الردود العلمية المقروءة

مقالات جابر زايد وثابت الأحمدي بين سوء الفهم وصناعة الوهم

الصحافة مرآة المجتمع، ومهنة شريفة، لكن إذا انحرفت عن مسارها، واستُؤْجِرتْ أقلامها،وتطاول كُتَّابها، وشرَّقت بهم الأهواء وغرَّبتْ؛ برز على صفحاتها ما يندى له الجبين، ولم تسلم منه حتى الثوابت وأصول الدين، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت!!

ولقد اطلعتُ على مقالين في جريدة “الأهالي” في العدد (98) وبتاريخ 29/6/1430هـ للأخوين: زايد جابر وثابت الأحمدي، مقال الأول بعنوان: “الحاكم يلجأ لتيار ذيل بغلة السلطان” ومقال الثاني بعنوان: “ولي الأمر صناعة بشرية لا تنزيلات سماوية” وكلاهما رد على الشيخ عبد العزيز الدبعي رئيس جمعية الحكمة اليمانية – حفظه الله تعالى- وإن كانت هناك مقالات أخرى لحقتْ في الجريدة نفسها من الأخ زايد جابر، إلا أنها لا تستحق الرد عليها لهشاشتها ومبالغتها في الخيال والظن الكاذب، فرأيت الرد على هذين المقالين وكاتبيهما لمبالغتهما في التجاوز، والظلم، والتحريف، والغوص في النيات بما لا دليل لأحدهما عليه، ولتجاسرهما على بعض ثوابت الدين، وتطاولهما في أعراض علماء الأمة قرنًا بعد قرن، مع الغمز واللمز، والطعن والوخز، ولتشبُّعهما بما لم يُعْطَيا، وكأنهما منظِّران ينظِّران للأمة في المسائل المصيرية، والقضايا الدموية، التي ما تترك بيتًا إلا أدخلت فيه الحزن، والتي لو عُرضت على أهل بدر؛ لما تجرأ كثير منهم على الفتيا فيها، ولو عُرضت على عمر – رضي الله عنه- لجمع لها أهل الشورى، لكن من لم يعرف قدر نفسه؛ فإنه يهرف بما لا يعرف، ويهري بما لا يدري، وطالما أنه واثق بأن جمهور القراء له لا يخوضون في هذه الأمور بأصول علمية، إنما ينطلقون من أحاسيس عاطفية؛ فلا بأس أن يقذف لهم على موائدهم بما لو مُزج بماء البحر لأنتنه، ولكن هكذا تكون غربة الحق بين أهله، وفي وطنه، وعلى ألسنة أبنائه!! وقد اختصرت هذا الرد، وإلا فقد أُعد الجواب عليهما مطوّلاً لطبعه كتابًا يكشف عدوانهما، وقدرهما، وضممت إليهما ردي على الأخ مجيب الحميدي في مقال له، وليظهر الحق في رونقه وصفائه بعيدًا عن انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، ما بقي له أن يبقى.

وهذا الرد ليس دفاعًا عن حاكم أو محكوم، ولو فعلتُ ذلك بالحق لكنت مأجورًا غير موزور – إن شاء الله- فإن ردَّ الظلم عن أي مسلم كان من القربات إلى الله تعالى – بل حتى عن كافر- لكن المقام مقام الدفاع عن ثوابت الملة، وفقهاء الأمة، وحفظ لكيان الأمة من الاستئصال، وتزييف لما يفضي إلى الزيغ والضلال!!

لقد أوسعا هذان الكاتبان – جمعًا وتفريقًا- علماء السنة سبًّا ووخْزًا وطعنا، فرمياهم بأنهم تيار ذيل بغلة السلطان، وأنهم دافعوا عن يزيد بن معاوية، وبرَّرُوا قتل الحسين – رضي الله عنه- وأن أفكارهم أفكار عتيقة تُعَدُّ امتدادًا لأفكار الجبرية التي دشنتها الدولة الأموية، فمثَّلت معول هدْم وسَحْق وإبادة وتخلف لأمة الإسلام، وهو ما يمثل بالنهاية امتدادًا للتخلف والجهل، وأن ما عليه علماء السنة هو الفقه البدوي، وأنهم فقهاء البلاط الذين أضفوا على الحاكم صفة العلوية والقداسة، وجعلت منه نصف إله، وأنهم الفقهاء التقليديون، وأصحاب المنطق التبريري، وأنه لولا وجود أمثالهم المقربين من الحكام لما تجرأوا على الافتراء على الله وخداع الأمم والشعوب، وأنهم جنوْا على أمتهم وشعوبهم، وخدّروهم بأحاديث موضوعة – أي بعض ما في الصحيحين!!- وأنهم حشروها في أدمغة الأمة وسوّقوها، وأحسنوا تسويقها مقابل الأحمرين!!

ولا شك أن السب لا يعجز عنه أحد، وأنه بضاعة المفلسين من الحجج القاهرة، والبراهين الظاهرة، ومن قصُر برهانه طال لسانه، ولكن العبرة بالدليل لا مجرد الأقاويل، فأقول مستعينًا بالله تعالى:

التعقيب الأول: استنكر الأستاذ زايد جابر صنيع علماء السنة الذين يُحَذِّرون الأمة من الخروج على الحاكم الممكَّن ذي الشوكة، لأن ذلك يفضي إلى مفسدة أكبر، فقال متعجّبًا: “كيف يمكنهم إقناعنا أن هذا التأليه للحاكم هو موقف السلف الصالح للأمة في القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية“؟

والجواب من وجوه:

1- أهل السنة يقولون بطاعة الحاكم في المعروف فقط، فإذا أمر بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا شك أن هذا ليس تأليهًا كما يزعم الكاتب، بل هذا صريح النصوص والإجماع والآثار التي سنقف عليها.

2- طالما أن الكاتب قد اعترف بأن القرون الثلاثة مشهود لها بالخيرية؛ فسأنقل له من كلام أئمة هذه القرون وما بعدها ما يدل على صحة قولنا، فإن كان الكاتب يسير على نهج أئمة القرون الثلاثة حقًّا لا ادِّعاءً؛ فليأت لنا من كلامهم بما يدل على أنهم قد أجمعوا على كلامه، وإلا فهذا ثناء منه عليهم لا قيمة له في الواقع، لأنهم إذا كانوا أهل خير؛ فلماذا لا يتبع منهجهم من الناحية العملية؟! وهذا هو قولنا دائمًا: كتاب وسنة على فهم سلف الأمة، والله عز وجل يقول: [وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] وقال – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،ثم يفشو بعد ذلك الكذب…” متفق عليه.

3- وهذه أقوال لبعض العلماء في القرن الثالث تدل على صحة قولنا:

أ- الإمام البخاري – رحمه الله المتوفَّى (256هـ) وهو من علماء القرن الثالث- فقد قال في عقيدته التي رواها عنه اللالكائي: “لقيتُ أكثر من ألف رجل من أهل العلم: أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتهم كرات (مرة بعد مرة، ثم مرة بعد مرة) أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة: أهل الشام، ومصر، والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات، وفي سنين ذوي عدد مع محدثي أهل خراسان …” ثم ذكر أسماء بعضهم في عدد من البلدان، ثم قال: “واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصرًا، وأن لا يطول ذلك، فما رأيت واحدًا منهم يختلف في هذه الأشياء …” فذكر أمورًا في العقيدة، ومنها: “وألا ننازع الأمر أهله .. وألا يُرى السيف على أمة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم- …” اهـ.

ب- وذكر اللالكائي في عقيدة أبي زرعة الرازي المتوفىَّ سنة (264) هـ وأبي حاتم الرازي المتوفىَّ سنة (277) هـ – وهما من علماء القرن الثالث- قال ابن أبي حاتم قال: “سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟

فقالا: “أدركنا العلماء من جميع الأمصار: حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ويمنًا، فكان من مذهبهم …” فذكر أمورًا كثيرة، ومنها: “ولا نرى الخروج على الأئمة، ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله – عز وجل- أمرنا، ولا ننزع يدًا من طاعته، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة” اهـ .

ج- وقال حرب صاحب الإمام أحمد في مسائله المشهورة – والمتوفىَّ سنة(280) هـ، وهو من علماء القرن الثالث-: “هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الآثار، وأهل السنة المتمسكين بها، المقتَدَى بهم فيها من لدن أصحاب النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى يومنا هذا، وأدركتُ مَنْ أدركتُ مِنْ علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم …وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وعبد الله بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، وكان من قولهم …” فذكر أمورًا، ومنها: “والانقياد لمن ولاه الله – عز وجل- أمركم، ولا تنزع يدًا من طاعة، ولا تخرج عليه بسيف، حتى يجعل الله لك فرجًا ومخرجا، ولا تخرج على السلطان، و تسمع وتطيع، ولا تنكث بيعة، فمن فعل ذلك؛ فهو مبتدع، مخالف ، ومفارق للجماعة …” اهـ نقلاً عن “حادي الأرواح” لابن القيم – رحمه الله-.

وهناك أقوال أخرى أتركها طلبًا للاختصار، وقد سبق هذا الإجماع خلاف بين أهل السنة في دولة بني أمية، ثم استقر الأمر على ترك منابذة الحاكم الذي له شوكة؛ صيانة لدماء المسلمين، لا رغبة في بقاء شره، ولكن من باب دفع السيئة العظمى بالصبر على بقاء الصغرى، ولِعِظَم هذا الأمر جعله علماء السنة في كتب معتقدهم، وصار أصلاً من أصولهم، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله , والمتوفىَّ سنة (728) هـ- كما في “مجموع الفتاوى”: “وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخِّصون لأحدٍ فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عُرف من عادات أهل السنة والدين قديمًا وحديثًا ومن سيرة غيرهم” اهـ.

وقال في “الاستقامة”: “ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة: لزوم الجماعة، وتَرْك قتال الأئمة في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم” اهـ.

 وقال في “منهاج السنة”: “ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتن للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر عند جَوْر الأئمة وترك قتالهم …” اهـ.  

وذكر القاضي عياض “أن الخلاف في هذا الأمر كان أولاً، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم” انظر “شرح مسلم” للنووي، وذكر الحافظ “أن الخروج بالسيف على أئمة الجور مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقَعة الحرّة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عِظَةٌ لمن تدبر” اهـ من “تهذيب التهذيب” ترجمة الحسن بن صالح بن حيّ.

هذا هو مذهب الأئمة الذي يسميه الكاتبان: ذيل بغلة السلطان!! والفقه البدوي!! وفقهاء البلاط!! فمن سبقهما إلى هذه الأقوال؟ ومن يقتديان به في ذلك؟ حتى النظام الديمقراطي الذي فُتن به مَنْ فُتن من أبناء جلدتنا لا يقر الخروج على الحاكم!!

4- معلوم أن أئمة السنة لم يذهبوا إلى هذا المذهب رغبة أو رهبة من أحد غير الأحد الصمد – وإن أساء بهم هؤلاء الكُتاب وأمثالهم الظنون- إنما عملوا بما ثبت عندهم عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبما رأوه من الأحداث والوقائع والعِبر التاريخية:

أ- فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: “من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر؛ فإن من فارق الجماعة شبرًا، فمات؛ فميتته جاهلية” متفق عليه، قال ابن أبي جمرة: “المراد بالمفارقة: السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير، ولو بأدنى شيء، فكنىَّ عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق” اهـ.

