الردود العلمية المقروءة

حين يتكلَّم الرويبضة في أمر العامة

­­­

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فإن الناظر في حال المسلمين اليوم يجد الإسلام يعاني من جهل أكثر أبنائه، وعجْز معظم علمائه، وخُبث أعدائه، وغفلة أو ضعْف جُلَّ أمرائه، وقد أثخنت هذه الأسباب في كيان الأمة، وجعلت الأمم تتداعى على أمة الإسلام كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، مع أنهم أمة المليار والنصف، لكنهم غثاء كغثاء السيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد استغل الأعداء هذا الحال فوجَّهوا سهامًا سامة إلى أفئدة وعقول كثير من نخبة هذه الأمة ومثقفيها، فأصبح المعروف عندهم منكرًا، والمنكر معروفًا، إلا من رحم الله، وتجرأ كثير منهم على سادة هذه الأمة، وقادة مسيرتها من العلماء والفقهاء وصالحي الأمراء، فكانت الأمة تنتظر بِرَّهم بها، فإذا بهم يلطمونها بكفِّ العقوق، فصار أكثرهم كما قيل:

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها                   فكيف إذا الرعاة لها الذئاب؟!

وكما قيل:

وكنا نعدّك للنائبات                        فها نحن نطلب منك الأمانا!!

 بل وجدنا من يجعل عقله حاكما على الأمة وتراثها، ويجعل فهمه ميزانًا للتحسين والتقبيح، فيقبل ما يشاء، ويرد ما لا يشاء، وإن كان الذي يرده قد أجمعت الأمة قبله على قبوله، غير مبال بهذا الشقاق!!

وهذا ما رأيناه في مقال للأخ محمد الغابري في صحيفة “الأهالي” العدد (102) بتاريخ الثلاثاء 28/7/1430هـ الموافق 21/ 7/2009م، بعنوان: “السلفية: أخطاء منهجية قاتلة، وصناعة لفرعون، واحتقار للأمة”!! يريد بذلك أن دعاة السلفية عندهم أخطاء منهجية قاتلة، وأنهم حريصون على صناعة الطواغيت وبقائهم وتلميعهم، وأنهم يحتقرون الأمة، ولا يقيمون لها وزنًا، إذ هَمُّهُم الحفاظ على الطواغيت [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا] {الكهف:5}!! وكما قيل:

والصِّدْق يألفه الكريم المرتجى                    والكَذْب يألفه الدنيء الأخيبُ

وإذا بهذا الكاتب يضم إلى فواقره وأوابده بلية أخرى، وهي رد أحاديث في “الصحيحين” لأنها لا توافق هواه ومشربه، بل يجزم بأنه يغلب عليها الطابع البشري، أي أنها مما دسته أيادٍ آثمة في            “الصحيحين” وإذا تعرض “الصحيحان” في بلد الإيمان والحكمة والفقه لمثل هذا، ونُشِر ذلك في الصحف؛ فالأمر كما قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في ترجمة الدارمي “على عِلْمِ الحديث وعلمائه لِيَبْكِ من كان باكيا، فقد عاد الإسلام المحض غريبا كما بدأ، فلْيَسْعَ امرؤ في فكاك رقبته من النار، فلا حول ولا قوة إلا بالله” اهـ “النبلاء” (13/323) وقال أيضًا في ترجمة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في “تذكرة الحفاظ” في سياق ذمه لمن يحشر نفسه بين أهل الحديث،  ولا يسلك مسلكهم:  “…فإن آنسْتَ يا هذا من نفسك فهمًا، وصِدْقًا، ودينًا، وورعًا؛ وإلا فلا تَتَعَنَّ، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأْي ولمذهب؛ فبالله لا تتعب، وإن عرفت أنك مُخلِّط مخبِّط مهمل لحدود الله؛ فَأَرِحْنا منك، فبعد قليل ينكشف البهرج، وينْكبُّ الزغَل، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقد نصحتُك، فعلم الحديث صَلِفٌ([1])، فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كِدتُّ أن لا أراهم إلا في كتاب، أو تحت تراب”!!اهـ ( 1/ 4 ). 

قال هذا الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ وهو من علماء القرن الثامن، وكان في عصره من انتشار العلم، ووجود الأئمة والحفاظ المشاهير ما لا يخفى شأنهم، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ المزِّي، والحافظ البرْزالي، والحافظ ابن عبد الهادي المقدسي، والحافظ العماد ابن كثير الدمشقي، وشرف الدين الدميَاطي المصري، والحافظ ابن سيد الناس المغربي، وغيرهم، فكيف إذا رأى زماننا، ووقف على تصدُّر كثير من الجهلة، وتكلمهم في علم الحديث، وطعنهم في الجبال الراسيات، فماذا هو قائل؟!

تغيّرت البلاد ومن عليها                     فَوجْه الأرضِ مُغْبرٌّ قبيح

وهذا أوان الشروع في المقصود:

  • التعقيب الأول: استنكر الكاتب إطلاق كلمة “السلفية” على المتبعين لمنهج السلف الصالح، وتساءل: هل يوجد في القرآن الكريم أو السنة النبوية دعوة للسلفية؟ والوقوف عند السلف؟ هل كان رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سلفيًّا؟ وهل كان الصحابة سلفيين؟ ثم أجاب، فقال: الجواب: “كلا، لا يوجد للسلفية أصل، وليست من الشرع في شيء”.اهـ

والجواب من وجوه:

1- لا حاجة للاستنكار وإطلاق الأحكام الجُزافية، فالعبرة بالمسميات والحقائق لا مجرد الأسماء ، والأصل أن المتبعين لرسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في أول الإسلام هم المسلمون؛ كما قال تعالى: [هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ] {الحج:78} وما عداهم فهو كافر، وفي أواخر زمن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ظهرت الأهواء والبدع التي أخبر عنها النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بقوله في حديث العرباض بن سارية: “…إنه من يعشْ منكم بعدي؛ فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة” رواه أهل السنن وأحمد، فلما وقع الاختلاف، وكثرت الفتن، وظهر أهل البدع: كالخوارج، وأتباع عبد الله بن سبأ، وغيرهم من أهل الفتن في الدين؛ قال ابن سيرين ـ المتوفى في (110هـ) ـ : “كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة؛ قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فيُنظَر إلى أهل السنة فيُقْبل حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم” أخرجه مسلم في المقدمة، وكان هذا ـ فيما صح عندي ـ أول إطلاق لمصطلح أهل السنة، ولم يستنكر أحد من أهل ذلك الزمان هذا الاصطلاح؛ لأن المراد به تمييز أهل السنة المتمسكين بالسنة النبوية من غيرهم الذين تخبَّطت بهم الأهواء، فلما كثر التفرق والفِرَق، وشاع التنازع، فالابن يكفِّر أباه، والفِرْقة الواحدة تنقسم على نفسها، وأصول الفرق تدعوا إلى الفُرْقة، وأما أصول السنة فتدعوا إلى الاعتصام بالحق، والاجتماع على الثوابت؛ عُرف عند ذاك مصطلح: ” أهل السنة والجماعة ” فأهل السنة: احتراز من أهل البدعة، والجماعة: احتراز من أهل الفُرقة والتمزق، وسار الأمر على ذلك نحو قرنين من الزمان، وفي القرن الثالث، وبعد ما تُرجِمت كتب أهل الكلام، وانْحَسَرتْ مساحة النقل والأثر، واتسعت مساحة الرأي والنظر؛ وُجد فيمن ينتمي إلى أهل السنة من يعطل بعض صفات رب العالمين، واستدل على ذلك بأدلة، ولم يسلك في فهمها منهج السلف الصالح في ذلك، وتأثر ببعض ما عليه أهل البدع، فاحتاج المتبعون لسنة الخلفاء الراشدين ومن سلك مسلكهم أو أهل السنة المحضة إلى تحديد المرجعية عند التنازع في فهم الآية أو الحديث، فرأوا أن ما كان عليه الصحابة ومن سلك مسلكهم أعمق فهمًا، وأكثر صوابًا، وأنه أعلم، وأسلم، وأحكم؛ فقالوا: نحن على منهج سلفنا الصالح: الصحابة وأئمة التابعين، فعند ذاك عُرف أن هذا الفريق يتبع منهج السلف في فهم ما تنازع الناس فيه من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، وأما من خالف ما هم عليه؛ فقد أحدث، ومن اتبعه ـ فيما أحدث فيه ـ فقد اتبع الخلف لا السلف، هذا ملخص تاريخي لمصطلح السلفية، ولا مشاحة في الاصطلاحات لو سلمت القلوب من الأهواء.

2- إذا كانت بقية الفرق الإسلامية في الجملة في دائرة الإسلام لم تخرج منه: كالشيعة، والخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والقدرية، …إلخ ـ إلا من وصلتْ به بدعته إلى المكفِّرات الكبرى ـ فما هو الأمر الذي يميز المسلم المتمسك بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ المحضة، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، مِنْ الذي اختلطت عليه الموارد، واتبع هذه الفرق؟ فإن قلت: هذا مسلم، وهذا مسلم، فلا يكفي هذا في التعريف، لأن كلاًّ منهما مع كونه مسلمًا فهما مختلفان، فلا يميز بينهما إلا أن تقول: هذا سُني، وهذا شيعي مثلاً، وقد جرت عادة المسلمين منذ قرون طويلة بقولهم: فلان سني، وفلان شيعي، أو الدولة الفلانية سنية، والأخرى شيعية، وذلك دون نكير، بل كثير من مخالفي أهل السنة، يسمون أهل السنة بذلك، فيقولون: نحن نقول كذا، وأهل السنة يقولون كذا، فإذا سئل رجل عن دينه، فقال: أنا مسلم، قيل له: أنت مسلم شيعي؟ فيقول: لا، بل مسلم سُني، قيل له: أنت مسلم سني أشعري؟ فيقول: لا، بل مسلم سني على منهج السلف، فلو اختصر لنا هذا كله بقوله: سلفي؛ لكان من خير الكلام الذي قَلَّ ودَلَّ.  

فإن قيل: نسلِّم بمصطلح أهل السنة ولا نسلِّم بمصطلح السلفيين؛ فالجواب: ما دليل التفريق؟ فكلا المصطلحين لم يُذكر في القرآن عَلَمًا على فرقة بعينها، والغابري لا يُسلم ـ جهلا ـ بأي مصطلح لم يرد في القرآن وإن كان عربيًا!!

       أليس مـن البلوى بأنـك جاهـل                   وأنـك لا تدري بأنك لا تـدري

       إذا كنت لا تدري ولست كمن درى                 فكيف إذن تدري بأنك لا تـدري

فإن قيل: كل الفِرَق تدعي أنها على منهج الصحابة، فما الفَرْق؟ فالجواب: ليس الأمر كذلك، فالرافضة يكفرون أكثر الصحابة أو يفسِّقونهم، والخوارج قريبون منهم، والمعتزلة يقول رأسهم     واصل بين عطاء: “فلو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل؛ لم أحكم بشهادتهم!!” كما في “الميزان” ( 3/ 118) وبنحوه كلام عمرو بن عبيد بن باب المعتزلي القدري، انظره في ترجمته في “الميزان” والمرجئة يرون إيمان أفسق الناس وأفجرهم كإيمان أبي بكر وعمر والمبشرين بالجنة، وأهل الكلام يرونهم غير محققين في أصل الأصول، وأنهم لم يخوضوا في ذلك  لقلة علمهم، وضعْف تحقيقهم، فمن أسعد الناس بالصحابة وأعرف بقدرهم ومكانتهم غير أهل السنة؟!

3- السلف لغة: الجماعة المتقدمون، وسلف الرجل: آباؤه المتقدمون، والأمم السالفة: الماضية، انظر   “اللسان” ( 9/ 158 ـ 159) وفي “الأنساب” للسمعاني ( 3/ 296 ): “السَّلَفي : هذه النسبة إلى السلف، وانتحال مذهبهم” اهـ وفي “النهاية” (2/ 390) لابن الأثير: “… وقيل: سَلَفُ الإنسان: من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته، ولهذا سُمِّي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح” اهـ فلا غبار على هذه التسمية من جهة اللغة، ولا من جهة الشرع، وإن كانت صناعة فرعونية عند الغابري، لكن من هو هذا الغابري؟! وإذا كان سلفنا هم الصحابة، فكيف نجد نصًّا يسميهم سلفيين؟ فمن سلفهم الذي ينتسبون إليه؟! إنهم بداية السلسلة المباركة.

