الردود العلمية المقروءة

تعقيب على مقال الدكتور صادق بن محمد البيضاني حول فَهْمِهِ كلامي عن تنظيم القاعدة

بسم الله الرحمن الرحيم

(تعقيب على مقال الدكتور صادق بن محمد البيضاني حول فَهْمِهِ كلامي عن تنظيم القاعدة)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فلقد اطّلَعْتُ على مقال نُشِر بتاريخ 3/1/2019م، ويظهر أنه مُفَرَّغٌ من شريط للأخ د/ صادق بن محمد البيضاني –حفظه الله- ويظْهر لمن اطّلع عليه أنه يعيب فيه عليّ أنني لا أُبَدِّع أفراد تنظيم القاعدة بأعيانهم، إنما أتكلم على انحراف منهجهم.

ولا يَهُمُّني في هذا المقام البحث عن دوافع نَشْر هذه الكلمات في هذا الوقت الذي تمرُّ به أمتنا بأحوال لا تَسُرُّ صديقًا، إنما أَكِلُ السرائر إلى الذي لا تَخْفَى عليه خافية، والذي يعلم السرَّ وأخفى، وأجرى الثواب على قَدْر حُسْن القصْد وصِحَّة العمل.

وخلاصة تعقيبي هنا: أنني نَسَبْتُ إلى علماء السنة أنهم يَحْكُمون على منهج الطائفة، أو الفرقة، أو الجماعة بالسنة أو بالبدعة حسب أصولهم التي يسيرون عليها، أما الأفراد الذين هم داخل هذه الطائفة، فنظرًا لاختلاف عقولهم، ومداركهم، وأفهامهم، وقدراتهم، فإنه يُحْكم على كل فرد منهم بما يستحقه، بعد استيفاء شروط هذا الحكم، وتحققها فيه، وانتفاء موانع هذا الحكم عنه، وعدَّ أخونا صادق –حفظه الله- جوابي هذا تناقضًا، وقولاً على علماء السنة بغير علم.

ويَهُمُّني هنا بيان أن ما طلبه الدكتور صادق مني في تعقيبه عليَّ هو عين ما ذكرْتُه أو جُلَّه في جوابي على السائل الذي أَجَبْتُ عليه.

وها أنذا أُلَخِّص جوابي هنا على الدكتور صادق –حفظه المولى- وغيره ممن هم –وللأسف- حريصون على اتهامي بما ليس فيّ لسبب أو لآخر، سَيُظْهِرُهُ الله –عز وجل- يوم تُبْلَى السرائر، وذلك في عدة نقاط، فأقول مستعينا بالله الذي لا يَذِلُّ وليُّه، ولا يَعِزُّ عدوُّه، مراعيًا –في الغالب- المعنى دون اللفظ لتكرارٍ واضطراباتٍ وَقَعَتْ في كتابة من فَرَّغ كلامه، طالبًا من الله سبحانه الهدى والسداد:

1- ذَكَرَ الدكتور صادق –جزاه الله خيرا- أن من الواجب عليَّ أن أبيِّن أقوال العلماء –علماء السنة- الذين أنْسب إليهم موقفي، وإلا فهو موقف خاص بي.

فأقول: نعم، من نسب إلى العلماء قولاً ليس قولهم، فهو إما جاهل بكلامهم، وإما جاهل بما يتكلم به، وإما مُلَبِّسٌ، أو مفترٍ عليهم بغير هُدًى ولا كتاب منير، هذا إذا لم يذْكر ما يدل على صحة دعواه، لكن ليس من هذا كله –ولله الحمد- شيء فيما ذكرتُه، كما سيتضح للقارئ –إن شاء الله تعالى-.

2- كلامي السابق في الرد على الشخص الذي وجَّه السؤال إليّ في الشبكة، وهو فيما يظهر أنه من المدافعين عن القاعدة، يقوم على أمرين: أن منهج التنظيم قد انحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، وذلك بصريح قولي الذي نقله الدكتور، أو اطلع عليه من سؤال من سأله، وهو قولي: “أما تنظيم القاعدة فقد أعلنْتُ ردِّي على فِكْرِه الذي انحرف به عن منهج أهل السنة والجماعة من وقت بعيد، وأعتقد أن فِكْرَهُم قد وافق فِكْرَ الخوارج في عدة أمور …” اهـ.

وذكرتُ أن الأعيان الذين ينتمون إلى السنة وعلمائها، ويتبرأون من الفِرَق الكبرى المخالفة لهل السنة ومرجعياتهم؛ لا أُخْرِجُهم من السنة بأعيانهم إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة، وقطْع العذْر، ويُحْكم على كل فردٍ بما يستحق حسب قوله وفعْله.

