الأسئلة العامة

ذهب بعض أهل العلم إلى وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة في القيام الأول

السؤال  : ذهب بعض أهل العلم إلى وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة في القيام الأول ، وكذلك بعد الرفع من الركوع ، وخالف في ذلك بعض أهل العلم ، فما هو الراجح في ذلك ؟

الجواب : كثر الاختلاف في هذا الزمان في هذه المسألة ، والراجح عندي عدم الضم أو القبض بعد الركوع .

وقد استدل من قال بالضم أو القبض في هذا الموضع بأدلة , وهي :

1- ما جاء في بعض روايات حديث وائل بن حجر : ” أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كان إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله ” أخرجه النسائي برقم (887) وسنده صحيح .

قالوا : قوله : ” إذا كان قائمًا في الصلاة … ” يحمل على عموم القيام ، فيشمل القيام الأول , والقيام الذي بعد الركوع ، قالوا : ومن خصص القبض بالقيام الأول ؛ فعليه الدليل .

2- واستدلوا بما جاء من حديث أبي حميد الساعدي عند البخاري برقم (828) وفيه : ” … فإذا رفع رأسه استوى ، حتى يعود كل فقار إلى مكانه …” قالوا : يعني – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – مكانه الشرعي السابق ، فيشمل هذا موضع اليدين السابق أيضًا .

وبنحو ذلك في رواية : ” حتى يعود كل مفصل أو عظم إلى موضعه ” .

3- واستدلوا بأن السنة قد جاءت ببيان موضع اليدين في جميع هيئات الصلاة ، فيحمل هذا الموضع المختلف فيه على القيام الأول المتفق عليه ، ويأخذ بذلك حكمه .

4- قالوا : والوضع بعد الركوع ، يناسب هيئة الخشوع ، كما روعي ذلك في القيام الأول .

5- قالوا : ولم يقل أحد من أهل العلم بإرسال اليدين في هذا الموضع ، فكان القول بالإرسال غريبًا .

والجواب على هذه الأدلة في ما يلي :

أولاً: أما حديث وائل بن حجر : فبالرجوع إلى روايات الحديث وألفاظه ؛ نجد أن الحديث قد جاء بعدة ألفاظ :

ا- فعند ابن أبي شيبة برقم (3938) والبيهقي (2/28) من طريق موسى بن عمير عن علقمة بن وائل عن أبيه ، قال : ” رأيت النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وضع يمينه على شماله في الصلاة ” . وانظره في مسند أحمد (4/316) وسنده صحيح .

ب- الرواية الثانية بلفظ : ” كان إذا كان قائمًا في الصلاة ؛ قبض بيمينه على شماله ” أخرجه النسائي برقم (887) وسنده صحيح ، وهي من طريق موسى بن عمير أيضًا ، وقد توبع من قيس العنبري في بعض المواضع .

ج- وعند ابن عبدالبر في ” التمهيد ” (20/72) من طريق موسى بن عمير عن علقمة بن وائل : ” أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كان إذا قام إلى الصلاة قبض على شماله بيمينه ” وسنده صحيح .

ومن طريق موسى به : ” رأيت النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – إذا دخل الصلاة يأخذ شماله بيمينه ” .

فهذه ثلاث روايات أو أربع كلها عن موسى بن عمير العنبري ، وهو ثقة ، عن علقمة بن وائل عن أبيه ، وقد أثبت البخاري – رحمه الله –  سماع علقمة من أبيه ، كما في ” التاريخ الكبير ” (7/41) فهو مقدم على نفي ابن معين للسماع ، فالسند صحيح .

ومن نظر في هذه الروايات ؛ علم أن الرواية ( ا ) عامة في وضع اليمين على الشمال في الصلاة ، فهل يقول المخالفون لنا بهذا العموم ؟

فإن قالوا : وردت السنة ببيان موضع اليدين في جميع هيئات الصلاة ؛ فيحمل هذا العموم على القيام بذلك ، وللرواية ( ب ) ، وفيها ” إذا كان قائمًا في الصلاة …

فالجواب : أننا لا نُسَلِّم بأن السنة قد بينت موضع اليدين في كل مواضع الصلاة ، فموضع اليدين في الجلوس بين السجدتين ، لم يرد حديث صحيح فيه ، وموضع اليدين في جلسة الاستراحة لم يرد دليل فيه ، فهل سيقولون بالضم أو القبض فيهما ؟ ومن المعلوم أنه لا قائل بذلك – فيما أعلم – والله أعلم .

