واستدل بعضهم على جواز قتل الكفار دون الرجوع إلى ولي الأمر بما أخرجه البخاري([1]) في قضية صلح الحديبية: أن أبا بصير قتل بعض الكفار، عندما دفعه النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى رجلين كافرين، وأن أحدهما رجع إلى المدينة، ودخل المسجد يَعْدُو، فقال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عند ما رآه:((لقد رأى هذا ذُعْرًا)) فلما انتهى إلى النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: قُتِل والله صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يانبي الله، قد والله أوْفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (( ويلُ أمِّه، مِسْعَرَ حربٍ لو كان له أحد)) فلما سمع ذلك؛ عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سِيفَ البحر، ولحق به أبو جَندل بن سهيل، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم؛ إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بِعيرٍ خرجتْ لقريش إلى الشام؛ إلا اعترضوا لها، فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تناشده الله والرحم، لما أرسل – أي إليهم – فمن أتاه؛ فهو آمن، فأرسل النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إليهم… .اهـ.
قالوا: فأبو بصير قد قَتل من قَتَل أولا، ثم قَتَل هو ومن معه، ونهبوا الأموال، كلُّ ذلك دون رجوع إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فلماذا تنكرون علينا الاقتداء بهؤلاء الصحابة ؟!
والجواب من وجوه – إن شاء الله تعالى –:
الأول: أن أبا بصير ومن لحق به بعد ذلك كانوا غير داخلين في عهده – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مع قريش، وهذا مُصَرَّحٌ به في القصة، ولذا ردَّ النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أبا بصير وأبا جندل، لما أصر سهيل على إرجاع أبي جندل، ولما أرسلت قريش في طلب أبي بصير حسب صلح الحديبية، وعلى ذلك فليسوا داخلين في صلح النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مع قريش، وقد قال الحافظ في فوائد هذه القصة: ((ولا يُعَدُّ ما وقع من أبي بصير غَدْرًا؛ لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبين قريش، لأنه إذ ذاك كان محبوساُ بمكة…))([2]).اهـ.
وعلى ذلك: فأي ضرر يأتي من تصرف أبي بصير؛ فليس على المسلمين منه شيء، وقد قال الحافظ بعد كلامه السابق: ((… وفيه: أن مَنْ فَعَلَ مثل فِعْل أبي بصير؛ لم يكن عليه قَوَدٌ ولا دية، وقد وقع عند ابن إسحاق: أن سهيل بن عَمْرو لما بلغه قتل العامري – أي الرجل الأول الذي قتله أبو بصير– طالب بديته، لأنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك؛ لأنه وَفَّى بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير شيء؛ لأنه ليس على دينهم )).اهـ.
فمن نظر إلى مآل فِعْل أبي بصير – الذي لم يلحق المسلمين منه ضرر – ومآل فِعْل أصحاب هذه الشبهة، الذي ملأ ضرره بالمسلمين السهل والجبل؛ علم الفرق بين الدليل والدعوى!!
الوجه الثاني: أن أَمْرَ أبي بصير ومن معه آل إلى قوة شأنهم، حتى ناشدت قريش الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالله والرحم أن يرسل إليهم، وأن من أتاه؛ فهو آمن، ولا حرج على الرسول– صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في قبولهم، وهذا بخلاف حال المخالفين، كما لا يخفى على أحد.
وبذلك فقد تحققت من وراء موقف أبي بصير ومن معه عدة مصالح، منها: وفاء الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعهده مع قريش، وأن الله جعل لأبي بصير ومن معه فرجًا ومخرجًا، وأن شوكة المسلمين قويت بانضمام هؤلاء إليهم، وكل هذا بخلاف حال أصحاب هذه الشبهة، والله أعلم.
الوجه الثالث: أن نكاية أبي بصير كانت على الكفار دون إضرار بالمسلمين، أما أنتم فتوقعون الضرر العاجل والآجل بالمسلمين، فكم من مسلم بريء قُتل، أو ذهب ماله بسبب فعالكم هذه، وكم من معاهَد مستأمَن غدرتم به، فأين هذا من حال أبي بصير وأصحابه– رضي الله عنهم- ؟! والله المستعان.
([1]) برقم (2732،2731) ك / الشروط، ب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب.
([2]) ((الفتح)) (5/414).