فهل بعد هذا التصريح يجد القارئ فرقًا بين قولي هذا وقول الدكتور: “ثالثًا: كان الواجب على أبي الحسن أن يقول بقول أهل السنة، والذي خلاصته: أن تنظيم القاعدة تنظيم خارجي، وليسوا من أهل السنة …” اهـ؟ ثم ذكر –كما سيأتي عنه إن شاء الله- أن أفرادهم لا يُحْكَم عليهم بالبدعة إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة؟؟

3- لقد بَنَيْتُ جوابي على ذاك السائل على التفرقة بين المنهج الذي وافق قول الخوارج، وانحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، وبين الحكم على الأفراد، وهم المشار إليهم في جوابي عليه بالأعيان، فأنَكْرَ أخونا الدكتور عليَّ: لماذا لم أبْسُط كلام العلماء فيما أنسبه إليهم –وحُقَّ له ذلك، بل يُشْكر على ذلك- لكن لو اطلع على مقالي الذي اقتطع منه من سأله جزءًا من كلامي، واطلع على كتابي: “أصول أهل السنة والجماعة في التكفير والتفسيق” واطلع على ما كتبتُ وسجَّلْتُ في ذلك، لعرف أن نقْلي عن العلماء مبسوطٌ في ذلك، لكن عُذْرَه في ظَنِّهِ عدمَ بَسْطِي لأقوال العلماء: أن مادته مأخوذة ممن قد يكون هَمُّه التشغيب والتشهير، لكن عسى أن يعرف الأخ صادق حال من يُوَجِّهُون إليه الأسئلة، فلا يهرول في الجواب عن كل ما سألوه، إلا بعد التثبت من صحة ما ينسبونه إلى مخالفهم، أو يرجع إلى من يحاولون تشويه دعوته، فيسأله عما بلغه، فإنه حيٌّ يُرْزَق، لكن لو فرضنا أنني اختصرتُ كلام أهل العلم، وكنت في مقام اختصار، أو جواب في شريط، أو محاضرة، فلا يلزم المفتي أن يذكر كل أدلته في كل مقام.

وها هي قطعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمة الله عليه- وهو ينسب التفرقة بين الحكم العام أو المطلق، والحكم على المعين إلى أئمة السنة:

فقد قال –رحمه الله-: “وَكُنْت أُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّمَا نُقِلَ لَهُمْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؛ فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ، لَكِنْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ، وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الْكِبَارِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ “الْوَعِيدِ” فَإِنَّ نُصُوصَ الْقُرْآنِ فِي الْوَعِيدِ مُطْلَقَةٌ، كَقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الْآيَةَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَرَدَ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا، فَإِنَّ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: مَنْ قَالَ كَذَا؛ فَهُوَ كَذَا، ثُمَّ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ يَلْتَغِي حُكْمُ الْوَعِيدِ فِيهِ: بِتَوْبَةِ، أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ([1]) اهـ.

وقال أيضًا –رحمه الله: “وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا، كَمَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ كُفْرٌ، فَيُطْلِقُ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِ الْقَائِلِ؛ كَمَا قَالَ السَّلَفُ: مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا يَكْفُرُ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ([2]) اهـ.

وقال أيضًا: “إِنَّ التَّكْفِيرَ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ، قَدْ تَنْتَفِي فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ، وَأَنَّ تَكْفِيرَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ، إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ، وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ، يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَعَامَّةَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَطْلَقُوا هَذِهِ العمومات لَمْ يُكَفِّرُوا أَكْثَرَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِعَيْنِهِ([3]) اهـ.

وقال -رحمه الله-: “فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يُكَفِّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يُكَفِّرهم؛ لأن الكُفْر حُكْم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كَذَبَ عليك، وزَنَى بأهلك؛ ليس لك أن تكْذِبَ عليه، وتَزْنِي بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله، ….. إلى أن قال –رحمه الله-: “ولهذا كُنْتُ أقول للجهمية من الحلولية والنفاةِ الذين نَفَوْا أن يكون الله -تعالى- فوق العرش، لما وقَعَتْ مِحْنَتُهُم: أنا لو وافَقْتُكُم كنتُ كافراً؛ لأني أَعْلَم أن قولكم كُفْر، وأنتم عندي لا تَكْفُرون؛ لأنكم جُهَّال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم، وقضاتهم، وشيوخهم، وأمرائهم([4]) اهـ، وذلك لبقاء الشبهة عالقة في أذهانهم، وعدم انقطاع أعذارهم في نظر شيخ الإسلام.

فها هو شيخ الإسلام –أعلى الله مقامه في عليين- ينسب التفرقة بين المناهج والأعيان، أو بين الحكم العام وتنزيله على الأعيان إلى أهل السنة والسلف والأئمة، لكن المؤلِّف إذا عُرِف منهجه وتأصيله وتقعيده لمسألة ما، واشتهر استدلاله عليها في عدة مواضع، لا يلزمه أن يذكر أدلته في كل موضع يتناول فيه هذه المسألة، وإن كان في مقام الاختصار، كما هو معروف عند أهل العلم.

