الحمد لله الذي أَبْقَى في كل زمانٍ من يدعو إلى الحق وينْشُره، ويذُبُّ عنه ويَنْصُره، ويكشْف الباطل ويُظْهِر زَيْفَه ويدْحَرُه، أما بعد:
فمعلوم أن الحق ما شَهِدَتْ له الأدلة النقلية والعقلية على كونه حقًّا، وأن الباطل كذلك، ولا يُنْظَر – عند المنصفين – إلى القائل أو الفاعل، أو إلى الطائفة التي ينتمي إليها من تكلم بالحق أو غيره، لمعرفة ما في كلامه من حق وباطل، أو كونه مقبولاً أو مردودًا، فالحق يُعْرف بدليله الدال عليه، لا بقائله ومن ينتمي إليه.
والناس في هذا بين إفراط وتفريط ووسط: فهناك مَنْ يَقْبَلُ قول من ينتمي إلى حِزْبه أو جماعته وطائفته ومذهبه، دون النظر إلى حجة هذا القائل، وحجة من يعارضه، بل يتعدى به الولاء المطلق، فيتجاوز الحد، فيتعصَّب لقول مَنْ في جماعته أو حزبه أو مذهبه، وإن كانت الأدلة على بطلان قوله ظاهرة مُتضافرة، ويتمحَّل في التماس نصرة هذا القول بما يخرجه عن حَيِّز الإنصاف والاعتدال!!
ويقابل هذا الفريق مَنْ إذا سمع قولاً يأتي عن رجل يختلف معه في بعض المسائل؛ فيبادر بردّ هذا القول، دون التأنِّي والنظر الخالي من الهوى في دلائل صحة هذا القول أو فساده، وكلا الطائفتين قد خرج عن جادّة الاعتدال، والإنصاف، والتجرّد، والإخلاص فيما يأتي ويذَر لله رب العالمين.
وأما من وفّقه الله وسدَّده، وهداه إلى الحق وأرشده؛ فهو الذي يُفرِّق بين القول والقائل، فقد يكون القول في ذاته حقًّا محْضًا، أما قائله فشيطان رجيم، وقد يكون القول باطلا في نفسه قطْعًا، أما قائله فوليٌّ حميم، فيُقْبَلُ الحق، ويُردُّ الباطل، وأما حكم التعامل مع القائل أو الفاعل فهذا له تفصيل آخر.
فالحق أولى بالقبول والتعظيم دون النظر إلى قائله، طالما أنه حق في الحال والمآل، والنبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لما أخبره أبو هريرة – رضي الله عنه – بما قاله الشيطان له في فضل قراءة آية الكرسي، قال له: “صَدَقَكَ، وهو كذوب” رواه البخاري برقم (2311) من حديث أبي هريرة، وليس هناك أفْسَد وأشرّ من الشيطان، أعاذنا الله من شياطين الإنس والجن، ومع ذلك فلم يَرُدَّ الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كلمة الحق منه، لكونها صَدَرَتْ من عَدُوٍّ لله -جل وعلا- وأوليائه عبر التاريخ.
وكذلك لما أَتَى يهودي إلى النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقال: إنكم تُنَدِّدُون، إنكم تُشْرِكُون، تقولون: ما شاء الله وشِئْتَ، وتقولون: والكعبة؛ فأمرهم النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – إذا أرادوا أن يَحْلِفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبة، ويقولوا: ما شاء الله ثم شئت” صححه شيخنا الألباني –رحمه الله- في “صحيح سنن النسائي” برقم (3773)، ولم يَقُلْ الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: اليهود أعداء لنا، ما يريدون لنا الخير، فلا نبالي بكلامهم؛ لأنهم – فقط – يبحثون عن الزلات، ويكتمون الحسنات، بل أمر أصحابه – رضي الله عنهم – بإصلاح كلماتهم، وأما نيّة اليهودي السيئة فعلى نفسه، وأما الحق من كلامه فيُقْبَل لكونه حقًّا.
