السؤال :نرى بعض المصلين يحركون أصابعهم السبابة في التشهد ، والبعض الآخر لا يحرك أصبعه ، إنما يكتفي بالإشارة فقط ، فما هو الراجح في ذلك ؟
الجواب : الراجح عندي الاقتصار على الإشارة فقط دون تحرك .
ولم يأت ذكر التحريك إلا في حديث زائدة بن قدامة عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه عن وائل بن حجر ، عند النسائي برقم (1268) وغيره بلفظ : ” يحركها ، يدعو بها “.
وقد روى هذا الحديث عن عاصم خمسة عشر نفسًا آخرون ، كلهم لم يذكر التحريك ، ومن هؤلاء النفر : السفيانان , وأبوعوانة , وبشر بن المفضل , وأبو الأحوص , وشعبة , وعبد الواحد بن زياد , وابن إدريس , وخالد الطحان ، فإذا لم تكن هذه المخالفة شذوذًا ، فلاشذوذ بعد ذلك .
هذا مع أن زائدة نفسه قد اختلف عليه كثيرا – وإن كان الراجح عنه ذكر التحريك – والخلاف على الراوي مما يستدل به أيضًا على وهن روايته .
ومما يدلك على ذلك أيضا أن أصحاب النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – الملازمين له بخلاف وائل – رضي الله عنه – قد ذكروا الإشارة دون ذكر التحريك ، وهذا يقوي الوجه المحفوظ عن وائل ، وهو مجرد الشارة دون تحريك .
ومما يزيدك اطمئنانا لذلك : أن كثيرًا من أصحاب عاصم لم يذكروا هذا الموضع على وجه الاختصار والإجمال ، بل صرح بعضهم بقوله : “يشير بها” أو ” أشار بإصبعيه السبابة “ومنهم من يفسر ذلك في روايته ، فيقول : ” رفع السبابة يدعو بها ” أو ” جعل يدعو هكذا بالسبابة ، يشير بها ” أو ” نصب السبابة ” أو ” نصب أصبعه للدعاء ” والحميدي راوي الحديث عن سفيان يفسر الإشارة بنصب السبابة ، وهذا كله وصف ظاهر للإشارة بدون تحريك ، وراوي الحديث أدرى بمرويه ، والروايات يفسر بعضها بعضا ، ولو سلمنا بأن الإشارة في حديث وائل تتفق مع التحريك ، فماذا نقول في رواية : “نصب” ورواية: “رفع” ؟ فإن من حرك من فوق إلى تحت , والعكس ؛ لا ينطبق عليه شيء من ذلك ، وكذا من حرك يمنة ويسرة , أو على هيئة دائرية ؛ لا يقال فيه : ” نصب ” .
فإن قيل : إن أحدًا لم يضعف هذه الزيادة !! فالجواب من وجوه :
1- أن العلماء لم يجمعوا على قبولها ، حتى نحتاج إلى البحث عن عالم ضعفها ، نعم صرح بعضهم بصحتها ، كما صرح بصحة رواية ابن الزبير في عدم التحريك ، ولم يقبل كلامهم في رواية ابن الزبير لظهور علتها ، فلا تطمئن النفس لتصحيحهم لهذه الزيادة ، لاسيما وأكثرهم يسلك مذهب الفقهاء والأصوليين في هذا الموضع ، وبعضهم أَوَّلَ هذه الرواية ، وجمع بينها وبين رواية ابن الزبير، كما فعل البيهقي في ” السنن الكبرى ” (2/113) واحتج بأن الجمع فرع القبول ، وفيه ما سبق ، وأضف إلى ذلك أن الجمع لا يلزم منه القبول مطلقًا ، كما لا يخفى على أهل العلم ، فقد يضعف أحدهم الحديث ، ثم يجمع بينه وبين غيره .
2- الوجه الثاني في الجواب : أننا لا نسلم بان أحدا من أهل العلم لم يعل هذه الرواية ، فإن ابن خزيمة قد أخرج الحديث في ” صحيحة ” (1/354/714) ثم قال : ” ليس في شيء من الأخبار ” يحركها “إلا في هذا الخبر، زائد ذكره ” اهـ. وهذا القول من المعلوم أن العلماء يستعملونه في الإشارة إلى علة كثير من الأخبار ، وسواء قلنا – كما في المطبوعة – ” زائد ذِكْرُه “بكسر الذال وسكون الكاف على المصدر ، أو ” وزائدة ذَكَرَه “بفتح الذال والكاف على الفعل ؛ ففي هذا القول غمز من ابن خزيمة لهذا الزيادة , ولا يعترض بان ابن خزيمة أخرجه في ” صحيحه ” تحت باب صفة وضع اليدين… وتحريك السبابة عند الإشارة ؛ لأن ابن خزيمة قد أدخل في ” صحيحة ” أحاديث كثيرة ، تحت أبواب وتراجم ، ومع ذلك فقد صرح بعلتها وضعفها ، فكيف فيما لم يصرح فيه ، على أننا لا نسلم بأنه لم يشر لضعفها ، كما تقدم .
