[ إلزام الخلَف بفهم السلَف ]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:
يقول الله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) .
فجعل سبحانه وتعالى اتباع غير سبيل المؤمنين سببًا للهلَكة، كمشاقة الرسول بعد وضوح الهُدى وبيان دلائله.
والذم أو العقاب إذا ترتبا على فعل أمرين فأكثر، دل على اشتراك كل هذه الأمور في الذم والعقاب، كما هو مقرر في الأصول.
وسبيل المؤمنين هو منهجهم الذي سلكوه، وهو متمثل في إجماعهم، واعتقادهم، وقواعدهم العامة، ومرجعيتهم التي يسْتقون منها دينهم، لا مجرد اجتهادات آحادهم، كما يشمل طريقتهم في الفهم والاستنباط، والاستدلال والتقرير، والتصحيح والترجيح.
والسلف الصالح الذين يلزمنا اتّباع طريقتهم: هم القرون المفضلة، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم …” الحديث، فهم الصحابة – رضي الله عنهم – والتابعون، وتابعو التابعين – رحمهم الله – والله عز وجل يقول: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فما كانت الخيرية هذه لهم، ولا نالوا رضى الله عنهم، وما أعده – عز وجل – لهم من عظيم الثواب إلا بسبب لزومهم الحق، وتحقيقهم العبودية الخالصة لله رب العالمين.
وإذا كانوا كذلك؛ تعيَّن على الخلَف الرجوع إلى فهمهم وعملهم، حتى يكونوا من التابعين لهم بإحسان، ويحققوا مراد الله – جل وعلا – منهم، وإلا تشتتت بهم الأهواء، واجتالتهم رؤوس البدع عن دينهم الحق، وزَيّنت لهم شياطينُ الإنس والجن الباطل، فرأوه حسنا، وفَتَحَتْ عليهم أبواب الهوى والجدل، وأَغْلَقَتْ أمامهم أبواب الهدى والعمل.
فالقرون المفضَّلة والسلف الصالح لا يمثلون حِقبة مباركة في تاريخنا فقط، بل يمثّلون المنهج الوافي، والمشرب الصافي النقي الذي يجب علينا ورودُه، والتضلُّع منه، والاكتفاء به في فهم كتاب ربنا، وسنة نبينا – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وعدم الالتفات إلى كل ما يتنافر معه في كثير أو قليل، لأن الله – عز وجل – ما مدحهم لذواتهم، وأجسامهم، وفصاحة بيانهم، إنما أثنى عليهم لسلامة منهجهم، وصحة عبوديتهم ظاهرًا وباطنًا، وتحقيقهم مرادَ الله منهم، فرحمهم الله عز وجل، وأجزل لهم العطاء والمثوبة.
وقد كان الرجل من العلماء يفتخر باتباعه أقوال العلماء، وينفي عن نفسه تهمة خَرْق الإجماع، أو الانفراد بقول لم يُسْبَق إليه بعض العلماء المعتبرين، وهذا يدلّ على مكانة فهم علماء السلف عند من تبعهم من علماء الخلف، وليس هذا من باب التقليد المذموم، كما يظنه بعض الناس، فإن الحق لا يفوت الأمةَ جميعَها، ثم يقف عليه رجل ممن بعدهم، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا على خلاف الأرجح، كما يظنه بعضهم، فإذا اختلف علماء الأمة على قولين في المسألة، فما على العالم من الخلف إلا أن يرجّح بين أحد القولين ويفتي بالراجح منهما، ولا يخترع قولاً ثالثًا، ليس له أصل في أحد القولين، وإذا أجمع علماء الأمة على قول؛ فلا يخترع ثانيًا، لأن هذا معناه أنهم ضلُّوا عن الحق، والأمة معصومة من الإجماع على ضلالة.
وفي هذا ضبْط وتوحيد للمسار، وسدٌّ لباب الفرقة والتنازع، ولكن الشأن كل الشأن في سعة الاطلاع، وطول النَّفَس في البحث عن أقوال العلماء، ومعرفة مواضع الإجماع والنزاع، حتى لا يُحَجِّروا واسعًا، ويُدَّعى الإجماع في مواضع النزاع.
