تصحيح المفاهيم

منهج الموازنات بين الإفراط والتفريط الحلقة الأولى

[ منهج الموازنات بين الإفراط والتفريط ]

الحلقة الأولى 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، ثم أما بعد:

فالمراد بالموازنات: ذِكْر حسنات المبتدع، وعدم الاقتصار على ذمِّه وذِكْر سيئاته.

والناس في هذا بين غالٍ، وجافٍ، ووسَط.

أما الغالي: فهو من يشترط أن المرء كلما ذَكَرَ سيئات المبتدع، وآثارَها في الناس، وحذَّرَ الناس من المخالف ومن طريقته ؛ فيلزمه – من باب العدل والإنصاف عنده – أن يذكر حسنات هذا المخالف، وجهوده في نصرة الدين، ويذكر الجوانب المضيئة في سيرته، وإلا كان المحذر منه ظالمًا له، بعيدًا عن سبيل المنصفين!!!

ويستدل على ذلك بأدلة وجوب لزوم العدل والإنصاف مع العدو والصديق، وغير ذلك.

وأما الجافي: فهو الذي يمنع ذِكْر أي حسنة للمبتدع، ويطلق هذا المنع دون استثناء، ويرى ذِكْر أي جُهدٍ مشكورٍ له، فما هو إلا تلميعٌ للمبتدع، وحَثٌّ للناس على الأخْذ عنه، وغِشٌّ وتضليل للأمة، وعمل بمنهج الموازنات المبتدَع، وذمٌّ للسلف وأتباعهم الذين أطلقوا ذم أهل البدع في كتبهم، ولم يُعَرِّجوا على شيء من حسناتهم، بل أسقطوا ذِكْرها، وكتموا نشْرها .

ويستدل هذا الصنف على ذلك بما سطّره الأئمة في كتبهم من ذمِّ أهل البدع، والتحذير منهم دون تفصيل، كما يستدل بأن ذِكْر حسنات المبتدعة يُسقط فائدة التحذير من مخالفاتهم، ….الخ.

وأما الوسط: فهم الذين اتبعوا منهج السلف من جميع جوانبه، وعملوا بما قاله هؤلاء تارة، وبما قاله أولئك تارةً أخرى، وليس ذلك منهم على سبيل التشهِّي أو التخليط، ولكن أنزلوا كل حالة منزلها، بضوابطها وقيودها، واستعملوا المنع أو الجواز في حالات معلومة، فسلكوا خير المسالك، فلله دَرُّهُم، وعلى الله أجرهم.

وقبل بيان الحق بين هذه الطوائف، فلا بُدّ من بيان أن الأصل الذي عليه السلف الصالح، والذي طفحتْ به كتبهم، ومؤلفاتهم، وأجوبتهم على الأسئلة التي وجِّهتْ إليهم عمن عُرفوا بالبدع، والانتصار لها، ومخالفة الأدلة القطعية من كتاب وسنة وإجماع: أنهم يطلقون فيهم الذم والتحذير، دون ذِكْر حسناتهم؛ لأن ذلك يُفسد على السامع أو القارئ المراد من كلامهم في أهل البدع، وهو عدم الاغترار بعبادة أو صلاح بعضهم، أو حفظ وإتقان وذكاء البعض الآخر، فإن هذه الأوصاف الحميدة في بعض أهل البدع كالشراك والحبائل التي تُنْصَب، أو تُدْفَن لصَيْد الفريسة أو الضحية، فإن كثيرًا من الناس إذا رأوا اجتهاد رجل في عبادته، أو حُسْنَ سَمْته وهَدْيه، وطولَ ضَمْته، وتدبُّره؛ أو فرط ذكائه، أو جُودَه وكرمه، وكريم خُلُقه …. إلى غير ذلك؛ فإنه لا يسأل عن سلامة عقيدته، وصفاء مَشْرَبِه، بل يغترف منه اغْترافًا دون تمييز، فيُدَسّ له السمُّ في العسل، بقصْد أو دون قصْد.

من أجل هذا صرَّح السلف بضرورة التحذير من مجالسة أهل البدع، ومنعوا من الأخْذ عنهم إلا بشروط، وحذَّروا من الاغترار بما عندهم من الخير، أو كثرة الأتباع، مقتدين في ذلك بتحذير النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الخوارج، مع وصْفه اجتهادهم في عبادتهم، لكن ذِكْر عبادتهم ورد في مقام عدم الاغترار بها، فذكر من أوصافهم للصحابة الكرام قوله: “تحقِّرون صلاتكم بصلاتهم، وصيامكم بصيامهم” ومع ذلك قال: “يمرُقون من الدين كما يمرُق السهمُ من الرَّمِيّة” وقال فيهم أيضًا: “لئن أدْركتُهم؛ لأقتلنّهم قتْل عادٍ وإرَم” وقال فيهم: “كلاب أهل النار” .

والسلف أيضًا جعلوا المحذِّر من أهل البدع مجاهدًا في سبيل الله، قائمًا بفرض من فروض الكفايات العامة، التي يجب على بعض علماء المسلمين أن يقوموا بها، وإلا أَثِموا جميعا ، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “وَإِذَا كَانَ النُّصْحُ وَاجِبًا فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ: مِثْلَ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَغْلَطُونَ أَوْ يَكْذِبُونَ ،كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت مَالِكًا وَالثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ – أَظُنُّهُ – وَالْأَوْزَاعِي عَنْ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ لَا يَحْفَظُ؟ فَقَالُوا: بَيِّنْ أَمْرَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيَّ أَنْ أَقُول:َ فُلَانٌ كَذَا، وَفُلَانٌ كَذَا، فَقَالَ: إذَا سَكَتَّ أَنْتَ، وَسَكَتُّ أَنَا؛ فَمَتَى يَعْرَفُ الْجَاهِلُ الصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ؟

وَمِثْلُ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ؟ فَقَالَ: إذَا قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ؛ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ، هَذَا أَفْضَلُ. قال شيخ الاسلام – رحمه الله – : فَبَيَّنَ – أي الإمام أحمد رحمه الله – أَنَّ نَفْعَ هَذَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِم،ْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَشِرْعَتِهِ، وَدَفْعِ بَغْيِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ؛ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا مَنْ يُقِيمُهُ اللَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ لَفَسَدَ الدِّينُ، وَكَانَ فَسَادُهُ أَعْظَمَ مِنْ فَسَادِ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا اسْتَوْلَوْا لَمْ يُفْسِدُوا الْقُلُوبَ وَمَا فِيهَا مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا، وَأَمَّا أُولَئِكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ الْقُلُوبَ ابْتِدَاءً” اهـ من “مجموع الفتاوى” (٢٨ / ٢٣١-٢٣٢).

قلتُ: وإذا تقرّر هذا الأصلُ الأصيل من منهج السلف الصالح؛ فلا عليك بعد ذلك ممن يُحذر من ذم أهل البدع مطلقا، ويرى ذلك غِيبة وَوُلوغا في أعراض الأبرياء؛ فإن حُرمة الشريعة مقدمة على حرمة حاملها إذا أخطأ على الشريعة.

انتهت الحلقة الأولى ، وتليها الحلقة الثانية إن شاء الله .

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني.

11 شعبان ١٤٣٩هـ

للتواصل معنا