الأسئلة العامة

في بعض السنوات نسمع أن الدولة الفلانية قد ثبت عندها رؤية هلال رمضان

السؤال : في بعض السنوات نسمع أن الدولة الفلانية قد ثبت عندها رؤية هلال رمضان , في ليلة كذا , ونرى بعض الدول لا تأخذ بهذا الرؤية , فهل يجوز ذلك ؟ أم أنه لا بد من الصيام عند بقية المسلمين برؤية بعضهم ؟

الجواب : إذا كان هذا الاختلاف سببه نزاعات سياسية وأهواء إقليمية , أو عرْقِية ، أو طائفية ، ونحو ذلك ؛ فلا يجوز لهم ذلك ؛ لأن الأصل أن المسلمين يجب عليهم أن يردوا ما اختلفوا فيه إلى الله ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال تعالى: ]وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[ ويقول سبحانه: ] فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [ ولا يجوز أن تكون الخلافات الدنيوية سببًا للاختلاف في الدين , فهذا للأسف أمر موجود , والله المستعان .


 

أما إذا كان هذا الاختلاف سببه اختلاف أقوال أهل العلم ؛ فهاك تحرير المسألة : فقد اختلف العلماء في ذلك – حسب ما وقفت عليه من كلامهم – وهاأنذا ألخصه لك :

فمنهم من قال : إذا ثبتت رؤية الهلال في مكان ؛ لزم الناسَ كُلَّهم الصومُ من مشارق الأرض ومغاربها , وهو قول المالكية , والليث , وبعض الشافعية , وأبي حنيفة , وأحمد كما في ” طرح التثريب ” (4/116) واستدلوا على ذلك بأدلة ، منها :

(1) قول النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ” صـوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته . ” أخرجه البخاري ( 1909) ومسلم ( 1081) من حديث أبي هريرة , وما كان في معناه من الأحاديث الأخرى , وهذا محمول على رؤية البعض , لأن الكل لا يرون ذلك في العادة , إنما يراه من تثبت به الرؤية , ويعمل بقية المسلمين برؤيته , فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض .

(2) واستدلوا أيضًا بحديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره : أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : ” الصوم يوم تصومونه , والفطر يوم تفطرونه , والأضحى يوم تضحونه . ” .

والذي يظهر لي من بحث هذا الحديث : أن الجملة الأولى حسنة وباقي الحديث صحيح لغيره . والله أعلم .

(3) أن هذا أَدْعَى إلى اجتماع كلمة المسلمين وقوتهم , والأصل أن أخبار المسلمين يلزم الأخذ بها عند بقيتهم , والرؤيـة من جملة هذه الأخبار.

القول الثاني : أنه إذا رآه أهل بلد ؛ وجب عليهم وعلى من كان في حكمهم الصيام دون غيرهم , وهو قول أكثر الشافعية , واستدلوا على قولهم هذا بأدلة :

(1) قوله تعالى : ] فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [ قالوا : ومن لم يكن من المشاهدين , ولم يكن في حكمهم ؛ فلا يقال في حقه : إنه شاهده , لا حقيقة ولا حكمًا .

(2) قول النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، المتفق عليه ، وقد سبق من أدلة القول الأول – : ” صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته . ” , ووجه الاستدلال عندهم كما سبق في الآية .

(3) ما جاء في ” صحيح مسلم ” ك: الصوم ( 1087) : عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية , قال : فقَدِمْتُ الشام ، فقضيت حاجتها , اسْتُهِلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام , فرأيت الهلال ليلة الجمعة , ثم قدمت المدينة في آخر الشهر , فسألني عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – ثم ذكر الهلال , فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة , فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم , ورآه الناس , وصاموا , وصام معاوية , فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت , فلا نـزال نصوم حتى نكمل ثلاثين , أو نراه , فقلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا , هكذا أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – .

(4) أن التوقيت اليومي يختلف فيه المسلمون كما هو مُشاهَد , فإذا طلع الفجر في المشرق , فلا يلزم أهل المغرب أن يُمسكوا ، لأن الليل مازال عندهم , وكذلك لو غربت الشمس , فكما أنهم يختلفون في الإفطار والإمساك اليومي , فكذلك يكون في الإفطار والإمساك الشهري .