4- واضح من كلام شيخ الإسلام –رحمة الله عليه- أنه يعذر بالجهل أو بالتأويل الفاسد، -ولهذا شروط معروفة- والتأويل الفاسد فرع عن الجهل بالحق، فلا يكفِّر أصنافًا من الجهمية، مع أنهم من عِلْية القوم فيهم، فمنهم العلماء، والقضاة، والمشايخ، وما نقله عن الإمام أحمد في عُذْرِهِ من قاموا على تعذيبه مع قولهم بمقالات كُفْرِية، من أمراء، وعلماء أفْتوهم بذلك –باستثناء ابن أبي دؤاد ففيه تفصيل في محله- وجمهور علماء السنة تَبَعٌ لإمام أهل السنة –الإمام أحمد رحمه الله- في ذلك، فإذا كانوا يَعْذُرون هؤلاء لجهلهم ووقوعهم بسبب التأويل الفاسد في مقالات كُفْرية، مُصَادِمَةٍ لأصول الدين ومُحْكَماته المعلومة بالاضطرار؛ فما ظنك بمن يقول بمقالات بِدْعية، يوافق فيها أصول أهل البدعة؟

5- أين في كلامي يا دكتور ما يدل على أنني أُطْلق القول بأن تنظيم القاعدة من أهل السنة؟ إنما قلت: “وإلا فَهُم –أي أفرادهم- من أهل السنة من حيث الانتماء والانتساب…” وأما من كان تابعا لمنظمات عالمية، أو استخباراتية، أو دول رافضية –كما بلغني أن هذه أحوال تسلَّلَتْ إليهم- أو أصحاب همجية و “بلْطجة” ونهب وسطْو، فلهؤلاء كلام آخر، ولاشك أن المتدينين من القاعدة يدَّعون أنهم أهل سنة، بل يزعمون أنهم هم أهل السنة، والطائفة المنصورة وحدهم، وأن أهل السنة –حقًّا- وعلماءهم –في نظرهم- ما بين كافر، أو عميل، أو مُتَزَلِّفٍ، أو جَبَان، أو جاهل –على أحسن أحواله-.

ومعلوم أن هناك فرقًا بين الإدعاء أو الانتماء والانتساب، وبين الواقع، فهذا لسانُ الحال، وذاك لسانُ المقال، فمن يُكفِّر جمهور المسلمين بغير موجِب للتكفير، وربما تأوَّل فاستباح دماءهم بشبهات واهية كخيط العنكبوت، كيف يُمثِّل الطائفة المنصورة أو يصح ادعاؤه أنه على ما كان عليه رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه الكرام –رضي الله عنهم-؟! لكن ادعاءه بلسانه أنه يرجع إلى مرجعية أهل السنة، يجعلنا نتريث في تبديعه بعينه، حتى تقام عليه الحجة الرسالية المزيلة لشبهته.

6- الدكتور يقول في تنظيم القاعدة منكرًا عليَّ تفصيلي السابق: “بل هم من أهل البدعة من حيث الانتماء والانتساب” فإذا كان الأخ صادق البيضاني يَعْلَمُ أنهم يَنْسِبون أنفسهم بلسان المقال والانتماء النظري إلى طائفة غير أهل السنة، ويصرحون بضلال منهج الصحابة وأئمة التابعين، وأتباعهم؛ فلْيُحِلْنا إلى مصدر كلامهم بذلك، وفوق كل ذي علم عليم، وإلا فأنا لا أسمع عنهم –وإن كنت لا أعرفهم- إلا انتماءهم بما هم عليه من منهج باطل للسنة، بل يستدلون على باطلهم بأقوال مجملة لأئمة السنة، لم يفقهوها فقهًا صحيحًا، وإذا كان الدكتور يحكم عليهم بذلك باعتبار معتقدهم الذي ينشرونه في كتبهم، أو واقعهم الذي خالفوا به طريقة علماء السنة، فَفَرْقٌ بين الانتماء والواقع، فالجهمية، والقدرية، والشيعة، والمرجئة، وغيرهم من أهل الضلال والزَّيْغ ينتمون إلى دين الإسلام، مع أنهم من الفِرَق الضالة، وقد خالفوا الإسلام وما عليه الصحابة في أمور أصولية كثيرة، ولم يُخْرجهم أحد من دين الإسلام، إلا أفرادًا معينين منهم، بلغ بهم قولُهُمْ إلى الزندقة، فلا يُخْلَطُ بين حكم الواقع العملي، وحكم الانتماء أو الادّعاء النظري، إنما نبين لهم أن واقعهم ومنهجهم خلاف ادعائهم وانتمائهم، ونقيم عليهم الحجة الشرعية بذلك.

7- ذكر الدكتور أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قاتل الخوارج، ولو كانوا من أهل السنة لما قاتلهم.

والجواب: أنه –رضي الله عنه- قاتل الخوارج لما قتلوا المسلمين، وسفكوا الدم الحرام، وقطعوا السبل، وإلا فقد قال لهم في بداية أمرهم: لكم ما للمسلمين، وعليكم ما على المسلمين، ما لم تسْفكوا دمًا حرامًا.

