الردود العلمية المقروءة

العواصم مما في تلبيسات مجيب الحميدي من القواصم

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فبعد أن فرغتُ من الرد على مقالين نشرتهما جريدة الأهالي في عددها (98) على كل من: زايد جابر وثابت الأحمدي، وبينما كنتُ أفكّر في اختصار الرد لطوله الذي بلغ أكثر من ستين صفحة من أجل نشره في بعض الصحف، وإلا فالرد كاملاً قد أُعدَّ ـ بفضل الله ـ لطبعه في كتاب، أرجو إنْ كَتَبَ الله له الحياة بقي كاشفا لصنيع الكاتبين المذكورين ومن على شاكلتهما ما شاء الله له أن يبقى، فبينما أفكر في اختصاره طالعتنا جريدة “الأهالي” مرة أخرى – ويا للأسف- في عددها (100) بتاريخ الثلاثاء 14/ 7/1430هـ الموافق 7/ 7/2009م في الصفحة الثانية عشرة بمقال آخر من الأخ مجيب الحميدي –هداني الله وإياه- بعنوان: “قراءة نقدية لأدلة فقه: “بغلة السلطان” …تهافت راوية: “إلا أن تروا كفرًا بواحًا” وإن كانت الجريدة قد نشرت في عددها (99،100) مقالات أخرى –كأن بعض الكُتَّاب قد جَنَّد نفسه للاعتداء على السنة وبعض الثوابت- إلا أن هذه المقالات لا تستحق إضاعة الوقت في الرد عليها؛ لوضوح هشاشتها.

ونظرًا لأن هذا الكاتب قد استدل على ما ذهب إليه بكلام لأهل العلم، وكان التلبيس بما مَوَّه به أشد فتنة، لاسيما أنه احتج بكلام أئمة الجرح والتعديل، وتعرّض للكلام على الرواية والرواة؛ فتعين إفراده بالرد والتعقيب، سائلاً المولى أن يفيق ويستجيب، فأقول ـ مستعينًا بالله تعالى ـ:

التعقيب الأول: استهلَّ الكاتب مقاله بقوله: “تتَّسق منهجية القرآن الكريم في مقاومة الطغيان مع ما ورد في السنة الصحيحة: أن أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر، وأن سيد الشهداء: رجل قام إلى سلطان جائر ناصحًا فقتله، وليس لثُنائية الاستضعاف والتنمُّر السلفية من مستند في غير الفقه الذي يسميه أستاذ الفقه السياسي الإسلامي  الدكتور فؤاد البنا بـ”فقه الطوارئ” الذي ظهر في عصور الفتنة التاريخية بين المسلمين، أو القراءة المشوَّهة لأحاديث السمع والطاعة، التي طالبت بالسمع والطاعة عندما يُوسَّد الأمر إلى أهله، فحينها لا يجوز منازعة الأمر أهله، أما إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله اغتصابًا وتغلُّبًا؛ فانتظر الساعة، ولا تنتظر سمعًا ولا طاعة اهـ.

والجواب من وجوه:

1- سبق في التعقيب على ما في العدد (98) الكلام على رمي بعض الكُتَّاب أهلَ العلم والحلم بتيار ذيل بغلة السلطان، وقد اتضح أن أهل العلم هم أحرص الناس على سلامة دنيا الناس ودينهم، أما المتهورون فهم ذيول الفتنة، وأذناب الحَقَدة الجهلة من الداخل والخارج!!

2- سيظهر للقارئ الكريم في هذا الرد ـ إن شاء الله تعالى ـ هل روايات حديث عبادة بن الصامت المتفق عليها متهافتة كما يزعم الحميدي، أم أن محاولاته اليائسة البائسة في إثبات ذلك هي الساقطة المتهافتة!!!

3- نعم، القرآن والسنة وعلماء الأمة يقاومون الطغيان بجميع صوره، سواء كان عن شبهة أو شهوة، لكنهم يتخذون من هذه المقاومة وسيلة توصل إلى تكميل الخير أو تحصيله، وتعطيل الشر أو تقليله، وليست المقاومة عندهم من أجل المقاومة!! فإذا ظهر أن الاستمرار في المقاومة يعطل المقاصد التي شرعت الوسائل لتحقيقها؛ فمن العبث والفوضى والحماقة الاستمرار في المقاومة، بل لا بد من وسيلة أخرى، وهي الصبر مع النصح والدعاء، وتعليم الناس دينهم، وهذا ما عليه أهل الحق، وهم أهل السنة والجماعة عبر التاريخ، ولله الحمد.

4- استدلاله بالحديثين السابقين في فضل كلمة الحق عند سلطان جائر لا يساعده على ما ذهب إليه من إثارة الفتن والدهماء، وإيغار الصدور بما يُفضي في النهاية إلى هلاك الحرث والنسل، فغاية ما في الحديثين مدح من نصح الإمام الجائر، ولم يَخَفْ سلطانه وسيفه، وأراد بذلك تقليل الشر، فينتفع بذلك الرعية، وكان ذلك من أفضل الجهاد: لأن المجاهد للكفار يخاف الموت ويرجو السلامة والغنيمة، فهو بين أمرين، وربما يغلب عليه جانب السلامة لقرائن معينة، أما المجاهد بكلمة الحق عند السلطان الجائر؛ فإنه يغلب على ظنه الهلكة، وإن سلم فلا يأمن على نفسه الانتقام أو الأذى بعد ذلك، كما أشار إليه الخطابي ـ رحمه الله ـ وغاية ما في هذا أن المرء يقدم نفسه ضحية لتصحيح أوضاع الأمة، لا أنه بذلك يفتح باب شر على غيره من الأمة، وفرق بين هذا وبين موضع النزاع، وقد أشار إلى هذا المعنى بعض أهل العلم، فمن ذلك:

أ- ذكر ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” (2/ 248 ـ 249) كلام بعض أهل العلم في كيفية الإنكار على الولاة، ثم قال: “نعم، إنْ خَشِي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يُؤذي أهله وجيرانه؛ لم ينبغ التعرض لهم حينئذٍ، لما فيه من تعدِّي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا فمن خاف منهم على نفسه السيف، أو السوْط، أو الحبس، أو القيد، أو النفي، أو أخْذ المال، أو نحو ذلك من الأذى؛ سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك، منهم مالك، وأحمد، وإسحاق وغيرهم” اهـ.

قلت: ولا يلزم من سقوط الأمر والنهي في هذه الحالة ألا يأمر الرجل وينهى -حتى وإن قُتل- إذا غلب على ظنه تحقيق المقصود من وراء ذلك، وغاية ما في الأمر أن هذا مستحب في حقه وليس واجبا، والله أعلم.

ثم قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: “وأما حديث: “لا ينبغي لمؤمن أن يُذل نفسه” فإنما يدل على أنه إذا علم أنه لا يطيق الأذى، ولا يصبر عليه، فإنه لا يتعرض حينئذ للأمر، وهذا حق، وإنما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر، كذلك قاله الأئمة: كسفيان، وأحمد، والفضيل بن عياض وغيرهم” اهـ.

ب- وقال ابن مفلح في “الآداب الشرعية”: “ولا يُنكر أحد على سلطان إلا وعْظًا له وتخويفًا، أو تحذيرًا من العاقبة في الدنيا والآخرة، فإنه يجب، ويحرم بغير ذلك، ذكره القاضي وغيره …” ثم قال: “قال ابن الجوزي: “من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين: التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، فإن كان ذلك يحرك فتنة تتعدى شرها إلى الغير لم يَجُزْ، وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء …” إلى أن قال: “فأما ما جرى للسلف من التعرض لأمرائهم، فإنهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا عليهم ـ أي زاد العلماء في الإنكار على الأمراء ـ احتملوهم في الأغلب …” اهـ (1/ 137 ـ 138).

فظهر بهذا أن المراد من الحديثين المذكورين: الحض على كلمة الحق لتقويم اعوجاج الحاكم إذا غلب على الظن تحقيق ذلك، وإن أدى إلى قتْل الآمر والناهي، وإن لم يكن هذا واجبًا عليه، بشرط ألا يعود ذلك بضرر أكبر على غيره، وأي ضرر أعظم –إذا أخذنا بقول الكُتاب هؤلاء- من انقسام المسلمين إلى فرق وأحزاب يضرب بعضهم رقاب بعض بزعم أن هذا أفضل الجهاد؟!

5- غاية ما في الحديثين أنهما يحضان على النصيحة العلنية في مجلس الحاكم الظالم، لقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “عند سلطان جائر” فتأمل كلمة “عند” ونحن لا نمنع من ذلك في حضرة المنصوح وبضوابطه المشهورة، لكن أين هذا من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وإثارة الفوضى والهمجية على صفحات الصحف وأعواد المنابر، والمنتديات العامة؟! 

6- المقصود من الجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا، كما وضحه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله” والقرآن الكريم يدعو إلى ذلك أيضًا: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {الأنفال:39} فإذا كان الجهاد يثير الفتن، ويُضعف شوكة المسلمين، وتكون الكلمة العليا للمنظمات الماسونية، والصهيونية، والصليبية، ونحوها؛ فهو فساد وليس بجهاد، والقوم يَدْعون الناس إلى التمرد على حكامهم، وهم غير قادرين على إزالتهم، وليسوا بمؤهلين لضبط الأمور وإن أزالوهم، فينفرط النظْم وتتردى الأحوال أكثر مما هو حاصل!! 

7- اتهام الكاتب السلفيين بأن عندهم ثنائية الاستضعاف والتنمر، ماذا يريد من ذلك؟

هل يريد أن السلفيين يفرقون في التعامل مع الحاكم الجائر بين حالة القوة وحالة الاستضعاف؟ أي أنهم إذا كانوا أقوياء يأمرونه بأمر الله، ويلزمونه بذلك، وإذا أبى ولم يكن في خلعه مفسدة؛ خلعوه، وإذا كانوا ضعفاء وللحاكم شوكة، صبروا على أذاه، وناصحوه بالتي هي أحسن، إن كان يريد ذلك؛ فهذا مقتضى الأدلة النقلية والعقلية، ولا يعيب ذلك إلا من لا يعرف قدْر نفسه، فكيف بغيره؟! بل التكاليف الشرعية كلها قائمة على الاستطاعة، قال تعالى:[فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] {التغابن:16} ، وقال سبحانه: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] {الحج:78} ، وقال عز وجل: [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185} وقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ..” متفق عليه، وكذا حديث أبي سعيد الخدري: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه …” رواه مسلم، إلى غير ذلك من آيات وأحاديث.

 والرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في مكة لم يكن حاله كحاله في المدينة، ولم يكن حاله قبل نزول سورة براءة وهو في المدينة كحاله بعدها، وهكذا فالتكاليف الشرعية تتغير حسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وقوتهم، وضعفهم، وكل ذلك راجع إلى الاستطاعة، فأي ثنائية أو ثلاثية مذمومة في هذا عند العقلاء؟!

وإن أراد الحميدي بكلامه هذا ثنائية أخرى؛ فليوضحها لنا، فلا إقرار ولا إنكار إلا بعد معرفة مراد المتكلم.

8- اتهامه السلفيين بالقراءة المشوهة لأحاديث السمع والطاعة، هذا حسب زعمه،وليس اتهامه لنا بأولى من اتهامنا له بالقراءة العمياء الشُّلاّء لهذه النصوص، والعبرة بالأدلة،وقد سبق في الرد على من هو على شاكلته نقل إجماع العلماء على فهم النصوص بخلاف فهم الأستاذ مجيب أو غيره.

9- زعمه أن أحاديث السمع والطاعة إنما هي فقط في حالة ما إذا وُسِّد الأمر إلى أهله من أئمة العدل والصلاح؛ زعم فاسد، فمنذ أن انتهت الخلافة الراشدة التي هي على منهاج النبوة؛ فأكثر الأمراء إلى زماننا هذا ليسوا بأمراء عدل من جميع الوجوه، ولو أخذنا بقول مجيب الحميدي لما قامت للمسلمين قائمة، حيث لا سمع ولا طاعة لهم، والحمد لله الذي هدى جمهور الأمة للأخذ بنصائح العلماء، وتركوا بُنَيَّاتِ الطريق التي ينافح عليها كثير من كُتَّاب زماننا!!

وأسأل أخانا مجيبًا فأقول: هل ترى السمع والطاعة في هذا الوقت لحاكم البلاد، أم لا؟ وهل ترى الخروج عليه أم لا؟ وما الذي منعك من الخروج إن كنت ترى ذلك؟ وما الفرق بينك وبين من تتطاول في أعراضهم إذا كنت ترى السمع والطاعة لهم في المعروف وعدم الخروج؟

التعقيب الثاني: قوله: “وهناك فرق بين منازعة الأمر أهله، وبين استعادته من مغتصبه، وإعادته إلى أهله، وهم عامة الناس” اهـ.

قلت: إذا كانت استعادة الأمر إلى أهله ميسورة بلا شر أكبر فلا بأس بذلك ـ وقد تجب ـ وإذا كان دون ذلك ضَرْب الرقاب، وذَهابُ ريح المؤمنين، وكسْر شوكتهم، وطمع عدوهم فيهم، وإهدار مصالح البلاد؛ فليس هذا من استعادة الأمر إلى أهله، بل هذا استعداء على الإسلام وأهله، ومن العجب أنك ترى هؤلاء الكتاب في حياتهم اليومية يَصْبِرون على كثير من المنغصات، ويُصَبِّرون أنفسهم ببصيص من الآمال، ويتعللون بما سيكون من المفاسد لو لم يصبروا –وهذا حق في الجملة- وتراهم يتهورون في هذا الأمر العظيم!!

ثم لو أخذنا بفهم هؤلاء الكُتاب، وعزمنْا على استعادة الأمر إلى أهله، ودخلنا في حروب مدمِّرة، فلو سلمنا أننا أبعدْنا الحاكم الأول، ثم جاءتنا الانتخابات بحاكم آخر مثله أو دونه أو فوقه، إلا أنه ليس قائمًا بأمر الله من جميع جوانبه؛ فإنه بناءً على فهم هؤلاء يلزمنا الخروج عليه أيضًا لاستعادة الأمر إلى أهله!! وهكذا نستمر في الحروب والدمار، لأنه ما من حاكم –وإن كان عدلاً- إلا كان هناك من يبغضه، ويتمنى إزالته، فمتى تقوم للمسلمين قائمة؟!

أما على منهج وفهم علماء السنة: فالصبر مع النصح، والتعاون معه على الخير وتقليل الشر ما أمكن، ولما سلك العلماء هذا المسلك -مع وجود ظلم الولاة من جانب- حصل بذلك خير كثير، ولا شك أن وجود بعض الشر أهون من وجوده كله، ونور فيه ظُلْمة خير من ظُلْمة لا نور فها، لكن من حرم الفهم عن الله أتى بالعجائب والمصائب!!

التعقيب الثالث: ذكر الكاتب أنه يجب لطاعة أولي الأمر أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن من الأمانات أمانة هذا الأمر ـ أي الحكم ـ وأن ولاة هذا الأمر هم عامة الناس، وهم الذين يختارون ولاتهم،واستدل بقول عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ لما تولى، فقام وخطب فقال -كما في “البداية والنهاية ” ـ: “أيها الناس، إني لستُ بمبتدع، ولكني مُتَّبِع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم؛ فأنا واليكم، وإن هم أبوا؛ فلسْتُ لكم بوالٍ” ثم نزل.

وذكر الكاتب أن ولاة أمورنا هم من نختارهم بإرادتنا، لا من يحملون علينا السلاح، ويفرضون أنفسهم علينا، فقد ثبت في “صحيح البخاري” أن “من حمل علينا السلاح فليس منا” اهـ .

والجواب من وجوه:

1- سبق في الرد الأول أن ولاة الأمر يتولون بعدة طرق:

أ- اختيار أهل الحل والعقد لهم.

ب- استخلاف الحاكم السابق لمن بعده.

ج- تَغَلُّب صاحب الشوكة عليها دون إذن أو مشورة، ثم يخضع له الناس.

وقد ذكر بعضهم إجماع العلماء على السمع والطاعة في الحالة الثالثة لمن خضع له الناس، خشية إراقة الدماء بين المسلمين -مع النصح للحاكم المتغلِّب- ومنهم الحافظ ابن حجر في “الفتح” (13/7) فقال: “وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء” اهـ وقد صرَّح الشافعي –رحمه الله- بطاعة المتغلب، كما في “مناقب الشافعي” للبيهقي (1/448) وكذا أحمد، كما في “ألأحكام السلطانية” لأبي يعلى (صـ23).

وكوننا عجزنا عن الأكمل لا يلزم منه أن نترك الحبل على الغارب، ونفتح باب الفتن على مصراعيه، لكن [فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] {التغابن:16} والقوم يطلبون الأكمل، وإلا فالفوضى، وبينهما درجات ومراحل، كما لا يخفى.

2- ما هو المراد بقوله: “ولاة هذا الأمر هم عامة الناس”؟

إن كان المراد أهل الحل والعقد فنعم، وإن كان المراد الانتخابات فليس هذا سبيلاً شرعيًّا، إنما يكون لنا معه عند الاضطرار أحوال أخرى، وليس لنا حكم واحد برده مطلقًا أو قبوله مطلقًا.

3- ما قاله عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ هو الحق، لكن إذا لم نجد مثل عمر فنصبر على أدنى المفسدتين لدرء أعظمهما.

4- أما من يحملون علينا السلاح للولاية علينا: فمع ما في صنيعهم من مخالفات شرعية؛ إلا أننا نتعامل معهم بما سبق بيانه قبل قليل، والإجماع على هذا، ومن شذَّ فعلى نفسه، وإلا فكل طائفة ستحمل السلاح على الأخرى، والله أعلم.

التعقيب الرابع: قال الكاتب: “ولأن المقام لا يتسع لمناقشة كل المرويات التي يستند إليها البعض في تبرير طاغوتية المتغلِّب؛ سنكتفي في الأسطر الآتية بمناقشة أشهر هذه الأحاديث وأكثرها تداولاً، وهو الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في السمع والطاعة، وجاء في إحدى روايته: “وألا ننازع الأمر أهله إلا أن نرى كفرًا بواحًا“، وسأضع أمام القارئ عدة اعتراضات على متن الحديث وسنده ودلالته” اهـ.

قُلت: وإن كان المقام حقًّا لا يتسع لمناقشة كل الروايات؛ فلا زلنا نطالبك بمناقشة بقية الأدلة، لأنه لو لم يصح لنا إلا دليل واحد؛ وكانت دلالته ظاهرة أو صريحة لكفى في صحة قولنا، فلا يكفي الرد على دليل واحد من أدلة مخالفيك حتى تحكم بسقوط حجتهم، وإذا صح شيء منها عندك فما هو موقفك منها؟!

والقول بأن هذه الأدلة يستند إليها البعض في تبرير طاغوتية المتغلِّب: قول على عباد الله بغير علم ولا هُدًى ولا كتاب منير، وإلا فليُسَمِّ لنا الأخ مجيب من الذي استدل بهذه الأدلة على ذلك؟ وهل إذا استدل العلماء بها عبر التاريخ على عدم الخروج على الوالي الظالم خشية ما هو أكثر ظلمًا وفسادًا –مع تحذيرهم من ظلمه- يكون هذا تبريرًا لطاغوتية المتغلِّب؟! إن عدم الإنصاف يُعْمي ويُصم!!

التعقيب الخامس: ساق الكاتب وجوه الطعن في حديث عبادة، فمن ذلك قوله:

“أولاً: سبق أن أشرنا أن منازعة الأمر أهله تختلف عن تحرير الأمر من مغتصبيه، وإعادته إلى أهله، وأن ولاة الأمر هم من أتوْا منا وبإرادتنا، وليس من رفع علينا السلاح …”اهـ.

قُلت: وقد سبق أيضًا الجواب على ذلك بما يُغني عن إعادته.

التعقيب السادس: قوله: “ثمة إشكالات عديدة في سند هذا الحديث ومتنه ودلالته، وأصح روايات هذا الحديث هي رواية أبي بكر ابن أبي شيبة التي أخرجها مسلم في “صحيحه”: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم”.

