شبهات والرد عليها

قد أُخْبرتُ أن من الشباب من يقول: إن الدعوة لا تنشط ولا تقْوَى إلا في جوِّ الفتن والحروب، وقلقلة الأمن، لأن الحكومات إذا كانت قوية؛ فإنها لا تفتح المجال للدعوة، فإذا ضَعُفَتْ؛ تنفَّس الدعاة إلى الله، وتحركوا في البلاد شرقًا وغربًا!!

قد أُخْبرتُ أن من الشباب من يقول: إن الدعوة لا تنشط ولا تقْوَى إلا في جوِّ الفتن والحروب، وقلقلة الأمن، لأن الحكومات إذا كانت قوية؛ فإنها لا تفتح المجال للدعوة، فإذا ضَعُفَتْ؛ تنفَّس الدعاة إلى الله، وتحركوا في البلاد شرقًا وغربًا!!

ويُمثِّلون لذلك بالصومال والعراق، فيقولون: إن هذين البلدين لم يكن للدعوة فيهما ذِكر في زمان قوة الحكومة، فلما سقط الحكام في هذين البلدين؛ انتشرت الدعوة!! ومن أجل هذا: فإنهم يذهبون إلى زعزعة الأمن، ويُحَرِّضون على إثارة الاضطرابات والتفجيرات!!

والجواب على ذلك من وجوه إن شاء  الله تعالى –:

الأول: أن هذا الفهم مخالف لجميع الأدلة الآمرة بالاجتماع والائتلاف – على ما أمكن من الخير وإن قلَّ – والناهية عن التنـازُع والاختلاف.

الثاني: ومخالف أيضًا لفهم السلف الصالح، والتجارب التي مَرَّتْ بهم في هذا الباب، وقد نقلتُ كلام بعضهم في الفصول السابقة، فهل أنتم أتقى وأعلم وأغير منهم على دين الله عز وجل  – ؟!

الثالث: كما أنه مخالف لإجماع السلف الذين جعلوا الدعوة إلى الفُرقة والاختلاف: من شعار أهل البدع، وجعلوا الدعوة إلى الائتلاف وذم التفرقة والاختلاف: من أصول أهل السنة والجماعة، فكيف نترك هذه الأصول الراسيات، ونتشبث بهذه الأوهام والتُّرَّهات ؟!

الرابع: ثم لو سلمنا جدلا بصحة قولكم في انتشار الدعوة في بعض مناطق العراق؛ أفلا نقارن ذلك بما جرى من الدمار الشامل، وإهلاك الحرث والنسل، وانتهاك الحرمات، وهدم المساجد، ووطء المصاحف بالأحذية الفاجرة، وغير ذلك مما خلَّفته الحرب، والله أعلم كيف تكون النهاية ؟!

فإذا قارنَّا وجود بعض حلقات تحفيظ القرآن، وكون أحد الدعاة تولَّى منصبًا في الأوقاف، أو غير ذلك، فإذا قارنّا هذا ونحوه بالبلاء العام الذي ما ترك بيتًا إلا دخله؛ فأين قدْر المصلحة المزعومة من هذه المفاسد التي ضاق بها السهل والجبل ؟!

إن هذا ليدلُّنا على مبلغكم من العلم والفهم في تقدير المصالح والمفاسد!!

الخامس: لماذا لا ينظر المخالفون أيضًا إلى بلاد جعلها الخلاف خرابًا يبابًا، ولا زالت رياح الفتن وأعاصيرها تهبُّ عليهم: كأفغانستان، فهل ترون هذه الفتن العظام كانت سببًا في انتشار الدعوة هناك، أم كانت سببًا في تدميرها وتحطيمها ؟! وصدق الله عز وحل  – القائل: ) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا( ([1]) والقائل: ) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا! الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ([2]).

السادس: هل يُقاس على بلد ما لها ظروف محلية وعالمية خاصة  بها كل البلدان ؟‍‍‍‍‍! الجواب: لا، فَرُبَّ بلدٍ لا تلتفت إليها أنظار غير المسلمين، وليس لهم فيها كبير مطمع، فكيف يُقاس عليها غيرها من البلدان التي يسيل لها لعاب الشرق والغرب ؟ وكيف يُظن أن إثارة الاضطرابات في البلد الواحد، وإفلات الزمام فيها؛ ستؤول إلى خير عظيم، كما آل إليه الأمر في البلد الأخرى إن سلمنا جدلا بأن الأمر كما ذكروا في تلك البلد ؟!

السابع: هل نجعل دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم، وبلادهم: حقْل تجارب، فننفخ في نار الفتن والحروب، رجاء أن يُفتح مجال للدعوة!! وقد يقع ذلك، والغالب أنه لا يقع!!