فتأمل قوله: “ولو بأدنى شيء” لتعرف أن أهل السنة هم أحرص الطوائف على سد ذرائع الفتنة.

ب- ومن حديث ابن مسعود مرفوعًا: “إنها ستكون بعدي أَثَرَةٌ، وأمور تنكرونها” قالوا: يا رسول الله ، فما تأمرنا؟ قال: “تُؤدّون الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم” متفق عليه، والمراد الاستئثار بالأموال والمناصب.

ج- ومن حديث عوف بن مالك مرفوعًا: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويُصَلُّون عليكم وتُصَلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم” قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: “لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه؛ فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعة” رواه مسلم.

د- وما أخرجه مسلم من حديث وائل بن حُجْر – رضي الله عنه- أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألون حقهم، ويمنعون حقنا، فما تأمرنا؟ فأعْرَضَ عنه، ثم سأله؛ فأعرض عنه، ثم سأله؛ فجذبه الأشعث بن قيس، وقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلْتم”.

وفي التاريخ عِظة وعبرة لمن تدبر: فماذا جنت الأمة من قتل عثمان – الخليفة الراشد- بل ماذا جنتْ من القيام على يزيد والحجاج الظالميْن؟ فهل غيروهما، أم زاد الطين بِلَّة؟ ولذلك فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – وهو ممن لم يطمع فيه السلاطين، وبقي مجاهدًا زاهدًا مسجونًا حتى خرج من سجنه إلى قبره، فليس تابعًا لذيل بغلتهم، ولا متربعًا على بلاطهم، ولا مبررًا لهم باطلهم، كما هو متواتر من تاريخه وحياته وجهاده- قال: “وقَلَّ مَنْ خَرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تَوَلَّد على فعله من الشر أعظم مما تَوَلَّد من الخير ….فلا أقاموا دينًا، ولا أبقْوا دنيا …” انظر منهاج السنة، وقال تلميذه ابن القيم – الطبيب الراباني، والعالم النوراني-: “فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر ….ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار؛ رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام؛ عَزَم على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، وَمَنَعهُ من ذلك – مع قدرته عليه- خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، و كونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، كما وُجد سواء …”اهـ

فأهل السنة – الذين يسميهم هؤلاء الكُتَّاب بالأسماء القبيحة!!- هم أسعد الناس عملاً بالنص والإجماع، والاعتبار بوقائع الدهر، والسعيد من وُعظ بغيره، والعاقل الذي يعرف خير الخيرين فيتبعه، وشرَّ الشرين فيجتنبه، وصدق من قال:

إن اللبيب إذا بدى مِنْ جسمه                 مرضان مختلفان داوى الأخطرا

5- شاع عند أصحاب هذا الحماس الأهوج والعواطف الطائشة أن من قال بعدم الخروج على الأئمة الجائرين، خشية وقوع مفسدة أكبر؛ أنهم عملاء للحكام، وأنهم يقولون بهذا رغبة ورهبة، وأنهم يتزلفون بهذه الفتوى لنيل دنيا الحكام، مع أن هذا هو مذهب الأمة التي لا تجتمع على ضلالة، بمن فيها من العُبَّاد والزهاد الذين خرجوا من الدنيا وما تمضمضوا بها:

أ- فهذا الفضيل بن عياض ـ المتوفىَّ سنة 187 هـ، وهو من علماء القرن الثاني ـ وهو الملقَّب بعابد الحرمين، الذي لم يَخُضْ في دنيا السلاطين ولا غيرهم، يقول: “لو كانت لي دعوة مستجابة؛ لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الإمام أَمِن البلاد والعباد” فقام ابن المبارك ـ المتوفىَّ سنة 181 هـ – العابد الزاهد المجاهد, الذي ما نزلت خصلة خير من السماء إلا كان له منها نصيب، فقَبّل رأسه، وقال: يا معلم الخير، من يجترئ  على هذا غيرك“؟ اهـ انظر “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” للالكائي.

ب- وابن المبارك نفسه هو القائل:

                  الله يَدْفَع بالسلطان مُعْضِلـةً              عـن ديننا رحمةً منه ورضوانا

                 لـولا الأئمةُ لم تأمَنْ لنا سُبُلٌ             وكـان أضعفُنا نهبًا لأقوانـا

ومع ذلك فهو الذي أنكر على إسماعيل بن عُليّة قبوله القضاء عند الخليفة، وقصته في ذلك معروفة.

وهؤلاء الأئمة وإن حذّروا الناس من الاقتراب من السلاطين؛ إلا أنهم يحبون الحفاظ على الجماعة، ويحذِّرون من الفرقة والفوضى، وإذا أصاب بلاد المسلمين مصاب هَبُّوا وراء هؤلاء الأئمة الجورة في صد الأعداء، والحفاظ على أمن البلاد وسلامتها، وأما غيرهم فيشكك ويزعزع الثقة في الثوابت، وإذا جاءت الشدائد سلقوا أهل الفضل والتقى بألسنة حداد، فخذّلوا وثبَّطوا، أو أزبدوا وأرعدوا، فنعوذ بالله من هذا الحال.

ج- وأيضًا فهذا الإمام أحمد – المتوفىَّ سنة (241هـ)- وهو التقي النقي، قد أوذي من خلفاء بني العباس في فتنة القول بخلق القرآن، ومع ذلك لما استؤذن في الخروج على الواثق العباسي، قال: “سبحان الله، الدماء الدماء، ويُستباح فيها الأموال، وينتهك فيها الأعراض…” وذكر أن الصبر على فتنة الخاصة –وهم العلماء- أولى من فتح باب فتنة العامة، التي إذا وقع السيف عمت الفتنة، وانقطعت السُبل.

فماذا يريد هؤلاء القوم بعد الآيات والأحاديث، ووقائع التاريخ؟ أيريدونها فتنة؛ فإذا عمت الفوضى نعقوا فيها، أو سافروا خارج البلاد، أو استغاثوا بالسفارات الأجنبية، أو المنظمات الماسونية والصليبية، لينقذوهم من الحاكم الجائر، كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ وصدق من قال:

إذا غاب ملاّح السفينة وارتمتْ                               بها الريح يومًا دبّرتها الضفادع!!

أيريدونها صومالاً آخر؛ حتى لا يبقى بيت إلا دخلته الفتنة؟ أي أصول ينطلق منها هؤلاء؟ أو أي عقول يفكرون بها؟

التعقيب الثاني: وذكر الأستاذ زايد جابر – نافيًا قناعته بقول هؤلاء الأئمة الأعلام- أن دعاة السنة يرددون على مسامعه قول أحد الرعية للخليفة الراشد عمر بن الخطاب: لا سمع ولا طاعة يا عمر؛ فإنك تلبس بُرْدين، وكسوتنا بُرْدًا واحدًا، فلما علم المنكِر على عمر وهو سلمان – رضي الله عنه- أن البردين إحداهما لعمر، والأخرى لعبد الله بن عمر؛ قال سلمان: قُلْ ما شئتَ نسمع لك ونطيع” اهـ.

والجواب من وجهين:

1- هذه القصة أخرجها الزبير بن بكار في كتابه “الموفَّقيات” من رواية علي بن محمد المدائني، وقد ولد في (132هـ) وعمر توفي في (23هـ) فبين ميلاده ووفاة عمر (109) سنة، فمن الواسطة التي حكت له هذه القصة، حتى ننظر حالها؟ فهذا سند معضل لا حجة فيه، وبضاعة القوم غالبها من الكتب التاريخية التي هي أودية للحكايات والأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام!!.

2- لو سلمنا بصحة سند هذه القصة – وهذا هو الموافق لعدل عمر- فليس فيها خروج على الإمام وإثارة الفتن بتحريك الناس عليه، أو زيادة شر الحاكم على الرعية بسبب هذه النصيحة، فلا دليل في القصة إن صحت على قول المخالف، غاية ما فيها أنها نصيحة علنية، ونحن لا ننكر ذلك بشروطه، علمًا بأن الخلفاء الراشدين تصلحهم النصيحة العلنية بخلاف الكثير ممن هم ليسوا من أهل العدل، والناصح لابد أن يوازن بين المفاسد والمصالح.

التعقيب الثالث: وكذا استدل الكاتب في إثبات ما هو عليه من إثارة الفوضى بقوله: “بينما يَرُدُّ عليه ـ أي على عمر رضي الله عنه ـ آخر، وهو يطلب من رعيته: إذا رأيتم فيَّ اعوجاجًا فقَوِّموني، فيرد عليه: “لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوّمناك بسيوفنا” قال الكاتب الفذ!!: وإذا كان هذا بحق خليفة راشد؛ فما بالك بغيره من خلفاء الجور والاستبداد“؟!

والجواب من وجوه:

1- من أخرج هذه القصة يا زايد؟ وما صحة سندها؟ قبل أن تستدل به في هذا الأمر الخطير!!

2- هكذا أطلق هذا المنظِّر – الذي لا نظير له!!- ولم يُفَصِّل: أن أي اعوجاج يُقوَّم بالسيف حتى مع الخلفاء الراشدين الذين هم ليسوا بمعصومين، فكل بني آدم خطاء!! فمن ذا الذي ستسلم إذًا رقبته من سيفك يا زايد؟!

3- سبقت الأدلة على كيفية معاملة الحاكم إذا جار بالصبر والنصح، ويكفي حديث: “الدين النصيحة” – لا ضرب الرقاب والتقويم بالسيف- “لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم” وأما زايد – لا زاد الله في الرجال من أمثاله وهو على هذا الحال- يرى إشهار السيف على رقاب الخلفاء وإن كانوا راشدين لأدنى مخالفة!! فهل نتبع الرسول الكريم – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أم نتبع هذا الكاتب منظِّر القرن الخامس عشر؟!

4- حتى النظام الديمقراطي يا أستاذ زايد لا يقر العمل بهذا القول الذي تحكي قصة تستدل بها عليه، ولا تعرف لها سندًا، فقولك هذا لا دليل عليه من الأدلة النقلية أو العقلية أو الديمقراطية!!

التعقيب الرابع: واستدل أيضًا بقصة لا يُعرف لها سند بأن رجلاً دخل على معاوية، وخاطبه باسمه لا بإمرة المؤمنين، وعندما سأله معاوية: لماذا لم يناده بأمير المؤمنين؟ قال: لا أريد أن أكذب, فأقول عنك أمير المؤمنين، وأنا أعلم يقينًا أن كثيرًا من المؤمنين غير راضين بإمارتك!!

والجواب من وجوه:

1- ثَبِّت العرش أيها المنظِّر ثم انقش، فما سند هذه القصة أولاً؟

2- لو سلمنا بصحتها؛ فهل قول هذا الداخل على معاوية حجة حتى نترك ما سبق من أدلة لقوله؟!

