شبهات والرد عليها

قالوا: وهذا أبو بكر الصديق لما كفَر مَنْ كفر مِنَ العرب بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وكان المسلمون أضعف ما يكونون؛ لم يراعِ أبو بكر والصحابة – رضي الله عنهم – شرط القدرة والاستطاعة،

    يقول بعض هؤلاء الثوريين: لماذا تقولون لنا: لو سلمنا لكم جدلًا بكفر الحاكم؛ فلا يلزم من ذلك الخروج عليه، إلا بتوافر شرط القدرة والاستطاعة على الخروج، لتكون المفاسد أقل ما يكون ؟!

     قالوا: وهذا أبو بكر الصديق لما كفَر مَنْ كفر مِنَ العرب بعد وفاة  رسول الله  صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وكان المسلمون أضعف ما يكونون؛ لم يراعِ أبو بكر والصحابة  رضي الله عنهم    شرط القدرة والاستطاعة، بل جهَّزوا الجيوش لحرب المرتدين، وبعثوا البعوث، حتى رجع من رجع إلى الإسلام، وقُتِل مَنْ قُتِل، وهذا كله يدل بإجماع الصحابة على وجوب قتال المرتدين، وإن كان المسلمون قِلَّة: عَددًا وعتادًا، وكانوا أضعف من عدوهم!!

 

     والجواب على ذلك من وجوه  إن شاء الله تعالى –:

     الأول: نحن لا نسلِّم بأن المرتدين كانوا أكثر وأقوى من المؤمنين الصادقين الثابتين على ما تركهم عليه رسول الله  صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بل الأمر بخلاف ذلك، فإن الذين ارتدوا من العرب كانوا قلة بالنسبة لمن بقي على دين الله من المؤمنين، وقد قال ابن حزم  رحمه الله تعالى-  في ((الملل والنحل ((: ((انقسمت العرب بعد موت النبي  صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على أربعة أقسام:

     طائفة بقيت على ما كانت عليه في حياته  صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهم الجمهور.

    وطائفة بقيت على الإسلام أيضًا، إلا أنهم قالوا: نقيم الشرائع إلا الزكاة، وهم كثير، لكنهم قليل بالنسبة إلى الطائفة الأولى.

     والثالثة: أعلنت بالكفر والردة، كأصحاب طليحة وسجاح، وهم قليل بالنسبة لمن قبلهم، إلا أنه كان في كل قبيلة من يقاوم من ارتد.

    وطائفة توقفت، فلم تطع أحدًا من الطوائف الثلاث، وتربَّصوا لمن تكون الغلبة.

     فأخرج أبو بكر إليهم البعوث، وكان فيروز ومن معه غلبوا على بلاد الأسود، وقتلوه، وقُتل مُسيلمة باليمامة، وعاد طُليحة إلى الإسلام، وكذا سجاح، ورجع غالب من كان ارتد إلى الإسلام، فلم يَحُلِ الحول إلا والجميع راجعوا دين الإسلام لله الحمد )).([1]) .اهـ.

    فهذا يدل على أن المرتدين قلة بالنسبة للثابتين، وهذا بخلاف دعوى هؤلاء الشباب.

     الثاني: كيف يَدَّعي المخالف بأن المسلمين كانوا أضعف ما يكونون زمن الردة، وهاهو يذكر أن أبا بكر  رضي الله  عنه   جهّز الجيوش، وبعث البعوث هنا وهناك وهنالك لحرب المرتدين!! فهل من يفعل هذا يكون أضعف ما يكون ؟! فيا لله العجب!!

     الثالث: الواقع يدل على صحة ما قال ابن حزم  رحمه الله تعالى- فلو كان الثابتون على دينهم قلة ضعفاء؛ لطال زمن الفتنة في العادة   ولقويت شوكة المرتدين، وسقطت دولة الإسلام، ولكن كان الأمر بخلاف ذلك ولله الحمد والمنة وهذا بخلاف حال هؤلاء الشباب، فما يستطيعون أن يرسلوا جيشًا واحدًا، وإن فعلوا؛ فما يعود إلا بالخسارة  لضعفهم وتمزق المسلمين ويكون غالب هَمِّ مَنْ سَلِمَ منهم: أن يهرب في الأرض، أو يختفي عن الأنظار، فأين هذا الحال من حال الجيوش المؤمنة زمن الردة ؟!

