الردود العلمية المقروءة

إتحاف الكرام بكشف ما وقع فيه الدكتور أحمد الدغشي من الوهم والإيهام

الحمد لله وكفي، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فقد وقفت على مقال في صحيفة “الناس” العدد (457) بتاريخ 5/8/1430هـ – 27/7/2009م الصفحة (13) للدكتور أحمد بن محمد الدغشي – حفظه الله- بعنوان: “السلفيون والعمل السياسي … جدلية العلاقة بين المركز والأطراف” ومع أنني لا أعرف الدكتور إلا أنني أجد فهمًا حسنًا وتقعيدًا في بعض مقالاته؛ غير أنني رأيت في بعض المواضع من هذا المقال بُعْدَه عن المنهج العلمي في البحث والتوصيف والحكم، ولا يمنع أن يكون لكل جواد كبْوة، “وكل بني آدم خطّاء…” وكما قيل:

ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها              كفى المرء نُبْلاً أن تُعَدَّ معايبه

ولعل الذي حمل الدكتور – جزاه الله خيرًا- على ما قال عدَّة أسباب، منها:

أ- أنه بعيد عن الاحتكاك والتعامل معي ومع كثير من الوسط السلفي الذي ينتقده في هذا المقال، وليس هذا عيبًا في ذاته، لكن لذلك تأثيره على حكم الرجل على مخالفيه، ولا شك أن القريب يرى ما لا يرى البعيد، وأن مادة البعيد قد تكون عن عدد من النقلة، وكما قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها!! نعم قد يطلع الناقد على كتاب أو أكثر لمن يتكلم عنهم، لكن ذلك غير كافٍ إذا أراد أن يطلق حكمًا عامًّا على منهج شخص بعينه، لا حكمًا على منهجه في الكتاب الفلاني، ومما يدل على بُعْده عمن ينتقدهم: الواقع العملي، وكونه يحكي أمورًا لا واقع لها، ومن ذلك ما ذكره أن الحجوري متزوج ببنت شيخنا مقبل – رحمه الله- وليس كذلك، كما أنه يحكي أمورًا عنَّا، كأنه يتكلم عن أناس آخرين!! وكما قيل:

يا ابن الكرام ألا تدنوا فتبصر ما             قد حدثوك فما راءٍ كمن سمعا

ب- أن الدكتور – حسب ما أخبرتُ- يعمل مع جماعة إسلامية معينة، وهي جماعة الإخوان المسلمين، وهي جماعة – في الجملة- لها فهمها وأسلوبها ونظرتها لمن خالفها، ولا شك أن المجالسة تؤثر، كما قيل: من جالس جانس، لاسيما مع البعد عن الطرف الآخر، فقد لا يبلغه عنهم من الجوانب المشرقة مثل ما يبلغه عنهم من الجوانب المظلمة!!

ج- إرخاء الدكتور العنان – في بعض المواضع- لسوء الظن، والغوص في نيات من لا يعرفهم، وربما ما رآهم أصلاً، وفي هذا من مجانبة أساليب البحث العلمي ما لا يخفى، وقد قيل:

ولا تعجل بظنِّك قبل خُبْرٍ                   فعند الخُبْر تنقطعُ الظنونُ

 وإن مما يُؤْسف له أن رجلاً بهذه المكانة العلمية والتربوية: فقد حصل على شهادة الدكتوراة، وقبلها شهادة الماجستير، وقضى في سبيل ذلك سنواتٍ طوالاً، وتمرَّس في أساليب البحث العلمي، الذي من أهم معالمه: التجرد من القناعات السابقة أثناء البحث، وترجيح ما تشهد الأدلة العلمية برجحانه وإن خالفه من خالفه، وإنصاف المخالف، والاعتماد على الحقائق العلمية لا الخيالات الوهمية، كما أنه يدرِّس طلابًا جامعيين، في أكبر جامعة في اليمن، وهي جامعة صنعاء، في أصول التربية وفلسفتها، ثم يصل إلى هذا الحد من الانحدار البحثي العلمي، يا لله العجب!! وعفا الله عنا وعنه!!

التعقيب الأول: ذكر الدكتور أنني أنازع يحيى الحجوري على الخلافة بعد شيخنا مقبل الوادعي – رحمه الله- فما هو دليله على ذلك؟ هل قرأ أو سمع لي كلمة واحدة تدل على ذلك؟ فإن كان كذلك؛ فأين هي من كتبي ومجالسي المسجَّلة وغير المسجّلة؟! فإن لم يكن معه دليل؛ فليُدْرك أنه أُتي من سوء الظن، والله عز وجل حذَّر من ذلك، فقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] {الحجرات:12} وقد ذكر الله عز وجل أن الكفار أهل أوهام وظنون، وليسوا على يقين في أمرهم، كما قال تعالى حاكيًا عنهم: [إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ] {الجاثية:32} فنعوذ بالله من التشبه بهم في قليل أو كثير، وقد قال تعالى: [إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا] {يونس:36}  وقال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث” متفق عليه.

