فإن قال قائل: نحن نسلِّم بقاعدة مراعاة المصالح والمفاسد، لكننا نرى عكس ما ترون، ونرى أن المصالح في التفجيرات والاغتيالات أكثر من المفاسد، وأنكم تعدون المصالح مفاسد، ولا تُلْزمونا برأيكم واجتهادكم!!
فالجواب: أن كل إنسان يستطيع أن يدَّعي هذه الدعوى، ولو حاججت أهل الباطل، وأنكرت عليهم كثيرًا من صنيعهم؛ لأنكروا عليك، ولو سألتهم: لماذا فعلتم هذا الفعل أو ذاك ؟ لظهر لك أنهم يرون المصلحة القطعية في صنيعهم، مع أن العقلاء متفقون على أنه فعلٌ باطل!!
إذًا، فليس كل من ادعى دعوى؛ سُلِّم له بقوله، إنما العمدة على الدلائل والبراهين، والآثار والنتائج، والفتن إذا أقبلت عرفها العلماء، وإذا أدبرت عرفها الناس كلهم أو جُلُّهم، وقد سبق ذكر عدد من المفاسد المردية، بما لا يختلف فيه منصفان!!
فهل نُصَدِّق رجلًا يقول: قَتْلُ المئات من المسلمين الأبرياء، فيه مصلحة عظمى للإسلام وأهله ؟!
وهل نقبل من رجل يقول: إن سقوط الدولة المسلمة – على ما فيها من جور – فيه مصلحة كبرى، لأننا سنقيم الدين كله بعدها، ونحن نرى أن من فعل ذلك؛ جرَّ ويلات أشد وأنكى مما كان يريد إزالته ؟ ونرى أن غير المسلمين يفرحون بهذه الفتن في بلاد الإسلام، لأنهم يتذرعون بها للتدخل في شئون المسلمين، تحت ستار: ((حقوق الإنسان)) و((المنظمات الدولية))، و((الأمم المتحدة))، و((مكافحة الإرهاب)) و((الديمقراطية)) ونحو ذلك!!
فأين الذين يدَّعون فقههم بالواقع، ويتجرؤون ويتطاولون بذلك على كبار العلماء مما جرى للمسلمين في عدة بلدان، حيث جرت حروب طاحنة، وبعد أن أكلتْ الأخضر واليابس بين المسلمين البين؛ جاءت الدول الأخرى، لتجني الثمرة، وتسلِّم الزمام لمن تريد!! ألا نعتبر بما حلَّ بالمسلمين في الدول الأخرى بسبب هذا الشَّغب ؟! أليس السعيد من وُعظ بغيره ؟ أليس الله قد حثنا على السير في الأرض للتدبر والاتعاظ بما حلَّ بغيرنا ؟! والله – عز وجل – يقول: ) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( ([1])ويقول سبحانه: ) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( ([2]).
ويقول سبحانه: ) فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( ([3])
فما هي ثمرة أفكاركم هذه في المغرب العربي، ومصر، واليمن، والسعودية، والكويت، والصومال، والباكستان، وأندونيسيا وغير ذلك من بلدان؟!
وهل نصدِّق من يكابر، وشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى- يقول: ([4]) في سياق ذكر الصبر على جور الحكام، وترك الخروج عليهم، لما في الخروج على الحكام من مفسدة كبرى، فقال – رحمه الله تعالى-:
00((…ويقال: ستون سنة من إمام جائر؛ أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان؛ والتجربة تبين ذلك )).اهـ.
فهل نلغي عقولنا، ونُهمل اجتهادات علماء عصرنا – وهم أهل الاستنباط والمرجع في النوازل – ونرفض تجربة سلفنا، وأحاديث نبينا- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في الصبر على الجور، لقول رجل لم تحصل له أهلية النظر في مثل هذه الأمور، ًاوْله أهلية – على أحسن الأحوال – إلا أنه أخطأ خطًا فاحشًا ؟!
وقد قال الإمام ابن القيم في ((إعلام الموقعين)) ([5]): ((… وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر… ومن تأمل ما جرى للإسلام في الفتن الكبار والصغار؛ رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته، فتولَّد منه ما هو أكبر منه...)).اهـ.