قال: “وفي الروايات المتداولة لهذا الحديث تختفي العبارات الآتية: “وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم” وتستبدل بهذه العبارة “وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان” وقد روى الإمام مسلم زيادة الكفر البواح، في “صحيحه” أيضًا، عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم، كما روى رواية الجهر بكلمة الحق أينما كنا السابقة عن أبي بكر ابن أبي شيبة، وعند المقارنة بين الروايتين: سنجد في كتب الجرح والتعديل عن أحمد بن عبد الرحمن ما يلي: “قال أبو أحمد ابن عدي: رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه، ومَنْ كَتَبَ عنه من الغرباء غير أهل بلده لا يمتنعون من الرواية عنه” المرجع “تهذيب الكمال” وقال أبو سعيد ابن يونس: لا تقوم بحديثه حجة، وقال ابن الأخرم: نحن لا نشك في اختلاطه بعد الخمسين، وقد أنكروا عليه عددًا من الأحاديث الموضوعة فاعترف بها، ورجع عنها، وقال زكريا بن يحيى البلخي: حدثنا محمد بن إبراهيم البوشنجي، قال: قال أحمد بن صالح: بلغني أن حرملة يحدث بكتاب الفتن عن ابن وهب، فقلت له في ذلك، وقلت له: لم يسمعه من ابن وهب أحد، ولم يقرأه –أي ابن وهب- على أحد، قال: فرجع من عندي على أنه لا يفعل، ثم بلغني أنه حدَّث به بعد. وقال: فقيل للبوشنجي: إن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدَّثَ به عن ابن وهب، قال: فهذا كذاب إذًا. اهـ. المرجع “تهذيب التهذيب” و”تهذيب الكمال”.

قال الحميدي: “هذا حال راوي زيادة الكفر البواح التي أُدْرِجَتْ بدلاً عن عبارة الجهر بكلمة الحق، وإذا نظرنا حال راوي الرواية الصحيحة، وهو أبو بكر ابن أبي شيبة؛ نجد ما يلي: رتبته عند ابن حجر: ثقة حافظ صاحب تصانيف، ورتبته عند الذهبي: الحافظ، قال الفلاس: ما رأيت أحفظ منه، وقال صالح جزرة: هو أحفظ من أدركنا عند المذكرة، وقال عَمْرو بن علي: ما رأيت أحفظ من ابن أبي شيبة، قدم علينا مع على ابن المديني، فسرد للشيباني أربع مئة حديث حفظًا، وقال صالح بن محمد البغدادي: أعلم من أدركت بالحديث وعلله: على ابن المديني، وأعلمهم بتصحيف المشايخ: يحيى بن معين، وأحفظهم عند المذكرة: أبو بكر بن أبي شيبة.

ومن الواضح لكل متأمل أن صاحب رواية الكفر البواح متهم بالكذب والتخليط، وأن راوي رواية الجهر بكلمة الحق مشهود له بالصدق والعدالة وقوة الحفظ، فلماذا إذًا كانت رواية الكفر البواح أكثر رواجا؟! ومن المستفيد؟! هذا حال هذه الزيادة في صحيح مسلم …” إلخ اهـ.

والجواب من وجوه:

1- قوله: “وفي الروايات المتداولة لهذا الحديث تختفي العبارة الآتية: “وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم” وتُستبدل بهذه العبارة : “وأن لا ننازع الأمر أهله” قال: “إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان” قوله هذا مجرد ظن وتخمين، يتهم به أهل السنة بأنهم يستدلون بالرواية التي توافق أهواءهم دون ما يخالف منهجهم الذي يُبرر طاغوتية المتغلِّب، كما سبق عنه.

وليس الأمر كذلك: فإن أهل السنة إذا كانوا في مقام الرد على الغلاة المتهورين، الدعاة إلى الفتن لوجود بعض الانحرافات عند الحاكم في هذا الزمان وغيره ذكروا الرواية الآمرة بعدم المنازعة إلا عند الكفر البواح، وإذا كانوا في مقام الثناء على الذين يَصْدعون بالحق لا يخشون في الله لومة لائم؛ ذكروا الرواية الثانية، وكلاهما حق ثبوتًا ودلالة، وكل شيء يُستدل به في موضعه، وهذا هو الفقه في الدين، فكان ماذا؟! ثم إذا لم يعلم مجيب الحميدي بذلك عن علماء السنة؛ فليس هذا عيبًا فيهم، ولا يلزمهم إخباره بكلامهم!!

2- لقد ضعّف الكاتب الرواية التي أخرجها مسلم: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثنا عمي عبد الله بن وهب حدثنا عمرو بن الحارث حدثني بكير عن بُسْر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت، وهو مريض، فقلنا: حَدِّثْنا بحديث ينفع الله به، سمعته من رسول الله  ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ …فذكر الحديث، وفيه: “وأن لا ننازع الأمر أهله” قال: “إلا أن تروا كفْرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان”.  

والجواب على هذه الجزئية من وجوه:

أ- دليله على التضعيف أن ابن أبي شيبة أوثق وأثبت من أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، علما بأنهما لم يجتمعا على شيخ واحد؛ حتى نحتاج إلى الترجيح بينهما، فكل منهما روى الحديث بسند مختلف تمامًا إلى عبادة بن الصامت، وقد توبع كل منهما على روايته، فلا حاجة لعقد المقارنة بين ابن أبي شيبة وابن أخي ابن وهب، نعم ابن أبي شيبة ثقة إمام مُصَنِّف، لكن الترجيح يكون عند اتحاد المخرج والتعارض، ولذلك لم يحتج البخاري ولا مسلم ولا الأمة التي تلقتْ الكتابين بالقبول -إلا أحرفًا يسيرة، ليس هذا الحديث منها- إلى الترجيح في هذا، لكننا عشنا إلى رجب 1430 هـ فرأينا العجب من هؤلاء الذين يخوضون فيما لا يحسنون حالاً ومآلاً!!

ب- ساق الكاتب كلام أهل العلم بالجرح والتعديل في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب هذا، وقد أسعدني أنه استدل بكلام أئمة الجرح والتعديل على قوله في أحمد هذا وغيره حتى أحاكمه ببقية كلامهم الذي كتمه ولم يذكره، وبقواعدهم في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل التي يظهر أنها في وادٍ وهو في وادٍ آخر، لكن صنيعه في الاستدلال بكلام أئمة الجرح والتعديل وحَّد مرجعيتنا في التحاكم في هذه الجزئية، فلله الحمد والمنة.

ج- قوله في أحمد عبد الرحمن بن وهب: قال أبو أحمد بن عدي: “رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه، ومن كتب عنه من الغرباء غير أهل بلده لا يمتنعون من الرواية عنه”.

قلت: كان من الواجب أن ينقل الكاتب بقية كلام ابن عدي في أحمد هذا؛ ليُعرف هل ابن عدي يرى رأي هؤلاء الشيوخ أم لا؟ فقد ذكر ابن عدي أن من جملة هؤلاء الغرباء الذين يُمَشُّون حديثه أبا زرعة وأبا حاتم، وهما مَنْ هما في هذا الشأن، وأيضًا فقد دافع عنه ابن عدي في “الكامل” (1/302ـ 303) فذكر أن من ضعّفه استدل بأنه أُنكرتْ عليه أحاديث، وأنه أكثر عن عمه، وقال: “وكل ما ينفرد عن عمه بشيء فذلك الذي ينفرد به وجدوه عنده وحَدَّثَهم به ـ أي وجدوه عند عمه، وأن أحمد توبع عليه من غيره عن عمه ـ من ذلك أيضًا كتاب الرجال، يرويه عن عمه عمرُو بن سواد،وقد كتبوه عنه أيضًا…” ثم قال: ” …وحرملة أكثر رواية عن عمه منه –أي لا يُعاب على أحمد إكثاره عن عمه فحرملة أكثر منه رواية عمه- وكل ما أنكروه عليه فمحتمل، وإن لم يكن يرويه عن عمه غيره، ولعله خصَّه به …”اهـ، فكلام ابن عدي هذا يدل على أن الرجل عنده ليس ضعيفًا.

فإن قيل: لعل الكاتب لم يتعمد كتمان بقية كلام ابن عدي، لأنه نقله عن ” تهذيب الكمال ” للمزي، ولعل المزي اختصر كلام ابن عدي!!

قُلت: لقد نقل المزي كلام ابن عدي في كتابه “تهذيب الكمال” بأكثر مما نقلتُه عن ابن عدي، كما في (1/ 6 ـ 57) ط/ مؤسسة الرسالة، فقد ذكر كلام ابن عدي في الدفاع عن أحمد، ونقل ثناء بعضهم على أحمد، لكني جرَّبْت على هذا الأستاذ وغيره كتمان ما يعلمون أنه يرد باطلهم،وليس هذا بغريب على من يعتقد ثم يستدل، والشيء من معدنه لا يُستغرب!! لأن الغالب على أهل هذا الوسط أن بضاعتهم في العلوم الشرعية مزجاة، وليس هذا عيبًا في ذاته، فلا يلزم الجميع أن يتخصصوا في العلوم الشرعية، إنما العيب الخوض في أمور لا يحسنونها، والجزم في مسائل يتورع عن الكلام فيها أساطين العلم وبحور الرواية!!

على أنه لو كان المزي قد ذكر كلام ابن عدي مختصرًا؛ لكان ينبغي للكاتب أن يرجع لكلام ابن عدي في كتابه حتى يتأكد من صحة النقل، لاسيما وكتاب ابن عدي “الكامل” متداول عند طلاب العلم، أما الذين جُلّ بضاعتهم من الروايات التاريخية التي هي أدوية للمناكير والبواطيل؛ فلا يهمهم إلا التشغيب على الناس، وإذا وقفوا على كتب الأسانيد والآثار والرجال نقلوا ما يوافق أهواءهم، وحرفوا المعاني والمباني إلا من رحم الله، وقليل ما هم!!