4- لقد تساءل الغابري: هل يوجد في القرآن أو السنة النبوية دعوة إلى السلف والوقوف عند منهجهم؟ فأقول: نعم، يوجد في الكتاب والسنة دعوة لاتباع ما كان عليه السلف، وعدم الخروج عن سبيلهم وفهمهم، فمن ذلك:

أ- قوله تعالى: [وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:115} فقد ذكرت الآية أمرين:

الأول: طريق الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو مأخوذ من القرآن الكريم والسنة المطهرة.

والثاني: وذكرت أيضًا بعد ذلك سبيل المؤمنين الذين فهموا القرآن والسنة فَهْمَ مَنْ عاصَرَ التنزيل، وشاهَدَ الوحي، وعايش الرسول الأمين ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فأخذ التنزيل والتأويل معا، والأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد، فهل يقارن من هذا فهمه بفهم من اختلطت عليه الموارد، وتقاذفت به الأهواء؟! فهذه الآية أضافت أمرًا فوق ما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ألا وهو سبيل المؤمنين، والصحابة داخلون في ذلك دخولاً أوليًّا، لأن الآية نزلت في زمانهم، وهم العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وتأمل هذا السياق القرآني المحكم، وذلك أن الهدى الذي جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سيختلف الناس في فهمه لا ختلاف مداركهم ومراتب علمهم ومعرفتهم، فماذا يفعلون عند الاختلاف؟ وإلى من يرجعون؟ هل يرجعون للآية أو الحديث؟ فهاهم ما اختلفوا إلا في فهم الآية والحديث!! إذًا فلا بد من رجوعهم إلى جهة مأمونة، فيتبعون طريقتهم، وهذا هو سبيل المؤمنين، فمن قال: سأفهم القرآن والسنة بفهمي لا بفهم الصحابة والأئمة؛ فهو غير متبع لسبيل المؤمنين، لأنه سيخالف إجماعهم، ويخترع أقوالاً لم يُسبق إليها، والأمة لا تجتمع على ضلالة، فكيف يفوتها عبر هذه القرون قول ما ـ وهو الحق ـ ثم يقف عليه كاتب أو صحفي في القرن الخامس عشر؟!

ب- قوله تعالى: [فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] {البقرة:137} أي آمنوا بما آمنتم به وكما آمنتم: في الاعتقاد؛ والعبادة، والسلوك، ومن كانوا كذلك فالرجوع إلى فهمهم عند الاختلاف في فهم الأدلة أولى من اتباع كل زاعق وناعق، لأن الله عز وجل مدح طريقتهم في الإيمان، وهي فرع عن فهمهم للإيمان.

ج- قوله تعالى : [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:100} فهذه تزكية للصحابة، وتزكية لمن اتبعهم بإحسان، مما يدل على رضى الله عنهم في اعتقادهم، وعبادتهم، وسلوكهم، ومن كان كذلك فيُرجع إليه عند الاختلاف في الفهم، لا أنه يُحتكم إليه ابتداءً وإن خالف الأدلة، فمن لم يأخذ بفهم الصحابة ـ لاسيما إذا أجمعوا ـ فليس من المتبعين لهم بإحسان.         

د- قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا] {البقرة:143} وقوله تعالى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران:110}والصحابة المخاطَبُون بذلك داخلون في ذلك دخولاً أوليًّا، ومن بعدهم تَبَعٌ لهم، ولا يكون المرء من بعدهم خيِّرًا وسطا إلا إذا كان على طريقهم، وفَهْمُهُمْ من طريقهم وسبيلهم، وصدق حسَّان – رضي الله عنه- إذ قال في الصحابة – رضي الله عنهم-:

إن كان في الناس سبّاقون بعدهمُ                  فكل سبقٍ لأدنى سبقهم تبعُ

هـ- قوله تعالى: [اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ] {لقمان:15}وهذا خطاب للرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو خطاب للأمة من بعده، فالرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مأمور باتباع سبيل من سبقه بالإيمان، وإذا كان الرسول قد أُمر بذلك فالصحابة كذلك مأمورون به، والأمة من بعدهم مأمورة به، وقد زكّى الله إيمان الصحابة – رضي الله عنهم- وقيامهم بما أُمروا به، فإذا اختلفنا في فهم آية أو حديث؛ رجعنا إلى فهم من زكَّاهم الله ورضي إيمانهم، لا فهم المدارس المشبوهة، والتوجُّهات المجهولة!! فالصحابة أول من أناب إلى الله واتبع رسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ  في هذه الأمة، فهم أولى باتباع سبيلهم من غيرهم، وفهمهم من سبيلهم.

و- قوله تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي] {يوسف:108} وأول أَتْباعه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في الدعوة هم الصحابة، وإذا كانوا يدعون إلى الله، كما يدعو الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك بتزكيته وشهادته – فهم أولى الناس بالرجوع إلى فهمهم للدعوة إلى الله عند الاختلاف في فهم الأدلة، والله عز وجل يقول حاكيًا عن نفر من الجن:  [يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآَمِنُوا بِهِ] {الأحقاف:31} فمن وصفه الله أو رسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بأنه داعٍ إلى الله؛ فهو على الحق عقيدة، وعبادة، وسلوكا، وفهما، فمن ترك سبيله فقد خالف الحق.

ز- قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] {التوبة:119} وقد فسَّر ذلك عدد من المفسرين بأنهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وكيف نكون معهم إذا كنا لا نبالي بفهمهم، ولا نرفع رأسًا بإجماعهم، ولا ننظر في أقوالهم واجتهاداتهم؟!

ح- قوله تعالى: [وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] {الحج:78} فأخبر سبحانه أنه اجتباهم، أي اصطفاهم، فجعلهم صفوته من خلقه بعد الرسل، وآثرهم على من سواهم للشهادة على الناس، ومن كان كذلك كان منهجه مرضيا، ومن كان منهجه مرضيا رجعنا إليه عند التنازع في الفهم، فمن فهم بفهم من اصطفاهم الله؛ فهنيئًا له، ومن قال: هم رجال ونحن رجال؛ فقد فتح على نفسه أبواب الزيغ والضلال!!

ط- قوله تعالى: [وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ] {الحجرات:7} ومن كان راشدًا؛ كان فهمه أسدَّ وأصوب، ولزمنا أن نتبع فهمه عند اختلاف الأفهام، لنكون من الراشدين.

ي- وقوله تعالى: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ] {الفاتحة:7} وقد بين سبحانه المنعَم عليهم في قوله تعالى: [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا] {النساء:69} فالذين أنعم الله عليهم، وحكى عن المؤمنين أنهم يسألون الهداية إلى طريقهم؛ لا يكون فهمهم إلا حقًّا إذا اجتمعوا.

فهذه عدة آيات كلها تزكي فهم الصحابة، ومنهجهم، وسبيلهم، وهناك غير ذلك من أدلة انظرها في كتاب: “البينات السلفية …” للشيخ أحمد سلام ـ حفظه الله ـ.

أليس في هذا كله ما يدل على أن القرآن يدعو الخلف إلى لزوم فهم السلف؟ وهل نترك فهم الصحابة، ونتبع فهم محمد الغابري، الذي يخبط خبْط عشواء، في ليلة ظلماء؟!

جهلتَ فعاديتَ العلومَ وأهلها                  كذاك يعادي العلمَ مَنْ هو جاهلُهْ

وأما الأحاديث النبوية التي ترشد إلى لزوم فهم أهل الصدق والإنابة، وهم السلف الصالح: الصحابة ومن تبع سبيلهم، فمنها:

أ- قوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ..” متفق عليه.

وهذه الخيرية للصحابة تقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير على من بعدهم، وأول ذلك صحة فهمهم لنصوص الكتاب، ولمراد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من هذه الأحاديث، ولو كانت الخيرية مقيدة في باب دون آخر؛ لم يكونوا خير القرون مطلقًا، وليبيَّن ذلك الحديث، ولم يطلق الخيرية، وأما من بعدهم فدونهم في هذه المرتبة، كما هو واضح من قوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : “ثم … ثم …” فهو تأخر زماني، وتأخر في الرتبة أيضًا، وإن كان بعض آحاد من بعدهم أفقه من بعض آحادهم.

ب- وقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ: “…النجوم أمَنَةٌ للسماء، فإذا ذَهَبَتِ النجوم أتى السماء ما تُوعَد، وأنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أمَنَةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدُون” رواه مسلم.  

فجعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء، ومعلوم أن النجوم يُهتدى بها، فكذا الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تهتدي بهم الأمة، وبقاؤهم حِرز للأمة من الشر، فكيف يكون فهمهم لا حجة فيه؟ ولو كان فهمهم باطلاً؛ لكان بقاؤهم ـ لا ذهابهم ـ شرًّا، وهذا بخلاف الحديث!!

ج- وقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من حديث العرباض بن سارية: “…إنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور…” رواه أهل السنن وأحمد.

فقرن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سُنَّة الخلفاء الراشدين بسُنته، وأمر باتباعها، كما أمر باتباع سنته، فلو كان فهمهم لا قيمة له لماَ قَرَنهُ بسنَته ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولما أمر باتباعه.

د- وقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: “اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر ..” رواه الترمذي، وصححه شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في “الصحيحة” برقم: (1233) وفي معناه ما رواه مسلم من حديث أبي قتادة أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال: ” إن يُطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا “ والمعنى في ذلك كالذي قبله من أحاديث.   

هـ- وقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى يأتي أمْر الله، وهم على ذلك”.

وهذه الطائفة امتداد لطائفة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وقد وصفها الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بأنها على الحق ظاهرة، لا يضرها من خالفها من الخارج؛ أو خذلها من الداخل، ولا شك أن هذا الثبات على الحق فرع عن الفهم السديد، فمن رجع إلى فهمهم عند اختلاف الأفهام كان ظاهرًا على الحق.

و- وقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ “… وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة” قيل: ما هي يا رسول الله؟ قال: ” الجماعة “وصّحَّح بعضهم رواية: “إلا ما أنا عليه وأصحابي” وعلى كلا الروايتين فهذا تزكية للصحابة، لأنهم هم الجماعة آنذاك، وداخلون في مسمى الجماعة دخولاً أوليًّا، وأي جماعة بعدهم فهي تابعة لجماعتهم، وإذا كانوا هم الفرقة الناجية؛ فلا نجاة إلا باتباع فهمهم عند اختلاف المفاهيم ممن بعدهم. 

ز- وقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: “لا تجتمع أمتي على ضلالة” أو“إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة” أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، وهو دليل على مَدْحِ فَهْمِ الأمة إذا اجتمعت على أمرها، والصحابة أول المقصودين بذلك.

ساروا على النهج القويم فأصبحوا                  للمجد أهلاً والسيادة آلا

وانظر عددًا من الأحاديث والآثار في “البينات السلفية” للشيخ أحمد سلام ـ حفظه الله ـ.

وقد استفدت منه في هذا الباب عددًا من الأدلة القرآنية والنبوية ـ فجزاه الله خيرًا ـ.

فماذا يريد الأخ محمد الغابري بعد هذه الآيات والأحاديث في مدح فهم السلف؟ وما الفائدة من مدح فهمهم، وتزكيته، والثناء عليه إذا لم يكن حجة لمن بعدهم عند اختلاف أفهامهم؟! [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ] {الجاثية:6} ؟!

  • التعقيب الثاني:

بل زاد الغابري في ذم كلمة السلفية أو السلف، فقال: “لقد جاءت كلمة “سلف” في القرآن الكريم في مقام الذم، ومرتبطة بفرعون وقومه … قال تعالى: [فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ] ثم ذكر الغابري أن القرآن ذم الذين يحتجون بالآباء، كما قال تعالى حاكيًا عنهم: [بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ] {الزُّخرف:22} وقوله تعالى: [إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ] {الزُّخرف:23} ثم ذكر أن الإسلام لا يكون بالوراثة، وأن تقليد الآباء والأجداد لا قيمة له، وأن إسلامهم لهم …”

والجواب من وجوه:

1- دعواه أن كلمة: “سلف” جاءت في مقام الذم في القرآن الكريم، ومرتبطة بفرعون؛ يقال له: السلف هم الجماعة المتقدمون مطلقًا، فإن كانوا على خير؛ فهم ممدوحون، وإن كانوا على غير ذلك فهم مذمومون، لا أن مجرد كلمة: “سلف” تدل على مدح أو ذم في ذاتها، وكونها وردت في قصة فرعون؛ لا يلزم من ذلك أنها محصورة في معنى الذم، فقد وردت في صحيح السنة في مقام المدح؛ إذ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لفاطمة رضي الله عنها عندما أخبرها باقتراب أجله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: “فاتقي الله، واصبري؛ فإني نِعْمَ السَّلَفُ أنا لك …” أخرجه البخاري برقم (6286) ومسلم برقم (2450).