3- لو فتحنا هذا الباب؛ فسنحكم على كثير من الخلفاء الراشدين فمن بعدهم بأنهم ليسوا أمراء للمؤمنين، لوجود من لم يرتض إمامتهم قلُّوا أو كثروا: فأبو بكر لم يبايعه سعد بن عبادة، وهو سيد الأوس، ومع ذلك فأبو بكر خليفة رسول الله، وهو لقب أفضل من لقب أمير المؤمنين، وهذا عثمان كره بعضهم إمارته، حتى قتلوه – قتلهم الله- وهذا علي بن أبي طالب ما رضي بإمارته أهل الشام، وهم ألوف، حتى قتله ابن ملجم – لا رحمه الله- هذا حال الخلفاء الراشدين فما ظنك بمن بعدهم من أئمة الجور عبر التاريخ؟!

4- حتى النظام الديمقراطي : إذا فاز أحد المرشحين للرئاسة ولو بصوت واحد – وإن كرهته الملايين- سُمِّي رئيسًا للبلاد، فالظاهر أنك يا زايد لا على طريقة علماء الأمة تمشي، ولا على الديمقراطية تسير، فأين أنت ذاهب؟!

التعقيب الخامس: دعوى أن النظام يدْعَم ويُشْرف على أنشطة وفعاليات السلفيين!!

والجواب من وجوه:

1- هذه دعوى خاوية عن الدليل، وإنما هي مجرد إشاعات، قد يراد من ورائها تحريش النظام على السلفيين، حتى يثبت لهم ولغيرهم أنه ليس كذلك، [وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ]  ومعلوم – حتى الآن- أن كثيرًا من علماء أهل السنة أبعد الناس عن أبواب السلاطين، وأما مخالفوهم فهم أقرب منهم مجلسًا، وأعظم نوالا وحظوة، لكن كما قيل: “عنز ولو طارت”!!

2- لو سلمنا بصحة هذه الدعوى: فما العيب في دعم النظام لأنشطة السلفيين؟ أليس النظام يدعم الأحزاب السياسية – المعارضة وغيرها- بميزانية من الدولة؟ أليس يدعم كثيرًا من أنشطة وفعاليات المنظمات المدنية والاجتماعية وغيرها؟ أم أن هذا حلال لكم، حرام علينا؟ [مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ]؟!

3- إذا كان أهل السنة لا يتخلَّوْن عن ثوابتهم؛ فلا عيب في أن يتلقوا دعمًا من بر أو فاجر، صالح أو طالح، إنما العيب في الضغط عليهم ليتخلوا عن قناعاتهم من أجل الدنيا، ودون إثبات ذلك خَرْط القتاد، لو كانوا يعلمون!! وليكذِّبْنا المخالفون بحالة واحدة، أفتى فيها عالم من علماء السنة بالباطل المحض الذي ليس له فيه تأويل، وما قصد بذلك إلا رضى السلطان وإن غضب عليه الرحيم الرحمن؟ فإن عجزوا؛ فليعرفوا قدرهم، فإن السلفيين ينطلقون من قناعاتهم، وقواعد أئمتهم، وثوابت دعوتهم، فلله دَرُّهُم، وعلى الله أجرهم.

4- دعوى أن النظام يشرف على أنشطة السلفيين دعوة مجملة تحتاج إلى استفصال: فإن كان المراد: أنه هو الذي يوجِّه قناعات بعض علماء السنة، وأنه إذا أحل الشيء أو حرمه تبعه هؤلاء العلماء دون خوف من الله؛ فهذا قولُ جاهلٍ أو ماكرٍ متحامل!! ولا يستطيع هؤلاء على اختلاف مشاربهم إثباتُ ذلك بوجه لا يحتمل غير معنى الذم، والحمد لله.

وإن كان المراد: أن النظام يَطَّلع على برامج ولوائح السلفيين؛ فهذا حال المجتمع كله، ليس السلفيين فقط، أليست المدارس والجامعات تشرف على مناهجها لجان مكوّنة من الجهات المختصة؟ أليست الوزارات وأنشطة المؤسسات تخضع لذلك؟ أليست الصحف – ومنها الأهالي التي نشرت هذه المقالات- تخضع لذلك؟ أليست الأحزاب السياسية – بما فيها المعارضة- والمنظمات المدنية، وقوى الفعاليات السياسية والاجتماعية وغيرها في المجتمع كلها تخضع لوائحها للجهات المختصة؟! فلماذا كان العيب علينا فقط؟!

5- ثم لا يكاد ينقضي العجب من تناقضات كثير في الوسط الإعلامي؛ إذ مرة يقولون: السلفيون إرهابيون,متمردون على النظام، والسلطة تطاردهم أو تلاحقهم!! ومرة يقولون: السلفيون عملاء، متحالفون مع السلطة، يتزلفون لها، السلطة تستعين بهم في ضرب خصومها، السلطة تدعمهم وتشرف على أنشطتهم؟! [فَمَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا] وهؤلاء يصدق عليهم قول القائل: رمتني بدائها وانسلّتْ، ومن كان بيته من زجاج؛ فلا يرمي الناس بالحجارة، وصدق من قال:

ومن العجائبِ والعجائبُ جَمةٌ                      أن يلهج الأعمى بعيب الأعور!!

التعقيب السادس: دعوى أن النظام يبحث عن حليف ديني يستفيد منه أمام كثرة خصومه، ولا يجد لهذه المهمة إلا السلفيين!!

والجواب من وجوه:

1- لا عِلْم لنا بهذه التخرصات الصحفية!!

2- لو سلمنا بصحة ذلك؛ فما العيب علينا إذا كنا لا ننصره هو أو غيره إلا بالحق؟ وتعاون علماء الإسلام مع الأمراء في المعروف، وفي ردِّ المظالم لأهلها، وفي الجهاد ضد من غزا بلاد الإسلام، أو لفتح الفتوحات، وتولي مناصب الفتيا والقضاء، والحسبة وغير ذلك شيء: لا يخفى، وقد ألّف علامة اليمن ومفخرتها القاضي محمد بن علي الشوكاني – رحمه الله- رسالة يرد فيها على المانعين من ذلك، سماها: “رفع الأساطين عن حكم الاتصال بالسلاطين” فنّد فيها ترّهات المانعين، وأبطل تخبطاتهم، وقد نفع الله بهذا المنهج كثيرا، وبقيت دولة الإسلام بقرب هؤلاء المخلصين من ذوي القرار عزيزة مهيبة أمام الأعداء – على ما يوجد فيها من مكدِّرات ومنغِّصات- ولما نخرت في عظامها سوسة الشهوات والشبهات بقرب الحكام من الزنادقة، والماجنين، والفلاسفة المفسدين، وأهل البدع المضلين؛ صالت جيوش الكفر وجالت في عُقر دار الإسلام، حتى أسقطوا الخلافة، فما العيب في قرب الرجل الصالح من ذي القرار، ليزيد من خيره، أو ليقلل من شره؟ إذا كان هذا الاقتراب من غيرنا فهي كياسة، ودهاء، ومرونة، ومصلحة، وإذا كان ذلك منا؛ فهو تحالف مذموم، وبيع للآخرة بالدنيا، فتبًّا للهوى!!

ثم ألستَ ترى حِرْص أعداء الإسلام على عَزْل المستشار أو الوزير أو الرجل الصالح القوي الهمام، وتولية الفاجر العربيد؛ لما يفضي ذلك إلى طيِّ فراش الفضيلة، ونثر جمرات الرذيلة، أما هؤلاء الكتاب فيسمونه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان!!

3- لو سلمنا بصحة وجود هذا التحالف؛ فهذا من باب قوله تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ ] وهذا أمر عام للتعاون على البر والتقوى مع الحاكم والمحكوم، والنص عام، فمن الذي أخرج الحاكم منه؟ المهم البقاء على الثوابت ما أمكن، على أن هذه أصولنا سواء بقي الحاكم أو تغيّر، فإذا جاء حاكم آخر؛ تعاملنا معه بالنصوص النبوية، والفتاوى الأثرية.   

التعقيب السابع: ومن فواقر زايد جابر أنه واصل في اتهام السلفيين بأنهم في غرْز الحاكم الفاجر أو الجائر حيث كان، مهما كان ظلمه، واستقامة خصومه، وعدالة قضيتهم، فلن يصل الأمر إلى ظلم يزيد بن معاوية، واستقامة الحسين، وعدالة قضيته؛ ومع ذلك فقد دافع التيار السلفي عن يزيد، وبرَّر مقتل الحسين، فقال: أبو بكر بن العربي في كتابه الشهير – الذي تحظى كتبه بقبول تام لدى التيار السلفي-: “ما خرج إليه أحد – أي لقتال الحسين- إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المحذِّر من الدخول في الفتن، وأقواله في ذلك كثيرة، منها قوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “ستكون هنَاتٌ وهَنَات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع؛ فاضربوه بالسيف كائنًا من كان” قال: فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله” قال الكاتب: وإذا كان هذا هو موقف السلفيين من معارضة الحسين؛ فكيف بموقفهم من معارضة أحزاب اللقاء المشترك، أو أتباع الحوثي، أو أصحاب الحراك؟ وهم – في نظرهم-  إما مشكوك في دينهم، أو في عقيدتهم، أو استقامتهم” اهـ.

والجواب من وجوه:

1- دعوى الدوران مع الحاكم العدل أو الجائر حيث دار، دعوى باطلة، فلا طاعة إلا في المعروف، وكل من أخطأ فعلى نفسه، وقد سبق بسْط هذا، لكن هذا الكاتب صاحب خيالات وأوهام لا ساحل لها!!

2- ما ذكره من دفاع السلفيين عن يزيد، وتبرير قتل الحسين افتراء آخر، والجواب عليه:

أن يزيد بن معاوية مطعون في عدالته عند علماء السنة، ولم يُطلق مدحه إلا شرذمة ليس لهم قَدَمُ صِدْقٍ في العلم والسنة – فيما أعلم- فقد قال الإمام أحمد:” لا ينبغي أن يُروى عنه” ونقل هذا الذهبي في “الميزان” وقال:” مقدوح في عدالته، ليس بأهل أن يُرْوى عنه” اهـ وسئل أحمد مرة: أيُرْوى عنه؟ فقال:” لا، ولا كرامة“. وقال مرة: “لا نحبه ولا نسبّه” فلما سأله ابنه صالح: لماذا لا تلعنه؟ قال: متى وجدت أباك لاعنًا؟ وكان إذا ذُكر الأمراء الظلمة يقول: [أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] إلا أنه كان لا يُعَيِّن اللعن لأدلة أخرى، وإن عَيَّن بعضهم اللعن فبمعنى الدعاء على الملعون، لا بمعنى الإخبار بالطرد من رحمة الله.

وقد قال الزهري – وهو من أئمة السنة في زمن بني أمية، ولم يتزلَّف لهم-: “ما بقي أحد من قتلة الحسين إلا عوقب في الدنيا“، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية معلِّقًا على هذا القول: “فهذا ممكن، وأسرعُ الذنوب عقوبةً البغي، والبغي على الحسين من أعظم البغي” وقال أيضًا: “فلا ريب أن قَتْلَ الحسين من أعظم الذنوب، وأن فاعل ذلك، والراضي به، والمعين عليه؛ مستحق لعقاب الله الذي يستحقه أمثاله” انظر “منهاج السنة”.