ثم إن قول ابن عدي: “رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه” مقيد بمن لحقهم، وإلا فهناك من شيوخ أهل مصر من وثقه أيضًا، فقد وثقه محمد بن عبد الله بن الحكم، وعبد الملك ابن شعيب بن الليث الفهمي مولاهم، وهارون بن سعيد الأيلي، وأبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح، فكان يُحسِّن القول فيه، وقد نقل ابن عدي نفسه تعديل بعض هؤلاء لأحمد ابن عبد الرحمن بن وهب أبي عبيد الله المصري، نعم الرجل قد ضعفه ابن يونس ـ وهو من العلماء بأهل مصر وإفريقية ـ وقال الدار قطني: تكلموا فيه، وكذّبه البوشنجي، وقال أبو حاتم: صدوق، واحتج به ابن خزيمة، وقدَّمه على بعض الرواة.

 ومن تأمل كلام العلماء في أحمد: يجد أن الرجل كان مستقيم الأمر في أوله، ثم اختلط بعد سنة (250هـ) وكان هذا بعد خروج مسلم ـ رحمه الله ـ من مصر، فقد قال الحافظ في “تهذيب التهذيب” (1/34): وقال ابن الأخرم ـ وهو محمد بن يعقوب بن يوسف شيخ الحاكم النيسابوري ـ: “نحن لا نشك في اختلاطه بعد الخمسين، وإنما ابتُلي بعد خروج مسلم من مصر” اهـ.

وذكر هذا النووي في مقدمة شرحه “لصحيح مسلم” (1/ 144) وجعله من كلام الحاكم، وقد وقفت عليه في “المدخل” للحاكم (4/131-133) قال أبو عبد الله الحاكم: قلت لأبي عبد الله محمد ابن يعقوب الحافظ: إن مسلمًا حدَّث عن ابن أخي ابن وهب، فقال: “إن ابن أخي ابن وهب ابتُلي بعد خروج مسلم من مصر” قال الحاكم: “ونحن لا نشك في اختلاطه بعد الخمسين …” إلى أن قال: “فما نشبِّه حال مسلم معه إلا بحال المتقدمين من أصحاب ابن أبي عروبة، أنهم أخذوا عنه قبل الاختلاط، وكانوا منها على أصلهم الصحيح، فكذلك مسلم أخذ عنه قبل تغيره واختلاطه” وانظر “إكمال تهذيب الكمال” لمغلطاي (1/77) اهـ.

فكان هذا الكلام فاصلاً في النزاع، واتضح أن مسلمًا أخذ عن أحمد قبل اختلاطه، ولذا أدخله في “الصحيح”.

لكن الكاتب ذكر كلام ابن الأخرم، وبتره ولم يتمه، فلم يذكر ما يدل على أن اختلاط أحمد هذا كان بعد خروج مسلم من مصر، أي بعد أن سمع منه مسلم في حال الاستقامة، ولا يضر اختلاطُ الراوي ما رواه الثقات عنه في زمن الاستقامة، لكن أين أمانتك، وأين ورعك يا مجيب، لو كنتَ ممن يجيب أو يستجيب؟!

وقد مدح أبو زرعة رجوع أحمد هذا عما أُنكر عليه بعد اختلاطه، فقال: “إن رجوعه مما يُحسِّن حاله، ولا يبلغ به المنزلة التي كان قبل ذلك” اهـ من “الجرح والتعديل” ( 2/ 60) مما يدل على أن حاله قبل الاختلاط كان قويًّا عند أبي زرعة.

وعلى ذلك فيحمل كلام من وثقه على ما قبل الاختلاط، وكلام من ضعَّفه على ما بعد الاختلاط، وكلام من كذَّبه على روايته المنكرات والبواطيل بعد الاختلاط، والمختلط قد يستحكم به الاختلاط حتى يروي الموبقات، وكل هذا لا يضر رواية الثقات عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قبل الاختلاط، ومن جملة من روى عنه زمن استقامته مسلم، فصحتْ رواية مسلم للحديث، وليس راويه بضعيف، فيا خيبة الشغوفين بتضعيفه حتى يصح لهم ما أرادوا، وها هم قد رجعوا بعد هذه الشقشقة بخُفَّي حنين!!

وقد ذكر الذهبي أحمد هذا في كتابه: “من تُكُلِّم فيه وهو موثَّق أو صالح الحديث” برقم (16) صـ(78) مما يدل على أن الكلام فيه لا يضره بإطلاق، وإن ضره في حالة دون أخرى.

د- ولو سلمنا جدلاً بضعف أحمد؛ فقد توبع، والضعيف إذا توبع من غير متروك قويت روايته، فمن ذلك متابعة إسماعيل بن عبد الله بن أويس الأويسي، الذي روى الحديث عن ابن وهب أيضًا، وقد أخرجه البخاري في “صحيحه” برقم (7056) عنه به، وهذه متابعة قوية، وإن كان الكاتب يتهم إسماعيل هذا بالكذب أيضًا، وسيأتي الجواب عليه في ذلك إن شاء الله تعالى.

وهناك متابعة ثانية من نعيم بن حماد الخزاعي، أخرجها البيهقي في “السنن الكبرى” (8/ 145) والسند إليه صالح في الشواهد، ونعيم صدوق يخطئ ويهم، وهذه من عبارات الجرح الخفيف عند أئمة الحديث، وإن جهل ذلك من لم يعرف هذا الفن، فهذه متابعة جيدة، وهناك متابعة ثالثة من عثمان بن صالح عند الإسماعيلي، وسيأتي ذكرها في الكلام على إسماعيل بن أبي أويس –إن شاء الله تعالى- وهناك متابعة رابعة من أحمد بن صالح المصري الثقة، أخرجها الطبراني، وسيأتي الكلام عليها في إسماعيل –بمشيئة الله تعالى- فلو سلمنا بضعف أحمد هذا لنفعته رواية هؤلاء جميعًا، والحمد لله على إقامة الدليل على دقة نظر صاحبي الصحيح.

هـ- هذه أجوبة مفصلة، وهناك جواب مجمل على هذا الاعتراض، وهو: أن من المعلوم عُلُوَّ كعْب الشيخين في حفظ الحديث، ومعرفة طرقه وعلله ومخارجه، وهذا يجعل من بعدهم يطمئن لنقدهم وحكمهم على الروايات بالصحة والضعف، وللأئمة أجوبة عما روياه أو أحدهما عمن مُسَّ بضرْب من التجريح،فمن ذلك: أن الكتابين قد تلقتهما الأمة بالقبول إلا أحرفا يسيرة، وليس هذا الحديث منها، فهل يُعقل أننا نترك حفاظ الدنيا عبر هذه القرون، أو نعرض عن فقهاء الملة وقادتها في مسائل الاعتقاد، ثم نتبع مجيبًا الحميدي أو ثابتًا الأحمدي أو زايد بن جابر الذين يدخلون في هذه الدهاليز المظلمة بلا أثارة من علم؟! ومن ذلك: أنهما قد يخرجان عن المجروح بعض حديثه الذي ثبت عندهما أو أحدهما صحته عن مشايخه، أو أخرجا له من روايته عن بعض الشيوخ، أو رواية بعض الشيوخ عنه لا مطلقًا، أو أخرجا له من روايته في زمن معين، أو بلد معين، أو في كتاب معين لا مطلقًا، وهذا كله فيما أخرجاه أو أحدهما احتجاجًا لا استشهادًا، كل هذا لأن حكم الشيخين على الكتابين بالصحة، وسكوت حفاظ الدنيا طبقة بعد أخرى عند جمهور وجُلّ الكتابين مع توافر الدواعي للانتقاد لو كان للمنتقد حجة؛ كل هذا أقوى في طمأنينة النفس إلى صحة الكتابين من مجرد ورود رواية مسلسلة بالثقات، ولم تحظَ بتلقيِّ الأمة لها بالقبول.

فأي الفريقين أحق بالهداية: من يتبع العلماء الذين يذكروا مالهم وما عليهم، أم من يتبع المتعالمين الذين يذكرون مالهم، ويكتمون ما هو عليهم؟! ألا يعلم هؤلاء أن في الزوايا بقايا، وإن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؟!

التعقيب السابع: قال الأستاذ مجيب في سياق تفصيله لجرح إسماعيل ابن أبي أويس راوي هذا الحديث عند البخاري: “لو نظرنا إلى حالها ـ يعني حال رواية : “إلا أن تروا كفرًا بواحًا ..” ـ في “صحيح البخاري” لوجدنا عجب العجاب، فقد روى البخاري هذا الحديث عن إسماعيل بن عبد الله بن أويس، وجاء في الرواية “إلا أن تروا كفرًا بواحًا  عندكم من الله فيه برهان” وبعد البحث في كتب الجرح والتعديل عن حال إسماعيل بن عبد الله بن أويس وجدنا ما يلي: قال معاوية بن صالح عن يحيى: أبو أويس وابنه ضعيفان، وقال: يحيى بن معين: مخلط، يكذب، ليس بشيء، ويسرق الحديث، وقال أبو حاتم كان مغفلاً، وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة، وقال أبو القاسم اللالكائي: بالغ النسائي في الكلام عليه إلى أن يؤدي إلى تركه، ولعله بان له ما لم يبن لغيره، لأن كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى أنه ضعيف، وقال أبو أحمد بن عدي: وابن أبي أويس هذا روى عن خاله مالك أحاديث غرائب، لا يتابعه أحد عليها، وحكى ابن أبي خيثمة عن عبد الله بن عبيد الله العباسي صاحب اليمن أن إسماعيل ارتشى من تاجر عشرين دينارًا، حتى باع له على الأمير ثوبًا يساوي خمسين بمائة، وذكره الإسماعيلي في “المدخل” فقال: كان يُنْسَب في الخفة والطيش إلى ما أكره ذكره، قال: وقال بعضهم: جانبناه للسنة، وقال ابن حزم في “المحلى” قال أبو الفتح الأزدي: حدثني سيف بن محمد أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث، وقال سلمة بن شبيب: سمعت إسماعيل ابن أبي أويس يقول: ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم”.

