(الاستشهاد أحيانًا بكلام المخالف إن كان حقًّا)
للحق حلاوة تعشقها النفوس الزكية، وللباطل غُبْرة، تنفر بسببها منه القلوب الأبيّة، دون النظر إلى دين أو عقيدة قائله، وقد يَستشهد العالم السُّنِّي أحيانًا بقول أحد المخالفين، مع توافر أدلة أخرى لديه، تؤيد الحق وتدحض الباطل، والذي دفعني إلى ذلك ما رأيتُه من إفراط وتفريط في هذه المسألة، فهناك من يغترف من أقوال أهل البدع والضلالات، ويسوقها في سياق المدح والثناء المفرطين على أهلها، وهناك من إذا رأى اسم من يخالفه في الكتاب؛ أعرض عنه، ووجّه سهامه إلى مؤلف الكتاب، والمقام فيه تفصيل، والأصل الاكتفاء بالأدلة النقلية والعقلية، والآثار السلفية، وفتاوى المتبعين لهم ظاهرًا وباطنًا، وعدم الاشتغال بالبحث عن أقوال المخالفين للسنة وأئمتها؛ خشية اغترار الجهلة بذكر أسمائهم، والأخذ عنهم دون تمييز، ومع ذلك فقد رأيت علماء السنة قد يستشهدون بكلام المخالفين في حالات معينة، وذلك لأسباب عدّة، منها:
1- كون القول في ذاته حقًّا، فيقبله، ويستشهد به لذلك، وهذا شرطٌ لابُدَّ منه في جميع الحالات.
2- إقامة الحجة على أتباع ذلك المخالف من قول متبوعهم، فيقال للأتباع: هذا قول إمامكم، أو من ترضَوْنه، فلماذا لا تأخذون به؟!
3- بيان أن الطوائف على اختلاف مشاربها أقرّتْ بهذا الحق، ففي ذلك تقوية لنفوس أهل الحق، ودحر لأهل الباطل.
4- قد يكون فيما قرّره المبتدع – مثلاً – في هذا الموضع تقرير لنقض بدعته في مواضع أخرى، فيُذكر قوله هنا؛ لبيان تناقضه في قوله الآخر، الذي خالف به أهل الحق.
5- قد يكون المخالف قويّ الحجة، حسن الأسلوب والطريقة في تقرير الحق، بما لم يقف الناقل على مثله من كلام أهل الحق الصافي، فكم من الأشاعرة من أحسن جدًّا في نقض شبهات وأصول المعتزلة، وكم من المعتزلة من أحسن في نقض كلام الفلاسفة، وهكذا.
6- قد يقصد العالم من الاستشهاد بقول المخالف تقرير قاعدة قبول الحق من كل من تكلّم به، وإن كان لا يقرّه فيما أخطأ فيه في مواضع أخرى، وذلك إذا رأى مبالغة في الحطِّ على المخالف ممن ينتسب إلى الحق.
7- النقل عن الباحث الكافر ما وصل إليه في بحثه العلمي أو الاجتماعي بما يؤيد ما جاء به الإسلام، وينقض ما عند غيره من الأديان المحرّفة، كمن يؤيد بحثه الاجتماعي مسألة تعدد الزوجات، كما هو في شريعتنا، بخلاف ما يقول به رهبان الأديان المحرّفة.
ومع هذا كلّه: فالذي يظهر لي أنه إذا لم يكن في الاستشهاد بقول المخالف فائدة أصلاً، وخشينا من التشويش على المستمع أو القارئ من المسلمين، فترْك ذلك هو الذي تشهد له قواعد الشريعة، مثل درْء المفسدة مقدّم على جَلْب المصلحة، وقاعدة سدّ الذرائع، ونحو ذلك من قواعد الشريعة.
