تصحيح المفاهيم

المخالفة تكون لسوء في الفهم أو لسوء في القصد

المخالفة تكون لسوء في الفهم أو لسوء في القصد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فالذين ابتلوا بالغلو في الجرح والتعديل يرون مخالفهم سيئ القصد في مخالفته، وكأنه تعمد مخالفة ما أمر الله به بعد أن استبان له الحق بلا خفاء، ومعلوم أن المخالف إذا خالف الصواب فقد يكون لسوء في فهمه إستدلالاً وتقريرا، وقد يكون لسوء قصده تمويهًا وتغريرا:

فالنوع الأول: لا يكاد يسلم منه أحد، حتى وإن كان من العلماء البررة، فضلا عمن دونهم ممن قال بمقالة بدعية خفية في موضع أو مواضع، بل هناك من العلماء من نزهه بعض المخالفين الذين عُلم صدقهم، وعدم نفاقهم عن تعمد معارضة الكتاب والسنة وإن كان من الخوارج المارقين، ففرق بين الوقوع في الخطأ وقصد الخطأ، واتباع الهوى وتقديمه على الأدلة .

فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “بدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه”. انتهى من “مجموع الفتاوى” (٣٠/١٣).

وأما النوع الثاني: من الخطأ فلا يكون صاحبه إلا مذمومًا موزورا، لسوء قصده، ومجانبته الحق على علم وبصيرة .

ومما عُرف به الغلاة في التجريح في هذا العصر؛ حكمهم على المخالف إذا أخطأ – في نظرهم – بأنه قَصَد حرب الدين، والفتكَ به وبأهله، لا أنه أراد الحق لكنه أخطأ في الفهم، – هذا لو سلّمنا بأنه مخطئ فيما خالفهم فيه – .

وقد سبق أن الخطأ قد يكون سببهُ سوءَ الفهم، وقد يكون سببه سوءَ القصد، والأول أخف، ولا يمنع مغفرة الخطأ، وثبوت أجر من الأجرين، بل بقاء وصف المدح لصاحبه إن كان من أهل السنة إما بإطلاق أو بتقييد، بخلاف الثاني، ومن أين لهؤلاء الجُرآء الكشف عن خبيئة المخالف، حتى علموا سوء قصده، وفساد نيته، وتعمدَه حرَب الدين، والكيد له ولأهله؟

وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – نزّه الخوارج المارقين، كلاب أهل النار، وأول من أحدث في الدين، والذين أُمِرنا بقتلهم قتلَ عاد وإِرَم، نزّههم عن سوء القصد في المخالفة، فكيف اكتشف هؤلاء فساد نية مخالفهم الذي يتبرأ من الخوارج وأهل البدع ليل نهار؟

إن دلَّ هذا فإنما يدل على سوء ظن من هؤلاء بالمسلمين، والأصل أن المسلم المعروف بحب الدين وأهله، والحرص على اتباع الحق – وإن زَلَّتْ قدمه – أن تُلتمس له المخارج والأعذار، مادام المقام يحتمل ذلك دون إفراد أو تفريط، فأين الخلف من السلف، والله المستعان.

وهذه الأصول الفاسدة أنتجت شجرتُها ثمارًا حنظلية عند هؤلاء الغلاة ، فمع أنفسهم يرون – عمليا – العصمة لأئمتهم، ومتبوعيهم، وتعمّد المخالفة، وكراهية الحق من مخالفهم، فلا يفرّقون بين الخطأ والإثم، أما أهل السنة فليسوا كذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، وأهل العلم والإيمان لا يُعَصِّمون ولا يؤَثِّمون” انتهى من “مجموع الفتاوى” (35/69).