 قال الحميدي: “وقد استغرب صاحب “تهذيب التهذيب” من رواية البخاري ومسلم عنه، فقال بعد أن ذكر الروايات السابقة: “قلت: وهذا هو الذي بان للنسائي منه حتى تجنب حديثه، وأطلق القول فيه بأنه ليس بثقة، ولجأ صاحب “تهذيب التهذيب” إلى التخمين، فقال: “ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته، ثم انصح، وأَكَّد أنه لا يظن أن الشيخين أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه، والظن لا يغني عن الحق شيئًا، ولقد أحسن الإمام النسائي حين ارتاب من إسماعيل ابن أويس الذي اعترف شخصيَّا بأنه كان يختلق الأحاديث عندما يختلف أهل المدينة في أمر ما، ورفض النسائي إدراج رواية الكفر البواح في سننه، وأورد رواية الجهر بكلمة الحق دون أن نخاف في الله لومة لائم، وسمى الباب: باب البيعة على القول بالحق” اهـ.       

والجواب من وجوه: 

1- قوله: وبعد البحث في كتب الجرح والتعديل عن حال إسماعيل بن عبد الله بن أويس …”.

يوهم الكاتب بهذا القول أنه باحث عن الحق من مظانه، وأنه استفرغ وسعه في ذلك، فإن كان كذلك؛ فلمَ لم يذكر الأقوال المخالفة له، وينقل لنا كلام العلماء فيها، أو يجمع هو بينها وبين الأقوال التي يحتج بها، كما هو شأن الباحثين المتجردين؟! إن هذا ليدل على خيانة علمية عظمى، إذْ ينقل الرجل ما يريده، ويترك ما لا يريده من حجج خصمه الباهرة القاهرة، ولا يشير أدنى إشارة إلى وجود ما يخالف الأقوال التي نقلها، ومتى تكون الخيانة العلمية إذًا إن لم تكن هذه الأمور خيانة؟.

وإن لم يكن هذا الكاتب باحثًا، فهو متشبِّع بما لم يُعْط، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في المتشبعين: “المتشبِّع بما لم يُعْط كلابس ثوبي زور” متفق عليه.

2- قوله بعد بحثه في إسماعيل بن أبي أويس: “وجدنا ما يلي: قال معاوية بن صالح عن يحيى ـ أي ابن معين ـ: أبو أويس وابنه ضعيفان، وقال يحيى بن معين: مخلِّط، ويكذب، ليس بشيء، ويسرق الحديث، وقال أبو حاتم كان مغفلاً، وقال النسائي ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة، وقال أبو القاسم اللالكائي: بالغ النسائي في الكلام عليه، إلى أن يؤدي إلى تركه، ولعله بان له ما لم يبنْ لغيره، لأن كلام هؤلاء كلهم يؤول إلى أنه ضعيف، وقال أبو أحمد بن عدي: وابن أبي أويس هذا روى عن خاله مالك أحاديث غرائب، لا يتابعه أحد عليها…”.

قُلت: الجواب على هذه الجزئية من وجوه:

أ- لماذا تنقل أيها الأستاذ كلام ابن معين في جرح إسماعيل، ولم تنقل كلامه في تعديله؟! هل لك من قلب يؤنبك؟ أو عقل يزجرك عن ارتكاب هذه الجناية؟!

أليس قد قال ابن معين من رواية الدارمي عنه: “لا بأس به”؟ أليس قد قال من رواية ابن أبي خيثمة عنه: “صدوق، ضعيف العقل ليس بذاك”؟ أي في عقله خفة، أما هو في نفسه فلا يُتهم في دينه، ولذا قال ابن أبي خيثمة مفسرًا قول ابن معين بعد ذلك: “يعني أنه لا يحسن الحديث،أولا يعرف أن يُؤَدِّيه، أو يقرأ من غير كتابه” ومعلوم أن هذا معناه تساهل الراوي في الرواية لا اتهامه في دينه وصدقه، وانظر تعديل ابن معين وتجريحه لإسماعيل في “تهذيب التهذيب” (1/ 157).

ب- سيأتي الجمع بين كلام ابن معين وغيره من الأئمة في نهاية الكلام على إسماعيل إن شاء الله تعالى.

ج- وكذا سيأتي الجواب على كلام النسائي فيه إن شاء الله تعالى.

د- وأما ما ذكره الكاتب عن أبي حاتم أنه قال: “كان مغفلاً” فقد بتره الكاتب أيضًا، فقد قال أبو حاتم “محله الصدق، وكان مغفلاً” اهـ. انظر “الجرح والتعديل” (2/ 181) و”تهذيب التهذيب”       (1/ 157 9)، وقوله: “محله الصدق” أي يُظَن به الصدق، وهذا يدل على أنه لا يتهمه من قِبَل دينه وأمانته، إنما يتكلم فيه من جهة ضبطه لروايته.

ونقل صاحب “تهذيب التهذيب” (1/ 158) عن الخليلي في “الإرشاد” أن أبا حاتم قال: “كان ثبتا في حاله” وفي “الكمال” أن أبا حاتم قال: “كان من الثقات”.

وكل هذا لم تسمح أمانة الكاتب أن تشير إليه ولو من بعيد، لأن هذا يخالف ما عزم عليه من طعن إسماعيل في دينه وصدقه، ونعوذ بالله من الهوى!! 

هـ- فَهِمَ اللالكائي لكلام الأئمة في إسماعيل أنه ضعيف فقط، وليس بمتروك، إلا ما كان من كلام النسائي، ويضاف إليه أكثر كلام ابن معين أيضًا، وكلام ابن عدي في “الكامل” يشير إلى أن الرجل ليس بمتروك، فإن مجرد رواية بعض الغرائب لا يدل على ضعف الراوي مطلقًا فضلاً عن تركه، ولكن لهذا تفصيل يعرفه أهل الصناعة الحديثية.

و- وقول الدار قطني: “لا أختاره في الصحيح” لا يلزم منه التضعيف بلْه الاتهام بالكذب، فإنه يقول هذا فيمن هو حجة في نفسه، لكنه دون الكبار في المنزلة، ويقوله فيمن فيه ضعف خفيف ينجبر، وهو وإن لم يختره في الصحيح؛ فقد اختاره في “الصحيحين” إماما الدنيا في الحديث، واللذين هما قدوة الدار قطني في هذا الشأن، أتدري من هما؟ إنهما الشيخان البخاري ومسلم –رحمهما الله تعالى-.

3- وقوله: وحكى ابن أبي خيثمة عن عبد الله بن عبيد الله العباسي ـ وفي بعض الكتب الهاشمي ـ صاحب اليمن أن إسماعيل ارتشى من تاجر …إلخ يُنظر من هذا العباسي أو الهاشمي الذي يحكي هذه الحكاية؟! ولو صحت فالعبرة بحاله في الأخير، وقد رضيه الشيخان، واحتجا به، وتلقت الأمة كتابيهما بالقبول، ولم يُطعن في حديث واحد من رواية إسماعيل –على كثرتها عند البخاري- من جهة صدقه وديانته، وإن تكلم أحد في إسماعيل فمن جهة حفظه، أو قراءته في كتب غيره.

4- وكلام الإسماعيلي في أنه كان يُنسب إلى الخفة والطيش …؛إلخ إن كان بالمعنى السابق عن ابن أبي خيثمة في تفسير كلام ابن معين فلا يلزم منه الترك، وإن كان بمعنى الترك فمن ذا ينسبه إلى ذلك؟ فالإسماعيلي ناقل عن غيره، فمن هم هؤلاء الغير؟ وكذا قول بعضهم: جانبناه للسنة، فمن هم هؤلاء البعض؟ وإن تجنبه البعض فقد احتج به من هم أعلم وأقعد في هذا الشأن.

5- وقول ابن حزم في “المحلى” حاكيًا عن أبي الفتح الأزدي: حدثني سيف بن محمد أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث.

لا أعلم من سيف بن محمد هذا؟ وليس هو ابن أخت الثوري ذاك الكذاب بلا شك؛ لنزول طبقة هذا.

وقد رجعتُ إلى كلام ابن حزم في “المحلى” (8/ 78) فوجدته يقول في سياق الكلام على حديث ما: “وفي إسناده أبو بكر بن أبي أويس، وقد خَرَّج عنه البخاري، إلا أن الموصلي الحافظ الأزدي ذكر أن يوسف بن محمد أخبره أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث” اهـ، فهذا عبد الحميد ابن أبي أويس، أبو بكر، أخو إسماعيل،وكنية إسماعيل أبو عبد الله، وقد أخرج لهما البخاري، فإن صح هذا فكلام الأزدي في غير إسماعيل، على أن الأزدي في متعنت في التجريح، كما صرح الذهبي رحمه الله.

ومما يدل على أن الأزدي لا يرمي إسماعيل بالوضع ما ذكره ابن خلفون في كتابه “المُعْلِم بشيوخ البخاري ومسلم” (صـ93) ترجمة إسماعيل ابن أبي أويس أن أبا الفتح الموصلي –وهو الأزدي- قال: “إسماعيل ابن أبي أويس صدوق ضعيف العقل” اهـ، وهذا يدل على أنه لا يطعن فيه من جهة صدقه وأمانته.

6- وما نقله الكاتب عن سلمة بن شبيب قال: سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول: ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم.

قُلت: أورد الحافظ في “تهذيب التهذيب” (1/ 158) في ترجمة إسماعيل هذه القصة بسنده، فقال: وقرأت على عبد الله بن عمر عن أبي بكر بن محمد أن عبد الرحمن بن مكي أخبرهم كتابةً قال: أخبرنا الحافظ أبو طاهر السِّلَفي أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن بن أحمد الباقلاني أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد غالب البَرْقاني حدثنا أبو الحسن الدار قطني، قال: ذكر محمد بن موسى الهاشمي ـ وهو أحد الأئمة ـ وكان النسائي يخصه بما لم يخصَّ به ولده، فذكر عن أبي عبد الرحمن ـ يعني النسائي ـ قال: حكى لي سلمة بن شبيب، قال: بمَ توقف أبو عبد الرحمن؟ قال: فما زلْتُ بعد ذلك أداريه أن يحكي لي الحكاية حتى قال: قال لي سلمة بن شبيب: سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول…فذكره، قال البرقاني: قلت للدار قطني: من حكى لك هذا عن محمد بن موسى؟ قال: الوزير، كتبتها من كتابه، وقرأتها عليه، قال الحافظ: يعني بالوزير الحافظ الجليل جعفر بن حِنْزابة. اهـ.