واختلف أهل هذا القول في معنى ” ومن كان في حكمهم ” أي : في القرب والبعد , فمنهم من قال : إذا اتحدت المطالع ؛ فليصوموا جميعًا ، وإذا اختلفت فكل له رؤية خاصة به ، ومنهم من قال : المسافة في ذلك مسافة القصر ، ومنهم من قال : إذا أمكن بلوغ الخبر في ليلة رؤية الهلال ، فمن بلغهم فليصوموا , ومن لا فلا , وهذا باعتبار حال الأولين , وإلا ففي زماننا هذا يطير الخبر في أرجاء الأرض في وقت قصير جدًّا , ومنهم من قال : ” ضابط القرب من البعد : أن يكون الغالب أنه إذا أبصره هؤلاء لا يخفى عليهم إلا لعارض , سواء في ذلك مسافة القصر أو غيرها . ” انتهى ما قاله السرخسي , انظر” المجموع ” ( 6/274) .

القول الثالث: أن الناس تبع للإمام , فإن ألزمهم بالصوم صاموا , قالوا: والبلاد الكثيرة في حق الإمام كالبلدة الواحدة , كل هذا من أجل حسم مادة النـزاع المفضية إلى مفاسد عظيمة .

هذه أشهر الأقوال وأدلتها .

والذي يترجح عندي : توحيد الرؤية للمسلمين إن أمكن ذلك لما سبق من أدلة , فإن لم يمكن ذلك ؛ فكل يجتهد في تحري رؤية الهلال , ويعمل برؤيته .

وضابط إمكان توحيد الرؤية : إمكان بلوغ الخبر إلى بقية المسلمين في الليلة التي يُرى فيها الهلال , وقد كان هذا الأمر في الأزمنة السابقة متعذرًا , ولذلك عمل كل منهم برؤيته , أما اليوم ففي زمن قصير جدًّا يمكن أن يذاع الخبر في أنحاء الأرض , ولا يبيت أحد المسلمين إلا وقد علم أن هلال رمضان أو شوال قد رُئي في المكان الفلاني , وبهذا القول تلتئم الأدلة إن شاء الله تعالى .

وأما الاستدلال بقوله تعالى : ]فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [, وحديث : ” صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته ” فليس فيهما دلالة على تعدد الرؤية ؛ لأنه إذا رآه أو شهده البعض ، وعلم الباقون بذلك فخبره لازم لهم , ورؤيته رؤية لهم ، ولو قلنا بظاهر الآية والحديث ؛ للزم أنه إذا رأى بعض أهل بلدة فلا يلزم بقية أهل هذه البلدة العمل برؤيته , وهذا باطل , وقصة كريب مع ابن عباس – رضي الله عنهما – محمولة على عدم تمكن أهل المدينة من العلم برؤية أهل الشام في رمضان , وفي شوال أيضا , لأنه يمكن أن يقال : إن قول ابن عباس : ” فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ” محمول على أنهم لا يتمكنون من العلم برؤية أهل الشام لهلال شوال , فسيَبْقَوْن على رؤيتهم , وليس فيه أن أهل المدينة لو اطلعوا على رؤية أهل الشام في هلال شوال قبل فوات الأوان ؛ أنهم لا يعملون برؤية أهل الشام , إلا أنه يرد على ذلك : لماذا لم يَبْنِ ابن عباس على رؤية أهل الشام , ويحسب الشهر من ليلة الجمعة حتى يتم ثلاثين أو يرى الهلال ؟ وعلى كل حال : فهو اجتهاد من ابن عباس – رضي الله عنهما – في مقابلة النص , وأما قوله : ” هكذا أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ” فلا يلزم من ذلك أنه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أمرهم بعدم الاعتداء برؤية غيرهم , فقد قال الشوكاني – رحمه الله – في ” نيل الأوطار ” (4/208) : ” والأمر الكائن من رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ : ” لا تصوموا حتى تروا الهلال , ولا تفطروا حتى تروه , فإن غم عليكم , فأكملوا العدة ثلاثين . ” وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد , بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين , فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم , لأنه إذا رآه أهل بلد ؛ فقد رآه المسلمون , فيلزم غيرهم ما لزمهم …” انتهى .

وفي “الإحكام شرح عمدة الأحكام” لابن دقيق العيد (2/207) ذكر قول ابن عباس : ” هكذا أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ” , ثم قال : ” ويمكن أنه أراد بذلك هذا الحديث العام , دون حديث : ” صوموا لرؤيته ؛ وأفطروا لرؤيته , فإن غُم عليكم …” الحديث , لا حديثًا خاصًّا بهذه المسـألة , وهو الظاهر عندي , والله أعلم ” انتهى . وانظره في “طرح التثريب ” (4/116) .

هذا وهناك من أجاب على حديث كريب بأن ابن عباس لم تثبت عنده رؤية الهلال بخير الواحد , وهذا القول ليس بقوي عندي , وانظر ” المجموع ” (6/273) و” المغني” (3/8) .