وعلى هذا جَرَى العمل عند أئمة الإسلام، ويدلُّ على ذلك:
ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في “منهاج السنة النبوية” (4/149) حيث قال: “أما الطريق الثاني في الجواب، فنقول: الذي عليه أئمة الإسلام: أن ما كان مشروعًا؛ لم يُتْرَك لِمُجَرَّد فِعْلِ أهل البدع، لا الرافضة ولا غيرهم، وأصولُ الأئمة توافق هذا…” وذَكَر – رحمه الله – عدة مسائل، كما ذَكَر أن المستحب قد يُترك إذا أصبح شعارًا لأهل البدع، وأن من فعل هذا الشعار، فحصل بذلك مفسدة أعظم من فعل المستحب؛ فَيُتْرَك كذلك”. انظر (4/154-155).
فتأمل قوله – رحمه الله -: “الذي عليه أئمة الإسلام… الخ”، وقوله: “وأصولُ الأئمة توافق هذا“؛ فها هو –رحمه الله- ينسب هذا القول المنصف المعتدل إلى أئمة الإسلام وأصولهم، لكن هذا عكس ما عليه الغلاة في هذا العصر، الذين يُحَذِّرون جلساءهم من فعل الشيء – وهو حق محْض – لمجرد فِعْل من يخالفهم له، ويقولون: تريدوننا أن نكون مثل الحزبيين، أو المبتدعة، فنقول بكذا، ونعمل بكذا؟!!
ومعلوم أن أي طائفة عندها حق وباطل، وصواب وخطأ، فلا يجوز ترْكُ الحق الذي عندها لوجود الباطل بين أفرادها، وكذا لا يجوز قبول الباطل من الموافقين، لمجرد ما عندهم من الحق والنفْع في بعض الجوانب، ولو أطلقنا العمل بهذا الأسلوب، وطرَدْنا إعمال هذه الإفرازات المنحرفة؛ لقلنا: اتركوا النطق بالشهادتين؛ لأن أهل البدع ينطقون بهما، واتركوا إقامة الصلاة؛ لأن أهل الأهواء والشبهات يُصَلُّون، وهكذا …، وتطبيق هذه القاعدة بهذه الطريقة يُفْضي إلى الانسلاخ من الإسلام بالكلية!!!.
ولأن الأصل الذي عليه علماء الملة: أن القواعد التي ثبت صحتها يُطْرَد العمل بها، إلا إذا ورد دليل يدلُّ على عدم اطرادها في موضع أو مواضع، وهنا نقول: معلوم أن كل طائفة فيها حق وباطل، فمتى نقبل بعض أقوالها، ومتى نرد البعض الآخر؟ ما هو المعيار الذي نستطيع أن نفرِّق به بين المقبول أو المردود من كلامها؟ لاشك أن هناك معيارًا واحدًا، وهو: إذا قامت الأدلة على صحة جزء من كلام هذه الطائفة أو تلك؛ قبلناه، ودعَوْنا الناس إلى قبوله – وإن كانت طائفة مذمومة في الجملة – وإذا قامت الأدلة على فساد قول من أقوالها؛ رددناه، وحذّرْنا منه – وإن كانت طائفة محمودة في الجملة، ولها مساعٍ مشكورة – هذا فقط هو مناط القبول والرد، وبهذا تظهر صحة طريقة أئمة الإسلام، ويظهر فساد قول الغلاة أو الجفاة حيثما كانوا، والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام – رحمه الله – في “الحموية” (ص153): “…وليس كل مَنْ ذَكَرْنا شيئًا من قوله من المتكلمين وغيرهم، نقول بجميع ما يقول في هذا وغيره، ولكن الحق يُقْبل من كل من تكلم به، وكان معاذ يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في “سننه”: “اقْبَلُوا الحقَّ مِنْ كل مَنْ جاء به، وإن كان كافرًا – أو قال فاجرًا- واحْذَرُوا زَيْغَةَ الحكيم، قالوا: كيف نعرف أن الكافر يقول الحق؟ قال: إن على الحق نورًا“، أو كلامًا هذا معناه”([1]). اهـ.
