الأسئلة العامة

هل الاعتكاف يكون في جميع المساجد , أم في المساجد الثلاثة فقط

السؤال  : هل الاعتكاف يكون في جميع المساجد , أم في المساجد الثلاثة فقط : المسجد الحرام , ومسجد رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ، والمسجد الأقصى ؟

الجواب : اختلف أهل العلم في هذه المسألة : فمنهم مَن ذهب إلى العموم , واستدل بقوله تعالى : ]وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ [ [البقرة : 187] فلم يخص مسجدًا دون آخر .

ومنهم من ذهب إلى التخصيص بالمساجد الثلاثة , واستدل بحديث حذيفة – رضي الله عنه – أنه جاء إلى عبد الله بن مسعود , وقال له : قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى , لا تنهاهم وقد علمتَ أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : ” لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة : المسجد الحرام , ومسجد النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ، ومسجد بيت المقدس ” ؟ فقال عبد الله بن مسعود: فلعلهم أصابوا وأخطأتَ , وحفظوا ونسيتَ. أخرجه الإسماعيلي والدار قطني وغيرهما . وهذا الحديث قد وقع فيه اختلاف كثير سندًا ومنتًا , فمن ذلك :


 

(1) أنه قد اختلف فيه : هل هو موقوف على حذيفة ، أم أنه مرفوع إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ؟ والظاهر عندي : أن الرفع زيادة ثقة مقبولة .

(2) واخْتُلِفَ : هل هو صريح في الرفع إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – , أم ليس كذلك ؟ كما في قول حذيفة في روايات أخرى : ” وقد علمتَ أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ” والظاهر أنه قد وقع التصريح بالرفع , لكن حدث بين المصرحين بالرفع خلاف في المتن, هل هو مجزوم به أم مشكوك فيه ؟ كما في رواية سعيد بن منصور, وفيها : وقد علمت أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : ” لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة , أو قال : في مسجد جامع ” . وسعيد بن منصور الذي روى الرواية المشكوك فيها والصريحة في الرفع ؛ أرجح من الذين رووها صريحة في الرفع مجزومًا بها ؛ لحفظه , ولضعف بعضهم , ولضعف الطريق إليه , والشك لا يُعْمَلُ به .

(3) واخْتُلِفَ في الترجيح بين الروايات المصرحة بالرفع, والأخرى التي فيها قول حذيفة : ” وقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في المسجد الثلاثة ” .

(4) واخْتُلِفَ في قول حذيفة : ” وقد علمت أنه لا اعتكاف… الخ ” . هل هذا معناه : أنك يا ابن مسعود علمت أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال كذا ؟ أم معناه : وقد علمت من المتبادر من النصوص , أو من فهمك للقواعد أنه لا اعتكاف… الخ ؟ وإن كانت النفس تميل إلى أن المتبادر من ذلك أنه إحالة إلى العلم المأخوذ ممن جعله الله حجة على الخلق – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – .

(5) وفي بعض الروايات أن حـذيفة عندما قـال له ابن مسعـود : ” فلعلهم أصابوا… الخ ” لم يتعقبه حذيفة بشيء , وفي بعضهـا قال : ” أما أنا فقد علمتُ أنه لا اعتكاف… الخ ” وفي بعضها أن ابن مسعود لم يَرُدَّ عليه بشيء .

فالذي تميل إليه نفسي في النهاية ثبوت الحديث مجزومًا به , لا بالرفع الصريح ؛ إنما له حكم الرفع – على ما فيه من أخذ ورد – .

ومع هذه العقبات في الترجيح , وإنكار ابن مسعود على حذيفة , حتى قال له : ” فلعلهم حفظوا ونسيت , وأصابوا وأخطأت ” فأنكر عليه روايةً وواقعًا , وقد فهم الطحاوي من ذلك ، كما في “المشكل” (7/201 وما بعدها) أن ابن مسعود قد حفظ ما ينسخ حديث حذيفة الذي رواه عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – .

فإن قيل : قول ابن مسعود : ” لعلهم حفظوا ونسيت… الخ ” من باب الترجي , ولم يجزم به ؛ فنترك المشكوك فيه للمجزوم به .

فالجواب : أن هذا من ابن مسعود ليس من بـاب الشك , بل هـو – والله أعلم – من باب التلطف في القول مع حذيفة , لاسيما وقد جاءه منكرًا عليه , وكيف يقال : إنه من باب الشك , وهذا ابن مسعود لم يتراجع عن قوله ؛ فهل يظن بابن مسعود أنه يترك اليقين الذي يخبره به حذيفة , ويتمسك بالشك ؟

فإن قيل : وهذا حـذيفة لم يتراجع عن قوله , وهل يُظن بحـذيفة – رضي الله عنه – أنه يعلم بالناسخ ولا يذهب إليه ؟

فالجواب : يحتمل أن حذيفة ما رأى الذي ذهب إليه ابن مسعود ناسخًا لدليله ؛ فبقي على ما عنده , لكن قول ابن مسعود : ” لعلهم حفظوا ونسيت ” دليل على وجود سنة حفظوها ، ونسيها حذيفة , أو علموا ما لم يعلمه حذيفة .