3- أبو بكر بن العربي ليس هو مجموع السلفيين، نعم هو عالم من علماء المالكية، وله جهوده وأثره ونفْعه، لكن ليس معصومًا في نفسه، وليس كلامه هو كلام كل أهل السنة، فخطؤه على نفسه، ولا يتحمله غيره، ونحن لا نقره على إطلاق القول بأن كل من قام ضد الحسين قام متأولاً للأدلة، فكثير منهم أهل أهواء وعداء لأهل البيت، ولذا كثر النصْب في زمن بني أمية، وقد يكون فيهم المتأول، لكنه أخطأ، ولا يسلم من مصاحبة الهوى تأويلَه.

ثم إن الحسين – رضي الله عنه- لم يكن له شوكة تخيفهم، وقد عرض على الكتيبة التي باءت بإثمه: أن يتركوه يرجع إلى المدينة، أو يذهب إلى ثغر من الثغور، أو يذهب للقاء يزيد؛ فلم يجيبوه إلى شيء من ذلك، وتعجلوا بقتله، فكانوا من الفجرة الأشقياء، ومن الظلم أن يرمي هذا الكاتب السلفيين جميعًا بخطأ واحد منهم، حيث قال: “فقد دافع التيار السلفي عن يزيد، وبرَّر مقتل الحسين، فقال: أبو بكر بن العربي …” فذكره، وقد قال – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : “إن أعظم الناس فِرْيةً: لَرَجلٌ هاجَى رجلاً؛ فهجا القبيلة بأسْرها …” وأما هذا الكاتب فلم يسب قبيلة فقط، بل سب أمة عبر قرون متطاولة من بعد ابن العربي – على الأقل- إلى الآن!!

وها هي أقوال لبعض العلماء تُكذِّب إطلاق دعوى تبرير السلفيين لهذه الجريمة النكراء:

أ- قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله- في “البداية والنهاية”: “…وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأولوا عليه وقتلوه، ولم يكن لهم قتله، بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاث المتقدم ذكرها، فإذا ذُمّتْ طائفة من الجبارين، لم تُذَمَّ الأمة بكمالها، وتُتَّهم على نبيها -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأمة قديمًا وحديثًا كاره ما وقع مِنْ قَتْلِهِ وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة، قَبَّحَهم الله… فكل مسلم ينبغي له أن يُحزنه هذا الذي وقع من قتْله ـ رضي الله عنه ـ فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة؛ وابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدًا وشجاعًا وسخيًّا …” اهـ فها هي الأمة – كما نقل ابن كثير- تستنكر قتل الحسين إلا شرذمة قليلة، يدعو عليهم ابن كثير بقوله: “قبَّحهم الله”، فأين تبرير السلفيين لهذه الفاجعة يا زايد؟!

ب- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- يقول: “…فقاتلوه حتى قُتل مظلومًا شهيدًا، رضي الله عنه” اهـ. انظر “منهاج السنة” وذكر أن قتله – رضي الله عنه- كان من المصائب العظيمة، ويرى أن قتله – رضي الله عنه- كان من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة، وأن قتلته من شرار الخلق عند الله، وسبق قوله فيمن رضي بقتله، أو أمر به، أو أعان عليه، انظر “مجموع الفتاوى”.

ج- وقال ابن الوزير – علاّمة اليمن وواسطة عِقْدها- في “العواصم والقواصم”: “واعلم أني لا أعلم لأحد من المسلمين كلامًا في تحسين قتل الحسين – عليه السلام- ومن ادعى ذلك على مسلم؛ لم يُصَدَّق، ومن صح ذلك عنه؛ فليس من الإسلام في شيء” اهـ.

د- كثير من كتب أهل السنة التي ترجمت للحسين – رضي الله عنه- وصفته بأنه الشهيد المظلوم، أو نحو ذلك، فكيف يصفونه بهذا وهم يرون قتله سائغًا، وأن قاتله متأول للأدلة، عامل بها؟!

4- قول الكاتب في ابن العربي: “الذي تحظى كتبه بقبول تام لدى التيار السلفي“اهـ إطلاق غير صحيح؛ فإن السلفيين لا يقبلون كتابًا قبولاً تامًّا إلا القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأما غيره من الكتب فيؤخذ منها ما وافق الحق، ويُرد منها ما خالف الحق، والأمة وإن تلقّت “الصحيحين” بالقبول؛ فإن هناك أحاديث تنازعوا فيها، والسلفيون قد عُرِف عنهم البحث عن الدليل وعدم التقليد المطلق لأحد، وإنما يريد الكاتب بهذا أن يؤكد زعمه الباطل في دفاع السلفيين عن خطأ يزيد، وتبرير مقتل الحسين، والرضى بما قاله ابن العربي في هذا الموضع، ولكن هيهات هيهات!!

5- أما عن موقف السلفيين من أحزاب اللقاء المشترك والحراك وأتباع الحوثي: فالجواب العام: أن من كان عنده شيء من الحق من هؤلاء وغيرهم قبلناه منه، وإن خالفناه في غيره،وكل يُمدح ويُذم على حسب ما فيه خير وشر، وليس أحد بمعصوم، لا نحن ولا هم، وقد بينّا موقفنا مفصلاً من هذا كله في عدة مواضع، فيرجع إليها.

6- وأما دعواه أننا نشكك في دين هؤلاء، أو عقيدتهم، أو سلوكهم؛ فالجواب العام: أننا نحكم لهؤلاء بأنهم مسلمون، ومن جملة أهل الإسلام، وأما من رفض منهم أن يكون من أهل السنة، وتسمى بغيرها؛ فهو الذي حكم على نفسه، واختار لنفسه طريقًا غير طريق السنة، فلسنا أرحم به من نفسه، وأما من خالف  الحق وهو يظن أنه يحسن صنعًا؛ فهو إما مخطئ أو متأول وأخطأ، والله تعالى يقول حاكيًا عن أهل الإيمان: [رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا  ] فقال تعالى: “قد فعلت” والنبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: “رُفِعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” وأما من وقع في الخطأ عن جهل؛ فهو معذور بجهله، وقد قال تعالى: [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ] وأما من خالف الحق عمدًا، فإن كان في كبيرة؛ فلها حكم الكبائر، وإن كان في كفر أكبر، فله حكم آخر، وقبل الحكم على المعين وإقامة الحد عليه لا بد من إقامة الحجة عليه، ويُستتاب مِنْ قِبَلِ أهل العلم الكبار أو القضاة، وليس هذا كلأً مباحًا لكل أحد، فإن أصر على قوله أو فعله بعد ذلك أُلْحِق بالفسّاق أو الكفار، ويُفرّق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية، فالإعذار في المسائل الثانية آكد، هذه هي أحكام أهل العلم سلفًا وخلفًا؛ فلا حاجة إلى فلسفة زايد ولا غيره!! وإن أطلق أحد من السلفيين الحكم بالكفر على من فعل كذا وكذا؛ فهذا حكم على العموم لا التعيين، أما الحكم على التعيين فيحتاج لما سبق بيانه، وإن خالف في ذلك أحد؛ فقوله يُنْسب إليه لا إلى كل السلفيين!!

التعقيب الثامن: دعوى الأخ زايد جابر بأن الرئيس يبحث عن مبررات لتمديد فترة رئاسته مدى الحياة، ولن يؤيده في ذلك إلا السلفيون!! قال: “لا عن مجاملة له، ولا نكاية بمنافسه، إنما باعتباره موقفًا شرعيًّا كما يزعمون، مستدلين بحديث عبادة بن الصامت، وفيه: “على أن لا ننازع الأمر أهله …” ويرون بقاءه دائمًا إلا لأمر طرأ عليه مَنَعَهُ مِنَ القيام بمهامه كالجنون وغيره”.

والجواب من وجوه:

أ- ولي الأمر إذا تولى الولاية بإحدى الطرق المعروفة، فما دام أهلاً لها، فهو ولي الأمر شرعًا، وأما تحديد مدة بقائه فيها بكثير أو قليل من السنوات؛ فلا دليل عليه من كتاب أو سنة، أو أثر، أو تاريخ، سواء كان تاريخ العرب أو العجم، أوالفرس والروم، وإن وُجد ذلك فشيء لا يكاد يُذْكر، فمن تمسك بما كانت عليه الأمة المسلمة والأمم الكافرة فهو أولى من قول غلاة الديمقراطيين، الذين هم يقلدون، ولا يدركون!!

ب- إذا قيل: إن تحديد المدة يحد من غطرسة الفسدة من الحكام؛ قيل: وقد يُغير الحاكم الهمام المغوار، الذي يحمى الأمة، وريفع رأسها، وتأتي الانتخابات بعده بمن يرمي البلاد في أحضان أعدائها، لأن الانتخابات – لو صدقوا فيها- تفرز اختيار الأغلبية، فلو كانت الأغلبية قد فُتنت بطرق أعداء الأمة، وانبهرت بالزخارف الفارغة، والشعارات الجوفاء؛ فستأتي بمن هو كذلك، فتغيير من يكون بقاؤه عزًّا للأمة، واستبداله بمن وجوده عارٌ على الأمة لا ينادي به إلا من لا ينبغي أن يُؤْبَه له.

ج- الأصل أن الحاكم يُختار من قبل أهل الحل والعقد، كما تم اختيار أبي بكر، فقد اختاره جمهور أهل الشوكة يوم السقيفة، بإقرارهم اختيار عمر له، وقد يكون باستخلاف الحاكم الذي قبله له، كما تم اختيار عمر، وقد يكون باختياره من جماعة مرضي عنهم، كما تم اختيار عثمان، وقد يكون بغلبته عليها، كما هو في الحكم الجبري، ومن كان واليًا واستخلف قريبًا له، فيُنظر: هل هذا المستخْلَف أهل لذلك أم لا؟ فإن كان أهلاً برئت ذمة المستخلِف، وإلا فإن كان له عُذْر مقبول؛ وإلا فإثمه على نفسه،وربما اجتمعت عليه آثام غيره، أما الرعيّه فينظرون: هل تم الأمر للمستخلَف، وأصبحت له شوكة أم لا؟ فإن لم يكن تركوه، وولَّوْا من هو لها أهل، وإلا صبروا على ظلمه خشية وقوع ما هو أكثر من الظلم بالخروج عليه، واستمروا في نصحه، والتعاون معه فيما يحقق مقصود الخلافة وإن قلَّ.

د- كثير من هؤلاء الكُتَّاب لا يرى طاعة المتغلِّب، وقولهم هذا في حق من له شوكة تَغَلَّبَ بها قول يخالف العقل والنقل، وقد صرّح الإمام الشافعي بقوله: : “كل مَنْ غَلَبَ على الخلافة بالسيف، حتى يُسَمَّى خليفة، ويُجمع الناس عليه؛ فهو خليفة” انظر “مناقب الشافعي” للبيهقي، وقال الإمام أحمد: “ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين؛ فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، برًّا كان أو فاجرًا” انظر “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى، وقال الحافظ ابن حجر في “الفتح”: “وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء” اهـ.