قال شيخ الإسلام في “منهاج السنة” (1/258): “وقد صنّف العلماء كتبًا في كَشْف أسرارهم، وهَتْك استارهم – يعني الباطنية – مثل كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي عبد الجبار الهمداني، وكتاب الغزالي، ونحوهم”. ا.هـ ومعلوم أن هؤلاء الذين سمّاهم شيخ الإسلام، ووصفهم –هنا- بقوله: “العلماء” حولهم كلام كثير من جهة العقيدة، وها هو يستشهد بهم، مادحاً لهم، دون بيان شيء من حالهم في هذا الموضع، وإن كان قد كشف الكثير عن أحوالهم وأمثالهم في غير هذا الموضع.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في هذا كلام كثير جداً، ومن ذلك ما ذكره في “الحموية” ضمن كتاب “شذرات البلاتين” ط/ دار القلم (ص: 153)، فقال –رحمه الله-: “وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب: ذِكْر ألفاظ بعض أئمة العلماء، الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب، وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين، وغيرهم، نقول بجميع ما يقوله في هذا وغيره، ولكن الحق يُقْبل من كل مَنْ تكلم به،…..ثم استشهد بكلام لمعاذ – رضي الله عنه – يدل على ذلك.
فتأمل هذا القول الفصل الجزل في هذا الباب، لكن كثيرا من الصدور في هذا الزمان تضيق بهذا ذَرْعًا، وتَعُدُّه جهلاً بمنهج السلف، وتمييعًا، وتضييعًا، وربما نسبوا مَن فعله – بقيوده – إلى البدعة والمروق من السنة، فإلى الله المشتكى من أمة يغمز آخرُهم أولهم، والله المستعان.
وقال ابن القيم – رحمه الله – في “مدارج السالكين” (3/66: (“ولله در الشبلي، حيث سئل عن المشاهدة؛ فقال: من أين لنا مشاهدة الحق؟ لنا شاهد الحق” قال ابن القيم: “هذا، وهو صاحب الشطحات المعروفة، وهذا من أحسن كلامه، وأبْينه”. ا.هـ، ولو اعتنى أحد بجمع كلام السلف في هذا؛ لأتى بكثير من ذلك.
وهذا سماحة الشيخ ابن باز –رحمة الله عليه- نقل ما نقله الشيخ محمد رشيد رضا في “المنار” (4/485) فقال: “ولله در العالم (توس) فإنه رأى الداء، ووصف له الدواء الكامل للشفاء، وهو الإباحة للرجل التزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الوساطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا أرباب بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بامرأة واحدة؛ فهذا التحذير هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشر، إذا لم يُبَحْ للرجل التزوج بأكثر من واحدة…..” ا.هـ.
نَقَلَ هذا سماحة الشيخ ابن باز –رحمة الله عليه- وإن كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في ذِكْر التعدد كافية، لكن بعض الناس قد لا ينتفع بها، وإنما ينتفع من كلام هؤلاء أكثر مما ينتفع من كلام علماء الإسلام، بل أكثر مما ينتفع من الآيات والأحاديث، وما ذاك إلا لما قد وقع في قلبه من تعظيم الغرب، وما جاء عنه، ولَعلّه لذلك قال – رحمه الله – : فرأيت أن أذكر هنا بعض ما اطلعتُ عليه من كلام كُتَّاب وكاتبات الغرب” اهـ، ثم نقل كلام رشيد رضا، الذي نقله عن بعض الكُتَّاب الغربيين. ا.هـ. “مجموع فتاوى ومقالات متنوعة” للشيخ ابن باز –رحمه الله- جمع وإشراف محمد سعد الشويعر (3/232-233) هذا مع أنني لا أستجيز لنفسي أن أقول في كافر:” لله دره” وقد قالها محمد رشيد رضا، أو غيره، ولم ينكرها سماحة الشيخ ابن باز –رحمه الله – بل نقلها دون تعليق عليها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه/ أبو الحسن السليماني
20/شعبان/1439هـ