وفرْق بين قَتْل الشخص إذا فعل ما يُوجِب قَتْلَهُ -فضلاً عن قتاله- وبين تكفيره بل وتبديعه، فها هو علي نفسه –رضي الله عنه- قاتَل معاوية –رضي الله عنه- في صِفِّين، وفي الجيشين من خيار المسلمين ما الله به عليم، وهم جميعًا أهل سنة –مع استبعاد الدكتور أن أهل السنة يقاتل بعضهم بعضًا- وما أظن هذا يغيب عن الدكتور، فيظهر أنه لم تُسْعِفْه العبارة أو الكلمة عندما تكلم بما تكلم به، أو أنه يريد بقوله: “فهل يقاتِلُ أهلُ السنة أهلَ السنة”؟ أي يُسْتَبْعِدُ وقوع هذا، مع كون الجميع مصيبًا في قتاله، فإما أن يكونوا جميعًا مخطئين، أو تكون إحدى الطائفتين مصيبة، والأخرى مخطئة، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9].

ومعلوم أن القتال أنواع: منه قتال المرتدين، كقتال مانعي الزكاة، الجاحدين لوجوبها، ومنه قتال الخوارج الصائلين على المسلمين كقتال علي –رضي الله عنه- للخوارج المارقين الملحدين، ومنه قتال البغاة، كقتال علي –رضي الله عنه- جند معاوية، وفي هذا الأخير اعتزل عدد من الصحابة القتال، بخلاف الأول والثاني، فلم يختلفوا فيما بينهم في قتال جاحدي الزكاة –باستثناء مناظرة عمر أبابكر رضي الله عنهما في أول الأمر- وقتال الخوارج.

المهم أن أهل السنة قد ينزغ الشيطان بينهم، ويتقاتلون، وما أظن الدكتور يخفى عليه قتال كثير من القبائل في اليمن –وهو يماني- فيما بينهم لأمور دنيوية، والجميع في الجملة من أهل السنة، فلا وجه للاستغراب من الأخ صادق في قوله: “فهل يقاتِلُ أهلُ السنة أهلَ السنة”؟

8- أكثر كلام الدكتور في المقال الذي نشره يطالبني بالتفرقة بين المنهج والأفراد، ويطلب مني أن أقرر بأن منهج القاعدة منهج خارجي، وأما الأفراد فلا يُبَدَّعُون حتى تُقام عليهم الحجة، وتُزال عنهم الشبهة، ويرى أن هذه التفرقة هي الواجبة عليَّ، كما هو مذهب علماء الإسلام، ويرى أنني عكسْتُ القاعدة، وأنني أزكّي التنظيم في الجملة، وأنتقده في الجملة.

هكذا يظن أخونا –جزاه الله خيرا- وأُؤكد أنه لم يظهر لي فرْق بين كلامي في ردِّي على السؤال الذي سألني إياه من يدافع عن القاعدة، وكلام الدكتور هذا، إلا أن يكون ذلك في تصوُّره هو؛ فهذا شأن آخر، وإلا فحكمي على منهجهم بأنه وافق منهج الخوارج، وانحرف عن منهج أهل السنة والجماعة كافٍ في تبديع المنهج، وأما الأفراد فلا أحكم على أحد بعينه –ينتمي للسنة- بأنه ليس من أهل السنة، وإن كان فعله يخالف ما عليه أهل السنة، لكن لدفْع هذا التصور الخاطئ عني من الدكتور ومن نحا نحوْه، فأؤكد له موقفي في هذا الأمر: وهو أن تنظيم القاعدة ومن نحا نحوه من تنظيمات أو جماعات، بأي اسم كانت –فالمهم المناهج والأفعال لا اختلاف الأسماء- أن منهجهم منهج خارجي مبتدع مخالف لأصول أهل السنة والجماعة، وأما الأعيان والأفراد منهم فيُحْكم على كل فرد منهم بما يستحق، وبما صدر منه من أعمال، فمن ارتكب الكفر أو البدعة منهم أو من غيرهم، حتى ممن ينتسبون إلى دعوتنا السلفية، فنحكم على قوله أو فعله بما يستحق كُفْرًا أو بدعةً أو فسْقًا، وأما الفرد فقبل أن ننزل عليه الحكم بالتكفير أو التفسيق أو التبديع، فيُنْظر في أمره: فإن كان مسْتبصرًا بما يقول، وليس عنده شبهة حملتْه على ما وصل إليه، أو ظهر لنا منه أنه مُعْرِضٌ عن سماع الحق وقبوله، أو استمع إليه لكنه معاند لغرضٍ في نفسه، فإنه يتنزَّل عليه الحكم حسب ما بَدَا منه قولا أو فعْلا، وأما إذا كان جاهلاً مُغَرَّرًا به، أو عالمـًا –في نظره أو في نظر أتباعه- وعنده شبهة لبَّسَتْ عليه؛ فإن الحكم العام لا أُنَزِّلُهُ على فرد بعينه إلا بعد استيفاء شروط هذا الحكم في حقه، وانتفاء موانع هذا الحكم عن هذا الشخص، كما هو مشهور من كلام أهل العلم سابقًا، فَفَرْقٌ بين القول والقائل، والفعل والفاعل، وتبديع القول ليحذره الناس، لا يلزم منه تبديع القائل إلا بالشرط السابق.