أي أنه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سيتقدم عليها في الموت، وأنها ستلحق به، وقد كان كما أخبر ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.

2- وأما ما جاء في القرآن الكريم من ذَمِّ اتباع الآباء والأجداد؛ فهذا إنما يكون في اتباعهم في الباطل، وإعراضهم عما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أما اتباع الآباء والأسلاف في الحق فممدوح، وقد قال تعالى حاكيًا عن يوسف ـ عليه السلام ـ: ” [إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ] {يوسف:37_38} فذكر ـ عليه السلام ـ براءته من ملة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وأظهر اتباعه لملة آبائه الأنبياء وسادته الصادقين في عبادة الله ـ عز وجل ـ وبنحوه قوله تعالى: [أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] {البقرة:133} ونحن نقول: نحن نتبع ملة الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ونعبد الله كما عبده الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ونسأل الله التوفيق والعون، والعفو عن تقصيرنا.

3- انظر إلى هذا القياس العجيب من الأخ محمد الغابري: فإنه يذم من اتبع فهم العلماء الذين مدح الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إجماعهم، وأخبر أنهم لا يكونون على ضلالة إذا اجتمعوا، وأخبر بوجود طائفة من الأمة ظاهرة على الحق، ولا يمكن بهذا أن تكون هذه الطائفة في جانب من خالف الحق، ولا يبالي بفهم الصحابة الذين أرشد القرآن إلى اتباع سبيلهم؛ وهدَّد من خالفه، ويجعل هذا كله مذمومًا كاتباع الآباء المعرضين الغافلين أو الضالين المعاندين!! [مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] {القلم:36} [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {الزُّمر:9}[أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] {الجاثية:21} .

  • التعقيب الثالث:

قال: “ومن لطائف القرآن الكريم أن يجعل السلف والتشيع مما اقترن بفرعون” [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا] {القصص:4}[إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي     شَيْءٍ] {الأنعام:159} ثم تساءل: هل كان رسول الله سلفيًّا أم شيعيًّا أم صوفيًّا؟ وذكر أنه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أُمِرَ أن يكون من المسلمين.

والجواب من وجوه:

1- انظر إلى هذا الفقه الغابري، ومدى معرفته بأسرار الكنوز القرآنية!! ولقد سبق الكلام على كلمة: “السلف” وأن الانتساب إلى السلف الصالح ليس مذمومًا، وأما كلمة: “التشيع” فتطلق في المدح والذم أيضًا، فمما جاء من ذلك في المدح قوله تعالى: [وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ] {الصَّفات:83} والمراد الأنصار والأعوان، وكون المنتسبين لهذا الاسم أساءوا في أمور؛ فلا يلزم من ذلك أن الاسم لا يُطلق إلا في الذم.

2- وإذا كانت الأدلة كثيرة على مدح مذهب السلف: الصحابة وأتباعهم بإحسان؛ فلا عيب على من انتمى لذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في: “مجموع الفتاوى” (4/149): “… لا عيب على من أظهر مذهب السلف، وانتسب إليه، واعتزي إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقًّا …” اهـ.

3- أما الصوفية ففي أمرهم تفصيل ليس هذا موضعه، وليس مجرد التسمية هو موضع الخلاف، ولكن العبرة بالحقائق والواقع، ومدى موافقة ذلك إلى القرآن والسنة وفهم سلف الأمة.

  • التعقيب الرابع:

قوله: “فكيف نكون سلفيين؟ وبأي حق نستبدل الإسلام بالناس مهما كانوا؟ فصلاحهم لهم، وليسوا هم الإسلام”.

والجواب من وجهين:

1- سبق أن السلفية ليست منافية للإسلام، حتى يقال: “وبأي حق نستبدل الإسلام بالناس”؟ لأن السلف هم خير من فهم الإسلام فهما صحيحًا، فاتباعهم أمان ونجاة، وهو الإسلام بصورته الصحيحة، ونحن أسلمنا لله رب العالمين بالطريقة التي أسلم بها السلف: الصحابة وتابعوهم بإحسان.

ونحن بين هذه الأمور: إما أن نتبع السلف، وإما أن يتبع كل منا فهمه، وإن تضاربت المفاهيم في أصول الدين، وإما أن نتبع الغابري والمدرسة التي يمثلها؟ فأفتونا مأجورين!!

2- ليس المراد باتباع السلف: اتباع آحادهم عند الاختلاف بينهم، بل المراد اتباع مجموعهم، وقواعدهم الكلية التي تواترت الأدلة النقلية والعقلية على صحتها، وبهذا لا يكون اتباعهم مجانبة للإسلام، وإذا اختلفوا رجَّحنا بين كلامهم حسب الأدلة الشرعية والقواعد المرضية.

علمًا بأن اختلاف الصحابة ومن سلك سبيلهم حقًّا لا يكون إلا في مسائل اجتهادية فرعية، أما أصول الدين فقد أجمعوا عليها، وما اختلفوا فيه من مسائل عملية أو علمية؛ فلم يتهاجروا بسببه، ومن لم يسلك سبيلهم ضل، والله المستعان.

  • التعقيب الخامس:

1- دعواه في بيان الأخطاء المنهجية القاتلة عن السلفيين: أن السلفية تستبعد القرآن الكريم في الاستدلال، وتستبدله بالأحاديث والآثار، مستدلاً بأن الشيخ الدبعي في رده جاء بآية واحدة، وحشد عشرات الأحاديث.

والجواب من وجوه:

 1- أن هذا اتهام جائر ومبالغ فيه، فإن أهل السنة يستدلون بكتاب الله تعالى، وبسنة رسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وبآثار الصحابة، والتابعين، وأتباعهم، ويَذْكُرون كلام العلماء موضحين به صحة استدلالهم، وأنهم لم يبتدعوا قولاً من عند أنفسهم، بل هم متبعون للأدلة على فهم سلفهم، فكيف يستبعدون القرآن الكريم في الاستدلال؟! وهذه كتبهم ومؤلفاتهم ترد هذا الادعاء العاطل.

2- الكاتب نفسه في مقاله هذا ما استدل على قول من أقواله بالحديث إلا بجملتين من حديثين لتفسير معنى لغوي فقط، فهل يقال: إنه لا يهتم بالسنة النبوية، ويستبعدها من قائمة الأدلة التي يستدل بها؟ لا أطلق القول بهذا حتى الآن ـ وإن كان فيه شيء من ذلك ـ لأنه قد قال في موضع آخر من مقاله هذا: “إن حجية السنة النبوية بشقيها: العملية “السيرة” والقولية “الحديث” ثابتة، ولا يمكن إنكارها، ولا حجة لمن يُعْرفُون بالقرآنيين في الرفض المطلق للسنة، إن أحدهم يتقبل أن يأخذ من فلاسفة مثل أرسطو وأفلاطون ويجحد سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كما أنه لا يمكن إنكار جهود علماء الحديث في الضبط للسند، وهو منهاج علمي رائد” اهـ.

فهذا كلام جميل – في الجملة- من الغابري، لكن سيأتي عنه ما يزعزع هذه الثقة، والله المستعان.

فإذا كان هذا الكاتب يثبت حجية السنة بشقيها، ولا يستدل إلا بجزأين من حديثين لتفسير معنى لغوي؛ فهل يقال له ـ كما قال في حق الشيخ الدبعي ـ: إنه استبعد الاستدلال بالسنة، وهي المصدر الثاني، أو أنها المبينة للمصدر الأول؟

3- الشيخ الدبعي كان في مقام الاستدلال على طاعة الأمراء المسلمين، فذكر الآية التي تدل على ذلك، وهي قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] {النساء:59}  ولما كان في سياق طاعة ولي الأمر في المعروف وإن ظلم، خشية حدوث مفسدة أكبر بالخروج عليه؛ حشد الأحاديث الدالة على ذلك، فالمقام لا يحتمل غير هذا، فهل يريد الكاتب من الشيخ أن يختلق آيات من عند نفسه حتى يكثر عدد الآيات في المقال، كي لا يكون عند الغابري وغيره ممن يستبعدون القرآن الكريم من قائمة مصادر الاستدلال، وهو المصدر الأول؟

  • التعقيب السادس:

دندن الكاتب حول كلمة “ولي الأمر” وأن هذه الكلمة صناعة لفرعون الفرد المتألِّه المستبد، وذكر أن هذه الكلمة لم تأت في القرآن ولا في السنة، إنما الذي جاء قوله تعالى: [وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] وقوله تعالى: [وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ] {النساء:83}وأن هناك فرقًا بين”أُولي” و “ولي” وأن كلمة “أُولي” لا واحد لها من لفظها، وأن كلمة “ولي” ليست مفردًا لها، وأن الذي جاء في السنة: “وأن لا ننازع الأمر أهله” و“إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله” وذكر أن “أهله” جمع لا مفرد لها منها، وأن السلفيين يعاندون الله ورسوله!!ويُصرون على “ولي الأمر” وما ذاك إلا حرصًا منهم على أمْر فرعون [وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ] {هود:97} وأنه لم يقترن لفظ “أمر” بمفرد إلا بفرعون، أما ما عداه فإنه يقترن بالجمع، مثل: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] [وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]، قال: فحين اقترن بمفرد لم ينتسب إلى شخص، بل قال ربنا: [فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ] اهـ ملخصًا.

والجواب من وجوه:

1- لا أدري ما فائدة هذا البحث الطويل العقيم ممن هو ليس له بأهل؟ هل يريد الكاتب أن كلمة “ولي الأمر” كلمة غير عربية أصلاً إذ لم ترد بهذه الحروف وبإضافة المفرد إلى ” الأمر ” في القرآن الكريم؟ ولو سلمنا بأنها بهذه الحروف لم ترد في القرآن؛ فهل يلزم من ذلك أنها ليست عربية أصلاً؟ ولو سلمنا أنها ليست عربية أصلاً؛ فهل معنى ذلك أن الناس لا يكون لهم حاكم يلي أمورهم، ويتولى شؤونهم، ويجوز أن يُسَمَّى ولي أمرهم؟ وإذا كان الكاتب لا يُنْكِر وجوب نَصْب رجلٍ يسوس الناس، وإنما يخالف فقط في الاسم؛ فلا مشاحة في الاصطلاح إذا اتفقنا على صحة المعنى، فها هم الصحفيون والسياسيون والمثقفون قد ملؤوا صفحات الصحف والمجالس بكلمات أعجمية بحتة، ويعنون بها معاني عربية، فكان ماذا؟! أليسوا يقولون: “أيديولوجية” على العقيدة، و”ديمقراطية” على نظام حكمي معين، و”ديكتاتورية” على نظام الفرد المستبد …؟!

2- هل الكاتب يطلق ذلك أيضًا على الحاكم العدل، ولا يرى تسميته بولي الأمر، أم يخص ذلك بالحاكم الجائر؟ فإن فرّق فلا دليل من جهة اللغة في ذلك، وإن ساوى رجعنا إلى الجواب السابق.

3- لقد أجاب أحد إخواننا على ما قاله الكاتب في هذا المقطع، وملخص جوابه ما يلي:

أ- أن كلمة: “أُولي” تدل على الجمع، وإن كان لا واحد لها من لفظها؛ فلها واحد من معناها، وهو”ذو” بمعنى صاحب، و” أُولي ” لا تضاف إلا إلى اسم ظاهر، و “أُولي” و “ذو” يُتوصَّل بهما إلى وصْف الذوات بأسماء الأجناس، كما يُتوصَّل بالأسماء الموصولة إلى وصف الذوات بالجمل.