هـ- فإذا رأى السلفيون أن المصلحة الشرعية للبلاد والعباد في بقاء حاكم ما ما دام أهلاً، أو إقرار استخلافه لمن هو لها أهل؛ فهم بذلك متبعون غير مبتدعين، ومن قال بقول أهل الإجماع أو جمهور الأمة فاللوم على لائمه بلا أثارة من علم، إلا مجرد التباكي على مخالفة الديمقراطية، هذا من حيث الفتوى، وإلا فلا يوجد – فيما أعلم- كثير أو قليل من الكلام في هذا الأمر بين أحد من السلفيين والأخ الرئيس، وإنما هي فتاوى أهل العلم من مئات السنين، وإذا سئل العالم من أهل السنة عن ذلك؛ أجاب بما كان عليه العلماء، فكان ماذا؟! على أننا إذا فُرض على البلاد النظام الديمقراطي، ورأينا أن تحديد المدة يريحنا من ظلم ظالم، ويأتي بخير منه؛ طالبنا بتحديد المدة، لأنها – والحالة هذه- هي الوسيلة المتاحة أمامنا، وهي التي يمكن أن تقلل الشر، لكن إذا كانت هذه المطالبة ستزيد الشر بالإتيان بالضعف أو الأضر؛ فلا نطالب بها، وإن كانت الأمور ستمشى دون الرجوع إلينا، لكن على الأقل أننا لا نخسر قناعاتنا، ونكون مساهمين في الإتيان بما هو أشر!!

التعقيب التاسع: وذكر الأخ زايد جابر أيضًا أن الرئيس حريص على تولية المناصب الرفيعة لأقاربه، باعتبارهم يمنيين أولاً، ولأنهم أكثر حرصًا في الحفاظ على مصلحة اليمن، وأن الذين سيؤيدونه في ذلك هم السلفيون، ويستدلون بالخليفة الراشد عثمان بن عفان الذي أخذ عليه خصومه تولية أقاربه، ومَنْحَهم امتيازات كبيرة من بيت المال، حتى قتلوه، ودافع السلفيون عن فعله، واعتبروه حقًّا شرعيًّا له ما دام إمامًا، وأنها سنة خليفة راشد، ولا يجوز أن نحافظ على الأشخاص على حساب المبادئ، ولا يضير السلفيين اعترافهم بخطأ عثمان، وله من السوابق ما يغفر الله له خطأه، بدلاً من التماس الشرعية لتلك السياسات الخاطئة، التي جلبتْ على أمتنا الكوارث”!! قال: “وحتى توريث السلطة يعده السلفيون مشروعًا، مادام أن من حق الخليفة أن يعين الخليفة من بعده – ولو كان ابنه- إذا كان في ذلك مصلحة المسلمين، كما فعل معاوية بن أبي سفيان، وهو صحابي جليل” اهـ.

والجواب من وجوه:

1- أما ما يتصل بحرص الأخ الرئيس على ما قاله زايد جابر، فيُرجع في الجواب عليه إلى الأخ الرئيس أو من ينوب عنه في ذلك، فالمقام مقام دفاع عن ثوابت دينية لا أشخاص فقط.

2- سبق أن من ولَّى أحد أقاربه، واستخلفه بعده؛ فلذلك الفعل تفصيل وأحكام، فلا حاجة لإعادتها.

3- أما عثمان الخليفة الراشد فلا يجوز الغمز فيه، بل يجب الاستحياء من رجل تستحيي منه الملائكة، وقد اعتدى عليه مجموعة من الأوباش الفجرة، فلا قدوة في صنيعهم إلا عند أهل الزيغ والضلال؛ وساعة واحدة من حياة عثمان خير من أعمار ملء الأرض ممن خرجوا عليه، أو اقتدوا بهم بعد ذلك.

4- سيرة عثمان ومناقبه وجهاده وسخاؤه، كل ذلك يمنعنا أن نظن به أنه ولَّى قريبًا ليس أهلاً للولاية في نظره، وهو قادر على عزله بلا مفسدة ولم يفعل، ويعلم أن هناك من هو أولى منه!! نحن ننزه كثيرًا من الصالحين الفضلاء عن ذلك، فما ظنك بعثمان ذي النورين؟! ولا يلزم عثمان أن يفكر بعقول خصومه، وأن يترك اجتهاده لاجتهادهم، ومسألة التولية والعزل مسألة اجتهادية، ومجال الاجتهاد فيها واسع، وتتعرض لمؤثرات ظاهرة وباطنة، قد يجهلها كثير من المنكرين، وقد يصيب المرء فيها أو يخطئ، المهم لا قدوة في صنيع أهل الشر، وعثمان لم يخرج عليه رجل صحابي فاضل – وإن ناصحوه- إنما هم أهل أطماع وأهواء، وماذا جنت الأمة من إثارتهم للفتن؟!

5- كثير من الأمور التي انْتُقِدت على عثمان لا يصح سندها، وفيها أكاذيب وبواطيل، ولا نترك ما نعلم لجهل غيرنا، ومنها ما هو صحيح والصواب فيه مع عثمان، ومنه ما هو معذور فيه عند المنصفين، وإن كان ظاهره الخطأ، ومنه ما هو خلاف الأوْلى، وهذا مغمور في بحور الخير الذي عنده، فهل من دافع عنه بالحق يكون جامعًا بين النقيضين – كما هو سياق كلام زايد جابر-؟ هذا من قلة فهم وضيق معطن بعض الكُتَّاب الجرآء حتى على الصحابة!!

نعم، من ترك تولية قريبه – وإن كان أهلا- هو الأولى، كما فعل عمر مع ابنه عبد الله، لكن البحث هنا ليس في معرفة الأولى، إنما في معرفة الصواب والخطأ، بل جعل الكاتب صنيع عثمان جالبًا على الأمة الكوارث، ناسيًا أو متناسيًا أن الكوارث جاءت للأمة من صنيع قتلة عثمان، ومن سلك مسلكهم إلى يوم الدين.

6- ليس عثمان – رضي الله عنه- وحده هو الذي ولي أقاربه، فقد فعل ذلك علي – رضي الله عنه- مع أقاربه الأقربين: فقد ولّى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولى على مكة والطائف قُثم بن العباس، وقيل: ولّى على المدينة سهل بن حنيف، وقيل: ثمامة بن العباس، وولّى على البصرة عبد الله بن عباس، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر، الذي رباه في حشجْره، وانظر ذلك في “منهاج السنة” ونحن نحسن الظن بعثمان وعلي جميعًا، ونرى أنهما فعلا ما فعلا قاصديْن الحق في ذلك، وأما الخطأ في الاجتهاد فلا يسْلَم منه أحد.

7- عثمان إن ولَّى عددًا من بني أمية؛ فقد سبقه إلى ذلك من لا يُتهم بقرابة، فقد استعملهم رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حياته، واستعملهم بعده أبو بكر وعمر، ولا تُعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أكثر من بني عبد شمس؛ لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد: فاستعمل النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في عِزَّة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج وعلى صنعاء اليمن، واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عيينة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين، ….انظر “منهاج السنة” فلماذا يُحَمِّل هذا الكاتب – كمن سبقه من قتلة عثمان- الجناية والعهدة على عثمان، حتى يقول فيه ما قال؟!! فقتلة عثمان نالوا من دمه، وهذا الكاتب نال من عرضه، وعند الله تجتمع الخصوم!!

8- السلفيون يفرقون بين عثمان وغيره من الخلفاء العادلين، فما ظنك بغيرهم من الخلفاء الجائرين؟! وقد سبق التفصيل بأنهم إذا عجزوا عن تحقيق الأكمل؛ قالوا: ما لا يُدْرك كُلُّه، لا يُترك جُلُّه، ويوازنون بين المصالح والمفاسد، وهذا مقتضى العقل والنقل.

9- نعم، تخطئة الأشخاص أولى من تحريف المبادئ والثوابت للدفاع عن الأشخاص، والسلفيون ولله الحمد لم يغيروا ولم يحرِّفوا ثوابتهم للدفاع عن شخص ما، أو عن طائفة أو حزب ما، ولكن هذه افتراءات مخالفيهم الذين عجزوا عن أن يثبتوا منها شيئًا، إلا مجرد العويل والتهويل!!

لكن أليس من الثوابت: طاعة ولي الأمر فيما أصاب فيه، وإن كان جائرًا من جهة أخرى؟ أليس من المبادئ الراسخة: أن تغيير المنكر إذا كان سيؤول إلى أنكر منه؛ فيُترك الإنكار حينئذ؟ أليس من القواعد الكبرى: ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعظمها؟ أليس من الثوابت: حُسْنُ الظن بالمسلمين، لاسيما الصحابة، وحَمْل ما صدر منهم على أحسن محامله؟   أليس من الثوابت: أن الجاهل يرجع إلى العلماء فيسألهم، ولا يتقدم عليهم، كما قال تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] ولا يخوض في غير فنِّه، ولا فيما لا يحسنه؟ أليس من الثوابت: رد المسائل المصيرية إلى أهل الاستنباط في الأمة، ولا يتكلم فيها كُسَيْر، وعُوَيْر، وثالث ما فيه خير؟! لا أدري كل هذه المبادئ والأصول لا يكاد يلتفت إليها كثير من هؤلاء الكُتَّاب، ثم يتشدقون بالحفاظ على الثوابت لا الأشخاص!! وهل هدم كثيرًا من هذه الثوابت وغيرها إلا أصحاب هذه العقول التي ارتوتْ من غير المنهج الصافي، بل أساءت بأهل الصفاء الظنونا؟!

10- ما فعله معاوية من الوصية بولاية العهد إلى ابنه يزيد؛ لم يقره عليه كثير من الصحابة، لا لأن الولاية للقريب حرام في ذاتها، ولكن لأن يزيد لا يُعرف بعدالة ولا خير، فلما استتب الأمر له؛ أرسلوا له بالبيعة، خشية شق العصا، لما سبق تفصيله، فالسلفيون لا يحتجون بفعل معاوية مع ولده، ولكن يحتجون بقواعدهم المأخوذة من الأدلة النقلية والعقلية.

التعقيب العاشر: ذكر الأخ زايد جابر أن النظام يبحث عن مبررات لتضييق الهامش الديمقراطي، أو تأجيل الانتخابات، أو إعلان حالة الطوارئ، وفي كل الأحوال سيكون التيار السلفي جاهزًا ليس فقط للتبرير، وإنما للإشادة والشكر لعودة النظام إلى مبدأ الإسلام ورفض الديمقراطية الكافرة .. اهـ.

والجواب من وجوه:

1- سبق أن السلفيين ليسوا جاهزين لتبرير خطأ أحد كائنًا من كان: عالمًا أو جاهلاً، حاكمًا أو محكومًا، وأنهم أصحاب قناعات وثوابت، وأن هذه الافتراءات من كيس زايد المليء بالحيّات والعقارب والمفجعات!!

2- لا يلزمنا أن نفهم الأمور بعقلية زايد وأمثاله، إنما نحن متبعون لخيرة الخلق بعد الرسل – عليهم السلام- وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان.