وقد كتبْتُ في هذا رسالة مستقلة، باسم: “أصول أهل السنة والجماعة في التكفير والتفسيق” والتفسيق يشمل ما كان فسْقًا وخروجًا عن الحق لشهوة أو شبهة، فالشهوة كما هو معلوم في أهل المعاصي والكبائر، والشبهة كما هو معلوم في أهل الأهواء والمقالات المنحرفة عن منهج السلف.

فهل بعد هذا التوضيح يُنْسب إليَّ أنني مخالف لما عليه العلماء، وأنني عكسْتُ القاعدة، وأنني أزكّي التنظيم في الجملة، وأنقده في الجملة؟!

9- الدكتور –جزاه الله خيرا- يردد كلامي ويوافقني عليه، ثم يردُّ عليه، كما هو واضح لمن تدبر جوابي السابق ورده عليه، وتدبر جوابي هذا، فهو بهذا يردُّ على نفسه، فها هو ينقل عني مادحًا لما نَقَلَ من قولي، فقال: “والغريب في أبي الحسن أنه قال كلمة في غاية الروعة عندما قال: وإن كنتُ لا أحكم على أفرادهم بذلك لوقوعهم في التأويل الخاطئ، مع حرص الكثير منهم على الخير” ثم قال الدكتور صادق: “هذا كلام جميل، لكنه -هداه الله- نَاقَضَ نفسه، فقال: والتأويلُ عُذْر ومانع، لا حول ولا قوة إلا بالله، عُذْرٌ ومانعٌ لمن؟ للجماعة حتى تنسبها لأهل السنة، أم عذرٌ لمن وقع من آحادهم؟ قُلْ: عُذْرٌ ومانع لمن وقع من آحادهم، حتى نُقِيم عليه الحجة، ونُزِيلَ عنه الشبهة، لا عن الجماعة، ولا عن فِكْر الجماعة، لأن هذا تناقض ياشيخ، أنت كيف تجعل هذا العذر لهذه الجماعة، كيف سيكون؟ ياشيخ قل: منهجهم مبتدع ضال منحرف، وهم طائفة مبتدعة، ثم قُلِ الأعذار لآحادهم، حتى تُقَام عليه الحجة، وتُزَال عنه الشبهة، كما يفعل علماء السنة قاطبة قديما وحديثا…” اهـ.

وأعتذر للقارئ عن ضَعْفٍ في التنسيق بين الكلمات، وتكرار ما لا حاجة لتكراره؛ فإني نَقَلْتُ الكلام من المقال المفرَّغ بحروفه، لكن سؤالي: أين إذًا وجه التناقض الذي ما فَتِئَ الدكتور صادق أن يرميني به في هذا المقال؟ فهل في مقالي السابق -الذي يرد عليه الأخ صادق- أنني قلت: تنظيم القاعدة تنظيم من أهل السنة؟ أو أنها جماعة سُنِّيَّة، أو أن فِكْرَهم موافق لأهل السنة، حتى يرميني بكل هذه التهم؟ وهل قولي في المقال نفسه: إن منهجهم منحرف عن منهج أهل السنة موافق لمنهج الخوارج” فيه ما يدل على أن التنظيم بمنهجه أو فِكْرِهِ أنه سني، حتى يقول الأخ صادق هنا آمرًا إيّاي: قُلْ منهجهم مبتدعٌ ضالٌّ منحرف، وهم طائفة مبتدعة …، ثم قُل الأعذار لآحادهم…”؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون، كيف يُفهم مما سبق أنني أقول: التنظيم سُنِّي بمنهجه وفِكْرِه؟!!

فمن نظر في النقطة الثانية من جوابي هذا علم أنني حَكَمْتُ على فِكْر الجماعة ومنهجهم بانحرافه عن منهج أهل السنة والجماعة منذ وقت بعيد، وأنه وافق فِكْر الخوارج في عدّة أمور، ثم قلت: “وإن كنتُ لا أحكم على أفرادهم بذلك –أي لا أحكم على كل فرد فيهم بأنه بعينه خارجي، وإن كان منهجه خارجيًّا منحرفًا عن منهج أهل السنة…. ثم قلت: “لما سبق تفصيله” أي لما سبق أن قررته في موضعه، سواء في ذاك المقال، أو غيره من كتبي ومجالسي، ومناظراتي لحملة هذا الفكر، الذين يعترضون مسيرتنا الدعوية بتشغيباتهم، وطلبهم المناظرة أثناء محاضراتنا أو غيرها، ثم قلت: “ولوقوعهم في التأويل الخاطئ، …” والتأويل عُذْرٌ ومانع([5])، ولذا فالحكم إنما هو على المناهج، والأفعال، والأقوال التي ينشرونها بين الناس، ولابد من بيان ذلك وتوضيحه” اهـ كلامي المذكور في مقال الدكتور الذي يرد فيه عليّ، فأين وجه التناقض؟ بل أين وجه الاختلاف بين كلامه هو وكلامي هذا؟ فلعله فهم من قولي: إن منهجهم منحرف عن أهل السنة موافق للخوارج أنه ليس صريحا في تبديع المنهج، وهذا بخلاف مرادي، ومخالف لظاهر كلامي هنا، وصريح كلامي في كتبي وأشرطتي، ولو كان الناصح سالكًا مسلك أهل العلم في النصح؛ لاسْتَفْصَل عن مرادي إذا كان يفهم أن كلامي كلام محتمل وليس بكافٍ، لكن الأمر كله بيد الله أولا وآخرًا، وأيضًا: فأين في كلامي هذا تزكيتي لمنهجهم في الجملة؟ وانتقادي له في الجملة؟!!