ب- كلمة: “ولي” مأخوذة من الولاية، قال الراغب: “وكل من ولى أمر آخر فهو وليه” ومن ذلك: “ولي اليتيم” و”ولي المرأة” ولا يقال: “ولي العلم” و “ولي الألباب” لأنها معانٍ، ولا ولاية عليها، وأولو الأمر أهله.

ج- من ادعى أن القرآن استوعب مفردات اللغة؛ فقد وهم، فهذا “لسان العرب” وحده يحتوي على (80.000) مادة، دون ما استدرك عليه، وعلى هذا فليس محرمًا أن تأتي بلفظة ليست في القرآن، إنما المحرم أن تأتي بما يخالف القرآن الكريم، أو الشرع الشريف، وكلمة “ولي الأمر” بمعنى “صاحب الأمر” من الكلام العربي، فلا حاجة لهذه الدندنة!!

د- في بعض كتب التفسير: أن طاعة أولي الأمر تشمل الأمراء، والحكام، والمفتين، فالأمر أعم من الأمير العام اهـ المراد منه.

4- تأمل كيف أن الكاتب وصف السلفيين بالمعاندين لله ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لمجرد استعمالهم كلمة “ولي الأمر” وجعل ذلك من حرصهم على أمر فرعون، ولو قال ذلك فيه أحد طلاب العلم؛ لهاج عُشُّ الدبابير أو الزنابير من الصحفيين والكُتَّاب المغرضين، ورموا جميع السلفيين ـ لا القائل فقط ـ بأنهم يكفِّرون المسلمين جميعًا، لا الغابري فقط، فيا لله العجب!! 

5- دعواه أن لفظ الأمر لم يقترن بالمفرد إلا في حق فرعون، كما قال تعالى: [وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ] ولم يضف بعدها إلا إلى الجمع؛ دعوى مردودة، فقد أضيف فقط الأمر إلى اللفظ المفرد والمثنى  والجمع، بل أضيف إلى الرب عز وجل، وإلى لفظ الجلالة في آيات كثيرة، وهو الأحد الذي لا نِدَّ له، ولا شبيه له – سبحانه وتعالى- كما في قوله تعالى: [وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا] {النساء:47} وقوله عز وجل،: [َ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ] {التوبة:48}وقوله سبحانه: [أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ] {النحل:1} وقوله جل وعلا: [إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ] {هود:76} إلى غير ذلك من الآيات، واقترن بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أيضًا، فقال تعالى لنبيه: [لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ] {آل عمران:128} وقال تعالى: [لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ] {الحج:67}وقال تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ] {الجاثية:18} واقترن بالمثنى في قوله تعالى: [قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ] {يوسف:41}.وأضيف إلى بعض الأحداث والأهوال، كما في قوله تعالى: [وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ البَصَرِ] {النحل:77}وإلى بعض الأزمان – وهي ليلة القدر- كما في قوله تعالى: [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ] {الدُخان:4} واقترن بخطاب المفرد المؤنث، كما في الآية السابقة، وكما في قوله تعالى حاكيًا عن قوم سبأ: [وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ] {النمل:33}، واقترن بالجمع العاقل، كما في قوله تعالى: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] {الشُّورى:38}وكذا اقترن بجمع غير العاقل، كما في قوله تعالى: [الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ] {الطَّلاق:12}. واقترن بذكر اسم جنس مفرد، كما في قوله تعالى: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ] {النساء:83}.

فكيف يتجرأ هذا الكاتب ويدعي أن كلمة “أمر” لم تقترن بمفرد إلا في حق فرعون؛ أما ما عداه فإنها تقترن بالجمع؟! ولو سلمنا بعدم ورود ذلك في القرآن أصلاً؛ فتبقى صحته لغة، فلا خطأ في استعمال مصطلح “ولي الأمر” أو “ولاة الأمور” وإن تفلسف أو تحذلق محمد الغابري!!

سريتَ تخوض الليل والليلُ أسْودُ                فيا أيها الساري إلى أين تقصدُ؟

  • التعقيب السابع:

قوله: “في المقابل لا يمكن القبول المطلق للأحاديث التي وردت ـ حتى تلك التي جاءت في البخاري ومسلم ـ إلا في حالة إثبات المحدثين التالي: أن البخاري ومسلما وكل الرواة معصومون، وأن ما قاموا به ليس عملاً بشريًّا يلحقه الخطأ بالضرورة، إن ما هو قائم هو خلْط بين العدالة والعصمة، فالسلفيون يصوِّرون البخاري ومسلما معصومين من الخطأ، وذلك غير صحيح، والصواب هو فحص المتن، وإن ثبتت صحته من جهة السند …” اهـ.

والجواب من وجوه:

1- نعم، هناك فرق واسع بين العدالة والعصمة، وأن البخاري ومسلمًا وبقية الرواة ليسوا بمعصومين من الخطأ، لكن يجب قبول خبر العدل والعمل به حتى يثبت أنه أخطأ في خبره بالأدلة الصحيحة لا بالأوهام الفاسدة! كأن يدعي شخص بأن الحديث الفلاني وإن كان في “الصحيحين” إلا أنه لا يتلاءم مع عقله، أو يتنافي مع ذوقه، أو يدعي مخالفته لبعض الأدلة ـ حسب فهمه ـ والجمع ممكن وميسور عند أهل العلم …ونحو ذلك. وقد رأينا جسارة من بعض الكُتَّاب الجهلة بأحكام الشريعة، حَمَلَتَهْم على مخالفة سبيل العلماء، وأعطوا لأنفسهم صلاحية القبول والرد حسب أهوائهم ـ لا حسب قواعد العلماء ـ لأحاديث اتفق أهل العلم على صحتها، بل ادَّعَوْا أن الطابع البشري يغلب عليها، كما سيأتي من كلام الكاتب الذي لو عرف قدره ما سلك هذا المسلك!!

رجوعًا بنا لسواء السبيل                 حِيادًا عن الغرب والمشرق

هذا، مع أن الحافظ الذهبي على براعته في النقد، وجرأته في بيان خطأ من أخطأ وإن كان من الأئمة، لما ذكر بعض أحاديث خالد بن مخلد القطواني عند البخاري، قال: “فهذا حديث غريب جدًا، لولا هيبة الجامع الصحيح لعدُّوه من منكرات خالد …” اهـ “الميزان” (2/ 427) وما ذاك إلا لمكانة الصحيح في نفوس العلماء، ولو فتح الباب لهؤلاء الكُتَّاب لزُعْزِعَت الثقة في “الصحيحين” فضلاً عما دونها، وتسقط بذلك السنة، وتخطب الدجاجلة من فوق المنابر، وحسبنا الله.

زمنٌ كَأُمِّ الكَلْبِ تُرْضِعُ جَرْوَهَا             وتَصُدُّ عن ولد الهِزَبْرِ الضاري

 2- الأصل في خبر العدل ـ مع وجوب العمل به ـ أنه لا يفيد إلا غلبة الظن، إلا إذا حفته قرينة تقوي من أمره، فيرتقي إلى درجة العلم النظري أو الاستدلالي، وأحاديث “الصحيحين” قد تلقتها الأمة بالقبول، إلا أحرفًا يسيرة، فما تلقته الأمة بالقبول، مع توافر الدواعي على الطعن فيه لو كان هناك مسوِّغ للطعن؛ فهو أرفع منزلة من الأحاديث التي لم تَحْظَ بهذا التلقِّي وإن كانت صحيحة في نفسها، وهذه الدرجة الزائدة على درجة غلبة الظن هي التي يسميها بعض أهل العلم: درجة العلم النظري، وما ذاك إلا لمزيد اعتناء الشيخين بكتابيهما، وإلا فالأئمة لا يعاملون بقية كتب البخاري نفسه معاملتهم للصحيح، ولو كان معصومًا عندهم لقبلوا كل ما روى!!

3- حتى لو سلمنا لهؤلاء الكُتَّاب بأن أحاديث الآحاد عند البخاري ومسلم لم تصل إلى درجة العلم النظري، فلا أقلَّ من التسليم بصحتها إلا إذا طعن فيها إمام وأصاب في ذلك، أو ظهرت لنا فيها علة على طريقة وقواعد أهل العلم في الجرح والتعديل والتصحيح والإعلال، أما كثير من الكُتَّاب فيتكلم الواحد منهم بما هو غريب عن الأمة، وبِنَفَسٍ لا يعرفه الأئمة، فتراه متكئا على أريكة له، قد ملأ فمه بالقات، وبعضهم ربما ضيَّع الصلوات، وجعل نفسه منظِّرًا منقذًا للأمة من المدْلَهِمَّات، ويقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فأي حديث يخالف كتاب الله؛ فهو مردود، ثم تراه يفهم كتاب الله فهمًا غريبًا، فلا يجمع بين الأدلة في الباب، ولا يرفع رأسًا بفهم العلماء، ثم يخفض ويرفع من الأحاديث بما شاء وكيف شاء!!

4- سبق من الأدلة ما يدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين، وهذا معناه اتباع قواعد العلماء المتفق عليها، والمدعمة بالأدلة النقلية والعقلية، وفهم النصوص بفهمهم إذا أجمعوا عليه، واتباع أهل كل فن في فنهم، فالمحدثون لهم قواعد يسيرون عليها، فلا يُقبل من أحد مخالفته لما أجمعوا عليه،  وهذا أبو حاتم الرازي – على إمامته وعلو مكانته بين علماء الحديث- يُشيد بإجماع المحدثين، كما في “المراسيل” لابن أبي حاتم (ص:192) برقم (703) فقد قال: “… كما أن حبيب ابن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هو أكبر منه، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة “ اهـ والفقهاء كذلك، حتى قال الإمام أحمد للميموني: “يا أبا الحسن، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام” انظر “النبلاء”             (11/ 296) ترجمة أحمد، وأما المسائل المستجدة فيُرجع فيها إلى أصول المسائل المنصوص عليها، ويُستضاء فيها بفهم السلف الصالح، والقرّاء أيضًا إذا اتفقوا على قبول قراءة، أو كونها شاذة، أو خطأ، فهل يأتي أحد من غير علماء هذه الفنون ـ فضلاً عن الغابري وبقية من على منهجه غبرة وقترة ـ فيدعي قبول ما رفضوه، أو رفض ما قبلوه؟! لا يغتر بهؤلاء ـ والحالة هذه ـ إلا مخذول، والله المستعان.

5- هذا الأسلوب الذي سلكه الكاتب فيه فتح الباب للتشكيك في السنة، والطعن فيها، وردها بحجة أن الرواة ليسوا معصومين وإن كانوا عدولاً، ولأنه لقائل آخر أن يأتي على ما قَبِلَهُ هذا الغابري وأمثاله من الصحاح ويقول: هذه أحاديث يغلب عليها الطابع البشري، ويأتي بأي إعلال لها، ثم يأتي ثالث ورابع وهكذا، وهذا الحال الموصل في النهاية إلى الزندقة، فاحذروا دعاة على أبواب جهنم، علموا بذلك أم جهلوا!!

  • التعقيب الثامن:

ومما استدل به الكاتب على عدم إلزامه بقبول الحديث الصحيح وإن كان عند البخاري ومسلم: أن الأحاديث قد رويت بالمعاني، وأن الرواية بالمعنى تعني تصرف الراوي في الحديث ثم تناقله عبر الأجيال يجعله عُرْضةً لتغيير كلي.

الجواب من وجوه:

 1- أن العلماء الذين أجازوا الرواية بالمعنى وضعوا شرطًا في الراوي الذي تجوز له الرواية بالمعنى: وهو أن يكون عالمًا بما يُحيل المعاني عن وجهها الصحيح إن كان سيروي بالمعنى، وهذا القيد أمان مما ذكره الكاتب، وإلا لزم الراوي أن يروي من أصل كتابه، والرواية باللفظ لا شك أحوط وأفضل، لكن هذا لم يتم في كل الأحاديث.

 وقد ذكر العلماء المجيزون للرواية بالمعنى ـ وهم الجمهور ـ بالقيد السابق أدلة لذلك، فمن ذلك قول الشافعي في “الرسالة” ص (472) برقم ( 357 ): “وإذا كان الله ـ عز وجل ـ برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف ـ معرفة منه بأن الحفظ قد يَزِلّ ـ لتَحِلَّ لهم قراءته، وإن اختلف لفظهم فيه ـ ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى ـ كان ما سوى كتاب الله أولى أنه يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يُحِلْ معناه” اهـ واستدل بهذا غيره أيضًا، انظر “فتح المغيث” (3/ 127).