فهل نجعل مصير الأمة في حقل تجارب، أم نتبع النصوص، والإجماع، وقواعد السلف، وكل ذلك يأمر بالاجتماع، وينهى عن النـزاع ؟! أليس الاتباع أحق من الابتداع ؟! ألسنا قد أُمرنا بأن نتبع ولا نبتدع، وأن نقتدي ولا نبْتَدِي ؟! أبمثل هذه الوساوس و الاجتهادات المنحرفة ننسف النصوص والقواعد، ونكون دعاة فرقة ودمار ؟! هل ينهانا الله عن الاختلاف في أقل صُوَره، ويفتح المجال للدعوة إلى الاختلاف في هذا الأمر الخطير، الذي تنـزف بسببه الدماء العقود من الزمان ؟! أين تطبيقكم الصحيح لقاعدة تزاحم المصالح والمفاسد ؟! أين إعمالكم لقاعدة سد الذرائع ؟!

الثامن: ثم ألا تنظرون إلى بعض بلدان المسلمين كالمملكة العربية السعودية وغيرها كيف انتشرت فيها الدعوة بسبب الاستقرار والأمان؟ وأنه كلما كانت البلد أكثر أمنًا؛ كانت الدعوة فيها أكثر انتشارًا، وكلما كانت البلد مزعزعة الأمن، كثيرة الاضطرابات؛ انتُهِكت فيها المحارم، وانتشرت فيها المظالم ؟!

ومن نظر إلى الاستقرار الأخير الذي شهدته البلاد اليمنية حفظها الله وجميع  بلاد المسلمين بسبب بقايا خير في البلاد حكومةً وشعبًا، ورأى انتشار الدعوة المعتدلة في اليمن؛ عَلِمَ صِدْقَ ذلك.

بل من نظر في حال الدعوة في مصر؛ رأى صِدْق ذلك أيضًا، فالحكومة هناك مستقرة، قوية، وقد أحكمت قبضتها، ومع ذلك فقد انتشرت الدعوة ولله الحمد في كثير من المجالات، ومع تعرّض بعض الأفراد إلى مالا يُحمد؛ إلا أن سير الدعوة في الجملة يُبَشِّر بخير، والفضل في ذلك لله عز وجل.

ولو نظرنا حال الدعوة في مصر قبل عشرين سنة، عندما ظهر هذا الفكر فيها؛ لرأينا ما يندى له الجبين، فلما استراحت الدعوة والبلاد من حُمَّى هذه الأفكار الشاذة؛ قويت الدعوة ولله الحمد مع قوة الحكومة، وشدة قبضتها، فحيثما ظهر هذا الفكر في بلد أضعف الدعوة فيها، وما أمر الجزائر وغيرها عنا ببعيد!!

وهذا كله يدلنا على أن دعوة الحق تقوى مع الأمن والنظام في الجملة وإن كان جائرًا فلا يفرح بالفتن فقيه في دينه، ولا في دنياه!!   

التاسع: أن دعوة أهل السنة تنشط في ظل الأمن والاستقرار، وأما الدعوات التي تنشط في ظل الفتن تحت دخان القنابل، ودويّ المتفجرات غالبًا لا تكون هذه الدعوة دعوة السنة، القائمة على العلم والتأصيل، إنما تكون دعوة الحماس الثوريّ القائمة على تكفير مخالفيهم وتضليلهم، واستحلال الدماء، والأموال، والأعراض، وإن كان مخالفوهم من كبار العلماء!! فلا أسف إذًا على عدم وجود هذه الدعوات، عند قوة الحكومات، واستقرار الأمن!!

العاشر: نسألكم هل تذهبون إلى زعزعة الأمن المستقر؛ لتصلوا إلى مرادكم بهذه الطريقة الفاسدة، أم أنكم لا تذهبون إلى ذلك، ولكن إذا وقع خلاف واضطراب في البلاد لاناقة لكم فيه ولا جمل، بل تكرهون ذلك، وتحاربون أسبابه حسب استطاعتكم فإذا وقع؛ فإنكم تسعون جاهدين لنشر الدعوة،وإصلاح ما أمكن من فساد ؟!

فإن كان الثاني؛ فلا بأس، وهو من باب:)فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(([3]) وتقليل المفاسد وتحصيل المصالح ما أمكن.

وإن كان  الأول؛ فهل لكم دليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو أثر عن السلف، أم أن ذلك  مجرد قياس فاسد الاعتبار، تولّد عن نظرتكم الخاظئة إلى وجود مصلحة أكبر في بلد ما ؟!

فهل تريدون أن نترك كل البراهين السابقة، لمجرد نظرتكم هذه ؟! صدق الله القائل: ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ( ([4]) والقائل: ) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (([5]) والقائل:) وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ(([6]) وإنا لله، وإنا إليه راجعون



([1]) [ فاطر: 8 ].

([2]) [ الكهف: 103 ـ 104 ].

([3]) [ التغابن: 16 ].                      

([4]) [ القصص: 50 ].

([5]) [ القلم: 22 ].

([6]) المائدة: 49 ].