     الرابع: لقد كان لأبي بكر ومن معه  رضي الله عنهم جميعًا    خلافة، ودولة، وأرض ينطلقون منها وإليها، وجمهور المسلمين يؤيدونهم، وقد أجمعت كلمة العلماء من الصحابة على قتال المرتدين، بعد المناظرة التي جرت بين أبي بكر وعمر  رضي الله عنهما    وانشرحت النفوس لقتال من ارتد من العرب، ولذا كانت العاقبة حميدة ولله الحمد .

     أما المخالفون: فأين خلافتهم، وأين دولتهم، وأرضهم، وأين الجمهور من المسلمين الذين يؤيدونهم على ما يفعلون من إراقة الدماء، وإزهاق أرواح الأبرياء، وأين إجماع العلماء على الفتوى بصحة ما هم عليه ؟! 

     فإن قالوا: نحن نختلف عن أبي بكر ومن معه، فإنهم كانت لهم دولة وأرض، أما نحن فلسنا كذلك.

     قيل: فلماذا تحتجون بحال من سبق، وأنتم على حال يخالف ما هم عليه، ومع ذلك تُلْزمون غيركم أن يكون معكم على طريقتكم، وإلا كَفَّرْتموه، أو بدَّعتموه، وطعنتم في صدقه وإخلاصه ؟!

     الخامس: شرط القدرة والاستطاعة في القيام بالأوامر: شرط ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وقواعد الأئمة،  والعقل، والواقع:

    فالله  عز وجل   يقول: ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (([2])،  ويقول:  )وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ  (([3]) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على رفع التكليف عند العجز، وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ما أمرتكم بأمر؛ فأْتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيء؛ فاجتنبوه )). ([4])

     وقد نص العلماء على أن من القواعد الخمس المتفق عليها، والتي تشمل نصوص الشريعة: قاعدة: لا تكليف مع العجز.

     والعقل الصحيح يقضي بأن الضعيف إذا كان خروجه على ذي الشوكة يؤدي إلى شر أكبر؛ فإن هذا قبيح.

     والواقع يدل على أن الذين خرجوا على الحاكم وإن كان كافرًا، فضلًا عن كونه مسلمًا ظالمًا وهم ضعفاء غير قادرين؛ فإن خروجهم يؤول إلى فساد أعظم، فلا عَدُوَّهم كَسَروا، ولا الإسلام نصروا.

     والتاريخ يدل على هذا، كما سبق عن شيخ الإسلام ابن تيمية   رحمه الله تعالى – إذْ قال: ((… ويقال: ستون سنة من إمام جائر؛ أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك )). ([5]) .اهـ.  

    وقال  رحمه الله تعالى-: ((… وقَلَّ من خرج على إمام ذي سلطان؛ إلا كان ما تولَّد على فِعْلِهِ من الشر، أعظم مما تولَّد من الخير )). ([6])

     وقال أيضًا: ((ولعله لا يكاد يُعْرَف طائفة خرجت على ذي سلطان؛ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته )).([7]) .اهـ. 

     وقال: الإمام ابن القيم  رحمه الله تعالى-: ))… ومن تأمَّل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار؛ رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته، فتولد منهم ما هو أكبر منه… )). ([8]) والله تعالى أعلم.

 



([1]) انظر ((فتح الباري)) للحافظ ابن حجر (1/276)، وانظر كلامًا آخر لبعض العلماء في هذا الشأن في كتابي ((البيان الأمثل)).

 

([2]) [ التغابن: 16 ].

([3]) [ الحج: 78 ].

([4])((البخاري)) (7288) و ((مسلم )) (1337).

([5]) ((مجموع الفتاوى)) ( 28/391).

([6]) ((منهاج السنة النبوية)) (4/527).

([7]) ((منهاج السنة النبوية)) (3/391).

([8]) ((إعلام الموقعين))(3/15-16).