السؤال : رجل مسافر فوجـد جماعة يصلون الفريضـة , فهل يصلي وراء المتم قصرًا , أم يتم صلاته ؟
الجواب : هذه المسألة انقسم قول العلماء فيها إلى قولين مشهورين .
أحدهما : أنه يلزمه أن يتم , سواءً أدرك مع الإمام ركعة كاملة أم دونها , وممن قال بذلك الشافعي , وهو المشهور من مذهب أحمد , وهو قول أبي حنيفة , وصاحبيه , والليث .
والثاني : أنه إن أدرك مع إمامه ركعة تامة أتم , وإن لم يدرك ركعة فهو مسافر يصلي قصرًا , وممن قال بذلك مالك ، والحسن ، والنخعي ، والزهري , وهو ما رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية ، كما في ” مجموع الفتاوى ” ( 23/333-334) .
وهناك قول آخر : أنه إن أدرك ركعتين مع المتم يجزيانه , وهو قول طاوس , وغيره , كما في ” الأوسط ” لابن المنذر (4/338-339) وانظر ” الاستذكار ” (6/116-117).
وهناك من يرى أن المسافر وإن صلى وراء المقيم فإنه لا يتم صلاته , عزاه الماوردي في ” الحاوي الكبير ” ( 2/380) إلى داود بن علي , قال: وهو قول للشعبي وطاوس , وعزاه النووي في ” المجموع ” (4/358) إلى إسحاق بن راهويه , وانظر ” المحلى ” (5/31-33) .
وقد استدل القائلون بالقول الأول على قولهم بعدة أدلة , وهي :
(1) ما جاء في ” صحيح مسلم ” (688) عن موسى بن سلمة أنه قال : سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة ، إذا لم أصل مع الإمام ؟ فقال : ركعتين , سنة أبي القاسم – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وفي رواية : إذا فاتتني الجماعة ..” أخرجها ابن حبان ، وهي صحيحة , وبما جاء عند أحمد أن موسى بن سلمة قال: كنا مع ابن عباس بمكة , فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا , وإذا رجعنا إلى رحلنا صلينا ركعتين, قال: تلك سنة أبي القاسم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .
(2) وبما رواه عبد الرزاق (2/542) أن أبا مجلز – واسمه لاحق بن حميد – قال : قلت لابن عمر : أدركت ركعة من صلاة المقيمين وأنا مسافر . قال : صل بصلاتهم . وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة (1/335) وابن المنذر في ” الأوسط ” (4/338) والبيهقي ( 3/157).
(3) وبحديث أنس وغيره مرفوعًا : ” إنما جعل الإمام ليؤتم به ..” الحديث , أخرجه مسلم (411) .
(4) وبحديث : “وما أدركتم فصلوا, وما فاتكم فأتموا” متفق عليه.
(5) وبصلاة الصحابة – رضي الله عنهم – خلف عثمان أربعًا في منى وهم في سفر , كما رواه مسلم برقم ( 494) , وأن ابن عمر كان إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا , وإذا صلى وحده صلى ركعتين . وبما في ” الصحيحة ” (1/أثناء الحديث 224) حول أثر ابن مسعود وأبي ذر.
واستدل القائلون بالقول الثاني ، وهو أن المسافر ما لم يدرك ركعة وراء المقيم فلا يتم بحديث: ” من أدرك من الصلاة ركعة ؛ فقد أدرك الصلاة ” متفق عليه من حديث أبي هريرة .
واستدل أهل الظاهر ومن معهم على قولهم بأن المسافر يقصر أبداً وإن صلى وراء متم : ” بأنه لو وجب على المسافر أن يتم إذا صلى خلف مقيم اعتبارًا بحال إمامه ؛ لجاز للمقيم أن يقصر إذا صلى خلف مسافر اعتبارًا بحال إمامه , فلما لم يجز للمقيم أن يقصر الصلاة خلف المسافر اعتبارًا بحال نفسه ؛ وجب ألا يلزم المسافر أن يتم الصلاة خلف المقيم اعتبارًا بحال نفسه , ولأنه مؤدٍّ للصلاة في السفر فجاز أن يقصرها كالمنفرد ” . اهـ . من ” الحاوي الكبير ” للماوردي ( 2/ 380) .