قال السخاوي: “ومن أقوى الحجج ـ كما قال شيخنا ـ ما حكى فيه الخطيب اتفاق الأمة من جواز شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به، فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى؛ فجوازه باللغة العربية أولى” اهـ “فتح المغيث” (3/ 128) ونظر كلام الخطيب موسعًا في “الكفاية” (1/ 582) بتحقيق أخينا أبي إسحاق الدمياطي ـ حفظه الله ـ.

فإذا كان الراوي عالمًا بمواقع الخطاب، ومعاني الألفاظ، والمحتمل منه وغير المحتمل؛ فلا بأس بروايته بالمعنى، على أن ذلك يقع في أمور يسيرة، وقد أرشد القرآن الكريم إلى جواز ذلك بالحكاية عن الأنبياء والأمم كلامهم، بل بلغة غير لغة كثير منهم، فقال تعالى في قصة موسى: [بِشِهَابٍ قَبَسٍ] {النمل:7} وقال أيضًا: [أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ] {القصص:29}وقال: [فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ] {الأعراف:107} وقال: [فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى] {طه:20}  وكذلك الحال في بقية الرسل ـ عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ مع أقوامهم، وحكاية ماجرى بينهم. 

وليس المراد من ذلك فقط إثبات جواز الرواية بالمعنى، بل وجوب العمل بها، وعدم التشكيك فيها لذلك، ولو كانت الرواية بالمعنى مع هذه الضوابط ستؤدي إلى تغيير الأحاديث بالكلية؛ فما معنى أن الله تكفّل بحفظ هذا الدين، كما في قوله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}  ومعلوم أن السنة مبينة للقرآن، فهي وسيلة لحفظ الذِّكر، فَحَفِظَ اللهُ القرآنَ ووسائلَ حفظه، وما جهود المحدثين في هذه الغربلة للسنة إلا دليل على حفظ هذا الدين، وإلا كان ديننا كدين من سبقنا من الأمم الذين حرَّفوا دينهم!! ولو كان ما قال الكاتب حقًّا، وهناك عدد من الصحابة يروي بالمعنى، وكذا من يدعو غير العرب إلى الإسلام بلغتهم؛ لكان للمدعُوِّين أن يقولوا للرسل الذين يبعثهم رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: لا يلزمنا العمل بذلك، ولا القطع بصحة قواعد الدين وثوابته التي تدعوننا إليها لاحتمال أن تصرفكم أيها الدعاة في الرواية أو الترجمة قد غيَّر المعنى الذي أراده الله ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ!! ولو قال ذلك أحد من الكفار، ولم يُسْلم لهذه العلة لكان كافرًا، فلا مجال لرد الأحاديث بهذه العلة العليلة.

2- المتتبع لصنيع علماء الحديث، ودقتهم، ونباهتهم؛ يزداد علمًا بصحة ما تلقته الأمة بالقبول، فإن الأئمة يعدّون كلمات الحديث عدًّا، ويمتحنون الراوي بعد فترة أو فترات ليتأكدوا من صحة حفظه، وهل زاد في ألفاظ الحديث أم لا؟ ونراهم يقبلون لفظة من الحديث ويردون أخرى، ويردون بعض الزيادات وإن لم تكن معارضة تمامًا لأصل الحديث، ويفرقون بين الرواية التي روت الحديث بحرف الواو، والأخرى التي روته بحرف ” ثم ” كل هذا يزيد الناظر في صنيعهم وأحوالهم ثقة وطمأنينة بصحة ما حكموا بصحته، أو تلقوه بالقبول، فإذا كانوا يُدَقِّقُون في هذه الأمور اليسيرة، فكيف يتهاونون مع الراوي الذي لا يعرف العربية، فيروي الأحاديث بالمعنى، ويغير معناها الذي تلقاه عن شيخه، مما يفقد الثقة فيها؟! والعلماء لم يجاملوا في ذلك أحدًا حتى وإن كان من كبار الأئمة في الحفظ والإتقان، فهذا شعبة بن الحجاج لما روي حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: “لا وضوء إلا مِنْ صوتٍ وريح” حكم عليه أبو حاتم الرازي بالوهم، وذكر أن شعبة اختصر متن هذا الحديث، وبقية أصحاب سهيل يروونه بلفظ: “إذا كان أحدكم في الصلاة، فوجد ريحًا من نفسه؛ فلا يخرجن حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا” وأعله بهذا أيضًا ابن خزيمة والبيهقي، واللفظ الأول يحصر الوضوء في أمر خاص، وليس كذلك، وكذا ما وهم فيه شعبة من رواية حديث: “نهى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أن يتزعفر الرجل” فرواه شعبة فقال فيه: “أن  النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ نهى عن التزعفر” واللفظ الأول خاص بالرجل، والثاني يشمل الرجل والمرأة، انظر مقدمة التحقيق لكتاب “العلل” للرازي لفريق من الباحثين وإشراف د/ سعد الحميد – حفظه الله- (1/ 39 ـ 142).

3- أنه يلزم من هذا الطعنُ في السنة كلها حتى وإن كانت موافقة للعقل، لعدم الثقة في الرواة الذين نقلوها بالمعنى، وتصرفوا فيها، ومع طول سلسلة الإسناد، وبُعْد الزمن، فإن الرواية ستتعرض إلى تغيير كلي كما يزعم الكاتب!! وهل يريد الزنادقة الطاعنون في الدين أعظم من هذه الغاية؟! ألا تعلم أيها الرجل أنك بذلك قد فتحت الباب على مصراعيه ـ بعلم أو بجهل ـ أمام الذين يردون السنة النبوية؟ وإذا كنتَ كذلك: فما معنى قولك في هذا المقال نفسه بحجية السنة النبوية؟ ثم إن قولك: “كما أنه لا يمكن إنكار جهود علماء الحديث في ضبط السند” ماذا يراد منه؟ هل تريد بذلك أن علماء الحديث ليست لهم جهود في ضبط المتن، والنظر فيه، ومراعاة متن الحديث مع بقية الروايات، بل مع بقية أحاديث الباب، وأنهم لا يُعلّون أحاديث بسبب الخطأ في متنها؟ إن كان هذا مرادك فقد أبعدت النُّجْعة، فإن جهود علماء الحديث، والحكم عليه صحة وضعفا ليست خاصة بالسند، بل هي شاملة للسند والمتن جميعًا، وإن كان مرادك أنهم يعيرون المتن أيضًا اهتمامًا يليق به في أحكامهم على الأحاديث؛ فما معنى فتحك لباب التشكيك في الأحاديث بحجة روايتها بالمعنى التي قد تؤول إلى التغيير الكلي للأحاديث؟!

  • التعقيب التاسع:

ومما استدل به الكاتب على عدم إلزامه بقبول الحديث ـ وإن صح، أو كان في الصحيحين  ـ قوله: “إن الصواب هو عرض الأحاديث على القرآن الكريم، واستبعاد ما يتعارض مع القرآن، أو يأتي بمعنى مخالف لما جاء في القرآن”اهـ.

والجواب من وجوه:

1- من ذا الذي يحدد هذا التعارض وهذه المخالفة: هل هم أهل العلم بالقرآن والسنة، أم المتعالمون العاطلون عن علوم الآلة وطرق الاستنباط؟ وهل هذا الكاتب أهل لأن يخوض في هذا المضمار؟ ألا يسعه أن يجاهد نفسه، ويبكي على خطيئته، ويعطي القوس باريها، وهم الراسخون في العلم، ومن سلك سبيلهم؟ إن هذا الرجل لا يرى الرجوع إلى فهم السلف بما فيهم الصحابة، فكيف سيفهم القرآن أولاً؟ ثم كيف يعرف أن الحديث الفلاني أتى بما يعارضه أو يخالفه، من أجل أن يقرر قبوله أو رده؟ ألا فلتبك على الإسلام البواكي إذا وُكل الأمر إلى غير أهله!! فقد صار الحال كما قال القائل:

زمان رأينا فيه كلَّ العجائبِ                  وأصبحتِ الأذنابُ فوق الذوائبِ

2- هل كل معنى يأتي به الحديث، وليس موجودًا في القرآن، لا بد من رده وعدم قبوله حسب رأي الأستاذ محمد الغابري؟

الجواب: لا، فالسنة مبينة لمجمل القرآن، ومخصصة لعمومه، ومقيدة لمطلقه، ولاشك أن هذه معاني لم تُذْكَر في القرآن، فلْيُفْتنا هذا الكاتب مأجورًا: هل هذه الأمثلة التي سأذكرها معارضة للقرآن أم لا؟ فمن ذلك:

أ- لقد أمر الله عز وجل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أخذنا بذلك على عمومه؛ لأوجبنا ذلك على الصبي والكبير، والغني والفقير، لكن السنة بينت كيفية الصلاة، ومتى تجب الصلاة، وعلى من تجب الزكاة، وهذا التفصيل ليس موجودًا في القرآن، وقُلْ مثل ذلك في الحج، والذي فيه تفاصيل كثيرة لا تعرف إلا في السنة، فإذا كان هذا الكاتب يرى أن كل ما لم يرد في القرآن ليس صحيحًا، بل يرى أن اللفظة التي لم ترد في القرآن – مع استعمالها في أمر دنيوي لا ينبني عليها لذاتها حكم كولي المر، والسلطان- وإن كانت عربية غير مقبولة، بل يُفَرق بين ما ورد في القرآن في صورة الجمع وبين ما ورد في صورة المفرد، ويريد قصر ذلك على ما ورد، فإذا كان كذلك؛ فليبطل دين المسلمين المأخوذ من السنة وفهم سلف الأمة، وهذا ما يريده منه ومن غيره أعداء الله، لكن هيهات هيهات لما يريدون!!

ب- ومن ذلك قوله تعالى: [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {المائدة:38} ولو أخذنا بالآية على ظاهرها؛ لقطعنا يد كل سارق، وجاز لنا قطع جميع اليد، أو من أي موضع يَصْدُق عليه اسم اليد، إلا أن السنة فصَّلت في ذلك، فذكرت أنه لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا، وقَطْعُ اليد من الكف، ويرد على الكاتب في هذا الموضع ما سبق إلزامه به!!

ج- ومن ذلك قوله تعالى: [الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] {الأنعام:82} وقد فهمها بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على العموم، وخشوا على أنفسهم الهلكة؛ فبين لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه ظلم خاص، وهو الشرك الأكبر، وهذا يدل أيضًا على أن اللغة وحدها ليست كافية في تفسير القرآن، بل لا بد من السنة، وإلا فالصحابة قد فهموا العموم بمقتضى اللغة، وهم أهلها، بل إن القواعد الأصولية ـ وإن كان كثير منها مأخوذًا من السنة ـ لا تغني عن السنة في بيان القرآن، وإلا فكلمة: “بظلم” نكرة في سياق النفي فتعم، ومع ذلك بينت السنة أنه ظلم خاص.

د- وأوضح من ذلك قوله تعالى: [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا] {النساء:101}فلو أخذنا بظاهرها فلا قصر إلا عند الخوف في السفر، وقد بينت السنة أن القصر سثنَّةٌ في السفر، وإن كان المسافر آمنًا، وأنه رخصة من الله عز وجل، فلو عرضنا أحاديث القصر في حالة عدم الخوف على الآية؛ لكانت الأحاديث مخالفة للقرآن مردودة على فهم هذا الغابري، لكن من قبلها لصحة ـ سندها وإن قيدت مطلق القرآن ـ فقد أفلح ورشد.

هـ- وكذا قوله تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ] {المائدة:3} فظاهر الآية تحريم كل دم وميتة، إلا أن السنة أباحت لنا ميتتين ودمين، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال، ولو أخذنا بفهم هذا الكاتب لبقينا على تحريم الجميع، ومن ذلك السمك، وأما قوله تعالى: [وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا] {فاطر:12} فليس صريحا في ميتة السمك، بل قد يقال بالجمع بين الآية الصريحة في تحريم الميتة، وهذه الآية؛ فيباح السمك الحي لا الميت، فهل الكاتب لا يرى حِلَّ أكل السمك الميت؟! فإن قال بحله؟! فما دليله؟ فإن قال: الحديث المذكور، قيل: لو عرضته على القرآن رأينا نوع مخالفة، وعلى مذهبك فهو مردود.  