3- نحن لا نطلق القول بقبول النظام الديمقراطي أو رفضه، إنما نقبل منه ما وافق الحق، ونرد ما خالفه، فإذا كنا في بلد يُحْكَم بالنظام الإسلامي؛ فلا نبغي عنه بديلا لا ديمقراطيًّا ولا غيره، وإذا كنا في بلد قد فُرض فيها النظام الديمقراطي؛ فنقبل منه ما وافق الحق، وننادي به، ونرفض منه ما خالف الحق، لكن نوازن بين المصالح والمفاسد، فنتبع خير الخيرين، ونجتنب شر الشرين.

4- نحن لا نضمن إذا أزيل النظام الديمقراطي أن يكون البديل هو النظام الإسلامي فقط،فإن القسمة ليست ثنائية، بل بينهما مفاوز كثيرة، ولذلك فلسنا جاهزين لتبرير إلغاء هذا النظام الحاصل، لأن المصير مظلم ومجهول، ولا نحب أن نجرِّب بمصير المسلمين، ودمائهم، وأموالهم، وأمنهم، وثرواتهم، وسلامتهم، وهل بعد هذا من إنصاف؟!

التعقيب الحادي عشر: ذكر الأخ ثابت الأحمدي – صاحب المقال الثاني- أن الشيخ عبد العزيز الدبعي له علاقة بالسعودية التي ترعى هذا النوع من الفقهاء!!

والجواب من وجوه:

1- ليس الشيخ الدبعي وحده هو الذي له علاقة بالسعودية، فكل مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويؤمن بفريضة الحج، فلا بد أن يهفو قلبه لتلك البلاد، والمسلم لا يقطع علاقته بهذه الأرض، ما دام يقال في الأرض: الله الله، ولأن تلك البلاد زاخرة بالعلماء الربانيين في جميع التخصصات؛ فكل طالب علم لا غنى له عن مجالسة العلماء والاستفادة من علومهم وتجربتهم.

2- الشعب اليمني أكثر الشعوب علاقة روحية ومادية بالسعودية، فكم طلاب تخرجوا من جامعات المملكة، ولا يُنكر أثر المغتربين اليمنيين في تنمية بلادهم إلا جاهل أو مكابر، فليس الشيخ الدبعي وحده هو الذي له علاقة بذاك البلد الذي فيه كبار علماء السنة في هذا العصر.

3- المحظور شرعًا وعُرفًا أن يكون للشيخ الدبعي أو غيره علاقة بالسعودية أو غيرها؛ وهذه العلاقة قائمة على شيء يخالف كتاب الله، أو سنة رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أو يدعو إلى الإفساد والإضرار بالمجتمع، وهذا ما يعجز المخالفون الشانئون عن إثباته؛ فإن أهل السنة هم أهل الاعتدال والوسطية، وهم الذين يحافظون على بقايا الخير في المجتمع، ويعلِّمون الجاهل، ويساعدون في مجال التنمية بشكل واضح: فكم أجرى الله على أيديهم من بناء المساجد، وحفر الآبار، وإقامة الخزانات والسدود، وبناء المدارس والمستوصفات، وشق الطرق، وإغاثة المكروب الملهوف، والزواج الجماعي، وكفالة الأيتام، والأسر الفقيرة، وإدخال السرور عليهم في المناسبات وغيرها، وكل هذا من تحريك عجلة التنمية في البلاد، وأما كثير من المخالفين ما هي آثارهم؟ سب، وغمز، ولمز، وتدخُّل في النيات، ورمْي الأبرياء والعلماء بالزور والبهتان، وترويج أفكار الأعداء، وزعزعة الأصول والثوابت في نفوس العامة وأشباههم، والتحريض على الفتن …إلخ، وإن كان لهم جانب من جوانب الخير أو أكثر، لكن قد غلب على كثير منهم الجانب الأول، والله المستعان.

4- إن من مفاخر السعودية أن تحتضن فقهاء الاعتدال والوسطية، بدل أن تحتضن دعاة الفتنة، فليس هذا من عيوبها، بل من محاسنها، وكما قيل:

أقِلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم              من اللوم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا.

نعم، السعودية وغيرها ليسوا بمعصومين من الأخطاء، ونحن لا نقبل إلا الحق من الجميع، ونرد الخطأ على الجميع، ولسنا مقلدين ولا إمّعة لأحد، ونحن حملة دعوة، فلا نُحَجِّم أنفسنا إلا بما وافق الحق، والحمد لله رب العالمين.

التعقيب الثاني عشر: اعترف الأخ ثابت الأحمدي بقوله: “شخصيًّا أعترف أن الخروج على الوالي أو الإمام يؤدي إلى مفسدة” ثم أضاف قائلاً: “لكن بقاء الأمة تحت ظلم هذا الوالي أو الإمام أو استبداده واعتسافه أكثر فسادًا”.

والجواب: ونحن نقول: إذا كان الإمام له شوكة، ولا يتنازل إلا بانقسام الناس إلى فرق وأحزاب، يضرب بعضهم رقاب بعض؛ فالصبر على ظلمه واستبداده أقل مفسدة من مفسدة الخروج عليه، وهذا إجماع العلماء وما يشهد له التاريخ، فلا نترك كل هذا لقولك شخصيًّا!! فإن أصررت على قولك وخالفت الجميع؛ رمينا بقولك، لأنك من أنت حتى نتبعك – بلا دليل- ونترك قول الأئمة الذي تشهد له النصوص والوقائع التاريخية؟ والأمر كما قيل:

يقولون هذا عندنا غير جائز               فمن أنتم حتى يكون لكم عِنْدُ.

وإذا كان الخروج على الوالي واستبداله بالوالي العادل، أو من هو أقل مفسدة لا مفسدة فيه؛ فالبقاء تحت ظُلْمة يكون أكبر مفسدة، ولا بد من تغييره، وعلى هذا فأهل السنة يفصِّلون ولا يُجْملون في مقام التفصيل والتقعيد والتمهيد.

التعقيب الثالث عشر: ثم استنكر أخونا ثابت الأحمدي على فقهاء الأمة عبر التاريخ كونهم ناقشوا مسألة الخروج على الحاكم، ولم يناقشوا أو يطرقوا مسألة خروج الوالي على الناس والأمة؟ ثم ذكر أن خروج الوالي يكون بمجرد مخالفته للدستور والقانون، و”بتجيير” مقدرات الأمة وحقوقها لصالحه، والجنوح نحو الأقرباء والأصدقاء على حساب الأكفاء في الوظيفة والمنصب، ثم قال: “أعتقد أن هذا بفعل الثقافة المصنوعة التي تَصَدَّرها فقهاء البلاط منذ بداية العصر الأُموي وإلى اليوم، التي أَضْفَتْ على الحاكم صفة العلوية والقداسة، وجعلت منه نصف إله …… المهم أن طاعته المطلقة واجبة ما أقام الصلاة!! ولا يجوز كما في الحديث الموضوع ولا شك، الذي أكد القول: “إلا أن تروا منه كفرًا” وليس كفرًا فحسب، بل: “كفرًا بواحًا” وليس هذا أيضًا فحسب؛ بل: “كفرًا بواحًا لكم فيه من الله برهان”!! قال: لاحظوا مقدار الدقة والتأكيد على الصنعة المحبوكة” !! اهـ.

والجواب على هذه الطوام من وجوه:

1- كون الفقهاء لم يناقشوا هذا الموضوع – حسب ظنك- هذه القرون المتطاولة؛ يجعلك – لو كنت منصفًا عارفًا لنفسك- أن تعيد النظر؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، فهم أبر هذه الأمة أفئدة، وأعمقها فهمًا – بعد الصحابة- فهل أطبقوا عبر هذه القرون على ضلالة، حتى جاء ثابت الأحمدي ليحفظ لنا ديننا؟ أما تعلم أيها الأستاذ قول الإمام مالك: وما لم يكن بالأمس دينًا؛ فليس اليوم بدين؟!

2- من أدراك يا ثابت أن العلماء ما ناقشوا حكم الحاكم إذا خرج على أمته، وأمرهم بغير ما أمرهم به الله؟ إن كنت تجهل هذا مع وضوحه وشهرته؛ فهل لك أن تُنظِّر للأمة في هذا الأمر الجسيم؟ وإن كنت تعلم هذا فلم تتهم العلماء، وتجحد جهودهم؟!

لقد أسهب العلماء في بيان حكم انحراف الحاكم، وذكروا الأحاديث التي تهدده فيما إذا ظلم الأمة واعتدى عليها، وسمَّوْا فاعل ذلك فاسقًا، ظالمًا، جائرًا، وأفتوا بخلعه إذا أمنت الفتنة، وتنازعوا – ثم اجتمعوا- فيما إذا كانت له شوكة، ويُخشى زيادة شره، أو اتساع رقعة الشر في الأمة، واستدلوا في الحالة الأولى  بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكروا في الحالة الثانية أدلة الصبر مع النصح حتى يستريح برٌّ، ويُستراح من فاجر، كل هذا يعبر عنه الأحمدي بقوله: “… لكنهم لم يناقشوا أو يطرقوا قضية خروج الوالي على الناس والأمة!!”

3- لقد فسّر الأحمدي خروج الحاكم بمجرد مخالفته للدستور والقانون… وذكر أمورًا أخرى، فهل مجرد المخالفة للدستور تستحق عندك يا ثابت الخروج عليه، ومن لم يوافقك على قولك؛ فهو من فقهاء البلاط، المؤلهين للحاكم؟! بهذا الطيش تنعق الغربان في بلاد المسلمين بعد خرابها، ولكن يجب على الناس أن يحذروا من هؤلاء المتهورين، وصدق من قال:

إذا نعق الغراب فقال خيرا                فأين الخير من وجه الغرابِ؟

ومن جعل الغراب له دليلا                  يمرُّ به على جيف الكلابِ

وهنا بان لنا: لماذا تسعوْن إلى تضعيف رواية: “إلا أن تروا كفرًا بواحًا” المتفق عليها، إنكم تريدون بأدنى مخالفة أن تفتحوا باب الفتن على مصراعيه، فوا أسفاه!!

4- وأما استئثار الوالي بالمال والمصالح لنفسه وأقاربه؛ فنذكِّر من كان كذلك منهم بما جاء في “صحيح البخاري” من حديث رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : “إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة وحسرة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة” كما أن هذا ليس من خُلُق الشرفاء العظماء: أن تستأمنهم رعيتهم على دمائهم وأموالهم وأماناتهم، فيأتون يوم القيامة وقد خانوا أماناتهم!!

ومع ذلك فقد أرشدنا النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إن وقع ذلك الانحراف منهم بقوله: “إنها ستكون بعدي أَثَرة وأمور تنكرونها” قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: “تؤدون الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم” أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود.

5- هذه الثقافة المصنوعة – حسب قول الأحمدي- من الذي صنعها يا ثابت؟ هل هم بنو أمية واتبعهم العلماء عليها؟ لو كان كذلك: لماذا يصرح العلماء في حكام بني أمية يزيد فمن بعده – باستثناء عمر بن عبد العزيز- بأنهم أمراء جور وظلم؟ لماذا يهرب كثير من العلماء من مجالسهم، ويحذرون طلابهم أن يخالطوهم؟ لماذا رووا الأحاديث التي تحذر من العمل معهم؟ كل هذا خشية أن يحضر أحد منهم مجلس الظلم ولا يستطيع أن يغيره، ولما صرح العلماء بأن النصب ومعاداة أهل البيت انتشر في زمن بني أمية؟! لو كان العلماء مع أمراء بني أمية كالريش في مهب الريح، أو كالميت بين يدي المغسِّل لما كانوا كذلك.