قال أصحاب القول الأول : إتمام المسافر وراء المقيم سنة أبي القاسم – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كما صرح بذلك ابن عباس , وعندي أن نص قول ابن عباس في ” صحيح مسلم ” ليس بذاك الصريح في نسبة الإتمام إلى سنة النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – , إنما رُوي عند أحمد بلفظ أصرح , سبق ذكره , إلا أن في سنده محمد بن عبدالرحمن الطفاوي , وفيه لين , وقد وُثق , وفحول أصحاب قتادة , كشعبة وابن أبي عروبة والدستوائي رووه في مسلم بلفظ فيه شيء من المغايرة للفظ أحمد , وكأنه لذلك قال الحافظ في ” التلخيص الحبير ” يعني لفظ أحمد كما في “نيل الأوطار” (3/168) : وأصله في “صحيح مسلم” اهـ .
وعلى كل حال : ففي هذا الأثر دلالة على الإتمام للمسافر وراء المقيم, لكن ليس فيه التصريح بأن ذلك كذلك وإن لم يدرك مع المتم ركعة , إلا أنه قد يقال : إن ابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهم – لم يستفصلا , فالأصل العموم , وقد قال المقدسي في ” المغني ” (2/128): ” ولأنه فعل من سميناه من الصحابة, ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفًا ” اهـ.
قالوا : والمأموم مأمور بمتابعة إمامه , وقد نوى إمامه الإتمام فلزمه ذلك , فإن قيل : يلزم المتم إذا صلى وراء المسافر الذي يقصر أن يقصر لهذا الحديث على قولكم . فالجواب : ما جاء في ” الحاوي ” للماوردي (2/381) وهو أن يقال : ” الإتمام عزيمة , والقصر رخصة على صفته , فلم يجز للمقيم ترك العزيمة والأخذ بالرخصة تبعًا لإمامه , ووجب على المسافر ترك الرخصة , والأخذ بالعزيمة تبعًا لإمامه عند عدم الصفة ” . اهـ
وحديث : “ما أدركتم فصلوا – أي مع الإمام – وما فاتكم – أي من صلاة الإمام , والفرضُ أنه متم – فأتموا ” .
وقد فعل ذلك الصحابة خلف عثمان – رضي الله عنه – مع أن إتمامه خلاف السنة , وهم مسافرون , فلأن يتابع الإمام المتم – وهو موافق للسنة – على الإتمام من باب أولى , ولمّا لم يستفصل الصحابة ممن سألهم: هل أدركت ركعة أم لا ؟ وكذلك لمّا لم يستفصل جماعة غيرهم ممن سألهم : هل أدركت ركعة أم لا ؟ دل ذلك على إجراء العموم , وأن من أدرك أيَّ جُزْءٍ من صلاة المتم – ولو في التشهد – أتم . والله أعلم .
قال أصحاب القول الثاني ، وهم المفرقون بين ما إذا أدرك ركعة فيتم وإلا فلا : حديث : ” من أدرك من الصلاة ركعة ؛ فقد أدرك الصلاة ” مفهومه : أنه إن لم يدرك ركعة فلم يدرك الصلاة , ولذلك فمن لم يدرك مع الإمام في الجمعة ركعة ؛ صلى ظهرًا .
والمأموم في هذه الحالة – وإن تابع إمامه فيما أدركه دون الركعة – من الصلاة ؛ إلا أنه يعتد به , وإنما يفعله متابعة للإمام , ولو بعد السلام , كالمنفرد باتفاق الأئمة . اهـ من ” مجموع الفتاوى ” (23/243) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الحديث : بأن هذا الحديث ورد لبيان أوقات الصلاة ، كما في ” الفتح ” (2/57) ومنهم من خصّه بصلاة الفجر والصبح المذكورتين في بعض روايات الحديث .
هذا حاصل أقوال وأدلة أهل العلم , والذي تميل إليه نفسي : هو القول الأول , لكثرة أدلته , وإن كان في بعضها نزاع خفيف , ولكثرة القائلين به أيضًا , والعلم عند الله – تعالى – .
(تنبيه) : جاء في “المغني ” ( 2/129) و”المجموع” ( 4/357) وغيرهما تفصيلات وتفريعات لأهل العلم على هذه المسألة , فمما ينبغي ذكره هنا ما إذا شك المأموم : هل إمامه متم , أو أنه سيقصر الصلاة ؟ ورجحوا في مثل هذا أن ينوي المأموم المسافر الإتمام , قال في “المغني” : لأن الأصل وجوب صلاة تامة , فليس له نية قصرها مع الشك في وجوب إتمامها , قال : وإن غلب على ظنه أن الإمام مسافر ؛ لرؤية حلية المسافرين عليه أو آثار السفر ؛ فله أن ينوي القصر , فإن قصر إمامه قصر معه ، وإن أتم لزمه متابعة ، وإن نوى الإتمام لزمه ، سواء قصر إمامه ، أو أتم اعتبارًا بالنية اهـ . والعلم عند الله – تعالى – .