و- وكذا قوله تعالى: [قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ] {الأنعام:145} فهذه الآية قد حصرت المحرمات فيما ذُكر، ثم وضحت السنة تحريم مطعومات أخرى، ومنها كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، فهل يبيح هذا الكاتب أكل الكلاب، والأُسود، والنسور وغير ذلك مما لم يدخل في الحصر المذكور في الآية؟ فإن قال: أجمع بين الحديث والآية، قيل: أحسنت، وهكذا غيرك من علماء السنة يجمعون بين الأحاديث التي تأمر بالصبر على ظلم الولاة خشية وقوع مفسدة أكبر بالخروج عليهم، وبين الآيات التي تأمر بالصدع بالحق، وتغيير المنكر، ومجابهة الظالمين، وأما أنتم فترونها معارِضَةً للقرآن جملة وتفصيلا، وتردونها بالكلية، وتزعمون أن الطابع البشري يغلب عليها، وإن كانت في ” الصحيحين “!!

وإنّ (تطاول الجهلاء) يومًا                     على (العلماء) من إحدى الرزايا

ز- ومن ذلك قوله تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ] {الأعراف:32} فلو أخذنا بعموم ذلك لأبحنا الذهب والحرير للرجال، ولكن السنة جاءت بتحريم ذلك على الرجال دون النساء، فهل يبيح الغابري لُبس الرجال للذهب، لأنه لو عرض الحديث المحرِّم له على الرجال على القرآن لتعارضا ، فرمى بالحديث ورجع إلى الأصل: وهو عموم الإباحة؟! 

ح- ومن ذلك قوله تعالى: بعد ذكر المحرمات من النساء في قوله تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ…] {النساء:23} فذكر سبحانه أربعة عشر صنفا من المحرمات من النساء، ثم قال: [وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ…] {النساء:24} أي أن غير هذه الأصناف من النساء حلال نكاحه، فلو أخذنا بعموم ذلك لجاز أن ينكح الرجل المرأة وعمتها في وقت واحد، وكذا المرأة وخالتها، إلا أن السنة حرمت ذلك لقطعه الأرحام، فهل يبيح الغابري ذلك لأن الحديث يخالف القرآن؟! وكذا لم يذكر الله عز وجل من المحرمات بسبب الرضاعة إلا [وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ] {النساء:23} فهل تبيح يا هذا نكاح البنت من الرضاعة وغيرها من المحرمات بسبب الرضاعة بزعم أن التفصيل في التحريم بسبب الرضاعة جاء في أحاديث، وعند عرْضها على القرآن؛ ظهرت معارضة ومخالفة بإتيانها بأحكام ليست في القرآن؟! وقُلْ نحو ذلك في الربيبة التي وصفها القرآن بقوله تعالى: [اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ] {النساء:23}  فماذا يقول في بنت الزوجة الكبيرة، التي لم تُرَبَّ في حجره؟ 

وقد ذكر أكثر هذه الأدلة شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في رسالته: “منزلة السنة في الإسلام” وكل هذه الأدلة فيها أحكام زائدة لم تُذكر في القرآن، فلو أطلقنا قول هذا الكاتب للزم ردها والعمل بعموم الآيات المذكورة فقط، ويلزمه على ذلك أمور فاحشة لا تخفى على أحد، لكن ما الذي أقحم هؤلاء فيما ليس من فنهم؟! هل يظنون أن كل من تشدّق وتفيهق ببعض العبارات في الصحف والمجلات؛ فقد أصبح مُنَظِّرًا للأمة؟!

صدق من قال:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده                ولا الصبابة إلا من يعانيها

ومن قال:

    وما كل مخضوب البيان بثينة                ولا كل مصقول السلاح يماني!!

3- لقد حكم الله عز وجل بحفظ الذِّكْر، فقال تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9} ومعلوم أن السنة مبينة للقرآن الكريم ـ كما سبق بعض الأمثلة على ذلك ـ فَحِفْظُها من وسائل حِفْظ الكتاب، والله عز وجل يقول: [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] {النحل:44} والبيان يكون ببيان لفظ القرآن، ونظمه، وهو تبليغ القرآن، وعدم كتمانه، ويكون ببيان معنى اللفظ أو الجملة أو الآية التي تحتاج الأمة إلى بيانها، والسنة تقوم بدور عظيم في هذا، فإن تفسير القرآن يكون بالقرآن، وبالسنة، والآثار، ولهذا فقد هيأ الله للسنة رجالاً طافوا البلدان، شعثٌ شعورهم، حافية أقدامهم، شَرِبَ بعضهم بوله لما خشي على نفسه الهلكة، جالسوا أهل العلم، وذاكروهم بالروايات وأحوال الرواة، وعرفوا مخارج الروايات، ووضعوا قواعد في هذا العلم، حُقَّ لنا أن نفخر بها، ولم تسبقهم أمة إلى هذه القواعد التي تغربل السنة، وتنقيها من كل ما أُدخل فيها عن وهم أو عمد، ولم يجاملوا في بيان الحق كبيرًا أو صغيرًا، فتكلموا في آبائهم وأبنائهم وذويهم ومَنْ أَحْسَنَ إليهم، وولجوا الصحاري والفيافي الموحشة، وصعدوا رؤوس الجبال ومشوا في بطون الأودية للبحث عن لفظة سمعوها، فلله دَرُّهُم، وعلى الله أجرهم، وما أعظم هؤلاء الرجال وإن تطاول عليهم في زماننا كثير من أشباه الرجال!!

4- لقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بوجود بعض الناس الذين يسيئون الظن بسنته بسبب جهلهم بطرائق أهل العلم، فقال: “ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني، وهو متكئ على أريكته، فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإنما حَرَّمَ رسول الله كما حَرَّمَ الله” انظر “صحيح الترمذي” برقم ( 2146 ).

والذي يأتي إلى حديث صحيح عند العلماء، ثم يرده لأنه وجده معارضًا للقرآن ـ حسب فهمه لا حسب قواعد العلماء ـ فيه شَبَهٌ من هؤلاء الذين أخبر بهم رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ !!

5- هذا المذهب الذي يسلكه الكاتب في هذا المقال يفرح به الزنادقة الذين وضعوا حديث: “…وإنه سيفشوا عني أحاديث، فما أتاكم من حديثي؛ فاقرأوا كتاب الله واعتبروه،فما وافق كتاب الله؛ فأنا قلته، وما لم يوافق كتاب الله؛ فلم أقلْه” انظر “الضعيفة” برقم (5439).

قال شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ بعد ذكره هذا الحديث في كتابه: “وقد نص كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه مِنْ وَضْعِ الزنادقة “ اهـ. فما الفرق بين مسلك الغابري الذي سلكه وبين مسلك واضعي هذا الحديث؟! أليس يصرح بأنه لا يقبل الحديث وإن كان في “الصحيحين” إذا خالف القرآن؟ ويا ليته يحكم بالمخالفة على طريقة أهل العلم، ولكنه سلك طريق أهل الأهواء في تقرير المخالفة؛ بل ربما سلك مسلكًا لا أعرفه عن كثير من أهل الأهواء، ولا أعرف مَنْ سبقه إلى ذلك، حَيث يرد أي كلمة وإن كانت عربية أصيلة إذا لم تَرِدْ في القرآن، ويفرق بين ما جاء في القرآن مقترنًا بصيغة الجمع أو المفرد وإن كانت كلمة واحدة!!         

  • التعقيب العاشر:

اعترض الكاتب على قول من قال من العلماء: إن كتابَيِ البخاري ومسلم أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، وقال: “لا معنى له؛ فلا يقاس أي كتاب من حيث الصحة ولا غيرها بكتاب الله” اهـ

والجواب من وجوه:

أن هذا جهل منه باللغة العربية، فالقياس أو المقارنة وقعت بعد إخراج كتاب الله تعالى أولاً، ثم وقعت المقارنة بين “الصحيحين” وغيرهما، ولم تقع المقارنة بين القرآن الكريم “والصحيحين” لقول من قال: “بعد كتاب الله” وإنما اسْتُفِيد من ذِكْر كتاب الله في هذا المقام الإشارة إلى بلوغ أحاديث “الصحيحين” الدرجة العليا في الصحة التي في وسع البشر أن يؤدوها، ولا عيب في هذا؛ فإن الأمر كذلك، والله أعلم.

  • التعقيب الحادي عشر:

استنكر الكاتب ورود كلمة “سلطان” في القرآن بالمعنى المتداول: كالسياسة، والإمارة، والدولة، وكذا استنكر وصْفَ الأمير أو الرئيس بالسلطان، حيث إنه وقف في القرآن الكريم على عدة معان لها ليست كذلك، فمن معانيها التي وقف عليها: الحجة، والبرهان، والقوة، والمنعة، والقهر، وبناء على ذلك فقد حكم على حديث عند مسلم جاء فيه ذكر السلطان بالمعنى الذي لا يريده، وقال: “ولذلك فإن ما جاء منسوبًا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ … مُنَاقِضٌ لمعاني “سلطان” في القرآن الكريم، وذلك وحده كافٍ لرده، والجزم بأنه لم يَقُلْه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ” اهـ.

والجواب من وجوه:

1- سبق في كلمة : “ولي الأمر” التي استنكرها الكاتب أيضًا أنه لا مشاحة في الاصطلاح إذا اتفقنا على صحة المعاني، وأن القرآن الكريم لم يستوعب جميع المفردات العربية، وأن كثيرًا من هؤلاء الكُتَّاب يستعملون كلمات أعجمية بحتة في مجالسهم وكتاباتهم، ولم يُشَنَّع عليهم لمجرد ذلك، فلماذا هذا التشنيع على من استعمل كلمة عربية أصيلة في معناها العربي وإن لم ترد في القرآن؟! وفي “اللسان”  ( 7/ 321): “والسلطان إنما سُمِّي سلطانًا لأنه حجة الله في أرضه… والسلطان: الحجة، ولذلك قيل للأمراء: سلاطين، لأنهم الذين تقام بهم الحجة والحقوق.. والسلطان: الوالي… والسلطان: قدرة الملِك وقدرة من جُعل له ذلك، وإن لم يكن ملكًا…وذكر بعضهم أنه سمي سلطانًا لتسليطه، أو لأنه حجة من حجج الله …”اهـ فهل هذا الغابري لا يريد كلامًا إلا من القرآن حتى وإن كان عربيًّا؟ فأسأله عن أسماء الأحزاب الموجودة الآن، والتي يظهر لي أنه يُقر بعضها، أو يتعاطف معها، فمن ذلك: المؤتمر الشعبي العام، والتجمع اليمني، واللقاء المشترك، وغير ذلك: هل جاءت هذه الأسماء عَلَمًا على الأحزاب والجماعات في القرآن؟ فإن لم يكن ذلك كذلك؛ فلماذا هذا التناقض، وهذه المنافحة لإبطال مذهب السلف حتى ولو بالغث من الكلام والآراء؟!

2- لا نُسَلِّم للغابري بأن القرآن الكريم لم يستعمل السلطان في معنى الإمارة والدولة، فقوله تعالى: [هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ] {الحاقَّة:29} الأصل فيه العموم، فيصلح أن يقال: هلكت عني حجتي وبينتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، ويصلُح أن يقال: هلك عني جاهي، ويصلح أن يقال: هلك عني سلطاني وقوتي وجنودي وحاشيتي التي كانت معي في الدنيا، ولم تغن عني شيئًا من عذاب الله، والأصل حمل كلام الله على جميع معانيه إلا ما خصه الدليل، ولا دليل هنا عند أهل العلم يمنع هذا الاستعمال، أما أدلة الغابري فلا تسمن ولا تغني من جوع!!

3- سبق أن الغابري قد اعترف بأن كلمة “السلطان” قد تأتي بمعنى القوة والقهر والمنعة، وهذه هي معاني السلطان بالمعنى الذي يرفضه الغابري، ولا بأس بتسمية الشيء باسم سببه، كما هو معلوم في لغة العرب.

4- هذا، وقد ورد ذِكْر السلطان في عدة أحاديث صحيحة، فمن ذلك:

أ- ما رواه مسلم برقم (1849) ك/ الإمارة، ب/وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن… من حديث ابن عباس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال: ” من كره من أميره شيئًا، فليصبر عليه؛ فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا، فمات عليه؛ إلا مات ميتة جاهلية “ وفي لفظ آخر عند مسلم ” الجماعة “ بدل ” السلطان “ وهذا الحديث وإن رمى به الغابري؛ فهذا من شطحاته وتهوره الذي يُسقطه ويطرحه!!

