الأسئلة العامة

اختلف الناس في موضع القنوت في الوتر , هل هو قبل الركوع أم بعده ؟ فما هو الصواب من هذه الأقوال ؟

السؤال: اختلف الناس في موضع القنوت في الوتر , هل هو قبل الركوع أم بعده ؟ فما هو الصواب من هذه الأقوال ؟

الجواب : رُويت أحاديث فيها ذكر القنوت في الوتر قبل الركوع , كما في حديث أبيّ بن كعب ، وعبد الرحمن بن أبزى , ولكن بعد الدراسة لأسانيد هذه الروايات ؛ ظهر لي أن ذكر القنوت في الوتر قبل الركوع شاذ لا يصح , بل قد يكون منكرًا , وقد صرح بإعلاله جماعة من أهل العلم : ففي “زاد المعاد” (1/323) قال ابن القيم – رحمه الله – : ولم يُحفظ عنه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه قنت في الوتر ، إلا في حديث رواه ابن ماجه… ، ثم ذكر حديث أبي ، وقد تكلمتُ عليه بتوسع في كتابي “التوضيح لأحكام الوتر والقنوت والاعتكاف والتراويح” وبينت أنه منكر ، ثم قال – رحمه الله – بعد ذكر حديث أبيّ هذا : “وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله : أختار القنوت بعد

الركوع , إن كل شيء ثبت عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في القنوات إنما هو في الفجر ؛ لما رفع رأسه من الركوع ، وقنوت الوتر أختاره بعد الركوع , ولم يصح عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في قنوت الوتر قبلُ أو بعدُ شيء . وقال الخلال : أخبرني محمد بن يحيى الكحال , أنه قال لأبي عبد الله في القنوت في الوتر ؟ فقال : ليس يُروى فيه عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – شيء , ولكن كان عمر يقنت من السنة إلى السنة…” اهـ .

 

وقال ابن القيم بعد نقله لكلام بعض الأئمة : ” والقنوت في الوتر محفوظ عن عمر ، وابن مسعود , والرواية عنهما أصح من القنوت في الفجر , والراوية عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في قنوت الفجر أصح من الرواية في قنوت الوتر ، والله أعلم ” اهـ .

ولذلك فقد ذكر المروزي في “قيام الليل” أن أحمد سئل عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده , وهل تُرفع الأيدي في الدعاء في الوتر ؟ فقال : القنوت بعد الركوع , ويرفع يديه , وذلك على قياس فعل النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في القنوت في الغداة اهـ . من “مختصر قيام الليل” ص (318) وانظر “الوتر” له ص (143) .

فهذا الإمام أحمد يعوِّل على القياس ؛ لضعف الحديث عنده .

وقد وضحت في “التوضيح” أن رفع الأيدي في صلاة النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في دعائه على من قتل القراء فيه نظر ، وإنما هذا ثابت عن بعض الصحابة ، والله أعلم .

وفي “سنن أبي داود” (2/65) برقم (1429) ذكر أثرًا ثم قال : ” وهذا يدل على أن الذي ذُكر في القنوت ليس بشيء ، وهذان الحديثان يدلان على ضعف حديث أبي أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قنت في الوتر ” اهـ .

وقال ابن خزيمة في “صحيحه” (2/152-153) بعد ذكره حديث شعبة عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن في دعاء : ” اللهم اهدني فيمن هديت… ” الحديث – وقد أثبت أنه دعاء مطلق , وليس في الوتر فقط – قال: ” ولو ثبت الخبر عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه أمر بالقنوت في الوتر , أو قنت في الوتر ؛ لم يجز عندي مخالفة خبر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ولست أعلمه ثابتًا ” اهـ . وقد نقل ذلك ابن المنذر في “الأوسط” (5/216-217) ولم يذكر قائل ذلك , إنما قال : ” تكلم عن حديث بريد بن أبي مريم بعض أصحابنا…” , ونقل كلام ابن خزيمة ، ولم يتعقبه بشيء .

وقد نقل ابن الجوزي في “التحقيق” (1/465) عن الخطيب أنه قال : ” الأحاديث التي جاء فيها قبل الكروع – أي القنوت قبل الركوع – كلها معلولة ” اهـ .