10- أقام الدكتور ردَّه عليَّ في جوابي على من سألني، ورماني بالتناقض، لقولي: إنني لا أخرج أعيانهم من أهل السنة، وهنا أقول للدكتور:

أنت توافقني –حفظك الله- على عدم تبديع الأعيان إلا بعد إقامة الحجة، وقَطْعِ العُذْر، وإزالة الشبهة العالِقة في ذهن الفرد، فالسؤال: ما حُكْمُكَ أنت على شابٍّ مُغَرَّرٍ به من أتباعهم، لبَّسوا عليه بأن المجتمع لا يحتكم إلى شرع الله، وأن من لم يَحْكُم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وأنهم يوالون غير المسلمين ….الخ شبهاتهم التي يتخطفون بها الشباب، ومن كانت عنده غَيْرَة على دينه، إلا أنه ليست عنده بصيرة ولا فهم صحيح؟

فإن قلت: هذا المغرَّر به مبتدِعٌ حتى قبل إقامة الحجة عليه؛ لأنه ينتمي إلى جماعة منهجها مُبْتَدَع، فمن هو المتناقض منا إذًا؟ فها أنت تُبَدِّع الفرد، مع قولك: لا نُبَدِّع الآحاد إلا بعد إقامة الحجة، وإن قلت: هو سُنِّي باعتبار انتسابه وانتمائه إلى أهل السنة من الجهة النظرية، فإنه في الجملة يوافق أهل السنة على أصولهم، بل يدَّعي أنه أعلم بها من مخالفيه من أهل السنة!!! فإن قلتَ: هو سُنِّي لذلك، فما الفرق بين قولي وقولك؟ وإن قلتَ: لا هو مبتدع ولا هو بسني؛ فهذا توقُّفٌ، وهو بدعة، إذْ كيف تتوقف في رجل يقول: أنا على أصول أهل السنة، ولكن واقعه على مناهج أهل البدعة؟ وبعبارة أخرى: هل ستقول: نستصحب الأصل في الحكم عليه قبل وقوعه في البدعة، حتى نُزِيلَ شبهته، وعلى ذلك فهو سني لحكمه السابق، أم ستنصر بدعة التوقف؟ وإن قلتَ: هناك موقف رابع، فما هو؟ فإن كان حقًّا رجَعْتُ إليه، والعَوْدُ إلى الحق أَحْمَدُ، وإن كان غير ذلك؛ فلا يلزمني قولك أو قول غيرك إذا خالف الحق، كما لا يلزمك قولي إذا خالف الحق.

وهذا هو قولنا في كثير من المخالفين لنا، من صوفية –وفي الغلاة منهم تفصيل- وجماعات كالإخوان، وطوائف من السلفيين الذين خالفوا أصول أهل السنة في واقعهم العملي، وإن تشبَّعوا بما ليس فيهم،، وغيرهم ممن ينتسب إلى السنة، قالاً ويخالفها حالاً، فكان ماذا؟؟