وقال شيخ الإسلام – رحمه الله- أيضًا كما في “مجموع الفتاوى” (6/24-26): “وقد تكلَّمْتُ في دُنُوِّ الرب وقُرْبِهِ، وما فيه من النـزاع بين أهل السنة، ثم بعض المُتَسَنِّنة والجُهال، إذا رأَوْا ما يُثْبِتُه أولئك من الحق؛ قد يَفِرُّون مِنْ التصديق به، وإن كان لا منافاة بينه وبين ما ينازعون أهل السنة في ثبوته، بل الجميع صحيح…” ثم ذكر حال بعض الجهلة من المتسنِّنة الذين يردون بعض الحق الذي مع المبتدعة، بغضًا لهم، وتنفيرًا عنهم، فقال -رحمه الله-: “وسبب ذلك أن قلوب الـمُثْبِتَةِ تبقى متعلقة بإثبات ما نَفَتْهُ المبتدعة، وفيهم نُفْرة عن قول المبتدعة، بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له فَيُعْرِضُون عن ما يثبتونه من الحق، أو يَنْفُرون منه، أو يُكَذِّبون به، كما قد يصير بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت؛ إذا رأى أهل البدعة يَغْلُون فيها، بل بعض المسلمين يصير في الإعراض عن فضائل موسى وعيسى بسبب اليهود والنصارى بعض ذلك([2]) حتى يُحْكَى عن قوم من الجهال أنهم ربما شَتَمُوا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب، وعن بعض الجهال أنه قال: سُبُّوا عَلِيًّا كما سَبُّوا عَتِيقَكُمُ …كُفْرٌ بِكُفْر؛ وإيمانٌ بإيمانِ” فتأمل وصْفه بالجهل لمن سلك سبيل النفرة من كل ما عليه المخالفون – وإن كان حقا – وأنه لا ينفعه في هذا المقام مجردُ انتسابه إلى السنة وأهلها، والله المستعان!!!
واعلم: أنه يُوجَد في هذا الزمان ظاهرة عجيبة؛ وهي أن الكثير من الغلاة يُحَرِّمون أمورًا كثيرة، وليس معهم دليل على تحريمها، إلا قولهم: إن هذا مِنْ فِعْل الإخوان المسلمين – مثلا – أو هذه طريقة الحزبيين، أو هذا كلام الصوفية، أو أسلوب المبتدعة عندنا ….الخ!!! مع أن كبار علماء السنة يمارسون هذه الأمور أيضًا، ويفتون بجوازها، وهؤلاء الشباب يَعْلَمون ذلك، لكنهم يأخذون من كلام العلماء ما يظنون أنه موافق لأهوائهم فقط، وبعض هؤلاء المقلِّدة يقولون في كثير من الأعمال الشرعية التي قام الدليل على صحتها: هذه حزبية!! هذا تكتُّل!! هذا منهج الطرُقيّة!! هذه دعوة غريبة!! نحن نشُم من هذا الفعل كذا وكذا…إلى غير ذلك من التّرَّهات، فإذا سئلوا عن الدليل على قولهم؛ أحالوك إلى مثل هذا الكلام العاطل الباطل ، فقالوا: هذا كلام الإخوان المسلمين!! هذه طريقة الحزبيين!! هذا الباب الذي دخل أو خرج منه فلان أو فلان!! مع أنهم لم يَعْلَمُوا – في كثير من الأحوال – حقيقة ما يفعلونه هم في الناس، وحقيقة ما يرمون به غيرهم، وأنهم قد عقدوا الولاء والبراء على أمور ابتدعوها من عند أنفسهم، ما أنزل الله بها من سلطان، أو تلقّفوها عمن حَرَفهم عن مسار الاعتدال، فسقطوا في حزبية نَتِنَة، وجِيفَة قَذِرة، وكأنهم لا يفقهون أن الحق مقبول من كل أحد، برًّا كان أو فاجرًا، مسلمًا كان أو كافرا، وأن الباطل مردود على كل من قضى به، كائنًا من كان، وإن كان ممن يُسْتسْقى ويُسْتَشفى بدعائه، والله المستعان!!!