واعلم أيها الأخ الكريم أن قولك هذا ليس له من الحق نصيب، إنما هي تحليلات كُتّاب وصحفيين، وأنت أجلَّ من ذلك، والرفعة إنما تكون بطاعة الله عز وجل، لا بالإمامة، ولا الخلافة، ولا الجلوس على كرسي فلان أو فلان، كما قال الله عز وجل: [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {النحل:97} .

التعقيب الثاني: ادّعى الدكتور – غفر الله لي وله- أن انحياز الشيخ ربيع المدخلي للحجوري ضدي هو السبب في تحولاتي الجديدة ومخالفاتي لمدرسة المدخلي المحمودة عنده وعند غيره، ، ومَثَّل بعدة أمور لهذه التحولات، مشيرًا إلى الحوار الذي نُشر عني في صحيفة “الناس” العدد (456) ثم قال: “غير أن ذلك لا يُغيِّر من تصنيف اتجاه المأربي في إطار هذه المدرسة؛ لأن ذلك التحول – في ظن صاحب هذه السطور- ليس نابعًا عن قناعة علمية أو فكرية، أو دراسة منهجية جادة، بل عن ضرورة ألجأتْ إليها الانشقاقات في إطار مدرسته الأُم، بمعنى أنه من غير المستبعد رجوعه إلى مدرسته القديمة، فيما لو حدثت متغيرات ما، دفَعَت المدخلي للتخلي عن خصمه الحجوري، وإعلان قبوله للمأربي بديلاً عنه”اهـ

والجواب من وجوه:

1-      (أيا دكتور) لا تَعْجَلْ علينا  *****  وأنْظِرنا نُخَبِّرْك اليقينا

لقد أغرقت أيها الدكتور في الأوهام والجري وراء السراب، وغُصْت في الأعماق فرجعتَ بخزفة منكسرة، ولو راجعت نفسك أدنى مراجعة لما رضيتَ لنفسك بل ولا لأحد طلابك أو القراء لك بهذا المستوى العلمي البحثي، ولكن الموفَّق من وفقه الله.

وفي الشك تفريطٌ وفي الجزم قوةٌ             ويخطئ في الحَدْسِ الفتى ويُصيب

2- اعلم أيها الرجل الفاضل أن الشيخ ربيعًا لم يُؤْثَر عنه مدح يُذْكر للحجوري وغيره من المخالفين مقارنة بمدحه لي عندما كان طامعًا في أن تلين قناتي له، أو أن أكون بوقًا لفكره الغالي وأطروحاته الجائرة عن سواء الصراط، وأن سيل المديح لهؤلاء المخالفين ما سال منه إلا بعد أن قشرْتُ العصا لهذا الفكر المنحرف، فجئتَ أنت –سلمك الله لما سبق من أسباب- فقلبْت القضية، وعكسْت الأمر، وها هي كتب الشيخ ربيع وأشرطته، فاذكر لي – إن كنت تعرف الأمر الذي خُضْتَ فيه- شيئًا من مدحه لهؤلاء مقارنة بمبالغته في مدحي وإطرائي ووصْفي بما ليس فيَّ، فإن عجزْت؛ فاستغفر الله مما ظلمت به أخاك، وهتكت به حُرمة مِن الحرمات!!

وهذا بعض مدحه لي؛ لتعرف – أيها الدكتور- أنني صِحْتُ بالنكير عليهم، وأنا المبجَّل فيهمُ، لا بعد أن قلاني واحتضن غيري، كما تصوِّرني كأني صاحب هوى!!: فقد ذكر في كتابه “النصر العزيز على الرد الوجيز” (صـ94) ط/ مكتبة الغرباء (1417هـ) عددًا من العلماء الذين يستدل هو بمنهجهم في الجرح والتعديل، ويفتخر بأنه على طريقهم، فذكر سماحة شيخنا الشيخ ابن باز – رحمه الله- ومحدِّث العصر شيخنا الألباني – رحمه الله- وكذا صاحب الفضيلة الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله-  ثم قال: “وعلماء السنة في اليمن، ولاسيما نابغتهم المتخصص في الجرح والتعديل أبو الحسن المصري المأربي…” وقال في رسالته لي بعد قراءته كتابي “السراج الوهاج”: “الأخ العلاَّمة الفاضل السلفي المجاهد” كما هو منشور في “الدفاع عن أهل الاتباع” وأما ثناؤه في المجالس فأكثر من أن يُحصر، بل قد طلب مني أن أتفق معه على ما يقول في الرجال والطوائف، ولا يبالي بمن خالفه بعد ذلك، لكن الأمر دين، وكان يعرض عليّ بعض كتبه لأنظر فيها قبل طباعتها.