وقد أنكر أحمد الخروج على الواثق – الداعية للقول بخلق القرآن، وهو كفر باتفاق – وعلّل ذلك بأنه يكره الخروج والفتنة والدماء، ولم يكن في زمانه منظمات دولية، أو تحالفات عالمية، تجيد الاستفادة من جهود وضحايا المسلمين في آخر المطاف، كما هو الآن!!
فهل بعد هذا التصريح من سلفنا الصالح، نقبل قول من يقول اليوم شيئًا، ويرجع عنه غدًا ؟ وهل نترك الجبال الرواسي، ونكون كمن يجري وراء رمال تقلبها الرياح، وتنقلها من أرض إلى أرض، ومن وجه إلى وجه ؟! ثم نجعل حرمة المسلمين من الدماء والأموال والأعراض، وأمنهم واستقرارهم حقل تجارب ! فنُجرب بمئات القتلى والجرحى، ونسعى في اضطراب الأمن وزوال النعمة، ثم بعد ذلك نقول: لقد استفدنا من هذه التجربة، بأن هذا المنهج لا يجوز!! ولكن بعد ماذا ؟! بعد أن يتسلط الكفار على المسلمين، وتقوى شوكة أهل الأهواء والمشركين، ويتمنى المرء أن يعود الأمر كما كان، ولكن ولات حين مندم!! ألا نستفيد من تجربة السلف ؟! ألا نتعظ بما يجري حولنا ؟! أم أننا لا بد أن نبدأ بما بدأ به غيرنا ؟! ولا بد أن نعيد الخطأ مرة أخرى أو مرات ؟ والنبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين))([6])ونحن قد لدغنا مرات ومرات!!
ألا يكفينا حال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في مكة، وهو يرى عبادة الأصنام وغير ذلك من المكفِّرات الكبرى، وهو صابر لضعف قوة المسلمين آنذاك ؟!
ألا يكفينا حديث رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في الصبر على الجور، وإنْ ضَرَب الولاة الظهور، وأخذوا الأموال ؟! ألا يكفينا قوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقد سئل عن الولاة الذين لا يعطون الناس حقهم، ومع ذلك يلزمونهم أداء ما عليهم، فقال – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((اسمع وأطع، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلتم ))؟!
فهذه أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهذا تاريخ السلف، وهذه تجربتهم، وهذه الآثار السيئة لهذه الأفعال بادية لكل ذي عينين، فماذا مع المخالفين من دليل ينهض لمقاومة بعض هذا – فضلًا عن كله – من أجل أن يكابروا، ويدَّعوا أنهم أعرف بتقدير المصالح والمفاسد من الأئمة الراسخين ؟!
وصدق من قال:
فأما ما عَلِمْتُ فقد كفاني و أما ما جَهِلْتُ فجنِّبوني
وإذا كان الحق واضحًا، بهذه المثابة، ومع ذلك يُقِابَل هذا كله بالإنكار – ممن يُكَفِّر العلماء أو يضللهم – والتعالم في تقدير مصالح ومفاسد الأمور الكبار؛ فما بقى إلا أن يتمثل المرء بما ذكره الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى- ([7]) وهو قول القائل:
وقُلْ للعيون العُمْي للشمس أعينٌ سواكِ تراها في مغيبٍ ومَطْلعِ
وسامحْ نفوسًا أطفأ اللهُ نورهـا بأهـوائها لا تستفيق ولا تعي
وأما الذين لا زالوا يبجِّلون العلماء، فهم وإن لم يكونوا كذلك؛ إلا أنه يُخشى عليهم أن يصلوا إلى هذا الحال، ومن جالس جانس، إلا من رحم الله، والله تعالى أعلم.
([1]) [ آل عمران: 137 ].
([2]) [ غافر: 21 ].
([3]) [ آل عمران: 137 ].
([4]) ((مجموع الفتاوى)) (28/391).
([5]) (3/15) ط. دار الفكر.
([6]) أخرجه البخاري برقم (6133) ومسلم برقم (7423) من حديث أبي هريرة.
([7]) ((مختصر الصواعق)) (ص265).