6- ثم متى جعل السلفيون الحاكم الجائر نصف إله؟ هل أحلوا ما أحل، وحرموا ما حرم، مخالفين في ذلك النصوص الصريحة؟ أين هذا؟ واثبته لنا، حتى نعلن توبتنا أمام الملأ، وإلا فنعوذ بالله ممن إذا خاصم فجر!!

7- ثم تأمل كيف سياقه المريب لحديث: “لا ما صلوا“!! ويضع بعده علامتي تعجب، مما يدل على عدم رضاه بالاستدلال في هذا الموضع بالحديث، فهل نترك الحديث ونتبع الأستاذ الأحمدي؟

يا أيها الناطح الجبلَ العالي ليوهنه             أشفِقْ على الرأس لا تُشْفق على الجبلِ

وصدق من قال: يمشي الكرام على آثار غيرهمُ                  وأنت تخلُق ما تأتي وتبتدع

8- وأما حكمه على حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه وفيه: “وأن لا ننازع الأمر أهله” قال: “إلا أن تروا كفرًا بواحًا لكم فيه من الله برهان” بأنه موضوع بلا شك، فتأمل هذه الجسارة الموجبة للخسارة، كيف يتجرأ هذا الْحَدَث على الحُكْم – بلا شك- على حديث في “الصحيحين” بالوضع، و”الصحيحان” قد تلقتهما الأمة بالقبول إلا أحرفًا يسيرة، وليس هذا الحديث منها؟!

وبعد ردي على زيد وثابت وقفت على مقال لمجيب الحميدي ثالثة الأثافي يُفصل القول بتهافت هذا الحديث، وقد رددت عليه ردًّا أرجو أن يدفع الله به عني وعن والدي وأهلي وذريتي وإخواني خزي الدنيا والآخرة.

9- وتأمل سخريته بكلمات حديث: “إلا أن تروا كفرًا بواحًا لكم فيه من عند الله برهان” وبينما يضع الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذه القيود التي تكبح جماح المتهورين؛ نجد هذا المنظِّر يعد ذلك دليلاً على الصنعة المحبوكة!! والأمر كما قيل:

لو رجَمَ النجمَ جميعُ الورى               لم يصلِ الرجْمُ إلى النجمِ

التعقيب الرابع عشر: قال الأستاذ ثابت: “أنا لا أقر الخروج بالعنف على الحاكم بقدر ما أدعو إلى ثقافة التسامح، والنضال السلمي في التغيير، لكني أختلف مع الشيخ ـ يعني الشيخ عبد العزيز الدبعي ـ في مفهوم الخروج نفسه، فالشيخ وأضرابه من الفقهاء التقليدين يرون أن مجرد النقد أو المعارضة السلمية، أو التشهير بالخطأ هو نوع من الخروج الذي يترتب عليه العقوبة …” ثم استهجن الكاتب القول بالنصيحة السرية للحاكم.

والجواب من وجوه:

1- تُشكر أيها الأستاذ على عدم إقرارك الخروج بالعنف، لكن ماذا لو استنفذتم كل الوسائل السلمية الديمقراطية لتغيير الظلم، فلم يتغير؟ هل ستصبرون؟ فهذا قولنا، وهل ستكونون بعد ذلك من المؤلِّهين للحاكم، ومن أصحاب ذيل بغلة السلطان؟ وإلا فهل ستخرجون بالعنف؟ إن قلتم: نعم، فهذا تناقض منكم، حيث أطلقتم عدم إقرار الخروج بالعنف، ورجعتم إليه، ثم ماذا سيكون موقفكم من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الآمرة بالصبر والناهية عن المنازعة والمنابذة؟ هل ستحكمون عليها كلها بالوضع أو الضعف؟ أم ستحرفون معناها؟ أم ستذهبون إلى فهم السلف لها؟ ونحن ولله الحمد سبقناكم إلى هذا الأخير.

2- النصيحة للحاكم تكون سرًّا وجهرًا، والأول أنفع في الغالب، والثاني مع غير الخلفاء الراشدين وأئمة العدل والقسط في الغالب يكون شره أكثر، والنصيحة سرًّا محمودة لجميع المسلمين، وهي في حق الوالي آكد، لكن التشهير بالأخطاء ليس من باب النصيحة؛ فإنه يوغر الصدور، ويفتح باب الفتن، وهذا مجرَّب مع آحاد الناس، فكيف في حق من يملك القوة والسلطان؟!

3- التشنيع والتشهير هو بداية الخروج، ومعلوم أن الناس لا يحملون السلاح على بعضهم إلا إذا سبق ذلك كلام واحتقان فكري نظري، وما رأينا أناسًا يحملون السلاح على بعضهم دون سابق بغضاء وكراهية، والكلام العلني مع التشهير هو بوّابة ذلك، فعند البخاري ومسلم أنه قيل لأسامة بن زيد: لو أتيت فلانا – يعنون عثمان رضي الله عنه- فكلمته!! قال: “إنكم لتروْن أني لا أكلمه إلا أن أُسْمِعكم، إني كلمته في السر دون أن أفتح بابًا لا أكون أول من فتحه“.

قال القرطبي في “المفهم في شرح مسلم”: “يعني أنه كان يجتنب كلامه بحضرة الناس، ويكلمه إذا خلا به، وهكذا يجب أن يُعاتب الكبراء والرؤساء، ويُعَظِّمون في الملأ؛ إبقاءً لحرمتهم، ويُنْصحون في الخلاء أداءً لما يجب من نصحهم ..”اهـ.

وقال القاضي عياض في بيان الباب الذي خشي أسامة فتحه: “يعني في المجاهرة بالنكير، والقيام بذلك على الأمراء، وما يُخشى من سوء عقباه، كما تولد من إنكارهم جهارًا على عثمان بعد هذا، وما أدى إلى سفك دمه، واضطراب الأمور بعده، وفيه التلطف مع الأمراء، وعَرْضُ ما يُنكر عليهم سرًّا،وكذلك يلزم غيرهم من المسلمين ما أمكن ذلك، فإنه أولى بالقبول، وأجدر بالنفع، وأبعد لهتك الستر وتحريك الأنفة“اهـ من ” إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم” وأخرج ابن سعد في “الطبقات” بسند حسن عن هلال بن أبي حميد الثقة قال: سمعت عبد الله بن عكيم ـ وهو ثقة مخضرم ـ يقول: “لا أُعين على دم خليفة بعد عثمان” فقيل له: يا أبا معبد، أوَ أعنْتَ على دمه؟ فيقول: “إني أَعُدُّ ذِكر مساويه عونًا على دمه“اهـ.

وبهذا يتضح أن التشهير بالأخطاء والمساوي بوابة الخروج المسلح، وفرق بين النصح – وإن كان علنيًّا- وبين التشهير بالخطأ ولو في المجالس، فما ذهب إليه الكاتب في أن التشهير بالخطأ ليس خروجًا مردود بهذا، والله أعلم.

التعقيب الخامس عشر: وأتى الأستاذ الأحمدي بأمر غريب في صورة تساؤل، مفاده: أنه إذا كان الواجب أن نسمع ونطيع للولي المسلم الظالم؛ فلماذا لا يجوز تولية الكافر على المسلمين، وقد لا يكون ظالمًا للناس كظلم المسلم؟!

والجواب: هذا قياس مع الفارق، بل هو فاسد الاعتبار؛ لمعارضته النصوص المحكمة والإجماع المتيقَّن، فقد قال تعالى: [وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] وأي سبيل أعظم من كون الكفار حكامًا عليهم؟! وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] أي (منكم) أيها المسلمون، فدل على أن غير المسلم لا يكون وليًّا شرعيًّا علينا.

وقال ابن المنذر: : “أجمع كل مَنْ يُحْفَظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال” وقال القاضي عياض: “أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر لَعُزِلَ“.

ثم إن ولي الأمر يغار على حرمات المسلمين، ويجاهد الكفار المحاربين، ويُستأمن على أسرار المسلمين، وأموالهم، فكيف يكون هذا كله لكافر؟ والله تعالى يقول: [لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] هذا في البطانة؛ فكيف إذا كانوا أهل الولاية العظمى؟!

لكن من لم يتربَّ في مجالس العلم، وعلى كتب أهل العلم؛ تحمله عاطفته الجياشة بلا ضوابط إلى ما لا يقال!!

التعقيب السادس عشر: ولما وقف الأستاذ الأحمدي على قول الشيخ الدبعي – حفظه الله-: “من ولاه الله أمرنا لا ننازعه في الأمر” عدَّ ذلك من باب جعْل الولاية السياسية حقًّا إلهيًّا!! ورماه بدخوله بذلك في التشيع من حيث لا يدري، وأنه لم يسبقه إلى هذا إلا الرافضة الإمامية والنصارى الكاثوليك في أوربا في القرون الوسطى، وأنه لم يسمع بذلك في عهد الخلفاء الراشدين إلا في قول عثمان – رضي الله عنه- في مقولته المشهورة: “لا أخلع ثوبًا ألبسنيه الله” قال: وهو خطأ محض، فالولاية السياسية مسألة مدنية بحتة، لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد، وأن البشر هم الذين يختارون بكامل إرادتهم وتصرفاتهم ولاة أمورهم، وكذلك يولونهم ويعزلونهم إذا قصروا في العقد الاجتماعي الذي بين الحاكم والمحكومين.

والجواب من وجوه:

1- قول الشيخ الدبعي لا غبار عليه، وهو جزء من نص الحديث الذي لا يستنكره بعض هؤلاء الكُتَّاب: “وأن لا ننازع المر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا، لا نخاف في الله لومة لائم” فأين إعطاء الحاكم الحق الإلهي بذلك؟ هل تتهم الرسول الذي قال هذا الحديث بأنه أعطى الحق الإلهي للبشر؟ هل أنت أعلم بالله من رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟

2- لو كان هناك إنصاف وتَعقُّل لَفُهِمَ كلام الشيخ الدبعي كما فهم هذا الحديث مع غيره من الأحاديث الأخرى: بأن المنازعة إذا كانت ستُفضي إلى منكر أكبر تُرِكَتْ، وإلا يُخلع الفاسق، ويُؤتى بالعدل القوي.

3- تشبيه الكاتب الشيخَ الدبعيَّ بالطائفتين المذكورتين من القول على عباد الله بغير علم، وأهل السنة لا يرون أحدًا معصومًا إلا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وغيره فيُؤخذ منه ويُرد عليه، والطائفتان المذكورتان تريان العصمة لمن ليس بمعصوم، فأين الثرى من الثريا؟!