3- لقد حاول الشيخ ربيع احتوائي، إلا أن كثيرًا من المجالس التي تجمعني به كانت مجالس مناظرة واستنكار لكثير من أساليبه وقواعده، فلما عجز صَرَّح بعدائه لي، حتى قال في (صـ16) من انتقاد برقم (31) على كتابي “السراج الوهاج” المكتوب في عام (1418هـ) أي قبل موت شيخنا مقبل – رحمه الله- بأربع سنوات، فقال: “انظر إلى صَبْرِنا على هذه العظائم من قديم، فلم نكشف مكايده، ترفُّقًا به، لعله يرجع إلى صوابه، ولكنه يتمادى ويَخُبُّ إلى الفتنة خبًّا ليشعلها..” اهـ فها هو يعترف بمشاقتي لكثير من أطروحاته، مع تلطفه معي، والدكتور يصوِّرني بخلاف ذلك!! وفي (صـ18) من “انتقاده” قال الشيخ ربيع: “تنبيه: أُلْفِتْ نظر العقلاء إلى مدى اللطف والاحترام اللذين بذلتهما لهذا الرجل في هذه الملاحظات عند كتابتها الأولى، وصبري عليه من التاريخ المشار إليه، بل من قبله سنة 1416هـ، …. وهو سادر في المخالفات والمواجهات السرية والعلنية، وإني لا أظن أن أحدًا يصبر على بلاء يعرفه ويستيقنه مثل صبري على هذا الرجل وأمثاله وأعوانه…” اهـ وانظر هذا وغيره في كتابي في الرد على الشيخ ربيع ومدرسته: “الدفاع عن أهل الاتباع” (1/183-186).

ولما كتبتُ كتابي “السراج الوهاج بصحيح المنهاج” (1418هـ) واطلع عليه الشيخ ربيع أبدى ملاحظات شكليّة وضّحتها في “الدفاع عن أهل الاتباع” فلماظهر خلافي معه – وقد كنتُ أرجو أن ينصلح حاله وفكره دون إظهار الخلاف- قال في مقدمة “انتقاده” على “السراج الوهاج”: “إنني عندما راجعت الكتاب، علمتُ أنه يقصدني بذلك، وقد كنت مستيقنًا بلاءه منذ عام 1416هـ”اهـ فتأمل إفراطه في مدحي في (1417هـ) وأنينه لكثرة مخالفاتي له – قبل أن يظهر بيننا خلاف- ثم يأتي الأستاذ المشارك في كلية التربية بجامعة صنعاء فيحلِّق في غياهب الخيال، ثم يقول ما قال!!

4- لو كان عند الدكتور – حفظه الله- علم بسبب الخلاف الذي بيني وبين رأس وأقطاب مدرسة الغلو هذه؛ لعلم أن جُلَّ عمدتهم في الطعن فيَّ أنهم أتوا بفتاوى لي قديمة وحديثة تخالف غلوهم، وعدُّوا ذلك – حسب فهمهم- تمييعًا للدعوة، حتى قال الشيخ المدخلي: “إنه إخواني منذ وطئتْ قدماه اليمن” وكل هذا يدل على أنني أظهرت انحراف هذه المدرسة من وقت مبكِّر، وقشرْت لها العصا، وتتبعتُ شاردهم وفلولهم حتى أظهرت فسادها وانحرافها – وإن كانوا من جملة أهل السنة- وأن ذلك قديم وليس بجديد، وأن ذلك عن قناعة علمية، ودراسة متجردة، واستقراءٍ واسع قد أقرَّ به الموافق والمخالف، وليس مجرد أنفة وغضب يزولان إذا مدحني ربيع أو غيره، فو أسفاه على الحال الذي وصلْت إليه أيها الأخ الكريم، وكما قيل:

أتاك المرجفون بأمر غيبٍ                    على دهشٍ وجئتك باليقين

5- لو سلَّمنا جدلاً بصحة ما ظنه الدكتور فيَّ؛ فهل من أساليب التربية أيها الأستاذ أن تبوح بما بُحْتَ به، وأن تنشره على الملأ؟ هل في هذا إعانة لأخيك في الثبات على ما تعتقده أنت تحوّلاً محمودًا؟ أم هو إعانة للشيطان عليه؟ أهكذا تكون أصول التربية وفلسفتها؟!

وقد ذكَّرني مقال هذا الدكتور المربِّي بحال محاضر في إحدى المحاضرات عن الأدب، والتلطّف في الخطاب، والمحافظة على شعور الآخرين، فقدّم له أحد الحاضرين سؤالاً لم يعجبه، فلما قرأه أو قُرئ عليه، قال: من هذا الحمار صاحب هذا السؤال؟ فضحك الحاضرون لكون الدكتور كان أول من خالف كلامه، ودكتورنا أستاذ في التربية فأين أثر هذه التربية في مقاله هذا؟!

(تنبيه): ما كنت أحب أن أكتب في هذا الموضوع انتصارًا لعرضي – وإن كان ذلك جائزًا- بخلاف الانتصار للدعوة وثوابتها، لكن ألجأني إلى ذلك نشر هذه الادعاءات والتجاوزات على الناس في الصحف، وهي محض تقوُّل وأوهام، وقد تركت بعضها اختصارًا، وآمل أن يقرأ الدكتور كتابي “الدفاع عن أهل الاتباع” و “السراج الوهاج بصحيح المنهاج” ليقف على شيء من الحقيقة قبل الكلام عنِّي وعن المخالفين، وحينها:

خذ ما رأيت ودَعْ شيئًا سمعتَ به                    في طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحَلِ

والله الموفِّق.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كتبه

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني

دار الحديث بمأرب

8/شعبان/1430هـ