شبهات والرد عليها

فإن قال قائل: يجوز لنا أن نقتل أنفسنا وغيرنا لمصلحة الإسلام، كما فعل غلام الأخدود، فقد دلّ الطاغيةَ على قتْل نفسه

فإن قال قائل: يجوز لنا أن نقتل أنفسنا وغيرنا لمصلحة الإسلام، كما فعل غلام الأخدود، فقد دلّ الطاغيةَ على قتْل نفسه، فقال له:   ((… إنك لسْت بقاتلي، حتى تفعل ما آمرك به!! قال: وما هو ؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصْلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضَعِ السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله ربِّ الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك؛ قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال:بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صُدْغه، فوضع يده في صُدْغه في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام… ثلات مرات)) القصة، والحديث قد أخرجه مسلم ([1]).

قلت: ليس في هذه القصة دليل لكم على ما ذهبتم إليه من وجوه:

1 ـــ أن الغلام لم يدلَّ إلا على قتل نفسه، أما غيره فلم يُقتل معه ، وأنتم تقتلون أنفسكم وغيركم من الأبرياء، أو من الكفار الذين لا يجوز لكم أن تقتلوهم، كما سبق تفصيله بما يغني عن إعادته هنا.

2 ـــ أن الواضح من سياق القصة: أن هذا الغلام أحدُ المحدَّثين الملْهَمين في الأمم السابقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : ((لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس مُحَدَّثون،فإن يكُ في أمتي أحدٌ؛ فهو عمر))([2]).

ومن تأمل جزم الغلام بأنه لا يُقْتَل إلا بالهيئة التفصيلية التي حكاها؛ عَلِمَ أن ذلك لا يكون إلا عن شيء أُلهمه، ووقع في قلبه، فإن هذا السياق لا يكون عن محض الرأي، وقد قال القرطبي في ((المفهم))([3]) في مقام رد بعض الإشكالات على  الحديث: ((وعن معونته على قتْلِ نفسه: أنه لما غلب على ظنه أنه مقتول ولا بد، أوعلم بما جعل الله في قلبه؛ أرشدهم إلى طريق يُظهر الله به كرامته وصحة الدين الذي كان عليه، ليُسْلم الناس، وليدينوا دين الحق عند مشاهدة ذلك، كما كان )).اهـ.

فهل أنتم مُحَدَّثون مُلْهَمون ؟ الجواب: لا، لأنه إن كان أحد كذلك في هذه الأمة؛ فهو عمر رضي الله عنه  – فمن ادعى ذلك في  غيره؛ فعليه الدليل!!

ولو كنتم كذلك؛ لما كانت هذه آثاركم!!

3ـــ ومما يدل على أن الغلام كان جازمًا بالمصلحة من فعله هذا: وقوعُ الأمر كما أخبر سواء بسواء، وقد وقعت المصلحة العظمى، ودخل الناس في عبادة الله عز    وجل  – وكفروا بالطاغية، أما اليوم فقد وقعت مفاسد لا يعلم عاقبتها إلا الله تعالى.  

فهل يُقاس عملٌ هذه ثمرته، بعمل جرّ على الناس شرًّا مستطيرًا ، وأَدَّى إلى ارتداد بعض المسلمين عن الإسلام بخلاف ما جرى للناس بسبب موقف الغلام ؟! ولو تماديتم في ذلك؛ كان الشر أعظم وأعظم، إلا أن يرحم الله المسلمين بلطفه وستره!!

4 سبق من كلام القرطبي أن الغلام قد تيقن أنه مقتول ولا بد، وأنه لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه، فحرص على أن يكون ذلك في خدمة الدين، فأين هذا ممن يسعى لقتل نفسه وغيره، ويخطط لذلك عدة شهور، ولا يشعر به أحد؛ إلا وقد امتلأ الجو غبارًا ودخانًا، وسالت الأرض بالدماء، وضجَّت بالصياح والبكاء ؟!

5 ثم إن مسألة قتل النفس للنكاية بالعدو؛ ليس هذا مجال الكلام عليها قبولا وردًّا، إنما المراد بيان الفرق بين الدليل الذي استدللتم به، وبين الدعوى التي تَدَّعُونها، والله أعلم.



([1]) في كتاب الزهد برقم (3005) من ((صحيحه)).

([2]) أخرجه البخاري برقم (3689) من حديث أبي هريرة، ومسلم برقم (2398) من حديث عائشة.

([3]) (7/425).

أضف تعليق

انقر هنا لنشر

للتواصل معنا