فإن انتقلوا إلى الرواية ( ب ) قلنا لهم : أصبتم ، فإن المراد بالرواية ( ا ) القيام ، لكن الرواية ( ب ) أيضًا مُخَصَّصَة ، وليست محمولة على العموم ، وجوابكم على الرواية ( ا ) هو جوابنا عليكم في الرواية ( ب ) .

فنقول : قد جاءت رواية صحيحة تبين أن المراد بالقيام هو الأول ، فقول وائل : ” كان إذا قام إلى الصلاة ” لا يفهم منه إلا القيام الأول ، وفرق بين هذا اللفظ وبين قوله : ” كان إذا قام في الصلاة ” فالأول خاص بالقيام الأول ، والثاني عام في القيامين ، كما لا يخفى .

ويوضح ذلك الرواية الأخرى : ” رأيت النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – إذا دخل الصلاة ؛ يأخذ شماله بيمينه ” فدخوله الصلاة محمول على القيام الأول .

فهذه طريق واحدة : موسى بن عمير عن علقمة عن أبيه ” نقلت لنا الحديث بألفاظه السابقة ، فلا يشك حديثي أن هذا من باب الرواية بالمعنى ، وقد ورد الحديث عامًا في الصلاة ، وخصص في رواية أخرى بالقيام ، وهذه الرواية المخَصِّصَة عامة من جهة أخرى ، حيث شملت القيامين ، فجاءت الرواية الثالثة مخصِّصَة تخصيصًا آخر وأدق ، وهو جعل الضم في القيام الأول , فهل يليق بعد ذلك أن يتشبث أحد بعموم الرواية ( ب ) ولا يلتفت إلى الرواية ( ج ) والمخرج واحد ؟!

ثانيًا : وأما الاستدلال بحديث أبي حميد الساعدي ؛ فهو استدلال في غير محله ؛ لأن ” الفقار ” جمع ” فقارة ” وهي عظام الظهر , وليس لعظام اليدين ذكر في ذلك ، والمراد بذلك كمال الاعتدال , أي : حتى تعود كل عظمة من عظام الظهر مكانها . اهـ ملخصًا من ” الفتح ” (309/برقم 3085) .

وأما رواية ” حتى يعود أو يقع كل مفصل أو عظم موقعه ” فالجواب عليها بما يلي :

1- المراد من ذلك عظام الظهر كما في الرواية السابقة ، وقد سبق الجواب عليها .

2- هذا الحديث دليل على وجوب الاعتدال بعد الرفع من الركوع، فإنه لا صلاة لمن لم يَقُمْ صلبه ، وموضع النـزاع لا قائل بوجوب الضم فيه ، فلو كانت هذه الرواية دليلا في موضع النـزاع ؛ للزم من استدل بها على ذلك أن يقول بوجوب أو ركنية ذلك ، ولا قائل به ، بل العلماء على استحباب القبض أو الضم في القيام الأول – وهو موضع اتفاق – فما ظنك بالقيام الثاني وهو مختلف فيه ؟!

3- أن الحديث لم يرد فيه ذكر الضم أو القبض في القيام الأول أصلاً ، فكيف يفهم من قوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ” حتى يعود كل مفصل إلى موضعه ” الضم بعد الرفع كالقيام الأول ؟!

فأين الرواية التي تدل في الحديث نفسه على الضم في القيام الأول ، حتى تلحقوا القيام الثاني بالقيام الأول في الضم أو القبض ؟

كل هذا يدل على أن المراد بالعظم أو المفصل عظام الظهر أو مفاصله، وهذا في موضع النـزاع , والله تعالى أعلم .

ثالثًا : وأما دليلهم الثالث ؛ فهو منقوض بالجلسة بين السجدتين وجلسة الاستراحة ، ولذلك مزيد تفصيل سيأتي – إن شاء الله تعالى – .

رابعًا : وأما القول بأن الضم يناسب الخشوع ، فهي علة غير متفق عليها بين أهل العلم ، وقد قال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ” صلوا كما رأيتموني أصلي ” رواه البخاري ، وهو – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – سيد الخاشعين المتقين ، ولم يرد دليل عنه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بالضم في هذا الموضع , فكيف نحكم على من حاول أن يجعل صلاته مقيدة بما جاء عنه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بأنه ناقص الخشوع ؟

وقد ذهب محمد بن الحسن الشيباني إلى أن الضم سنة القراءة ، ولذا ذهب إلى الإرسال حالة الثناء ، وظاهر مذهب الحنفية أن الضم سنة القيام الذي له قرار ، انظر ” بدائع الصنائع ” للكاساني (1/298) وقد أجبت في كتابي في مسائل تتعلق بالصلاة على إشكالات قد تُفْهَم من كلام الكاساني ، فارجع إليه .