وقال رحمه الله في كتابه: “درء تعارض العقل والنقل” (1/283) بعد أن ذكر عددًا من علماء الأشاعرة: ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق، وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل، المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء؛ – يعني من التبست عليهم أصول المعتزلة – احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

وقال في “منهاج السنة” (1/444) في ردّه على ابن المطهر الرافضي تشنيعه على الأشاعرة: “إن غالب شناعته على الأشعرية ومن وافقهم، والأشعرية خير من المعتزلة والرافضة عند كل من يدري ما يقول، ويتقي الله فيما يقول، وإذا قيل: إن في كلامهم وكلام من قد وافقهم – أحيانا – من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم ما هو ضعيف، فكثير من ذلك الضعيف إنما تلقّوه من المعتزلة، فهم أصل الخطأ في هذا الباب، وبعض ذلك أخطأوا فيه لإفراط المعتزلة في الخطأ، فقابلوهم مقابلة انحرفوا فيها، كالجيش الذي يقاتل الكفار، فربما حصل منه إفراط وعدوان”.

وقال في “مجموع الفتاوى” (9/134) وهو يشيد بجهود علماء الأشاعرة وجهادهم في الرد على الباطنية: “وقد صنف المسلمون في كشْف أسرارهم وهتْك أستارهم كتبا كبارا وصغارا وجاهدوهم باللسان واليد، إذْ كانوا بذلك – يعني الباطنية الزنادقة الذين لا يؤمنون بدين الإسلام – أحق من اليهود والنصارى، ولو لم يكن إلا كتاب “كشف الأسرار وهتك الأستار” للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب، وكتاب عبد الجبار بن أحمد، وكتاب أبي حامد الغزالي، وكلام أبي إسحاق، وكلام ابن فورك، والقاضي أبي يعلى، والشهرستاني، وغير هذا مما يطول وصفه”.

ومن ذلك ما قاله عن الأشاعرة في كتابه “بيان تلبيس الجهمية” (2/87): “وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة، وموافقة السنة، مالا يُوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يُعَدّون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة، والرافضة، ونحوهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة، والرافضة، ونحوهم“.

ومن ذلك مدحه وثناؤه – رحمه الله – على نظام المُلْك، والجويني، وغيرهما من أئمة الأشاعرة، فقال كما في “مجموع الفتاوى” (4/18): “وكانت الرافضة، والقرامطة: علماؤها وأمراؤها قد استظهرت في أوائل الدولة السلجوقية، حتى غلبت على الشام والعراق، وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت، وحبسوه بها في فتنة البساسيري المشهورة، فجاءت بعد ذلك السلجوقية، حتى هزموهم، وفتحوا الشام والعراق، وقهروهم بخراسان، وحجروهم بمصر، وكان في وقتهم من الوزراء مثل نظام الملك، ومن العلماء مثل أبي المعالي الجويني، فصاروا بما يقيمونه من السنة، ويردونه من بدعة هؤلاء ونحوهم، لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك، وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك، الذين وافقوه، كأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي، ونحوهما، لا يُعظَّمون إلا بموافقة السنة والحديث” .

والوزير نظام الملك من أبرز من نصر المذهب الأشعري من خلال المدارس النظامية التي أنشأها في أنحاء متفرقة من العراق، وخراسان.

فأين هؤلاء الغلاة من قوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) .

فإذا كنا قد أُمرنا بالعدل مع من نبغضهم ونكرههم، ونُهينا عن الاعتداء والتقوُّل عليهم بما ليس فيهم، فكيف بمن خالفنا من دعاة السنة، والذي يحاربه أعداء الإسلام والسنة على اختلاف مللهم ونحلهم؟ فهل يليق بمن ينتسب إلى العلم والدين أن يتقرب إلى الله بالوشاية بهم، والنيل من دمائهم وأعراضهم، عند من لا يعاملهم بحكم الله ورسوله، إنما يشفي غيظه ويروي غليله فيهم، لا لشيء إلا لأنه يكره الدعوة والدعاة من أي صنف كانوا، فنعوذ بالله أن نكون ممن زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنا، أو أن يكون في قلوبا غِلٌّ للذين آمنوا !!!!.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني.

٢١ رجب ١٤٣٩ هـ