تصحيح المفاهيم

الولاء والبراء والمدح والذم يتبعَّضَون بحسب حال الأشخاص عند أهل السنة والجماعة

[ الولاء والبراء والمدح والذم يتبعَّضَون بحسب حال الأشخاص عند أهل السنة والجماعة ]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:

يظن كثير من الناس أن الولاء والبراء ، والمدح والذم كتلة واحدة لا يتجزَّؤون، فالشخص عندهم إما هذا أو هذا فقط، وأن من أحبه والاه موالاة تامة، ومن أبغضه؛ أبغضه بُغضًا تامًّا، وكذا في المدح والذم، وأن أي تَبَعُّض في ذلك؛ فهو نقص في إيمان وسُنِّية فاعله، وهذا الظن من تزيين الشيطان، ولا يُغني عن الحق شيئًا.

والمقرَّر عند أهل السنة والاعتدال: أن من حقَّق الإيمان التام؛ فله الولاء المطلق، ومن كان كافرًا، فيُتَبرَّأُ منه براءة مطلقة، لكن المؤمن الذي معه أصْل الإيمان، إلا أنه وقع في مخالفة معلومة، إما عن شهوة، أو شبهة، فالأُولى هي المعصية، والثانية هي البدعة، ومراتبُ كل منهما متفاوتة كِبَرًا وصِغَرًا، وغِلَظًة وخِفّةً، فهذا المؤمن معه أصل الإيمان، أو أصْله وجُزْءٌ آخر معه من الإيمان، ومعه من المخالفة بقدرها، فيجب أن يُوالَى، ويُوصَل، ويُنْصَر، ويُمْدَح – إن احتيج لذلك – بحسب ما معه من الإيمان، والطاعة، والسُّنَّة، وكذا يُبْغَض، ويُهجَر، ويُذَم بقدر ما عنده من المعصية، والبدعة.

وهذا هو ميزان العدْل، أما الولاء المطلَق؛ فهو مذهب أهل الإرجاء الذين يرون أن المعصية لا تضر الإيمان، والبراءة المطلقة مذهب الخوارج الوعيدية الذين يرون أن المعصية تزيل الإيمان، وكِلا طَرَفيْ قَصْدِ الأمورِ ذميمُ!!! .

وهذا ميزان العدل في الدنيا والآخرة، يقول الله عز وجل: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) .

وكثير من الغلاة يرون أن هذا خاص بالآخرة، أما في الدنيا فيُهجر المخالف مطلقا، ويُوالَى الطائع مطلقا، وبعضهم لا يصرح بذلك، لكن هذا لسان حاله، بل يدعوا الناس عمليا إلى سلوك هذا المسلك .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجورٌ وطاعة ومعصية، وسُنّة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدْر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسَب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللِّص الفقير: تُقْطع يده لسرقته، ويُعْطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقًّا للثواب فقط، وإلا مستحقًّا للعقاب فقط، وأهل السنة يقولون: إن الله يعذّب بالنار مِنْ أهل الكبائر من يعذِّبه، ثم يخرجهم بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته…” انتهى من “مجموع الفتاوى” (28/209-210) .

قلت: فتأمل قوله رحمه الله: (استحق من الموالاة والثواب بقدْر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسَب ما فيه من الشر) وهذه الموالاة والمعاداة تكون في الدنيا، كما لا يخفى .

وقال أيضًا – رحمه الله – كما في “مجموع الفتاوى” (11/15-16) : “وكثير من الناس إذا عَلِم من الرجل ما يحبه؛ أحبَّ الرجل مطلقًا، وأعرض عن سيئاته، وإذا عَلِم منه ما يبغضه؛ أبغضه مطلقًا، وأعرض عن حسناته، وهذا من أقوال أهل البدع، والخوارج، والمعتزلة، والمرجئة” قال: ” وأهل السنة يقولون ما دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، وهو: أن المؤمن يستحق وعْدَ الله وفضْله، الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته؛ فإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يُثاب عليه، وما يُعاقَب عليه، وما يُحْمَد عليه، وما يُذَم عليه، وما يُحَبُّ منه، وما يُبْغَض منه، فهذا وهذا” انتهى.

قلت: وهذا كلام صريح ، في استعمال ميزان العدل هذا مع المخالف والموافق في الدنيا والآخرة ، وليس في الآخرة فقط كما يزعم الغلاة، الذين ينصرون مذهب أهل البدع، ويخذلون مذهب أهل السنة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وفي ” مجموع الفتاوى” (35/94-95) قال – رحمه الله -: “وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الخوارج، والمعتزلة، وبخلاف المرجئة والجهمية، فإن أولئك يميلون إلى جانب، وهؤلاء يميلون إلى جانب، وأهل السنة والجماعة وسط …” انتهى.