4- إن كان الأحمدي يريد بقوله: لا دخل للدين في الولاية السياسية: أن للناس أن يختاروا ولاتهم وأن يعزلوهم دون الرجوع إلى الشروط التي جاءت في ديننا؛ فهذا قول يفتح باب الزيغ والضلال على الأمة، فنحن عباد الله، نؤمن بالقرآن والسنة، ورضي الله لنا الإسلام دينًا ومنهجًا، وقد جاء الإسلام بشروط للإمام، فنحن نختار من تتوافر فيه هذه الشروط – إذا كنا قادرين على الاختيار والتولية- وإذا أخل بشيء منها نظرنا في الأدلة التي تدل على كيفية التعامل معه عند إخلاله بذلك، وقد سبق بيان ذلك مفصّلا.

وإن كان المراد ما سبق من ضرورة الرجوع للشروط التي وضحها لنا ديننا فلا إشكال، لكن لماذا هذا التهويل والطعن في عباد الله بغير حقن وهذا هو قولهم؟

5- تخطئة الكاتب لقول عثمان – رضي الله عنه-: “لا أخلع ثوبًا ألبسنيه الله” ووصْفه هذا القول بالخطأ المحض: من الجرأة الغاشمة على الخليفة الراشد عثمان، الذي ظُلم من أهل البغي والمروق، ولا زال يُظلم من أبناء ديننا الذين اختلطت عليهم الموارد، وإلا فعثمان لم يزد على ما أمره به رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقد صحَّ عن عائشة – رضي الله عنها- قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وعلى وآله وسلم- قال: “يا عثمان، إن الله تعالى لعله أن يُقَمِّصَك قميصًا؛ فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعْه” أخرجه ابن أبي عاصم، وفي رواية عنده قالت: قال له ذلك ثلاث مرات، فعثمان تمسك بهذا القول المؤكد بتكراره عليه ثلاث مرات، فإن كان خطأ محضًا فلتخطِّئ يا ثابت – هداك الله- رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الذي أمره بذلك، وإذا وصلْت إلى هذا فأنت كحامل حتفه على كتفه، وكقاطع أرنبة أنفه بكفه!!

التعقيب السابع عشر: ثم قال الأحمدي للشيخ الدبعي لمجرد أنه قال: “لا ننازع ولاة أمورنا” عملاً بالحديث النبوي في ذلك، قال: “ولا عجب، فقد قال فقهاء من أمثالك ما هو أخطر من ذلك حين شهد ليزيد بن عبد الملك بن مروان أربعون شيخًا أن ما على الخلفاء حساب ولا عذاب، كما ذكر المؤرخ جلال الدين السيوطي في “تاريخ الخلفاء” مضيفين حديثًا: “أن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار” وكرر أن هذا هو المشروع الأُموي.

والجواب من وجوه:

1- سبق أن هذا المشروع مأخوذ من سنة رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والإجماع، وهو الموافق للعقل والفطرة السليمة، فليس مشروعًا أُمويًّا، ولا عباسيًّا، ولا عثمانيًّا،، ولا يمنيًّا، ولا سعوديًّا، ولا مصريًّا، ولا عربيًّا ولا عجميًّا، إنما هو مشروع رباني مأخوذ من مصادر الاستدلال المعتمد عليها عند الأمة.

2- قصة هؤلاء الفقهاء الذين قالوا ليزيد هذا ما قالوا، ما حال سندها؟ هل هي ثابتة أم لا؟ فحسب المصدر الذي ذكره الكاتب ففي سندها عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف يروي المنكرات، وقد يُستبْعد حضوره هذه القصة، وذلك بالنظر في وفاة عمر بن عبد العزيز الذي تولى بعده يزيد هذا في (101)هـ، وعبد الرحمن هذا مات (182) فلا يدرك القصة ويحفظها إلا إذا كان من المعَمَّرين.

3- من هم هؤلاء الفقهاء الذين قالوا هذا القول؟! لنعرف هل هم فقهاء سنة، أو ممن باعوا دينهم بيعًا رخيصًا!!

4- الحديث المذكور من أخرجه وما حاله؟

5- جعْل الشيخ الدبعي من أمثال هؤلاء الفقهاء – لو صحت القصة- من الافتراء الأحمدي، والشيء من معدنه لا يُستغرب!!

التعقيب الثامن عشر: ثم قال الأستاذ ثابت مضيفًا إلى ما سبق: “ألم يخطب أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني ما نصه: “أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وحارسُه على ماله، أعمل فيه بمشيئة الله وإرادته، وأعطيكم بإذنه، فقد جعلني عليكم قُفْلاً، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وإن شاء أن يقفلني أقفلني” اهـ من “تاريخ الخلفاء” ثم قال: “وبنفس اللهجة والمنطق والخطاب والتبرير صرح جورج بوش الابن بعد غزوه للعراق لوسائل الإعلام حين كثر منتقدوه على الجرائم الإنسانية في العراق قائلاً: “أنا لم أفعل أكثر مما يمليه الرب عليّ”!! قال الأحمدي: “وهذا يؤكد واحدية النزعة التسلطية الاستبدادية مهما اختلفت أديانها وأزمانها، وواحدية المنطق التبريري، واستغلال الدين أمام العامة من الناس، ولولا وجود أمثالكم المقربين من الحكام لما تجرءوا على الافتراء على الله، وخداع الأمم والشعوب” اهـ

والجواب من وجوه:

1- مقالة أبي جعفر هذه أخرجها ابن عساكر في “تاريخ دمشق” وشيخه فيها هو أبو العز ابن كادش، وهو ضعيف، وفي السند انقطاع أيضًا بين أحمد بن يونس بن المسيب وبين إسماعيل الفهري، وذكر ابن عساكر للقصة سندًا آخر فيه من لم أقف عليه، فسند القصة لم يثبت.

2- لو سلمنا بصحة السند إلى أبي جعفر، فالأحمدي – أحد المنظِّرين في هذا العصر فيما لا يحسنون!!- قد بتر من هذه القصة ما يرد قوله، ويدفع باطله، والخيانة العلمية يبدو أنها سهلة على نفوس بعض الكُتَّاب، والأمانة هي رأس مال الكاتب أو الباحث، ولكن:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة              وإن خالها تخفى على الناس تُعْلَم

وإليك ما بتره الكاتب الباحث الأمين!! عن المصدر الذي نقل منه، قال أبو جعفر بعد قوله السابق: “فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه فضله ما أعلمكم في كتابه إذ يقول: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم، والإحسان إليكم، ويفتحني لإعطائكم، وقسْم أرزاقكم بالعدل؛ فإنه سميع مجيب” اهـ

فتأمل هذا الكلام الذي يدل على أن أبا جعفر لا يدعي أنه إن أحسن أو أساء فالله أمره بالظلم والفحشاء، إنما يدعي أنه عَبْد مأمور، إن أراد الله به خيرًا استعمله وهيأ له سبيله، وإلا خذله وشدّد على قلبه، ويريد بذلك أن تتعلق قلوب الناس بخالقها وبارئها، الذي إذا أراد شيئًا هيأ له الأسباب وفتح له الأبواب، وهذا عين العقل والتواضع، فانظر هذا الكلام العظيم كيف يبتره الأحمدي، ويحرِّف الكلم عن مواضعه، ويقلب المعاني والمباني، ويجعل هذا وما قاله جورج بوش الابن كل منهما قد خرج من مشكاة واحدة!! أرأيتم افتراءً في مثل هذا المقام بمثل هذا الصنيع؟!

3- وقوله: “لولا وجود أمثالكم …” إلخ، ظلمات بعضها فوق بعض، وإلا فَعَبْر التاريخ ما اقترب أهل السنة من إمام إلا ساد العدل، وأقيمت الحدود، وأمن الناس، وارتفع عَلَم الجهاد، واندحرت البدع والأهواء، وانتشر العلم، وما اقترب أهل البدع من إمام إلا انشغل المسلمون بأنفسهم، وتسلط عليهم عدوهم، وفي قُرْب الجهمية من بعض خلفاء بني العباس ما يدل على صحة ذلك.

التعقيب التاسع عشر: رمْيه علماء السنة بأنهم حشروا أحاديث موضوعة في أدمغة الناس مقابل الأحمرين.

قلت: هذا الحديث الموضوع الذي يقصده الكاتب: هو حديث عبادة المتفق عليه عند البخاري ومسلم، وأهل السنة يُشكرون على ترويجهم أحاديث “الصحيحين” بين الناس، وذِكْر الروايات المسندة والمسلسلة بالثقات والمشاهير، وتحذيرهم من الأحاديث الباطلة والمنكرة، ونشرهم العقائد الصحيحة، وتقرير أدلتها، وأما أنتم فتروجون حكايات لا خطام لها ولا زمام، وعمدتكم مرة: “تاريخ الخلفاء” للسيوطي، وإن ارتقيتم فمن “البداية والنهاية” وهي أحسن بكثير من كتاب السيوطي، وإن ارتقيتم فمن “تاريخ الأمم والملوك” للطبري الذي شحنه برواية أبي مخنف المطعون في روايته، وغالب بضاعتكم من كتب التاريخ التي مخارج رواياتها مظلمة في الجملة، وأما أحاديث الثقات، وكتب الرجال والتراجم، والعلل والتخاريج فهي في وادٍ، وأنتم في وادٍ آخر، ولو عرفتم قدْر بضاعتكم، وتكلمتم فيما تحسنون؛ لكان حسنًا، فإنه لا يلزم كل أحد أن يكون عالمًا بهذا، فالدين يحث على التخصص، لكن التعالم، والسبق الصحفي وغيرهما يحدوكم إلى أن تتكلموا في غير فنِّكم، وعند ذاك تأتون بالعجائب!!

وصدق أبو بكر ابن العربي في قوله في آخر كتابه “العواصم من القواصم” في سياق كلامه عن فقه الولايات والعزْل: “فاقبلوا الوصية، ولا تلتفتوا إلا إلى ما صح من الأخبار، واجتنبوا كما ذكرت لكم أهل التواريخ – أي الذين لا يبالون بالأسانيد- فإنهم ذكروا عن السلف أخبارًا صحيحة يسيرة، ليتوسلوا بذلك إلى رواية الأباطيل، فيقذفوا كما قدمنا في قلوب الناس مالا يرضاه الله تعالى، وليحتقروا السلف، ويُهوِّنوا الدين، وهو أعز من ذلك، وهم أكرم منا، فرضي الله عن جميعهم، ومن نظر إلى أفعال الصحابة يتبين منها بطلان هذه الهتوك التي يختلقها أهل التواريخ، فيدسونها في قلوب الضعفاء …”اهـ

فرحم الله ابن العربي، كأنه قد وقف على شيء من مقالات بعض كُتَّاب زماننا؛ فجادت قريحته بهذه الوصية النافعة الماتعة.

ودعوى الأحمدي أن موقف أهل السنة من أجل الأحمرين، فالأمر كما قيل: رمتني بدائها وانسلَّتْ!!

هذا ما تيسَّر اختصاره من الرد على الأخوين زايد جابر وثابت الأحمدي، سائلاً المولى عز وجل أن يكون خالصًا لوجهه، ناصرًا لدينه، بلاغًا لي على طاعته ومرضاته، عونًا للأخويْن المذكوريْن ومن على شاكلتهما على معرفة الحق والثبات عليه، إنه أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني

دار الحديث بمأرب

24/7/1430هـ

  

للتواصل معنا