11- الذي أَعْلَمُه في هذا المقام: أن المرء الذي ينحرف عن السنة أننا نحكم عليه قبل إقامة الحجة عليه، وأثناءها، باعتبار ما كان ينتمي أو ينتسب إليه من عقائد –استصحابًا للأصل- والأصل إبقاء ما كان على ما كان حتى يظهر منه الإعراض، أو العناد … ونحوهما، هذا وإن كان لسانُ حال الفرد يُخالف لسانَ مقاله، فمن كان ينتسب إلى الإسلام، ووقع في مُكفِّر لا خلاف فيه، لجهل أو تأويل –مثلا- فإنه مسلم، وتُقام عليه الحجة، فإن أصرَّ وعاند بعد وضوح الحق له كَفَر –والأمر في ذلك للعلماء والولاة- وإن رجع إلى رُشْدِهِ، فيستمر حكمه على الإسلام، ولا يُحكم له بأنه دَخَلَ في الإسلام في هذه اللحظة، ويبقى عقد نكاحه الأول على نسائه ساريًا، وولايته على أولاده قائمة، ونحو ذلك من أحكام، وكذا إن كان يدّعي أنه سُنِّي، ويُعظِّم الصحابة –رضي الله عنهم- ومنهجهم، وكذا يُظهر القول بمرجعيته إلى الكتاب الـمُحْكَم، والسنة الثابتة، وفهم السلف الصالح، وذلك بلسان المقال، وإن خالف في أمر بِدْعيّ، وافق فيه بلسان الحال أصول أهل البدع الكبرى، فتقام عليه الحجة، وأثناء إقامتها هو من جملة أهل السنة، حتى يظهر إعراضه أو عناده بعد ظهور الحق له، أو رجوعه وتوبته، وبل الأمر كذلك –أيضًا- فيمن كان ينتسب إلى أهل البدع الكبرى، كأن يقول: أنا رافضي، أو جهمي، أو قدري، أو خارجي، أو مرجئ ….الخ، ولا يقر بالمرجعيات الثلاث السابقة، بل يتبرأ من الصحابة والسلف الصالح ومنهجهم؛ فهذا مبتدع بعينه قبل إقامة الحجة وأثناء إقامتها، ونسميه رافضيًّا، أو جهميًّا، أو قدريًّا، أو خارجيًّا …. الخ، وأما العقوبة فشيء آخر، وإنما نقيم عليه الحجة راجين عودته إلى الحق، لا لمعرفة حكمه الذي سنحكم به عليه، ونتعامل معه على ضوئه، فمن قال: أنا رافضي –مثلا- ويسبُّ الصحابة –على تفاصيل في سبِّهم جميعا أو بعضهم مع تفاصيل أخرى- فهذا مبتدع حتى قبل إقامة الحجة عليه، إنما الحكم بالسنة أو الإسلام لمن ينتسب إليهما، لكنه ضل السبيل في موضع أو مواضع.

فإن كان عند الدكتور أو غيره أدلة تدل على خلاف ذلك –فهذا والله مَبْلَغُ عِلْمي وفهْمي- فجزاهم الله عني وعن الإسلام والمسلمين خيرا، فليبادروا بذكرها، حتى أعمل بمقتضاها، وأعلن براءتي من قولي هذا، ولو فرضنا أني أخطأتُ في فهم هذه الجزئية؛ فما هو وجه التناقض مني، وما الحامل على الإكثار من التشهير من حين لآخر؟

12- ومع تفصيلي السابق، وعدم تبديع الفرد بعينه قبل إقامة الحجة؛ فإني أحكم على من انحرف عن منهج أهل السنة وأصولهم بأنه ضل أو ضال في هذه الجزئية، وانحرف فيها عن أهل الحق، لا أنه سني خالص مع انحرافه وضلاله في مخالفة أصل من الأصول، وإن كان جاهلا أو متأولاً، وذلك لحُكْمِ علماء الإسلام بالانحراف على من وافق أهل البدع في مسألة ما مع انتسابه للسنة: فأبو الحسن الأشعري –رحمه الله- في طَوْرِه الأخير الذي وافق فيه أهل السنة –في الجملة- لم يتخلص من بعض كلام المعتزلة الذين يرد عليهم في كتبه، فهو وإن كان سنيًّا لكن العلماء حكموا بانحرافه فيما انحرف فيه، وقِسْ على ذلك أبا الوفاء ابن عقيل الحنبلي، وأبا بكر ابن الباقلاني، وأبا إسماعيل الهروي –الملقَّب بشيخ الإسلام- صاحب: “ذم الهوى” و “منازل السائرين” وجماعة يطول ذكرهم.

13- أظن أنه لا يخفى على الأخ صادق –حفظه الله- ما سبق أن كتبْتُ من مؤلفات منشورة في التحذير من حملة فِكْر التفجيرات والاغتيالات، وأنني ناقشتُ شبهاتهم في مئات الصفحات، وفي عدة حلقات فضائية، بما مدح أهل العلم بعضه، ومن هذه الجهود: مقالي الذي عَزّزْتُ به فتوى علماء السنة في اليمن، وهو المقال الذي يرد الدكتور صادق على جزء منه، وبقيتْ لي رسائل أخرى سترى النور قريبًا –إن شاء الله تعالى- وكذلك قد لا يخفى على الدكتور صادق ما تحمله الأشرطة والمقالات من ردودي على هذه الأفكار وحملتها، أو على الأقل ما بلغه عن مواقفي وطلابي في هذا الشأن، فلو فرضنا أن صاحب هذه الجهود لم تسْعِفْه عبارة ما، ولم يُحْكِم صياغتها أثناء تسجيل شريط، أو إلقاء محاضرة، أو كتابة مقال، فوقع في كلامه شيء من الخطأ، أو الاضطراب، أو التناقض، أو التوسع غير المرضي …الخ، ألا يُناصَحُ هذا الرجل بقصْد رجوعه إلى الحق، وطرق المناصحة متيسرة في هذا الزمان أكثر من ذي قبل؟ أم يُشهّر به على مرأى ومسمع من العالم كله، ويُذَمُّ بصيغة الدعاء له، فيقال: “هداه الله” “أصلحه الله” ….. الخ؟