وفي “التلخيص” (2/39) بعد ذكر حديث أبيّ , قال الحافظ ابن حجر : ” ورواه البيهقي من حديث أبي بن كعب , وابن مسعود ، وابن عباس , وضعفها كلها , وسبق إلى ذلك ابن حنبل ، وابن خزيمة ، وابن المنذر , وقال الخلال عن أحمد : لا يصح فيه عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – شيء , ولكن عمر كان يقنت ” اهـ . لكن جاء عن البيهقي في “الكبرى” تصحيح دعاء : ” اللهم اهدني… ” الحديث , وأنه وقع في تعليم قنوت الوتر وقنوت الصبح , كما في (2/210) مع أن سنده واضح الضعف ؛ لجهالة رجل فيه .

وقال ابن عبد البر في “الاستذكار” (5/176) : ” لا يصح في القنوت في الوتر حديث مسند ” اهـ .

وعلى كل حال فالدراسة الحديثية لطرق الحديث توافق ما ذهب إليه الأئمة المذكورون سابقًا في عـدم ثبوت قنوت الوتر عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لا قولاً ولا حالاً ولا تعليمًا فلا يُعتمد عليه , إنما العمدة في ذلك على الآثار , وسيأتي بعد قليل تفصيل لضعف هذا الحديث – إن شاء الله تعالى – .

وأما الاستدلال برواية عاصم الأحول عن أنس في ” الصحيحين ” ؛ فقد أعلها أحمد وجماعة , انظر ” فتح الباري ” لابن رجب (9/187) وما بعدها , ومع ذلك فلو صحّ هذا الحديث ؛ فليس بصريح على أن المراد به القنوت في الوتر , بل قد فهمه العلماء على أنه قنوت النازلة , وإنما أدخله من أدخله في أبواب الوتر؛ للقياس الذي صرح به أحمد -كما سبق- وذهب إليه البيهقي في “الكبرى” (3/39) بدليل أنهم أدخلوا في أبواب الوتر الأحاديث الصريحة في قنوت النازلة بلا خلاف ، وأيضًا لو سلم من هذا كله ؛ فليس بصريح في الرفع , فيحتمل أنه حكاية عن فعل بعض الخلفاء , أو أنه رأي لأنس , انظر “شرح معاني الآثار” للطحاوي (1/248) و”فتح الباري” لابن رجب في الموضع السابق ، والله أعلم .

والذي عندي في هذه المسألة : أن هناك آثارًا قد صحت عن بعض الصحابة في القنوت قبل الركوع وبعده , فصح عن ابن مسعود وأصحاب النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – القنوت في الوتر قبل الركوع . أخرجه ابن أبي شيبة وغيره . وصح عن عمر أن قنت في الفجر قبل الركوع وبعده , وأشهر ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أنه قنت في النازلة بعد الركوع , حتى قال البيهقي (2/208): ” ورواة القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ ؛ فهو أولى , وعلى هذا درج الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- في أشهر الروايـات عنهم وأكثرها ” اهـ . ورجح رواية من روى عن عمر بعد الركوع لكثرتهم (2/211) .

والعلماء بعد الصحابة اختلفوا ، فمنهم من قال : القنوت قبل الركوع ، ومنهم من يراه بعد الركوع ، والأمر فيه سعة ، فمن شاء قنت ، ومن شاء ترك ، ومن شاء قنت قبل الركوع أو بعده – وهو الأشهر -فلا شيء عليه ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، كما في “الإنصاف” (2/170) حيث إنه لم يثبت نص مرفوع عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في قنوت الوتر أصلاً ، فضلاً عن موضعه ، إنما هي اجتهادات أصحاب النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – والعلماء من بعدهم , والوتر نافلة , وفي النافلة سعة , كما هو مشهور في غير هذا الموضع .

فهل بعد هـذا يَحْسُن بالمسلمين أن يثيروا هيشات الأسـواق في مساجدهم ، لاختلافهم في فهم الرأْي ؟ بل ربما أدى نزاعهم إلى الوقوع فيما لا تُحْمد عقباه ؛ فاللهم غفرًا .

للتواصل معنا