السؤال: هل يجوز الأكل والشرب بعد الأذان الثاني للفجر في رمضان وغيره ؛ لمن عزم على صيام , أم لا ؟
الجواب : إن كان المؤذن لا يتحرى الوقت ؛ فلا يعتمد على قوله , ويلزم من تأهل لذلك أن يتحرى بنفسه , ويعمل بما يترجح عنده , فإن لم يكن أهلاً لذلك – وهذا حال أكثر الناس – اتبع المؤذن ؛ إن غلب على ظنه أنه أهل لمعرفة هذا الشأن ، أما إذا كان المؤذن متحريًا ؛ فلا بد من الوقوف عند أذانه .
وقد قال الله – عز وجلّ – : ]وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَـامَ إِلَى اللَّيْلِ[ وقد جعل -عز وجلّ- الأمر مرتبطًا بتَبَيُّنِ الخيط الأبيض – وهو ضوء النهار – مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ ؛ وهو ظلمة الليل , وقد جاءت الأحاديث مبينة لذلك :
فعند البخاري (622) من حديث عائشة : أن بلالاً كان يؤذن بليل , فقال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ” كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم, فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ” .
وعند البخاري (620) ومسلم (1092) من حديث ابن عمر أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : ” إن بلالاً يؤذن بليل , فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم ” .
وعند البخاري (621) ومسلم (1093) من حديث ابن مسعود : أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : ” لا يمنعن أحـدًا منكم أذانُ بـلال ؛ فإنه يؤذن بليل, ليرجع قائمكم , ويوقظ نائمكم …. “ الحديث .
وعند مسلم (1094) من حـديث سمرة بن جُنَدُب ، أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: “لا يَغُرَّنَّ أحدَكُم نداءُ بلال من السحور , ولا هذا البياض ؛ حتى يستطير هكذا ” . وفي رواية عنده : ” ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر “ . أو قال : ]حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْـوَدِ مِنَ الفَجْرِ[ ففسره الأئمة الأربعة وفقهـاء الأمصار, ومن قبلهم ابن عباس ؛ بأنه ضوء النهار وسواد الليل , حتى قال ابن عباس : ” هما فجران : فأما الذي يسْطَعُ في السماء ؛ فليس يُحِلُّ ولا يُحرّم شيئًا , ولكن الفجر الذي يستبين على رؤوس الجبال ؛ هو الذي يحرم الشراب اهـ “. من ” تفسير الطبري ” (2/173) بسند حسن , وبنحو عند الرزاق .
واستدل هذا الفريق بالأحاديث السابقة , وقال آخرون : المقصود ضوء النهار إلى طلوع الشمس , فأجازوا الأكل والشرب إلى ما قبل طلوع الشمس ، وقد فنّد هذا القول الطبري – رحمه الله – في ” تفسيره ” (2/ 173-176) .
واستدلوا أيضًا بحديث أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : ” إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده ؛ فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه “ . أخرجه أبو داود وغيره , وهو حديث صحيح بمجموع طرقه , وقد أجاب عنه أهل العلم بعدة أجوبة , منها :
(1) أن هذا محمول على أن المؤذن أذن قبل تحققه من دخول الوقت , وقد قال بهذا التأويل جماعة , كالخطابي ، والبيهقي ، وابن مفلح ، والقاري ، وغيرهم, وكلامهم هذا إن كان مرادهم به أن المؤذن قد أذن بليل ؛ ففي هذا التأويل نظر ؛ لأن ظاهر الحديث الرخصة لمن كان هذا حاله ، وإن كان مرادهم به أن المؤذن قد أذَّن أول طلوع الفجر وقبل انتشاره ؛ فيحمل ، والله أعلم .
(2) ومنهم من حمل ذلك على أن المراد به أذان المغرب , وأن المراد من الحديث أن تدخل في الصلاة بدون وجود شاغل يشوش على الخشوع في الصلاة , وهذا فيه نظر .
(3) ومنهم من قال بأن هذا من باب الرفق بمن هذا حاله , أي أنه رخصة له في هذا الحال , وهو الذي يظهر لي ؛ أن هذا من باب الرخصة والتيسير , ولا يقاس على ذلك غير هذه الصورة المستثناة , فمن كان في يده إناء أو طعام أو نحو ذلك , ثم أذن المؤذن المتحري للوقت ؛ فلا يضعه الصائم من يده , بل يأكل أو يشربه , لكن لا يرفع غيره مما بين يديه , ومن قاس على هذه الرخصة المستثناة غيرها ؛ فقد جعلها شبيهة بالأصل لا الرخصة , ولا يعد هذا جمودًا , بل هو العمل بالأصل الذي هو الإمساك عند طلوع الفجر وتبينه , والرخصة المأخوذة من هذا الحديث , إنما يكون الجمود عند الوقوف على لفظ الإناء فقط , وهو من العمل بمفهوم اللقب , والصواب عدم العمل به , والله أعلم .
