأخطاء، وأن منها ما لا يُوجِبُ الافتراق، ومنها ما يُوجب ذلك، ولا يجوز الخلط بين هذا وذاك، فهناك أخطاء لا تُزِيل حُرْمة المسلم، وحِشْمَتَه، بل وفَضْله ورُتْبَته، ومن هذه الأخطاء تلك التي تقع في المسائل الاجتهادية، كالخلافات الواقعة بين أئمة الإسلام والمذاهب المعتبرة، فالخلاف فيها مُعْتَبر، ويجوز تقليد العامي للعالم في ذلك، وهناك أخطاء في مسائل خلافية، الحق فيها أظهر في أحد القولين دون الآخر بخلاف التي قبلها، فيلزم في هذه الخلافات قبول الحق، مع عدم التشنيع على المخالف؛ لأن حاله دائر بين أجر وأَجْريْن في الجملة –إذا كان من أهل العلم والاجتهاد- وإن كان الخطأ في النوع الأول أكثر إعذارًا من هذا الخطأ، ولا يؤخَذ بقول من خالف صريح الأدلة أو ظاهرها، كائنًا من كان، مع بقاء مكانته بين العلماء، والاعتراف بفضله وأثره.

 وهناك مخالفات في بعض الجزئيات من الأصول الكبرى المجْمع عليها، فهذه تُوجِبُ التحذير من اتباع صاحبها فيما أخطأ فيه، بعد نصحه وبيان الحق له، كما سبق، والمخالف في ذلك نحذِّر من مخالفته، ولا نُهْدِره من جميع الجوانب، إذا كان خطؤه قد وقع منه عن تأويل وحُسْن قصْد في اتباع السنة، وكان انتماؤه إلى مرجعية الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة ثابتًا، كما هو الحال في زلات أبي إسماعيل الهروي –الملقب بشيخ الإسلام- وأبي الوفاء ابن عقيل، والقاضي أبي بكر الباقلاني،… وغيرهم ممن تأثروا بعلم الكلام، مع أن الأصل فيهم اتباع السنة ، والانتساب لمشاهير الأئمة فزلَّتْ قَدَمُ أحدهم ، وهو يظن أنه ينصر السنة، مع تصريحه بتقديم ما شهد له مُحْكَم الكتاب، وصحيح السنة، والإجماع المتيقَّن على العقل وأقوال الرجال، فهذا الصنف يُنْكَرُ وقوله، ويُكْشَف عوار مقالته، لكن لا نتهم صاحبه في حُسْن قصده، فليس من طلب الباطل فأدركه؛ كمن طلب الحق، وقَصَده، وحرِص عليه، لكنه لم يُدْرِكْه.

قال شيخ الإسلام([1]) في ردّه على ابن المطَهَّر الرافضي تشنيعه على الأشاعرة: “إن غالب شناعته على الأشعرية ومن وافقهم، والأشعرية خير من المعتزلة والرافضة عند كل مَنْ يَدْرِي ما يقول، ويتقي الله فيما يقول، وإذا قيل: إن في كلامهم وكلام من قد وافقهم – أحيانا – من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ما هو ضعيف، فكثير من ذلك الضعيف إنما تَلَقَّوْهُ من المعتزلة، فهم أصل الخطأ في هذا الباب، وبعض ذلك أخطأوا فيه لإفراط المعتزلة في الخطأ، فقابلوهم مقابلة انحرفوا فيها، كالجيش الذي يقاتل الكفار، فربما حصل منه إفراط وعدوان” اهـ .

ومع ذلك، فهذا لا يمنع من التعاون معهم، وطلب العلم عندهم بعد مراعاة الضوابط المعروفة، بل قد نتعاون مع المبتدع الظاهر في بدعته الكبرى ضد رجل كافر، أو ضد رجل مسلم أشد بدعة وضررًا منه، كنصرة الأشاعرة على المعتزلة، والشيعي غير الغالي على الرافضي، والمرجئ على الجهمي … وهكذا، بل قد ننصر كافرًا كتابيًّا على كافر وثني …. ونحو ذلك.

وقد ذكر النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه سيأتي وقت يصالح فيه المسلمون الروم -وهُمُ هُمُ- لقتال عدو أشد ضررا من الروم، فقال: “تُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ، فَتَسْلَمُونَ وَتَغْنَمُونَ([2]) .

فلا يلزم من التصالح والتعاون مع المخالف الرضى بباطل من نتعاون معه، لكن هذا التعاون له أسباب طارئة، حَمَلَتْنَا عليه، وإلا فالأصل عدم مصاحبة المبتدعة بدعة كبرى –خشية الافتتان بهم- فضلا عن الكفار، والله أعلم .