وقد اتَّهم من لم يعرف أقوال العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – بأنه يخرق الإجماع، ويشذّ عن العلماء بأقوال لم يُسْبق إليها، ولم يدَّعِ شيخ الإسلام أن هذا إن ثبت عنه فلا غبار عليه في ذلك، وأنه لا يلزمه أن يقول بقول من سبقه، أو أن هذه دعوة للتقليد المذموم، والعبرة بالدليل لا بالأقاويل … الخ هذه الأجوبة، بل نفى عن نفسه هذه التهمة، وأثبت أنه لم يخالف قط الإجماع، ولم يخرج من مجموع أقاويل العلماء، ففي “الاخنائية” (صـ: 458) ط/ دار الخراز، جدة، أورد عدّة وجوه في دَحْر هذه التهمة، فقال: “الوجه السابع: أن لفظ (كم) – يعني التي ادعاها المعترض عليه – يقتضي التكثير، وهذا يوجب كثرة المسائل التي خَرَق المجيب – يعني نفسه رحمه الله – فيها الإجماع، والذين هم أعلم من هذا المعترض، وأكثر اطلاعًا اجتهدوا في ذلك غاية الاجتهاد، فلم يظفروا بمسألة واحدة خَرَقَ فيها الإجماع، – يعني نفسه رحمه الله – بل غايتهم أن يظنوا في المسألة أنه خرق فيها الإجماع، كما ظنّه بعضهم في مسألة الحلف بالطلاق، وكان فيها من النزاع نقلا، ومن الاستدلال فقهًا وحديثا ما لم يطّلع عليه، الوجه الثامن: أن المجيب – ولله الحمد – لم يقُلْ قط في مسألة إلا بقول قد سبقه إليه العلماء، فإن كان قد يخْطُر له، ويتوجَّهُ له؛ فلا يقوله وينصره إلا إذا عرف أنه قد قاله بعض العلماء، كما قال الإمام أحمد: “إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام” فمن كان يسْلك هذا المسْلك، كيف يقول قولاً يخرق فيه إجماع المسلمين، وهو لا يقول إلا ما سبقه إليه علماء المسلمين؟ فهل يُتصَوّر أن يكون الإجماع واقعًا في موارد النزاع؟ ولكن من لم يعرف أقوال العلماء قد يظنّ الإجماعَ من عدم علمه النزاعَ، وهو مخطئ في هذا الظن لا مصيب، ومن عَلِمَ حُجة على من لم يعلم، والمثْبِت مُقدّمٌ على النافي” اهـ.
فمن وقف على كلام هذا الإمام، هل يظن أن الدعوة إلى اتّباع منهج السلف دعوة إلى التقليد، والتعصُّب لأقوال الرجال؟! وكيف يُظنُّ هذا برجل قد عُرِف بذمِّ التقليد الأعمى والتحذير منه، والحثُّ على معرفة الدليل، واتّباعه، والانتصار له؟ لكنّ الناس في ذلك بين مُفْرِط ومُفَرِّط، ومن هُدِي إلى الوسط؛ فقد هُدِي إلى صراط مستقيم، والله الموفِّق.
هذا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني.
٦ شعبان ١٤٣٩ هـ
=========
هناك من يقول: الاسلام صالح لكل زمان ومكان والسلف فهموا الاسلام بما يتناسب مع زمانهم وطبقوه . ولو طبقنا فهمهم فزماننا غير زمانهم ولن ينطبق فهمهم مع زماننا . أفيدونا؟
الجواب: عفوا، إذا فهمنا أن المراد بمنهج السلف ما أجمعوا عليه، وقواعدهم التي شهد بصحتها النقل والعقل، فهذا أمر منضبط ﻻ يتغير مع تغير الأزمنة والأمكنة، أنَّ ما أجمعوا عليه ﻻ شك أنه حق وليس بضلالة، فكيف يأتي زمن بعيدا كان أو قريبا، ثم يكون هذا الحق ضلالة؟ لكن لو فهمنا أن منهجهم هو اجتهادات آحادهم، فسيرد عليه الإيراد السابق، والله أعلم. أبو الحسن