واستدلوا أيضًا بآثار كثيرة عن جماعة من الصحابة فمن دونهم ؛ تدل على تناول الطعام والشراب بعد الأذان الثاني ، وهذه الآثار كثير منها لا يصح ، ولا يقال : يُقَوِّي بعضها بعضًا ؛ لعدم ورودها على قصة واحدة ، ولمخالفتها المعروف من القرآن والسنة ، وبعض هذه الآثار صحيح ، لكنه غير صريح، وبعضها صحيح قوي في إثبات أن بعض الصحابة أكلوا بعد استطارة الفجر , ومن هؤلاء أبو بكر وحذيفة – رضي الله عنهما – , ولهذا جزاء خاص جمعته , ولله الحمد .
وطالما أن المسألة خلافية بين الصحابة , وأن الحافظ ابن حجر ذكر أنه كاد يكون الإجماع من الفقهاء على خلاف هذا القول المنسوب إلى جمهور الصحابة , كما نقله صاحب “مرقاة المفاتيح” (4/484) فالمسألة لا بد فيها من الترجيح بالأدلة , فظاهر الأدلة السابقة يرد على أهل هذا القول , أضف إلى ذلك أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كان يصلي الصبح بغلس , والغلس : ظلمة الليل المختلطة بضوء الصبح ؛ كما في ” اللسان ” (6/156) حتى كان أحدهم بعد الانصراف من الصـلاة لا يعرف وجـه جليسه لو نظر إليه , وكان النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يقرأ ما بين الستين والمائة . متفق عليه .
وكذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة أن النساء كن ينقلبن إلى أهليهن بعد الصلاة , ما يعرفهن أحد من الغلس .
وعند أبي داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث أبي ذر أنهم كانوا يصلون مع النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قيام الليل فيطيلون الصلاة , حتى إنهم ليخافون أن يفوتهم الفلاح , أي السحور , وقد صححه شيخنا الألباني – حفظه الله تعالى – .
فكل هذا يدل على أنهم كانوا يبكّرون بالصلاة ؛ كما بوّب عليه الإمام النووي – رحمه الله – في “شرحه لصحيح مسلم” ومما لا شك فيه أنهم ما كانوا يتسحرون بعد الصلاة , مما يدل على أنهم كانوا يتسحرون في ظلمة الليل , وأيضًا فوقت صلاة الفجر من وقت الصوم ؛ لحديث عائشة عند مسلم (1110) أن رجلاً قال : يا رسول الله ! تدركني الصلاة – وأنا جنب – فأصوم ؟ قال : ” وأنا تدركني الصلاة –وأنا جنب – فأصوم …. ” الحديث اهـ . من “الفروع” لابن مفلح (3/69) , وهذا يصدق على من أدركه الأذان الثاني وهو كذلك .
وأما من ذهب منهم إلى إغلاق الباب وأكل السحور – كي لا يرى الفجر – فإننا لو سلمنا بصحته ؛ لتُعُقّب عليه بحديث عدي بن حاتم في ” الصحيحين ” أنه لما قرأ الآية : ]حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ[ أخذ عقالاً أبيض وآخر أسود , وجعلهما تحت وسادته , وجعل ينظر إليهما ؛ فلم يتميزا له ؛ فأخبر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بذلك , فقال : ” إن وسادك إذًا لعريض “ وفي رواية : ” إنك لعريض القفا “ فلو كان من أغلق على نفسه ، وهو يعلم بطلوع الفجر وتَبَيُّنِه مصيبًا ؛ فلماذا أنكر رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – على عدي ؟ وإن كان فاعل ذلك يعتقد أن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود هو الحد الفاصل ؛ فلا ينفعه إغلاق الباب , وإن كان لا يعتقد ذلك – وهو من أهل الاجتهاد – فقد اجتهد اجتهادًا خالف فيه ظاهر القرآن والسنة , فله أجره على اجتهاده , ولا يلزمنا الأخذ باجتهاد بعض الأصحاب – رضي الله عنهم – لاسيما والمسألة فيها خلاف بين الصحابة – كما سبق – .
فملخص أقوال أهل العلم في هذه المسألة أربعة أقوال :
(1) أن هناك من يرى الإمساك قبل طلوع الفجر , فيمسك من عزم على الصيام في جزء من الليل قبل الفجر ؛ لأن مالا يتم الواجب به ؛ فهو واجب , وحملوا قوله تعالى : ] حَتَّى يَتَبَيَّنَ [ أي حتى يقارب التبين , ويرد عليهم ظاهر القرآن والسنة , وحديث أبي هريرة السابق .
(2) الإمساك عند تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر , وهذا قول أئمة المذاهب والأمصار , وهو الذي يدل عليه الدليل .
(3) التسامح في جزء من النهار , ولو بعد تبين الخيط الأبيض , وهو قول بعض الصحابة – رضي الله عنهم – وليس عليه دليل مرفوع .
(4) الإمساك عند طلوع الشمس , وهذا قول مستبشع جدًّا , حتى قال ابن كثير في “تفسيره” للآية (1/ 301) : ” وهذا القول ما أظن أحدًا من أهل العلم يستقر له قدم عليه ؛ لمخالفته نص القرآن…” ثم ذكر الآية والأحاديث ، وقد أفتى بنحو ما صدّرت به الجواب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في “مجموع الفتاوى” (25/ 216) والعلم عند الله تعالى .