3- الوجه الثالث :أن إعمال القواعد يشهد بشذوذها ، فإن قيل : إن أحدًا من أهل العلم لم يقل بترك التحريك ، قلت : بلى ، فقد أنكر ذلك أبو بكر بن العربي في ” عارضة الأحوذي ” (2/85-88) فقد قال : ” وعجبًا ممن يقول : إنها مقمعة للشيطان إذا حركت ، اعلموا أنكم إذا حركتم للشيطان أصبعا حرك لكم عشرًا ، إنمايقمع الشيطان بالإخلاص , والخشوع , والذِّكْر , والاستعاذة ، فأما بتحريكه فلا ، وإنما عليه أن يشير بالسبابة ، كما جاء في الحديث …” اهـ .
فإن قيل : لا منافاة بين التحريك والإشارة .
قلت : إن كان المراد بالمنافة : تعذر الجمع ؛ فنعم ، وإن كان المراد بنفي المنافاة : أن كل تحريك إشارة ، وأن كل إشارة تحريك ؛ فلا ، وإن كان المراد بنفي المنافاة : أن الإشارة تجامع التحريك ، وتنفرد عنه ؛ فنعم ، لأن كل تحريك إشارة ، وليس كل إشارة تحريكا ، وأن التحريك لا يسمى إشارة إلا بإضافة ما يوضح ذلك ، كمن يقول : أشار بيده لابنه : أن تعال أو اذهب ،فإننا لا نفهم من مجرد قوله ” أشار ” أنه قال لابنه : تعال ، أو اذهب إلا بإضافة ما يدل على ذلك ، وهو تحريك الأصابع أو الكف بالإقبال أو الإدبار .
فبين الإشارة والتحريك عموم وخصوص ، وذِكْرُ التحريك فيه زيادة في المعنى ، وكل زيادة في المبنى يترتب عليه زيادة في المعنى ؛ فهي خاضعة لقواعد الترجيح بين الرواة ، لمعرفة المحفوظ في ذلك من الشاذ ، وهذا الذي عهدنا عليه صنيع علمائنا قديمًا وحديثًا في غير هذا الحديث ، فليكن الأمر كذلك في هذا الموضع ؛ لعدم وجود مسوغ للتفرقة .
ومما ينبغي أن يُعْلَمَ أنه لا يُشْتَرَط – في مذهب نقاد الحديث وأئمته – للحكم بالشذوذ أن تكون الزيادة منافية منافاة تضاد للأصل ، ولو كان كذلك ؛ فلاشذوذ في الدنيا ، ومن ذا الذي يأتينا بمثال على ذلك ؟ مع أكتب العلل طافحة بالحكم بالشذوذ على كثير من الزيادات ، التي يمكن الجمع بينها وبين الأصل ، والله أعلم .
فإن قيل : إن وائل بن حجر – رضي الله عنه – نفرد بالوصف الدقيق لصلاة النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – حتى إنه ذكر أشياء لم يذكرها غيره من الصحابة ، مما يدل على أعتنائه – رضي الله عنه – بوصف الصلاة ، فَلْيُقْبَلْ منه ذِكْرُ التحريك لذلك .
أو يُحْكَم على روايته كلها بالشذوذ ؛ لمخافته الصحابة الذين لم يرووا ذلك !!
فالجواب : أننا لا ننفي اعتناء وائل – رضي الله عنه – بنقل هيئة صلاة رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بل نحن نذب بذلك عن وائل – رضي الله عنه – فإن تحكيم القواعد في إظهار موافقة وائل للصحابة الآخرين ؛ دفاع عن وائل – رضي الله عنه – .
فإذا انفرد وائل بنقل سنة على هيئة معينة ، لم يشاركه غيره في نقلها ؛ قُبِلَ ذلك منه ، وهذا هو مذهب المحدثين ، كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر في “النكت “(2/691) في النوع السادس عشر ، لكننا ندعي هنا أن زائدة قد وهم على عاصم في ذكر هذه الزيادة ، ولم نسلم بصحتها إلى وائل ، من أجل أن يرد علينا الإلزام السابق .
وكون زائدة من أهل التثبت شيء ؛ وكونه خالف جبال الحفظ شيء آخر ، فكم من زيادة لزائدة نفسه قد ردها أهل العلم ، مع أنه لم يخالف فيها مثل هذا الكم الهائل من الرواة .
أضف إلى ذلك : أن زائدة قد خالف أيضا في هيئة وضع اليمنى على اليسرى ، كما مر بنا قريبًا , والراوي إذا كثرت مخالفته لمن هو أحفظ منه ؛ تزعزعت الثقة في حفظه في الموضع الذي حدث منه ذلك ، وهذا ما جرى في هذا الموضع ، والله أعلم .
هذا ؛ وقد انتصر والدنا وشيخنا ريحانة العصر ومجدد علم الحديث في هذا القرن شيخنا : محمد ناصر الدين الألباني – أتم الله شفاءه وعافيته ، وتقبل منه جهاده في نصرة السنة – للقول بثبوت التحريك ، كما في ” تمام المنة ” ص (214-222) وقد تعلمنا منه – سلَّمه الله – ترك التقليد ، واتباع الدليل ، فرجحت ما ظهر لي ، ونحن فيما نخالف فيه العلماء عالة عليهم ، فكيف فيما نوافقهم فيه ، والعلم عند الله تعالى.