قال شارح الطحاوية – رحمه الله – في (2/ 413) ط/ مؤسسة الرسالة: “المُعْتَبرُ رُجْحَانُ الدليل، ولا يُهْجَر القول لأنَّ بعض أهل الأهواء وافق عليه، بعد أن تكون المسألة مختلفًا فيها بين أهل السنة…”.اهـ. ومعناه: أنه إذا كان أحد أقوال أهل البدع – الذين وقعوا في البدع الكبرى من جهة أخرى – يوافق قول بعض أهل السنة، ويخالف البعض الآخر، أي لم يُجمع على خلاف قولهم؛ فلا يُرّدُّ مطلقًا؛ لأنه ليس من الأقوال التي تفرد بها أهل البدع، وصادموا فيها الأدلة، إنما يُنْظَر للدليل المرجِّح، فقد يكون مع الفريق الذي وافقهم من أهل السنة، ومن ثَمَّ يكون مع المبتدعة في هذا الموضع بعينه، وهذا الذي قرره هؤلاء العلماء، هو الذي عليه علماء السلفية المعتدلون في هذا العصر، كما هو مقرَّر في موضعه، أما الغلاة، والمتهوِّرون، والغوَّاصون في النوايا وذوات الصدور؛ فلهم شَأْنٌ آخر، هدانا الله وإياهم إلى سواء الصراط، والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا مزيدًا إلى يوم الدين.
كتبه/ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
18/شوال/1439هـ
([1] ) أخرجه أبو داود في “السنن” (7/ 20) برقم (4611) وهو صحيح الإسناد موقوف، بلفظ: “عن ابنِ شهاب، أن أبا إدريس الخولانيَّ عائذَ الله أخبره أن يزيدَ بنَ عَمِيرةَ -وكان من أصحاب معاذ بن جبل- أخبره، قال: كان لا يجلس مجلساً للذكر -حين يجلس- إلا قال: “الله حَكَمٌ قِسْطٌ، هلك المُرتابون” فقال معاذ بن جبل يومًا: “إن مِنْ ورائكم فِتَناً يَكْثُرُ فيها المال، ويُفْتَحُ فيها القرآنُ، حتى يأخُذهُ المؤمنُ والمنافقُ، والرجلُ والمرأة، والصغيرُ والكبيرُ، والعبدُ والحرُّ، فيوشِكُ قائلٌ أن يقول: ما للناس لا يتَّبِعُونِّي وقد قرأتُ القرآن؟ ما هم بمتبعيَّ حتَّى أبتدعَ لهم غيرَه، فإيَّاكم وما ابتُدعَ؟ فإن ما ابتُدِعَ ضلالةٌ، وأحَذرُكُم زَيغَةَ الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافقُ كلمةَ الحق، قال: قلت لمعاذ: ما يُدريني -يرحمك الله- أن الحكيمَ قد يقول كلمةَ الضلالةِ، وأن المنافقَ قد يقول كلمةَ الحق؟ قال: بلى، اجتَنِبْ من كلام الحكيم المُشتهِرَاتِ التي يُقال ما هذه؟! ولا يُثْنِيَنَّكَ ذلك عنه، فإنه لعله أن يُراجِعَ، وتَلَقَّ الحقَّ إذا سمعتَه؛ فإن على الحقِّ نوراً”.