والجواب:على هذه الجزئية من وجوه:

أ- ظاهر صنيع الحافظ إقراره بصحة هذه الحكاية، إلا أنه أجاب عن ذلك بقوله: “ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته، ثم انصلح، وأما الشيخان فلا يُظَن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات“، وقد أوضحْت ذلك في مقدمة شرحي على البخاري، والله أعلم” اهـ.

وهذا الجواب من الحافظ يريد به الجمع بين ما صح عنده من هذه الحكاية، وبين مَدْح مَنْ مَدَحَ إسماعيل من الأئمة، وهم: أحمد الذي قال: لا بأس به، وأبو حاتم الذي قال مرة: كان ثبتًا في حاله، وقال مرة:من الثقات، وقال مرة: محله الصدق، وكان مغفلاً، واحتج البخاري ومسلم بإسماعيل هذا، وقال ابن خلفون: إسماعيل ابن أبي أويس هذا مشهور، اتفق الإمامان على إخراج حديثه في الصحيح، وروى عنه جماعة من أئمة الحديث وحفاظهم، انظر “المُعْلِم” لابن خلفون (صـ93) ويُضم إليهم خاله الإمام مالك الذي هجره أربعين يومًا لذهابه إلى حسين بن عبد الله بن ضميرة، الذي لا يرضاه مالك، فهجره مالك لذلك، كما في “الجرح والتعديل” (1/21) (3/58) فلو كان كذابًا عند مالك ـ وهو خاله، وإمام دار الهجرة ـ لهجره نفسه لذلك، لا لمجرد ذهابه إلى راوٍ غير مرضي عنه عند مالك، فيُحمل كلام من شدد فيه الجرح على ما قبل أصلاحه وتوبته، وكلام من وثقه على ما بعد توبته وصلاحه، إلا أن قبول هذا وعدمه راجع إلى بحث آخر، وهو: ما هو الراجح من خلاف العلماء في حكم توبة الكذاب في حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ؟

فالجمهور على عدم قبول توبته زجرًا له، وصيانة للحديث النبوي من أن يختلط به ما ليس منه، ومن عقوبة الكذاب رَدُّ صدقه عليه، وإن جريمة الكذب في الحديث النبوي ليست كالكذب في غيره، فإنها تشريع لما لم ينزله الله تعالى، وخالف في ذلك بعضهم، ورجح قبول روايته حسب قواعد الشريعة التي تقضى بقبول توبة الكافر إذا أسلم، والكفر أشد الذنوب، فكيف بهذه الكبيرة؟ حتى قال النووي في رد قول الجمهور: “هذا كله مخالف لقاعدة مذهبنا ومذهب غيرنا …” انظر “التقريب” للنووي مع “التدريب” (1/553)، وقال في مقدمة “شرح مسلم” (1/70): “ولم أر دليلاً لمذهب هؤلاء …وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحة توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها إذا صحَّت توبته بشروطها المعروفة، وهي الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة …”اهـ.

قُلت: وقد وقفت أيضًا على قبول توبة من وقع في الكذب، كما في ترجمة علي بن أحمد بن الحسن النعيمي انظر “الميزان” ( 5/ 140 ) قال الذهبي ـ رحمه الله ـ: “علي بن أحمد بن الحسن النعيمي الحافظ الشاعر في زمن الصوري، قد بَدَتْ هفوة في صباه، واتُّهِمَ بوضع الحديث، ثم تاب إلى الله واستمر على الثقة” اهـ أي قبله العلماء ووثقوه، وانظر الكلام على أبي العزّ ابن كادش شيخ الحافظ ابن عساكر في “الميزان” (1/ 259) و “الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث” للحلبي (ص: 49ـ50).

ب- هذا الذي ذهب إليه الحافظ ـ حتى لو سلمنا بخطئه ـ هو قول بعض أهل العلم، إلا أن الكاتب لجرأته، وقلة توقيره لمن خالفه -وإن كان حافظ الدنيا ابن حجر- قال بعد كلام الحافظ السابق: “ولجأ صاحب “تهذيب التهذيب” إلى التخمين، فقال: ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته” ثم قال: “والظن لا يغني من الحق شيئا“اهـ.

أقول:لماذا يا أستاذ مجيب إذا لم يعجبك كلام العلماء -وإن كان إجماعًا- تضرب به عرض الحائط، وإذا أعجبك قول بعضهم ترمي بالأدلة التي تخالفهم عرض الحائط؟ لقد سبق من الأدلة التي ذكرها النووي في قبول توبة من وقع في الكذب ما يرد قول من ردها لمجرد الزجر، لأن الزجر إذا وصل إلى درجة أن نرد ما غلب على الظن صحته، بتلقي الأمة له بالقبول، والأمة لا تجتمع على ضلالة؛ ففيه إهدار لبعض السنة، وليس في هذا صيانة للسنة بل تضييع لها، وإذا كان الرسول –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أشار على أبي هريرة بقبول قول الشيطان فيما أصاب فيه، وقال له: “صدقك وهو كذوب“؛ فهل من تأكدنا من صلاح حاله وصدْق توبته من الوضع يكون أشد ضررًا من الشيطان؟!

هذا ولا أذكر –حتى الآن- من وُصف بالكذب في الحديث النبوي، وذكروا أنه تاب، وصلح حاله، إلا إسماعيل هذا، والراويين الآخرين اللذين أشرت إليهما قبل ذلك، وإلا فالغالب على الكذابين الاستمرار في ذلك، مع صفاقة وجْه لا تُوصَف عند بعضهم.                       

ج- إسماعيل هذا قد احتج به الشيخان، ولم يتعقب الدار قطني أحدهما في كتابه “التتبع” في رواية واحدة لإسماعيل لا من جهة صدقه وعدالته، ولا من جهة ضبطه لروايته –فيما أعلم- وكذا لم أعلم أحدًا من الحفّاظ من بعد البخاري ومسلم طعن في حديث إسماعيل في “الصحيحين” أوأحدهما لذلك.

د- البخاري قد أكثر من إخراج رواية إسماعيل هذا، حتى بلغت (229) رواية في “صحيح البخاري” وقد ذكرها مفصلة د/ نافذ حسين حماد في كتابه “قرة العيون بتوثيق الأسانيد والمتون” (ص:36ـ43) فهل يقال: كل هذه الطرق مردودة لكذب إسماعيل بن أبي أويس عندك يا أستاذ مجيب؟

وليس ببعيد أن يرمي هؤلاء الكُتَّاب عددًا آخر من رواة الصحيح بالكذب إذا روَوْا ما يخالف أهواءهم، ويتصيدوا كلمة من أحد العلماء –وإن أخطأ فيها- بتكذيب أحد رواة الصحيح، ويكون “الصحيح” بعد ذلك من أودية الروايات المتهافتة الساقطة، وقد امتلأ برواية الكذابين المتروكين، وعند ذاك فعلى “الصحيحين” السلام، وانتظر الدجال!!

7- البخاري لم يخرّج عن إسماعيل إلا ما صح في نقد البخاري أنه من صحيح حديثه، فقد قال الحافظ في “هدْي الساري” الفصل التاسع (ص: 557): “ورُوِّينا في مناقب البخاري بسند صحيح: أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأَذِنَ له أن ينتقي منها، وأن يعلم له ما يُحدِّث به ليحدث به، ويُعرض عما سواه، وهو مُشْعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه؛ لأنه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح، من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره، إلا إن شاركه فيه غيره فيُعتبَر به”اهـ.

8- واستدلال المؤلف في الطعن في دين إسماعيل بقول النضر بن سلمة المروزي شاذان في إسماعيل: كذاب، كان يحدِّث عن مالك بمسائل ابن وهب اهـ.

قد أجاب الحافظ أبو زرعة العراقي عن ذلك بقوله في “البيان والتوضيح” (صـ56): “وأما قول النضر بن سلمة فغير ضائر لأمرين، أحدهما: أن النضر مجروح، نُسب إلى الكذب، قال أبو حاتم: كان يفتعل الحديث، وسئل عنه عباس بن عبد العظيم؛ فأشار إلى فمه، ونسبه عبد الرحمن بن خراش إلى الوضع، ومن تكن هذه حاله؛ كيف يُحكى كلامه في مثل من احتج به الشيخان فقبله الناس؟والثاني: أن إسماعيل قد تكلَّم فيه أيضًا…” إلى أن قال: “فتبين بهذا أن بينهما عداوة مانعة من قبول كلام كل منهما في الآخر، وهذا على أن النضر أنزل من إسماعيل بدركات” اهـ وسبقه الحاكم في نحو ذلك فقال: “وقد غمزه من يحتاج إلى كفيل، وهو النضر بن سلمة” اهـ من “المدخل” (4/183).

9- ومن الجواب المجمل في ذلك ما صرح به البخاري ـ وهو إمام هذه الصنعة ـ بأنه ما أدخل في كتابه الجامع إلا ما صح …انظر “تاريخ بغداد” (2/ 8) وقال مسلم: “صَنَّفْتُ هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة” انظر “تاريخ بغداد” ( 13/ 101).

وقد أثنى العلماء على الكتابين، حتى قال النووي: “وأجمعت الأمة على صحة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما” كما في “تهذيب الأسماء واللغات” (1/ 74) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : “إن الذي اتفق عليه أهل العلم: أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ومسلم” وانظر “مجموع الفتاوى” (20/ 321) وهذا محمول على ما دون ما انتقده بعض الحفاظ.

وقال ابن خزيمة: “ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري” اهـ من “تاريخ بغداد ” (2/ 27) وقال الترمذي: “لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل “ وقال أحمد بن سلمة : ” رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما” اهـ من “تاريخ بغداد” (13/101) وانظر “قرة العيون” د/ نافذ حسين (ص: 1ـ3، 28) فهل من كان بهذه المثابة يحتج بالكذابين المتروكين، ويملأ كتابه برواياتهم؟ وإذا صح ذلك؛ فهل تسكت الأمة عن هذه الرواية حتى يأتي مجيب الحميدي ومن على شاكلته فينصح الأمة بأن تفيق من سُباتها العميق، أو تخمينها واتباع الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا، وحسن ظنها بمن ليسوا أهلاً لذلك؟!