فإن قيل : وهـذا ابن مسعود لم يذكر صـارفًا من لفظ رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لما قاله حذيفة .

فالجواب : أن الصحابي عدل في نقله ونقده , وهم أهل العلم بالشرع واللسان , فإذا قال: أوجب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كذا ، أو حرم كذا ؛ فلا نحتاج أن نطالبه بنص قول رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – , كما هو معروف في مثل هذا الموضع في كتب علوم الحديث , المعروفة بكتب المصطلح .

فإن قيل : ابن مسعود هنا لم يُحل حذيفة على معنى مأخوذ من قول رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أو فعله , بخلاف ما ذكرت عن كتب علوم الحديث .

فالجواب : أن هذا هو المتبادر من قوله : ” حفظوا ونسيت ” , والله أعلم .

ففي نهاية الأمر ألخص الأدلة التي قّوت في نفسي الأخذ بالعموم :

(1) العقبات الكثيرة التي في سبيل من رجح ثبوت الحديث مجزومًا به غير مشكوك فيه , بصيغة لها حكم الرفع .

(2) عدم تسليم ابن مسعود لحذيفة بما ذهب إليه , وقوله له : ” لعلهم حفظوا ونسيت , وأصابوا وأخطأت ” وهذا يشير إلى دليل أقوى مما ذهب إليه حذيفة يُجَوِّزُ الاعتكاف في المسجد الجامع ؛ لأن الرواية وردت بأنهم كانوا في المسجد الجامع بالكوفة .

(3) أن العلماء بعد ذلك رأوا جواز الاعتكاف في جميع المساجد , ولم أعلم أحدًا صحّ عنه القول بالمنع ، إلا في المساجد الثلاثة غير حذيفة , أما سعيد بن المسيب ؛ ففي سنده عنعنة قتادة , وأما عطاء ؛ فقد اختلف عنه الرواية بوجوه أخرى , والله أعلم .

ومنهم من قال : وحديث حذيفة محمول على الاعتكاف الأكمل ؛ لفضيلة هذه المساجد , والله أعلم .

وأما الاستدلال بحديث: ” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد… ” الحديث , وما ورد في فضل الصلاة في المسجد الحرام ، ومسجد رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقد أجاب عليه أبو بكر الجصاص في “أحكام القرآن” (1/295) فارجع إليه , ولا يلزم من فضيلة هذه المساجد تخصيص الاعتكاف فيها ، والله أعلم .

وأما حديث عائشة : ” السنة على المعتكف ألا يعود مريضًا ، ولا يشهد جنازة , ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها , ولا يخرج لحاجة إلا ما لابد منه , ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع “ . أخرجه أبو داود وغيره , وسنده ضعيف , فيه عبد الرحمن بن إسحاق : صدوق يخطئ , وقال أبو داود عقب إخراج الحديث : غير عبد الرحمن لا يقول فيه : قالت : “السنة” وجعله من قول عائشة , وكلام البيهقي في “السنن الكبرى” (4/321) وفي غير السنن يدل على أن الحفاظ وهّموا من جعله عن عائشة, إنما هو قول عروة ، والزهري , وانظر “سنن الدارقطني” (2/201) .

(تنبيه) : إذا كان الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة جائزًا ؛ فهل يدخل في ذلك المسجد الجامع الذي تقام فيه الجمعة , وغير الجامع الذي تقام فيه الجماعات فقط , أم أن هذا الحكم خاص بالمسجد الجامع فقط ؟

والذي ينظر في كلام أهل العلم يجد فيه خلافًا كثيرًا , والذي تميل إليه النفس ، الأخـذ بعموم الآية , ] وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ[ و(ال) هنا تفيد العموم , وحجة من منع من مسجد الجماعات : أن من اعتكف فيه احتاج إلى الخروج منه للجمعة , ولا بأس في ذلك ؛ فإنها مما لا بد منه , كما يباح للمعتكف الخروج لقضاء حاجته , وأكله , وشربه , ونحو ذلك , وإذا كانت مدة الاعتكاف بين الجمعتين ؛ فالخلاف أخف , ولو اعتكف في مسجد جامع بدون تكلف ومشقة عليه ؛ فهو الأولى ؛ للخروج من الخلاف , وجواز الاعتكاف في مسجد الجماعة نسبه الجصاص في “أحكام القرآن” للأكثر , وعدّه الصنعاني في “العدة” (3/439) أوضح الأقوال ، والله أعلم .

(تنبيه آخر) : ادعى جماعة من أهل العلم الإجماع على شرطية المسجد في الاعتكاف , وأنه لا يجوز خارج المسجد للآية – على خلاف في تحديد المسجد ، كما سبق – إلا أن هذا الإجماع لا يتم ؛ لمخالفة عائشة – رضي الله عنها – وبعض المالكية , وبعض الحنفية , لكن أثر عائشة يحتمل التأويل , ومخالفة الآخرين فلعلها محجوجة بما سبق من اتفاق , والله أعلم .

للتواصل معنا