وبنحوه في “منهاج السنة” (4/543-544) وغير ذلك من مواضع من كتبه رحمه الله.

وقال الإمام العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في صدد كلامه عن صاحب المعصية: “فإذا قًلْنا: إنه لا يخرج من الإيمان؛ فهل نحبّه على سبيل الإطلاق، أو نكرهه على سبيل الإطلاق؟ نقول: لا هذا، ولا هذا، نحبه بما معه من الإيمان، ونكرهه بما معه من المعاصي” انتهى من “شرح الواسطية” (2/647) ط/ مكتبة طبرية.

قلت: وهذا هو مذهب أهل السنة المتفق عليه بينهم، وأما غلاة التجريح الخسّافون الهدّامون في زماننا فيجيبون عن ذلك بأجوبة، منها:

1- أن هذه المعاملة في الآخرة لا في الدنيا، وهذا جواب باطل، وصريح كلام شيخ الإسلام يهدمه، فإن المدح والذم، والوصْل والهجر ….الخ لا يكون في الآخرة.

2- ومنها: أن هذا خطأ من شيخ الإسلام، وما نسَبه إلى أهل السنة غير صحيح، وهذا الجواب مجرّد دعوى ممن لم يُعْرف بالاستقراء، واشتهر بالغلو والإجحاف، فأين هو من شيخ الإسلام الذي ذكر هذا الأصل في أكثر من خمسة مواضع من كتبه، وجزم بأن خلافه هو منهج أهل البدع، أهل الغلو والجفاء، وتلقاه العلماء منه بالقبول والاستدلال به؟ وهو الموافق للأدلة من الكتاب والسنة ، فكيف نقبل تخطئة الجهلة له ؟ .

3- ومن تأويلاتهم الباطلة لكلام شيخ الإسلام قولهم : إن كلام شيخ الإسلام خاص بالعصاة الموحدين، لا في أهل البدع، والجواب: أن البدعة والمعصية يجمع بينهما مطلق المخالفة لِمَا جاء به الرسول – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ثم إن كلام شيخ الإسلام صريح بقوله: “بحسَب ما فيه من … سنة وبدعة” ثم إن البدعة منها الكبرى والصغرى كالمعصية، وأكثر ما وقع فيه العلماء من أهل الإسلام من مخالفات من جانب الشبهة لا الشهوة، فإن محلهم يقتضي أنهن لا يتعمدون المخالفة بالشهوة غالبا ، إنما تقع المخالفة منهم بسبب سوء الفهم ، فتخصيص كلام شيخ الإسلام بالعصاة تخصيص بلا مُخَصِّص.

4- ومنها: قولهم إن عددًا من السلف أطلقوا هجر المبتدع وذمَّه – وإن كان من المسلمين – ولم يفصلوا هذا التفصيل، وجوابه: أن كلام هؤلاء السلف يُعْمل به في موضعه، وما نقله شيخ الإسلام يُعْمل به في موضع آخر، فالأصل التحذير من المبتدع، لكن قد يُستفاد من المبتدع في باب العلم، كما أخذ علماء السلف عن الرواة الذين مُسُّوا ببدعة، وقد سئل سفيان الثوري عن ثور بن يزيد الكلاعي، وكان ثقة في الحديث، لكنه رْمِيَ بالقَدَر ، فقال رحمه الله (خُذُوا عن ثَوْر ، واتَّقُوا قَرْنَيْه) وقد يستفاد ممن عنده بدعة في الرد على من عندهم بدع أشدُّ وأغلظ، ويُمدح لذلك، والأمير الفاجر المبتدع يُسْمع ويُطاع له في المعروف، ويُجاهَد الكفار تحت رايته، ويُمْدح لشجاعته، وذَوْده عن حياض الإسلام، ونحو ذلك، فلا نُفَوِّت مصلحة السنة أو الجماعة بسبب بدعة عند عالم أو أمير.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “… فإذا تعذَّر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك، إلا بمن فيه بدعة، مَضَرَّتُها دون مَضَرَّة ترْك ذلك الواجب؛ كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل …” انتهى من “مجموع الفتاوى” (28/212).

فالْزَم العدل يا طالب النجاة في حبك وبغضك، ومدحك وذمك، واحذر من دعاة الإفراط أو التفريط، والموفق من وفقه الله، والمخذول من خذله الله .

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني .

4 شعبان 1439 هـ