وكذلك فالتحذير من الخطأ لا يلزم منه إهدار المخطئ بالكلية –وفي كل الحالات- كما ذكر الإجماعَ على ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في عدة مواضع، ومثَّل على ذلك، فقال: كالِّلصِّ الفقير، تُقْطَعُ يده لسرقته، ويُعْطَى من بيت المال لسدِّ حاجته.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجورٌ وطاعة ومعصية، وسُنّة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدْر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسَب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللِّص الفقير: تُقْطع يده لسرقته، ويُعْطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقًّا للثواب فقط، وإلا مستحقًّا للعقاب فقط، وأهل السنة يقولون: إن الله يعذّب بالنار مِنْ أهل الكبائر من يعذِّبه، ثم يخرجهم بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته…”. اهـ([3]).

فتأمل هذا الإجماع الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهذا محصور بالمسلم وإن خالف بفجور أو بدعة، بخلاف الكافر، وأما أهل البدع الكبرى كالرفض، والتجهم، أو غلاة المرجئة والخوارج، ونحوهم، فالأصل في هؤلاء عدم ذكرهم إلا بالذم، وقد يذكرون في بعض الجوانب بما فيه مدح لهم، كما في حالة المقارنة بين الخوارج والرافضة، فليس من الخوارج الأوائل زنديق، بخلاف الرافضة، وكذلك تفضيل المعتزلة على الفلافسة، بل تفضيل النصارى على اليهود، كما في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة : 82]، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فمبتدعة المسلمين إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ولا يظلم ربك أحدا.

11- ومما يؤكِّد هذا التفصيل في فهم كلام شيخنا الألباني –رحمه الله- أنه قضى حياته في التحذير من أخطاء الجماعات الإسلامية، دون إسراف في الحكم عليهم، فلم يكفِّر مسلمًا، ولم يخرج أحدا ينتمي إلى السنة مطلقًا من السنة، إذا كان خطؤه لا يُوجِبُ ذلك، إنما يخرجهم من السنة في الجزئيات التي خالفوا فيها السنة، أو أثاروا بها الفتنة، وكذلك فكم ناظر – رحمه الله – عددًا من رؤوسهم، وممن يدافعون عن مقالاتهم، مع أن الشيخ كان يعيش في زمن تسلّط العلمانية، وصراع دعاة الإسلام مع دعاة وكُتّاب العلمانية، فالمنصف هو الذي يفهم كلام العالم من خلال بقية كلامه، وواقعه، لا من خلال كلمة مجملة غير مفصلة من كلامه، وكذلك يفهم كلام العالم من خلال منهجه الذي يسير عليه، وينافح عنه، وكذا منهج إخوانه العلماء الذين جمعهم منهج واحد، أما تلقُّف كلمة من هنا، وأخرى من هناك، وجَعْل ذلك منهجًا للعالم؛ فليس هذا من الإنصاف ومنهج الباحثين عن الحق في شيء، والله أعلم.

12- هناك من يرى أن هذا المقطع الصوتي مبتور عن سياقه ولحاقه، ولا يهمني –في هذا المقام- الكلام في البحث عن صحة ذلك أو عدمه؛ لأن كلام شيخنا الألباني –رحمه الله- له محمل صحيح بخلاف الفهم الذي تبادر إلى أذهان كثير ممن سمع هذا المقطع.

والخلاصة: أن من كان قادرًا على القيام بجميع أو أكثر الواجبات، وإنكار جميع أو أكثر المنكرات؛ فلا يجوز له أن يَتْرُك بعض الواجبات بسبب ما عجز عن القيام به من الواجبات الأخرى، أو كان القيام بواجب سببًا في تضييع القيام بواجب آخر آكد منه وأعظم، والمهم أن تغيير المنكر لا يجوز أن يُفْضي إلى أَنْكَرَ منه، ولابد من مراعاة بقية الضوابط للأمر والنهي –كما بينها علماء السنة- ومتى يتكلم المرء، ومتى يَسْكت، أو يغُضُّ الطرف، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كتبه

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني

5/6/1440هـ

([1]) “منهاج السنة” (1/444).

([2]) أخرجه أحمد برقم (16826) وأبو داود برقم (2767) ، وابن ماجه برقم (4089) وانظر “صحيح أَبي داود” (2472).

([3]) “مجموع الفتاوى” (28/209-210).