ب- ما رواه ابن أبي عاصم في “السنة” برقم ( 1079) من حديث أبي ذر، قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول: “سيكون بعدي سلطان فَأَعِزُّوه، من التمسَ ذُله ثَغَر ثَغْرة في الإسلام، ولم يُقْبَل منه توبة حتى يعيدها كما كانت” إسناده صحيح، قاله شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في “ظلال الجنة”.

ج- هناك أحاديث أخرى انظرها عند ابن أبي عاصم برقم ( 1018، 1024،1025) من “ظلال الجنة”.

إلا أن هذا الكاتب لا يرفع رأسًا بأحاديث “الصحيحين” إذا خالفت فهمه، فما ظنك بما هو دونها؟!

5- ما وجه مخالفة حديث ابن عباس السابق للقرآن؟ هل كون كلمة السلطان لم تأت في القرآن بما أتت به في السنة؟ وإذا كان الغابري يعد هذا الحديث معارضًا ومناقضًا للقرآن لمجرد معنى لغوي، أو اصطلاح حادث لا ينبني عليه حكم جديد؛ فما ذا هو قائل فيما سبق من آيات عامة خصصتها السنة، أو مطلقة قيدتها الأحاديث؟!

  • التعقيب الثاني عشر:

ثم ذكر هذا الكاتب أحاديث في “الصحيحين” أو أحدهما، وعنون لها بعنوان: أحاديث يغلب عليها الطابع البشري!!:

1- فذكر حديث“لا يزال أمر الناسِ ماضيًا…” أخرجه البخاري ومسلم، وفي رواية عند مسلم “لا يزال هذا الدين عزيزًا منيعا ما بقي في الناس اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش” وإن كان الكاتب اختصره بقوله: “الأئمة اثنا عشر كلهم من قريش” ثم قال بلا حجة ولا أثارة من علم: ” لا معنى إطلاقًا أن يكون الأئمة اثنا عشر”!! مع أن هذا إخبار منه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بأمر سيحدث بهذا العدد، وقد وقع، فلا أدري كيف يفهم هذا الكاتب!!

ودعواه أن هذا حديث للإمامية الاثنى عشرية؛ قول حسب مبلغه من العلم، وإلا فالحديث حجة عليهم أيضًا، وليس هذا موضع بسطه، وانظر الكلام عليه في ” منهاج السنة النبوية ” لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ( 8/ 238 ـ 244 ).

2- وذكر الكاتب حديث: “سيكون خلفاء فَيَكْثُرون” قالوا: فما تأمرنا؟ قال: “فَوفُّوا بيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم”. أخرجه البخاري ومسلم، قال الكاتب متهكمًا: ” إنه حديث يصلح فقط لهارون الرشيد الذي جعل ولديه الأمين والمأمون ولي عَهْد اهـ.

مع أن هذا الكاتب لو عقل،؛ لعرف أن من بايعه الناس، وكان قائمًا بأمر الخلافة، وجاء من ينازعه؛ فلا بيعة للثاني، والعمدة على بيعة الأول، وهذا مقتضى العقل الصريح، وحقًّا فإن النقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لكن ماذا نفعل أمام هذه الفوضى الصحفية، التي فتحت الباب لكُسَيِْر وعُوَير وثالث ما فيه خير؟ وماذ نقول والديمقراطية جعلت الرويبضة يتكلم في أمر العامة؟!

3- ذكر الكاتب الحديث الذي سبق عند مسلم “من فارق السلطان قيد شبر …” ثم قال: “لغة بشرية صِرْفة، من عهود الانحطاط: عهد العباسيين، وعهد السلاطين”!!.

بهذه السماجة الباردة يحكم هذا الكاتب على الحديث بهذا الحكم بلا برهان: غير أن الحديث ذكر السلطان بمعنى الإمارة، ولم يرد ذلك في القرآن في فهم وقاموس الكاتب، وقد سبق تفصيل الرد عليه، وإلى الله المشتكى.

4- وذكر الكاتب حديث حذيفة ـ رضي الله عنه ـ عند مسلم برقم ( 1847) “اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك” وذكر أنه لو كان عبدًا رقيقًا ما أوصاه رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بذلك، فالرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أوصى بالرفق، فكيف يأمر الأحرار بهذا؟

والجواب: أن هذه الزيادة عند مسلم قد انفرد بها مسلم دون البخاري الذي روى أصل الحديث بدونها، وقد انتقدها الدراقطني على مسلم بالانقطاع بين أبي سلام ممطور – الذي يرويها عن حذيفة- وحذيفة، وأقره النووي على ذلك، فنحن نردها لضعف إسنادها، ولو صحّت لما كان في معناها نكارة؛ لأن المراد: الوصية بالصبر إذا كانت الأنفة أو المواجهة ستؤدي إلى فتن لا قبل للناس بها، فالصبر على ظلم شخص ـ على ما فيه ـ أهون من اتساع رقعة الظلم والفوضى، ومِنْ ثَم يطمع الأعداء في البلاد، وهذا مقتضى العقل الصريح، لكن الكاتب لا ينطلق من هذه الجهة؛ إنما جعل لعقله الحرية في الرد والقبول، ولو رُزِق فَهْمَ العلماء؛ لأراح واستراح، إنما هو فَهْمُ صحفي ليست له قَدَمُ صِدْقٍ في العلوم الشرعية.

5- ذكر الكاتب حديث ابن مسعود: “تؤدون الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم” أخرجه البخاري ومسلم.

وذكر أن هذا تفريغ كامل للأمة، وتعبيد الناس للأمراء، وشبّهه بتقريب القرابين للأصنام، وقال: “أي دين ينقل الناس من الإسلام لله رب العالمين، إلى الاستسلام الكامل للأمير أو الطاغوت”؟

والجواب: هذا الحديث وما في معناه محمول عند العلماء على ما إذا كان الصبر على هذا الحال هو بمثابة ارتكاب للمفسدة الصغرى لدفع المفسدة العظمى، وقد قيل:

إن اللبيب إذا بَدَى مِنْ جسمه                  مرضان مختلفان داوى الأخطرا

فلا تفريغ للأمة، ولا دعوة إلى عبادة الطواغيت، إنما هي صيانة للأمة من الاستئصال على أيدي بعضهم، وهل هذا ينافي عقول العقلاء؟ أما إذا أمكن التغيير بلا مفسدة أكبر فقد يجب القيام بذلك، فمن أقوم قيلا وأهدى سبيلا؟!

  • التعقيب الثالث عشر:

ذكر الغابري أن السلفية أنتجت تيارين نقيضين: تيار التبعية للسلطة والشرعنة لفسادها، وتبرير أخطائها، والقبول بفتات موائدها المسلوبة من المال العام، وتيار آخر نقيض: كالقاعدة وطالبان وغيرهما من الجماعات الرافعة شعار الجهاد، الناشرة للفوضى، وقتل البر والفاجر. 

والجواب من وجوه:

1- لو كان ما يقول حقًّا فالله تعالى يقول: [أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] {النَّجم:38} ويقول سبحانه: [مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا] {الإسراء:15}.

2- ليس انحراف من انحرف من السلفيين كان ذلك بسبب أخطاء المنهج السلفي، فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقًّا، كما سبق عن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ولكن من ضل منهم فبسبب سوء فهمه للمنهج السلفي، والله عز وجل يقول:[لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] {المائدة:105}فالعبرة بالحق لا بمن ذهب أو جاء.

3- لو كان هذا المعيار الذي تكلم به الكاتب صحيحًا؛ للزم تخطئة أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ واتهام منهجه وطريقته، فقد خرج من جنده تياران متناقضان: غلاة الشيعة والخوارج، وفيهما يقول القحطاني في نونيته:

واعـرفْ لأهل البيت واجبَ حَقِّهم                واعـرفْ عليًّا أيمــا عِرْفــانِ

لاتنتقِصْــه ولاتـزِدْ في حْــبِّهِ                 فعـليه تَصْلـَي النـارَ طـائفتانِ

إحداهما لا ترتضـــيه خليـفةً                  وتَنُـصُّه الأُخْــرى إلهـا ثـانِ

فقاتل علي ـ رضي الله عنه ـ الخوارج، وموقفه في تحريق السبئية مشهور أيضًا، فلا لوم عليه إذا ثبت على الحق، ودافع عنه، وأنكر على مخالفه.

وأيضًا فالإخوان المسلمون – وقد يكون الكاتب متعاطفًا مع منهجهم- انشقت منهم جماعة التكفير والهجرة من داخل السجن، وزعيمهم شكري مصطفى ، وكَفَّروا علماء الإخوان فضلاً عن غيرهم من المجتمعات، ورد عليهم الشيخ حسن الهضيبي ـ رحمه الله ـ في كتابه: “دعاة لا قضاة” كما يوجد الآن من المولعين بفكر الإخوان كُتَّاب ما أشبههم بالعقلانيين، الذين يزنون الدين بعقولهم، فيأخذون ما شاءوا، ويردون ما شاءوا، دون مبالاة بقواعد العلماء وثوابتهم في فهم النصوص، ومنهم من دخلوا في سراديب وأنفاق التنازلات المظلمة التي لا يعلم عاقبتها إلا الله تعالى،ومنهم من أصبح يرى أن مشروعه السياسي لا يتحقق إلا بابتعاده عن العلماء المحافظين حتى داخل الجماعة، إما لاستنكاره بعض آرائهم، أو لأنهم غير مرضيٍّ عنهم عند جهات أخرى، وكل هذه تيارات متناقضة، هذا مع بقاء آخرين منهم على الجادة في الجملة، من علماء عاملين، ودعاة صادقين، وعامة غيورين، فهل نُحَمِّل البررة العاملين فيهم خطأ من انحرف منهم على منوال الغابري؟! هذا مقياس فاسد!!

4- لا نسلِّم بأن الذين يثيرون الفوضى كلهم من أبناء الدعوة السلفية، فإن السلفيين فيهم قليل، فمن قادتة هذه الجماعات من تربى في محاضن جماعة الإخوان المسلمين، كما هو معروف،ولا تخفى على أحد علاقة أسامة بن لادن بالشيخ عبد الله عزام ـ رحمه الله ـ ذاك الداعية الإخواني الشهير،وكثير من اتباع القاعدة ممن كان ضمن مجموعات وأُسَر إخوانية، وعلى كل حال فما من جماعة إلا وفيها مَن انحرف ومَنْ ثبت، ولا يجوز الظلم والتعميم بدون برهان، ومن كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة، ولكن:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ               وينكر الفم طعم الماء من سقم

5- هؤلاء الذين يثيرون الفوضى بدأوا بولوج هذا الباب الذي تدعون أنتم الناس إليه اليوم،فقد بدأوا بإشاعة مثالب الحكام، وهيَّجوا الناس عليهم، وأوغروا الصدور في الخطب، والمجالس، والندوات، وفي الصحف، والكتب، والمطويات، ولم يقتصروا على نصحهم سرًّا أو جهرًا ـ  وهو الواجب لو اقتصروا عليه ـ كما أنهم سخروا من العلماء المخالفين لهم، كما تسخرون أنتم منهم اليوم، وترمونهم بالبواقع، ومنهم من رأى الخروج على الحاكم الظالم لمجرد ظلمه، كما تَصْرخُوُن به اليوم، ثم تطور به الحال، فأخذ في التكفير للمجتمع، والتضليل ـ وربما التكفير ـ للعلماء الذين لا يرون رأيهم، ثم أنزلوا قوله تعالى: [قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ] {التوبة:123} على مجتمعاتهم، فبدأوا بالمسلمين، وترجموا هذه العقيدة النظرية إلى واقع عملي ـ وهو مآلكم إن لم تدركوا أنفسكم، إلا أن يشاء الله ـ وها أنتم الآن تسبون من بذرتم فيهم البذور التي أثمرت هذه الثمرة الحنظلية، وإن كنتم لا تتوقعون أن يصلوا إلى هذا الحال، لكن يقال لمن رباهم ثم سيبهم اليوم – مع أنهم نفَّذوا ما تقتضيه عقيدتهم التي تعلموها منه- يقال له: يداك أوْكتا، وفوك نفخ!! ثم بعد ذلك ترمون السلفية بدائكم؟ صدق من قال: رمتني بدائها وانسلت!! وصدق من قال:

غيري جَنَى وأنا المُعَذَّب فيكمُ                      فكأنَّني سبابة المتندم!!