وقد يقول قائل: وأنت لماذا لم تجعل ردك على الأخ صادق نصيحة سريّة فيما بينكما؟ فالجواب: أن التشهير لما كان علنيًّا؛ فلابد أن يكون الرد عليه كذلك، حتى لا يُساء فهمه، ويُنْسب إليَّ خلاف معتقدي، لكنني –ولله الحمد- فيما أعلم من نفسي لا أبتدئ بيان خطأ من أخطأ من عُرِف بنصرته السنة، وثبوت قدمه عليها، وكثرة انتاجه، وحسن عطائه في هذا المضمار جهرًا، إلا بعد سلوك المسلك الشرعي في المناصحة، أما الردود على غلاة التجريح والتبديع؛ فكان بعد أن امتلأت المواقع بإفكهم وافترائهم، ومع ذلك فما كان في كلامهم من حق –وإن قلَّ- فقد صرَّحتُ بقبوله، والرجوع إليه، والمنصف يرى هذا وذاك، وعند الله تجتمع الخصوم.

14- ثم في النهاية –كعادة كثير من الذين يُزَكُّون أنفسهم، ويُوهِمُون غيرهم بالامتلاء والتقعيد والتأصيل، والارتواء من المعين الصافي، ويخسفون بمخالفهم مهما كان- يقول الدكتور: “ما أَجْمَل دراسةَ العقيدة على أُسُسٍ صحيحة على أيدي العلماء، والله المستعان” اهـ.

فأترك التعليق على هذا الكلام؛ فإنني أعرف جهْلي، وضعْفي، وعجْزي، أكثر مما يعرف عني من ذلك الدكتور صادق وسائلوه، وأسأل المولى سبحانه أن يعلّمني ما جهلتُ، وينفعني بما علّمني، ويبصِّرني بما يصلح باطني وظاهري.

لكني أسأل الدكتور ومن نحا نحوه سؤالاً علميًّا: هل الخلاف معكم في الحكم على رجل معين بأنه من أهل السنة أو مدحه –وهو على أسوأ تقدير ليس كذلك- يكون خلافًا في العقيدة، ويكون مخالفكم في عقيدته خلَلٌ، ولم يأت البيت من بابه، ولذا تناقض وتخبّط؟ أم أن الخلاف في مثل ذلك مشهور بين علماء السنة، ولم يتهم أحد منهم الآخر بخلل في عقيدته؟ فكم خولف ابن القيم في مدح أبي إسماعيل الهروي، وخولف الذهبي في مدح نصر المنبجي الصوفي الغالي، الذي آذى شيخ الإسلام ابن تيمية في عدة أمور، وكُتُبُ التراجم مليئة بذلك، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

هذا، وجزى الله خيرًا أخانا صادق بن محمد البيضاني على نصحه وتذكيره، وجزى الله كل من كان عونا لي على الرجوع إلى الحق أولا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، وعلى أيّ قصْد كان، فطالب الحق كمُنْشِد الضالة، حيثما وجدها أخذها، والحق ضالة المؤمن، وكل إنسان له ما نوى.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم الدين.

كتبه/

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني

رئيس رابطة أهل الحديث باليمن

ومدير دار الحديث بمأرب

30/ربيع الآخر/1440هـ

الموافق: 6/1/2019م

([1]) “مجموع الفتاوى” (3/ 230).

([2]) “مجموع الفتاوى” (7/ 619) فالجهمية قاموا ضد أهل السنة، فقتلوا من قتلوا، وعذبوا، وسجنوا، واستحكمت فتنتهم أكثر من عشرين سنة، وأقامها ثلاثة من الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق، ومع ذلك فسيرة الأئمة معهم تدل على عدم تكفيرهم بأعيانهم، مع أن مقالتهم قد كفَّر بها قائِلَهَا أكثرُ من خمسمائة عالم، وقد قال ابن القيم في “نونيته”:

ولقدْ تَقَلَّدَ كُفْرَهم خَمْسُون في …… عَشْرٍ من العلماء في البُلْدانِ

واللالكائيُّ الإمامُ حَكَاهُ عَنْـــ …… ـــهُمْ بلْ حَكَاهُ قَبْلَهُ الطَّبَرانِيْ

([3]) “مجموع الفتاوى” (12/ 466، 487، 488).

([4])”الاستغاثة في الرد على البكري” (1/381-385) فتأمل أن الخطاب لسادتهم وكبرائهم، وأهل الفهم والتنظير فيهم، ومع ذلك لم يكفِّرْهم بأعيانهم –مع كونه رحمه الله طويل الباع، واسع الاطلاع، قويّ الإقناع- لجهلهم بالحق الصافي، الذي كان سببًا في تأويلهم الفاسد.

([5]) ومعلوم أنه كذلك بالنسبة للآحاد والأعيان، لا للأقوال والعقائد والأفعال، ولا لمجموع الطائفة أو الفرقة، فالمجموع يُحْكم عليه بحسب المنهج الذي يصرح به قادتهم في كتبهم ونشراتهم، وأما الآحاد فشأن آخر.

 

 

لتحميل المقال ملف pdf من هنا