خامسًا : وأما القول بأنه لم يقل بالإرسال في موضع النـزاع أحد ، فالواقع يدفعه ، فإن الإرسال في هذا الموضع شبه إجماع ، أو إجماع عند الحنفية ، انظر ” بدائع الصنائع ” (1/398) ولم أقف على تصريح باستحباب الضم في موضع النـزاع إلا من كلام ابن حزم في ” المحلى ” (4/112) واستدل بالعموم الوارد في حديث وائل ، وقد سبق ما فيه .

نعم ، ما جاء في ” سؤالات صالح بن أحمد ” ص(205) برقم (776) : قلت : كيف يضع الرجل يده بعدما يرفع رأسه من الركوع ، أيضع اليمنى على الشمال ، أم يسدلهما ؟ قال : أرجو أن لا يضيق ذلك إن شاء الله .

وهذا القول من أحمد في لفتة عجيبة ، بينها شيخنا الألباني – أتم الله شفاءه – في أحد مجالسه ، حيث قال : لماذا لم يقل أحمد : يضع اليمنى على الشمال كما هو مذهبه في القيام الأول ؟ إنما اكتفى بقوله : أرجو … الخ ، فلو كان حكم القيام الثاني عند الإمام أحمد هو حكم القيام الأول ؛ لصرح بوضع اليمنى على الشمال ، لكن الأمر ليس كذلك .

قلت : وقد اختلفت الروايات عن أحمد في ذلك ، بين التخيير والإرسال والضم ، انظر ” الفروع ” (1/433) و” الانصاف ” (2/36) .

سادسًا : وإذا ظهر لك عدم الانتهاض على الاحتجاج للضم بعد الرفع من الركوع بالأدلة السابقة ؛ فقد أخرج مسلم برقم (401) من حديث وائل بن حجر ” أنه رأى النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – رفع يديه حين دخل في الصلاة حيال أذنيه ، وكبّر ، ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ، فلما أراد أن يركع ، أخرج يديه من الثوب ، ثم رفعهما ، ثم كبَّر فركع ، فلما قال : سمع الله لمن حمده ، رفع يديه ، فلما سجد سجد بين كفيه “.

فمن نظر في هذا الحديث ؛ علم أن وائلاً – رضي الله عنه – قد اعتنى عناية بالغة بموضع اليدين فيما ذكر من هيئات الصلاة ، فلو كان النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ضم يديه بعد الرفع أيضًا ؛ لنقل ذلك وائل ، فلما لم يذكره ؛ دل على عدم وقوعه .

فإن قيل : وكما أن وائل بن حجر لم ينقل الضم ؛ فكذلك لم ينقل الإرسال ، فلماذا ترسلون أنتم ؟ فالجواب على ذلك من وجهين :

(أ) أن الضم حركة في الصلاة تحتاج إلى دليل ، فمن لم يُقِمْ عليها دليلاً ، فلا يقبل قوله ، وهذا بخلاف الإرسال ، يوضح ذلك الوجه الثاني .

(ب) أن الأصل الإرسال ، والانتقال عن الأصل يحتاج إلى دليل ناقل ، ولا دليل مع المخالف عليه .

يوضح ذلك : أنه لو لم يرد دليل أصلاً بوضع اليمين على الشمال في القيام الأول ؛ لما فعلناه ، وإذا لم توضع اليمنى على اليسرى ؛ فليس هناك إلا الإرسال ، فهذا يوضح لك أن الأصل الإرسال ، وإنما تركناه في القيام الأول للدليل الوارد في ذلك ، فلما لم يرد دليل على الضم في القيام الثاني ؛ رجعنا إلى الأصل ، وهو الإرسال ، والله أعلم .

بقي أن يقال : قد رجَّحت عدم الضم بعد الرفع من الركوع ، فما حكم الضم بعد الرفع من الركوع ؟ هل يكون مبتدعًا ؟

الجواب : الراجح عندي أنه خلاف الأولى والراجح من الأدلة ، أما الحكم بالبدعية على هذا الفعل – فضلاً عن الحكم على فاعله بالبدعة – فلا أذهب إليه لقول أحمد – رحمه الله – : ” أرجو أن لا يُضَيَّق ذلك إن شاء الله تعالى ” اهـ .

فلو كان هذا الفعل بدعة ؛ لما قال أحمد ما قال ، والمسألة اجتهادية ، وبين السلف فيها اختلاف ، وأحمد نفسه له في المسألة ثلاثة أقوال ، ولا تبديع في مسائل الاجتهاد ، والعلم عند الله تعالى .