6- دعوى أن السلفية أنتجت تيارًا يدافع عن فساد الحكام، ويُضْفي عليه الشرعية؛ دعوى باطلة، وأطالب الكاتب ومن على شاكلته بأن يسمي لي من سلك هذا المسلك، ويذكر واقعة واحدة تدل على صحة ادعائه صراحة، وليس لمن يتهمه أي عذر أو تأويل، فإن استطاع ذلك؛ فأنا شاكر له، وإلا فالدعوى الباطلة لا تقيم حقًّا، ولا تزهق باطلا، ولا يعجز عنها أحد!! نعم هناك من يتعاطف مع الحكام الظلمة، لكن لا يستطيع أن يقلب الحق باطلاً دون تأويل ينفق على السامع، وهناك من يبالغ في ذم الجماعات المخالفة له، وهذا لإفراط وتفريط، والله أمر بالعدل والقسط، ونبرأ إلى الله من المجادلة عن الذين يختانون أنفسهم، ولو أن أحدًا فعل ذلك؛ فهل يُرمى جميع أهل السنة بذلك؟ فأين العدل والإنصاف؟!

والجور في الناس لا تخفى معالمُهُ                 والعدل من دونه الأستار والظُّلَمُ

  • التعقيب الرابع عشر:

ذكر الكاتب أن القدرة على التغيير لا تأتي والتطلع للإمارة محظور، وأن مذهب السلفيين يُحَرِّم على الناس الخروج، ويُعَبِّد الأمة للطاغوت، ويُصَوِّر الإسلام بصورة ناقصة، ويؤدي إلى تبلّد الأمة، بدل أن يأمرها بالقيام بواجبها الجماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر …

والجواب من وجوه:

1- لا يلزم من القول بعدم الخروج المسلَّح إذا كان سيؤول إلى شر أكبر ألا تنهض الأمة بواجبها والإعداد في عدة مجالات، فإن الإعداد ليس مقتصرًا على السلاح، إنما أساس ذلك تحقيق التوحيد لله رب العالمين، والاتباع لنبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في حدود الاستطاعة، ونشر العلم النافع بين الناس، وتصحيح المفاهيم الخاطئة،ورد الشبهات التي تثار من الداخل والخارج على الإسلام، والدفاع عن الإسلام في كل محْفل، وغحياء مبدأ الولاء والبراء بين الأمة، وربْط الأمة بتاريخها العريق، ومواقفها الشامخة ووضع قواعد عامة في تربية الأجيال على الإسلام المصفَّى، وجمع الكلمة بين الدعاة الصادقين من جميع الفصائل، وكتابة الكتب والرسائل التي تعالج أمراضًا متفشية في الحقل الدعوي بين العاملين … إلى غير ذلك من الأمور المتاحة والممكنة، والتي نستطيع أن نقوم بها، أما القوم فيطلبون الاهتمام بالأمر البعيد الذي لا يُنال ـ إن سلمنا بالحصول عليه ـ إلا بفتن لا أول لها ولا آخر، وتراهم يهملون في الأمر القريب الميسور، فلا ينكرون صورًا عديدة من الشرك، والبدع، والمعاصي، والفجور، بل ربما وقعوا هم في كثير من ذلك أو بعضه، بل من دعا إلى علاج بعض هذه الصور ربما ثاروا عليه، كما رأينا من حال كثير من هؤلاء الكُتَّاب عندما نادى بعض العلماء بهيئة الفضيلة، فمن الذي يُفَرِّغ الأمة، ويشغلها بغير مهمتها: أهم الذين يزجُّون بها إلى ضرب الرقاب،وهلاك الحرث والنسل، ثم يعدُّون ذلك من الفوضى المنكرة ـ كما سبق عن هذا الكاتب قبل قليل ـ أم الذين يقولون: [فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]{التغابن:16} ويأمر أحدهم بالمستطاع كي يُطاع، ويعالج ما يقدر عليه، ويسأل الله أن يُمَكِّنه مما يعجز عنه ؟!وقد قيل:

إذا لم تستطع شيئًا فدعْه                    وجاوزْه إلى ما تستطع

ثم ما هي آثار هؤلاء العلماء في تصحيح مسيرة الأمة، واستقامة أفرادها،وآثار هؤلاء الكُتَّاب على الأمة؟ حتى يُعلَم من الذي يُفَرِّغ الأمة، ويُبلِّد أحاسيسها ومشاعرها ووجدانها؟!!

ألا يدري الكاتب أن الأمة لو استمرت في القيام المسلَّح في وجه الحاكم الظالم لما قامت لها قائمة، ولما فُتحت البلدان، ومُصِّرت الأمصار، ولباضتْ فيها الشياطين وفَرَّخت؟!

أما يعلم أن هذا المنهج الثوري قد أراق من دماء الأمة ما لا يعلم به إلا الله، ولا دينا أبقى، ولا دنيا أقام؟! وقد فصّلت هذا في الرد على زايد جابر وثابت الأحمدي، وقبل ذلك في كتابي “التفجيرات والاغتيالات: الأسباب، والآثار، والعلاج” فيرجع إليه. 

2- هكذا يصوَّر هذا الكاتب مذهب مخالفه بهذه الصورة القاتمة المشؤومة،مع أن هذا هو مذهب علماء الأمة،وإجماعهم بعد خلاف سابق، وأن هذا المذهب هو الموافق للأحاديث النبوية، لكن هذا الكلام يقال عند من يحترم الأحاديث النبوية، ويُجل علماء الأمة، أما بعض الكتاب فحشفة وسوء كيلة!!

3- ما المراد بالمعروف والمنكر عند هذا الكاتب؟ هل لا يوجد معروف إلا القيام في وجه الحكام، ولا يوجد منكر إلا فساد الحكام؟ نعم هذه منكرات، ويجب إنكارها على الحكام بالضوابط الشرعية، لكن كثيرًا من الكُتّاب والصحفيين لا يبالون بمظاهر الشرك والفجور والتغريب للأمة، وإنما يتكلمون في أمر دون أمور، ويتكلمون فيما يؤول إلى فتن الدماء والأشلاء، ويسكتون أو يدافعون عن دعاة يدعون إلى أمور مخالفة لأصل الدين وأساسه،وهو التوحيد، وقد رأينا كثيرًا منهم عندما نادى بعض العلماء بهيئة الفضيلة أنهم اصطفوا ضد ذلك، وها هم ينعون على الأمة عدم قيامها بواجبها الجماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! صدق من قال:

إذا اشتبكت دموع في خدود                      تبين من بكى ممن تباكى

              وكـل يَدَّعي وصلاً لليـلى                      وليلى لا تُقّرُّ لهم بـذاكَ

  • التعقيب الخامس عشر:

دعواه أن السلفية تقدم الإسلام للمجتمع بصورة متشددة، وعلى أنه كله محظورات وممنوعات، وأن السلفية تحتقر الأمة، وتخاطبها باستعلاء!!

والجواب من وجهين:

1- السلفيون لا يحللون ولا يحرمون من عند أنفسهم، بل هم متبعون في ذلك، وهم أكثر الناس استدلالاً بالآيات والأحاديث، وإن أخطأ أحدهم في الفتوى، فمن الذي يسلم من الخطأ،لكن عروش الأدلة والبراهين عندهم قائمة مُشَيَّدَة، وإذا حرَّموا شيئًا بالدليل الشرعي، والكاتب يراه حلالاً – لا لشيء إلا أنه يعجبه- فهل يكون الإسلام عندهم كله محظورات وممنوعات؟! وهل من أجل أن يصفهم هذا الكاتب وأمثاله بالمرونة والانفتاح والتعقل عليهم أن يحلوا ما حرم الله، لأنه يعجب الغابري أو غيره؟! نعم، هناك بعض السلفيين الذين لا يفقه السلفية جيدًا، وعنده تشنُّج، وتهوُّر في إطلاق الأحكام على الأعيان والأقوال والأعمال، لكن هذا لا يعبِّر إلا عن نفسه ومن هو على شاكلته، ومن الظلم الحكم على الجميع بذلك لذلك، وأيضًا فإن خطأ من يفتي منهم كثيرًا ما يكون في مسائل يمكن تداركها، أما غيرهم فيفتي في الدماء والسلم والحرب والجهاد، وربما كان ذلك بجهل وهوى، ولا شك أن ضرر ذلك أعظم، والجماعات لا تعرف إلا بمناهجها، وما عليه جمهور علمائها، وليس كل من انتمى إلى طائفة، وقال قولاً كان قوله قول الجميع!!

2- من الذي لا يحترم الأمة ويحتقرها: أهم السلفيون الذين يتبعون آثار علمائهم،  ويُشِيدون بما عليه العلماء، وينشرون فضائلهم ومناقبهم، ولا يرون لأنفسهم مخالفة ما أجمعت عليه الأمة، أم هم الذين لا يبالون بفهم الصحابة فمن دونهم ولا بإجماعهم؟ ويصادر جهود أهل الحديث، فيحكمون على عدد من أحاديث الصحيحين بأنها صناعة بشرية، وأن الأخذ بفهم السلف هو من تقليد الآباء والأجداد، وأنه صناعة لأمر فرعون؟! أو يرون أن الأمة من زمن بني أمية إلى الآن تتبع ذيل بغلة السلطان مثل زايد جابر وثابت الأحمدي ومجيب الحميدي وغيرهم؟!

أما آن لهذا الكاتب وغيره أن يستحيوا من الله، فيتركوا هذه الدعاوى الفارغة، والشعارات الجوفاء؟!

  • (نصيحة):

أنصح الأخ محمدًا الغابري والكُتَّاب الذين يُرْخون العنان لأهوائهم وعقولهم، فيحسِّنون ويُقبِّحون دون الرجوع إلى الأدلة والقواعد العلمية، وإجماع العلماء، ويفعلون ذلك حسب ما يشتهون؛ أنصحهم أن يتقوا الله، ولا يفتحوا على الأمة باب الفتن والزندقة والمروق ـ وإن جهلوا الحال والمآل ـ وأن لا يكونوا ممن يعتقد ثم يستدل، ويرمي بكل ما يراه مخالفًا وراء ظهره، وإن كانت الأمة قد عَضَّتْ عليه بالنواجذ، وأن يعتبروا بحال من رد النصوص الصحيحة لأنها تخالف ما يعتقد، فهذا عمرو بن عبيد بن باب رأس بدعة القدرية المعتزلة اعتقد أن الشر لا يقدره الله، فلما ذُكر له حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود المتفق عليه، قال: حدثنا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو الصادق المصدوق: “إن أحدكم يُجمع خلْقه في بطن أمه، أربعين يومًا نطفة …” وفيه: “ثم يُرْسَل إليه الملَك، فَيَنْفُخ فيه الروح، ويُؤْمَر بأربع كلمات: بِكَتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد …” الحديث فقال عمرو بن عبيد ـ مع عبادته وتألهه ـ: “لو سعمتُ الأعمش يقول هذا؛ لكذَّبته، ولو سمعته من زيد بن وهب؛ لما صدقته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله؛ ما قبلته؛ ولو سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول هذا؛ لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا؛ لقلت: ليس على هذا أَخَذْتَ ميثاقنا” اهـ من “تاريخ بغداد”، وانظر ” الميزان “( 3/ 278 ) فتأمل كيف يكون أَدَبُ أهلِ البدع مع الله عز وجل ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ؟! والذي حملهم على هذا اعتقاد الباطل، ثم رد الحق إذا خالفهم، وأرى المنهج الذي يسلكه الغابري في هذا المقال سيؤول إلى هذا إلا أنه يتدارك الله الجميع برحمته، ألا فلينصح امرؤ نفسه، وطوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه، “ومن سَنَّ سُنَّةً سيئة فعليه وِزْرُها وَوِزْرُ من عمل بها إلى يوم القيامة ..” ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.                   

                       وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا

كتبه أبو الحسن السليماني

دار الحديث بمأرب

7 / شعبان/1430هـ.

[1]) أي ثقيل شديد لا يقوم به إلا الأفذاذ من الناس، انظر معناه في ” اللسان ” ( 9/ 197 ).