10- بعد النظر في كلام أهل العلم في إسماعيل يتضح ما يلي:

أن من جرحه جرحًا شديدًا يُحمل كلامه على ما كان منه في أول مره، أو لتساهله في الرواية، وضعْف في حفظه، مما جعله يروي منكرات شديدة، فأُلصقت به، ولم يتعمدها إنما أُتِي من قبل روايته حديث غيره عن وهمْ، فظن من وقف عليها أنها من إسماعيل.

وأن من ضعّفه فقط فباعتبار وجود الوهم والغرائب في حديثه، وسواء كان ذلك لضعف في حفظه، أو لتساهله في الرواية.

وأن من زكّاه وعدَّله فباعتبار حاله بعد توبته، واستقامة حديثه، وموافقة الثقات في روايتهم، واشتهار حديثه بين جمهور الأئمة في زمانه.

11- إسماعيل هذا أكبر من البخاري بخمس وخمسين سنة، وأكبر من مسلم بخمس وستين سنة –كما قال د/ نافذ حسين- والشيخان أخذا عنه بعد ما كبر وانصلح، وأيضًا فإنه قد تواضع وأبرز أصوله للبخاري، فينتقي منها ما يحدث به، ويرد منها ما لا يقبله البخاري، ولو كان كذابًا لما كان كذلك، كما هو معروف من حال الكذابين، مع نُقَّاد الحديث وأطبائه إذا طلبوا منهم إبراز أصولهم.

12- لو سلمنا بأن إسماعيل لا تقوم به حجة؛ فقد روى الحديث عن ابن وهب جماعة تابعوه على روايته، ومعلوم أن المتابعة تقوي من الرواية الضعيفة، فمن هؤلاء:

أ- أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عند مسلم (1709) ك/ الإمارة، وهو صدوق، وسبق رد كلام الكاتب في تضعيفه.

ب- نعيم بن حماد الخزاعي، عند البيهقي في “السنن الكبرى” (8/ 145) وهو صدوق وله أوهام، فمثله – على أقل الأحوال- يُعتبر به.

ج- عثمان بن صالح عند الإسماعيلي، كما في “فتح الباري” ( 13/ 10) وعثمان هذا صدوق.

د- أحمد بن صالح المصري عند الطبراني، كما في “فتح الباري” (13/11) وأحمد ثقة مشهور.

والذي يظهر من صنيع الحافظ أن السند إلى عثمان بن صالح وأحمد بن صالح لا غبار عليه عنده، كما هو معروف من صنيع أهل العلم في إسقاط بعض السند وإظهار بعضه، فلو كان من أسقطه متروكًا؛ لكان بإسقاطه ملبِّسًا على الناس دينهم، مروِّجًا الأحاديث المطّرحة بينهم، والأصل غير ذلك، فهذا لا بأس به في مقام الشواهد والمتابعات.

فكل هذا عُذْر للبخاري ومسلم عند أهل العلم في إخراج هذا الحديث، ويُضم إلى ذلك تلقّي الأمة للكتابين بالقبول، وهذا يورث طمأنينة أعظم من مجرد الوقوف على بعض المتابعات، فرفع الله بهذا قدر كتابي البخاري ومسلم، ورجع الشانئون الذين لا يقيمون للعلماء منزلة إذا خالفوا زبالة أفكار بخفيَّ حنين، والحمد لله رب العالمين.

فإن قيل: هذه طرق في سندها كلام وإن لم يؤثر، إلا أن النفس لا تطمئن إلى الاحتجاج بذلك.

فالجواب: أن هذا العلم له قواعد لا ترجع للأهواء، ولا يُفتح المجال لكُسَير وعُوَيْر وثالث ما فيه خير ليُقَعِّد للأمة خلاف قواعد أركان الحديث وأحْلاسه، فالراوي المضعَّف من قبل حفظه يقوى بغيره وإن كان مثله، كما قال الله تعالى في شهادة المرأة مع المرأة: [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى] {البقرة:282}، فدل ذلك على أن الظن المرجوح الذي لم يصل إلى درجة الخطأ والشذوذ، إذا توبع بمثله قامت بهما الحجة، وفرق بين حالة الانفراد وحالة الاجتماع.

وأيضًا فإن حديث “سيد الشهداء حمزة ورجل قام عند إمام جائر …” وحديث: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” اللذين صدَّر الحميدي مقاله بهما لا تسلم طرقهما كلها أو جلها من طعن لا يخفى على المشتغلين بهذا العلم، والحديث حسن بمجموع طرقه، انظر “الصحيحة” لشيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ برقم (374) مع أن هذا الحديث لم تتلقَّه الأمة بالقبول كحديث إسماعيل هذا، فإياك أيها الأستاذ أن تكيل بمكاييل مضطربة!!.

13- وهناك أيضًا ما يقوي رواية إسماعيل ومن تابعه: فقد أخرج البزار الحديث في مسنده برقم (2698) بلفظ: “إلا أن يأمروك بالكفر صراحًا” بالراء وفي سنده محمد بن كثير المصيصي، وهو صدوق يخطئ كثيرًا، وفيه أيضًا يحيى ابن أبي كثير وهو ثقة ثبت لكنه يرسل ويدلس، وقد عنعن عن جنادة، لكن هذه الطريق لا تنح

 عن درجة الاستشهاد بها، والله أعلم..

وهناك رواية أخرى لكنها من كلام عبادة بلفظ:

“إلا أن ترى كفرًا براحًا” بالراء بدل الواو أخرجها ابن أبي شيبة (7/ 464/ 37247) وسندها ضعيف؛ لأن بكيرًا يحكي قصة لم يدركها، وهي لا تضر الرواية الثابتة.

هذا، وقد دافع الحافظ أبو زرعة العراقي عن إسماعيل ابن أبي أويس، ورد كل ما قيل فيه –وقد أتيت به مفصلاً وزدت عليه- انظر “البيان والتوضيح لمن أُخرج له في الصحيح، ومُسَّ بضرْبٍ من التجريح” (صـ56) وقد ذكر الذهبي إسماعيل هذا أيضًا في كتابه “من تُكُلِّم فيه وهو موثَّق أو صالح الحديث” برقم (33) صـ (102) مما يدل على أنه لا يرى قول من رماه بالوضع.

14- على أن إسماعيل بن أبي أويس هذا الذي قد روى عن ابن وهب هذا الحديث بلفظ: “إلا أن تروا كفرًا بواحًا …” الحديث؛ روى الحديث أيضًا عن خاله مالك عند البخاري برقم (7199 ـ 7200) بلفظ: “وأن نقوم ـ أو نقول ـ بالحق حيثما كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم” مما يدل على أنه لا يرى تعارضًا بين الروايتين، والروايتان أخرجهما البخاري المحدث الفقيه، ولم ير التعارض الذي اكتشفه الحميدي، بغوصه الذي ما خرج فيه إلا بخزفة منكسرة، كما قال الجوزجاني في رواية مالك عن ابن أبي المخارق.

15- قول الأخ مجيب الحميدي مادحًا النسائي في عدم إخراج حديث إسماعيل بالرواية الموضوعة في نظره!!: “وأورد ـ أي النسائي ـ روايات الجهر بكلمة الحق دون أن نخاف الله لومة لائم، وسمى الباب: باب البيعة على القول الحق” اهـ.

قُلت: لا يزال هذا الرجل سادرًا في طريق الكتمان لكل ما يخالفه، مصادرًا لكل ما لا يوافقه، كأن الناس لا يرجعون إلى مصادره التي نقل منها ليعرفوا صحة ما يحكيه من عدمه، ولو كان قرَّاء الصحف كذلك – إلا من رحم الله- فيجب أن يدرك أن الحال سيختلف إذا كان الذي يحاوره طلاب العلم، وعلى كل حال فبالرجوع إلى “سنن النسائي” ( 7/ 137 ـ 140) من الحديث (4149 ـ 4154) في ك/ البيعة؛ وجدت أن النسائي قد بوّب لهذا الحديث بخمسة أبواب لا بباب واحد كما هو ظاهر كلام الحميدي، فقد قال::

باب البيعة على السمع والطاعة، وذكر الحديث تحت هذا الباب وما بعده من أبواب وهي:  

باب البيعة على أن لا ننازع الأمر أهله.

باب البيعة على القول بالحق.

باب البيعة على القول بالعدل.

باب البيعة على الأثرة.

فلما لم يذكر هذا الرجل تبويبات النسائي لهذا الحديث نفسه التي لا تعجبه، وهي: الباب الأول والثاني والخامس؟!! إن هذا ليدل على أن الرجل لا يهمه بيان الحق بقدْر ما يهمه نصرة قوله كيفما كان، والغاية تبرّر الوسيلة، وهذا من شؤم الاعتقاد ثم الاستدلال!!

التعقيب الثامن: استدل الكاتب بوجود روايات فيها استبدال الكفر البواح بالإثم البواح، أو المعصية، أو المعصية البواح، وذهب إلى أنها لا تعضد رواية الكفر البواح لأن راويها عند البخاري كذاب ، -زعم!! ـ والزيادة من الكذاب غير مقبزلة، وروايها عند مسلم ضعيف، وقد سبق الكلام على طعنه في إسماعيل بن أبي أويس وأحمد ابن أخي ابن وهب، وأنهما ليسا بحاجة إلى من يعضد روايتهما في ” الصحيحين “.

وأيضًا: فرواية الكفر البواح أصح إسنادا ومخرجًا وتَلَقِّيًا عند الأمة من رواية الإثم البواح، كما لا يخفى.

ورواية الإثم المباح أو المعصية عامة، ورواية الكفر البواح خاصة، فيُحمل العام على الخاص.