وأما الاستدلال باختلاف التوقيت اليومي في الإمساك والإفطار على الاختلاف في التوقيت الشهري في الإمساك والإفطار ؛ فلا يتجه هنا : لأن المقصود أن أهل الغرب إذا علموا برؤية أهل الشرق للهلال , فمعنى ذلك أنهم إذا جن عليهم الليل عزموا على الصيام من الليل التالي للخبر , لا أنهم يعزمون على الصيام حين يبلغهم الخبر , ولو كان ذلك وسط النهار!! أضف إلى ذلك أن الرجوع إلى المطالع أمر مضطرب , وما هكذا دين المسلمين , فلو قلنا : إن البلد الفلاني , والبلد الفلاني في مطلع واحد , واختلفنا في بلاد قريبة منهما عن يمينهما أو شمالهما أو ما يليهما من البلدان شيئًا فشيئًا , وهكذا !! فليس هناك حد صحيح يُوقَف عليه .

والقول بتوحيد الرؤية قد نصره شيخ الإسلام كما في “مجموع الفتاوى” (25/105) وانظر ما قاله شيخنا الألباني – حفظه الله – في “الصحيحة” ( 6/1/253) و”تمام المنة” ص( 397- 398) .

وهناك من قَوَّى القول الثاني , أي أن كل جهة تعمل برؤيتها , وقد قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين – حفظه الله – : ” وهذا القول هو الذي تدل عليه الأدلة . ” اهـ . من “الشرح الممتع” (6/322) , وانظر “فقه النوازل” (2/222-223) لشيخنا بكر بن عبد الله أبو زيد -حفظه الله- .

وأما قول من قال بالرجوع إلى إمام المسلمين ؛ فدليله دفع المفسدة , ودرء النـزاع , وهذا أمر له حظه من الوجاهة والقبول , حتى قال شيخنا ابن عثيمين – حفظه الله – : ” وعمل الناس اليوم على هذا , أنه إذا ثبت عند ولي الأمر ؛ لزم جميع من تحت ولايته أن يلتزموا بصوم أو فطر , وهذا من الناحية الاجتماعية قول قوي , حتى لو صححنا القول الثاني الذي نحكم فيه باختلاف المطالع , فيجب على من رأى أن المسألة مبينة على المطالع ألا يظهر خلافًا لما عليه الناس .” ا هـ (6/322) .

وقال شيخنا الألباني – حفظه الله – في “تمام المنة” : ص ( 398) : ” وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك ؛ فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوموا مع دولهم ، ولا ينقسم على نفسه , فيصوم بعضهم معها , وبعضهم مع غيرها , تقدمت في صيامها أو تأخرت , لما في ذلك من توسع دائرة الخلاف في الشعب الواحد , كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين , والله المستعان .” اهـ . وانظره بنحوه في “الصحيحة” (6/1/ 253-254) .

(تنبيه) : قال ابن عبد البر – رحمه الله – : ” قد أجمعوا أنه لا تراعى الرؤية فيما أُخِّر من البلدان , كالأندلس من خراسان , وكذلك كل بلد له رؤيته , إلا ما كان كالمصر الكبير , وما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين .” انتهى من “الاستذكار” (10/30) .

وقد تعقب دعوى الإجماع الشوكاني في : “نيل الأوطار” (4/209) فقال : ” ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول – يعني لزوم الرؤية للجميع – وهو القول الذي ذهب إليه الشوكاني خلاف الإجماع – قال : لأن الإجماع لا يتم والمخالف مثل هؤلاء الجماعة .” اهـ . يعني جماعة ذكرهم في “النيل” .

إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية حمل كلام ابن عبد البر على عدم التمكن من إبلاغ خبر رؤية أهل الشرق لأهل الغرب , فقال كما في “مجموع الفتاوى” ( 25/107) : ” فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ ؛ لقوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : “صوموا لرؤيته ” فمن بلغه أنه رُئي ؛ ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلاً , وهذا يطابق ما ذكره ابن عبدالبر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيها إلا بعد شهر, فلا فائدة فيه ,بخلاف الأماكن التي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر , فإنها محل الاعتبار . ” اهـ.

(تنبيه آخر) : الاعتماد في الصيام والإفطار على رؤية الهلال , لا على علم الحساب الفلكي , ومن استعمل علم الحساب , ولم يأخذ بالرؤية ؛ فقد ابتدع في الدين , وانظر : ” فقه النوازل ” (2/191-222) . والعلم عند الله تعالى .

للتواصل معنا