وهناك وجْه آخر في الجمع بين رواية المنازعة عند رؤية الكفر، والمنازعة عند رؤية المعصية، قال الحافظ في “الفتح” (13/12) وبعد ذكره كلام النووي في تفسير الكفر بالمعصية: “والذي يظهر حَمْل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية، فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحَمْل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية، بأن يُنكر عليه برفق، ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرًا، والله أعلم” اهـ.

التعقيب التاسع: قوله: ” وأخيرًا، أود الإشارة إلى أن صياغة هذا الحديث هي صياغة إخبارية، ليس فها توجيه من الرسول الكريم إلى سائر الأمة، ونص الحديث ليس أكثر من مجرد إخبار عن واقعة تمت في عصر صاحب الرسالة ” اهـ.

والجواب من وجوه:

أ- هذه فلسفة باردة يراد من ورائها ردُّ الحديث المتفق عليه، لكن كما يقال: ليس هذا عُشَّك فا دْرجي!!

ب- كيف يقال: “ليس فيها توجيه من الرسول الكريم إلى سائر الأمة” والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول: “لا تنازعوا الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا …” فهذا نهي صريح، وليس مجرد إخبار يا أستاذ!!

ج- لعل الكاتب يعني أن حكاية عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قصة البيعة لرسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مجرد إخبار، فيقال: نعم، هذا إخبار بالقصة من عبادة، لكن حكى أيضًا حكما شرعيا تضمنه هذا الإخبار، وهو نهْي رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن المنازعة إلا بقيد رؤية الكفر البواح.

د- قد يكون الإخبار باللفظ متضمنًا معنى الأمر، كما في قوله تعالى: [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا ] {آل عمران:97}  أي يلزم أن تؤمِّنوه، وقد يكون العكس، والأمر مفصل في موضعه من كتب أصول الفقه، وهذا الحديث قد تضمن حكمًا وقع على مدلوله إجماع العلماء، ومن خالف بعد ذلك فهو محجوج بهذا الإجماع.

هـ- معلوم أن عبادة –رضي الله عنه- زمن هذه البيعة كان يأتمر بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولم يكن ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ المقصود باحتمال صدور الكفر البواح منه –ولا دونه- وإنما المراد من يأتي بعد ذلك، وقد عصم الله الخلفاء الراشدين عن ذلك، فهذا الخطاب وإن كان لعبادة، فالمراد من يعاصر من الأمة هذا الحال، وإن بَعُد زمن وجوده.

و- لقد أشار الكاتب إلى ترجيح رواية الإثم البواح أو المعصية،ونقل كلام النووي الذي لا يجيز المنازعة إلا عند المنكر المحقَّق حسب قواعد الإسلام، ولسان حال الكاتب يقول: لا حاجة إلى ترك المنازعة إلا عند رؤية الكفر البواح، بل يكفي في ذلك رؤية المعصية المحققة، فهل لنا أن نستدل بما ذكر من أن صياغة الحديث إخبارية فقط، وليس فيها توجيه نبوي إلى سائر الأمة، فلا حاجة في الحديث على المنازعة عند وجود المعصية المحقَّقة؟! أم حلال له حرام على أهل العلم والهدى؟!

 التعقيب العاشر: قوله: وقد ثبت في “صحيح مسلم” أن بعض الصحابة كان يرى أن بيعة السمع والطاعة كانت لرسول الله ـ صلى الله عله وعلى آله وسلم ـ خاصة، إذْ روى مسلم عن عبد الله بن زيد أنه قال: لا أبايع على هذا أحدًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ” اهـ.

والجواب من وجوه:

أ- ماذا يريد أخونا الحميدي من إيراده هذا الحديث؟ هل يريد أن أولياء الأمور بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لا تحل لهم البيعة على السمع والطاعة في المعروف لقول هذا الصحابي؟! إن كان كذلك؛ فماذا يقول في بيعة الخلفاء الراشدين ومن كان من الأئمة العدول بعدهم وإن قلُّوا؟ هل يرفضها فيضل ضلالاً بعيدًا، أو يقبلها فيتناقض؟!!

ب- لو وصل إلى الرئاسة رجل من حزبك أيها الأستاذ، هل ترى بيعتة والسمع والطاعة له في المعروف أم لا؟

فإن قلت: نعم -وهذا الذي يظهر من حالك- تناقضت، وإن قلت: لا؛ فتحت باب الشر على مصراعيه!!

وقد قامت الأدلة المتواترة على وجوب نصْب أمير على الناس، يسوسهم، ويرعي مصالحهم، فمنهم من وفَّى بذلك، ومنهم من نكث، وعند الله تجتمع الخصوم!!

ج- البيعة المذكورة في هذا الحديث –أيها الأستاذ- ليست البيعة على السمع والطاعة التي يدور البحث حولها، ولكن التلبيس شعار من لم يسلك مسلك العلماء الصادقين البررة، إنما هذه البيعة كانت على الموت وعدم الفرار، فقد جاء في “صحيح البخاري” ك/ الجهاد والسير، ب/ البيعة في الحرب أن لا يفروا، وقال بعضهم: على الموت، برقم (2959) وأخرجه مسلم في ك/ الإمارة برقم (1861) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا عمرو بن يحيى عن عبّاد عن عبد الله بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال: “لما كان يوم الحَرَّة؛ أتاه آتٍ، فقال له: إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت، فقال: لا أبايع على هذا أحدًا بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ”.

والمراد بذلك أنه بايع رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يوم الحديبية على الموت، لما جاءهم خبر قتل قريش عثمان ـ رضي الله عنه ـ فكانت بيعة خاصة، وعلى أمر خاص، ويدل على ذلك أيضًا حديث سلمة بن الأكوع الذي أخرجه البخاري بعد هذا الحديث مباشرة برقم (2960) وكل من دون رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فغير معصوم لا يتعين في حق الشخص أن يفديه بنفسه، بخلاف رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فله حكم خاص، وقد قال الحافظ في “الفتح” (6/ 144) في شرح هذا الحديث: قال ابن المنيِّر: “والحكمة في قول الصحابي: إنه لا يفعل ذلك بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه كان مُسْتَحَقًّا للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على كل مسلم أن يَقِيَهُ بنفسه، وكان فرضًا عليهم أن لا يفروا عنه حتى يموتوا دونه، وذلك بخلاف غيره” اهـ, وانظره بمعناه من كلام القسطلاني في “إرشاد الساري شرح صحيح البخاري” (6/ 438 ).

فتأمل كيف يمعن الرجل في التلبيس والتمويه إلى هذا الحد!!

التعقيب الحادي عشر: قوله: وقد فسّر ابن مسعود أحاديث الطاعة والجماعة بأن الطاعة طاعة الله ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ، والجماعة أن تلزم الحق، ولو كنت وحدك ” اهـ.

والجواب: نعم، الطاعة في المعروف، والجماعة هي الحق مهما كثر المخالفون، لأن الحق أحق أن يُتَّبع، ولأن الحق لا يُعرف بالكثرة، إنما يُعرف بأدلته، لكن ليس معنى هذا أنه إذا حصل تقصير من ولي الأمر في الحق أن يخرج الناس عليه، بحجة أن الجماعة هي الحق ولو كنت وحدك!! لما يترتب على ذلك من مفاسد أشد ضررًا من تقصير الوالي.

وقد قال ابن مسعود ـ نفسه ـ وهو يخطب: “يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما السبيل إلى حبل الله الذي أمر به، وإن ما تَكْرهون في الجماعة خير مما تُحِبُّون في الفُرْقة” وانظر تخريجه في حاشية “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” للالكائي (1/ 179 ـ180) برقم (159).

ثم إن هذا القول الذي نقله الكاتب عن ابن مسعود -رضي الله عنه- إنما هو بمعنى قول من قال: “لا تستوحش من قلة السالكين، ولا تغتر بكثرة الهالكين” والمراد الثبات على الحق وإن خالفك الناس، ولا يريد بذلك حث الناس على الخروج على الجماعة، فإن الجماعة ينظر لها من جهتين: سنة وجماعة، أي اتباع واجتماع، فمن ناحية السنة لا يجوز تحريف الكلم عن مواضعه، والحق لا يتبع الرجال، إنما الرجال هم الذين يتبعون الحق، وعلماء السنة هم أعظم من رفع رأسه بالدفاع عن السنة، فلا يستطيع مُبْطَل أن يزيد حرفًا يغير المعنى عن رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلا وتناوله الجهابذة من المشارق والمغارب، وأما من ناحية الجماعة فلا يجوز التفرق والتنازع، ويُنْظر الموازنة بين المصالح والمفاسد في الحال والمآل قبل أي عمل يفضي إلى سقوط هيبة المسلمين.

وأيضًا قوله: “الجماعة هي الحق” فالحق منه الدعوة إلى الجماعة القائمة بأمر الله، ومنه الصبر وعدم المنازعة عند ما يقع خلل من حاكم صاحب شوكة، ويكون الخروج عليه أشد ظلمًا، وأسرع في استئصال الأمة وكيانها، وهذا هو قول أهل الحق، فلا تعارض ولا تضارب، ولله الحمد.

ثم أين تمسُّك كثير من هؤلاء الكُتّاب بالحق العتيق وإن هجره جمهور الناس، وصار المرء منهم وحده؟ ألسنا نرى كثيرًا منهم مفتونين بالنظم الغربية التي لا يرفع كثير منها بثوابت السنة رأسًا؟!

إن الذين يتمسكون بالحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى –حقًّا- هم أهل السنة الذين ما برح هؤلاء الكُتاب أن يطعنوهم في النحر والصدر والظهر، لكن الأمر كما قال تعالى: [إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا] {الحج:38} وقال سبحانه: [أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] {الزُّمر:36}  وقال سبحانه: [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] {غافر:51}  فحسبنا الله ونعم الوكيل.

وبهذا ينتهي هذا الرد، واللهَ أسألُ أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ناصرًا للدين وأهله، دافعًا عني وعن والدي وأهلي وذريتي وإخواني وذرياتهم مصارع السوء والهلكة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                                                  كتبه

                                                        الفقير إلى عفو ربه الغني بجوده وكرمه وستره

                                                         أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني

                                                              دار الحديث بمأرب

                                                                18 / 7/ 1430 هـ.