[ منهج الموازنات بين الإفراط والتفريط ]
{ الحلقة الثانية والأخيرة }
لكن يجب أن يُعْلم أن هناك حالاتِ تُذْكَر فيها بعض حسنات أهل البدع، إذا اقتضت الحاجة ذلك ، ومن خلال تتبُّعِي لذلك من كلام أئمة السلف، ومن تبعهم من الأئمة في الانتصار للسنة، ودحض شبهات المبتدعة؛ تبيّن لي أن ذلك له حالات، منها:
١ – الترجمة لرواة الأحاديث، وعلماء المذاهب، والفِرَق، ونحو ذلك، فالمترجِم من الأئمة يذكر ما للمترجَم وما عليه، وفي هذا الموضع يذكر ما يحتاج إليه المقام من حسنات ومواقف مشكورة للمترجَم، ولا يلزمه ذكر كل الحسنات، من كونه يصلي ويصوم ويزكي ويحج، إلى غير ذلك مما لا نزاع فيه، ويشهد لذلك كتب التراجم المطوّلة، ففيها المئات أو الألوف من التراجم التي تدلّ على ذلك، ومن هذا – على سبيل الاختصار – قول أبي إسماعيل الهَرَوي في أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، صاحب “المستدرك”: “ثقة في الحديث، رافضيٌّ خبيث” وإن كان الذهبي قد اعترض على اتهامه بالرفض، فقال: “كلا ليس هو رافضيًّا، بل يتشيع” اهـ من “النبلاء” (17/١٧٤) .
٢ – في حالة وقوع المبالغة في ذم المترجَم بما ليس فيه، فيدافع المترجِم عن المترجَم، ويبين أنه ليس كذلك، ويشهد لهذا جواب الذهبي السابق على أبي إسماعيل الهروي، وذكر الحافظ الذهبي في “النبلاء” (17/٤٨١) يحيى بن عمار السجستاني، وقال: “وكان مُتَحرِّقًا على المبتدعة والجهمية، بحيث يؤول به ذلك إلى تجاوز طريقة السلف، وقد جعل الله لكل شيء قدْرا” اهـ، ولذلك قال القرافي في “الفروق” (٤/ ٢٠٧-٢٠٨) : “أرباب البدع والتصانيف المضلة ينبغي أن يُنْشَر للناس فسادُها وعَيْبُها، وأنهم على غير الصواب، ليحذرها الناس الضعفاء، فلا يقعوا فيها، ويُنَفَّروا عن تلك المفاسد ما أمكن، بشرط ألاّ يُتعدَّى فيها الصدق، ولا يُفْترى على أهلها الفواحش ما لم يفعلوه، بل يُقْتَصر على ما فيهم من المنفِّرات خاصة، فلا يُقال على المبتدع: إنه يشرب الخمر، ولا أنه يزني، ولا غير ذلك مما ليس فيه” اهـ.
٣ – وكذا يذكرون حسنة المبتدع إذا كانوا في مقام المقارنة بين مبتدعين – سواءً كانت المقارنة بين فردين أو طائفتين – أحدهما بدعته أغلظ من بدعة الآخر، فيحتاج العالم في هذه الحالة إلى التفرقة بين البدعتين، أو أهلهما، دفْعًا للظلم، وإحقاقًا للحق، فقد ذكر شيخ الإسلام في “منهاج السنة” (٥/ ١٥٦-١٥٨) الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع، فذكر أن الخوارج كانوا عُبّادًا متورِّعين، وأن الرافضة فيهم من هو مُتعبِّد مُتورِّع زاهد، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء، فالمعتزلة أعقل منهم، وأعْلم، وأدْيَن، والكذبُ والفجورُ فيهم أقلُّ منه في الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم، وأقربُ إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصْدَق ولا أعْبَد من الخوارج، ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقًا، كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعْدَل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به، فيقولون: أنتم تُنْصِفوننا ما لا يُنصِف بعضُنا بعضًا، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه: أصلٌ فاسد ،مبني على جهل وظلم، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعْدَل عليهم وعلى بعضهم من بعض …” .
وذكر – رحمه الله – تكفير أهل البدع لأهل السنة، ثم قال: “وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم، الذي جاء به الرسول، ولا يكفِّرون من خالفهم فيه، بل هم أعْلم بالحق، وأرْحَم بالخلْق …” اهـ.
قلتُ: وهناك مواضع كثيرة للعلماء يردون فيها قول من رمى مبتدعًا أو منحرفًا، بمقالة أشد من مقالته، فلا يقبل ذلك منه أهل السنة، ويعطون لكل شيء قدره من المدح أو القدح، انظر دفاع شيخ الإسلام عن ابن كُلاب في “تاريخ الإسلام” للذهبي، وفيات سنة (231 – 240) (ص: 428 – 429).
وفي “مجموع الفتاوى” (3/٢١٨) لم يستجز شيخ الإسلام أن ينسب ما سمعه من مبتدعة دمشق إلى ابن مخلوف، مع كونه عدوًّا، فاجرًا، لدودا ، صب جام غضبه وحقده على شيخ الإسلام، ودافع شيخ الإسلام كما في “الرسائل والمسائل” (٤-٥/٧٤) عن الحكيم الترمذي، وانظر كلام أحمد في أصحاب ابن أبي نجيح القدرية، فمع إثبات بدعتهم، نفي عنهم أن يكونوا من أصحاب الكلام، انظر “العلل ومعرفة الرجال” (3/٢٦٠) ، وانظر “النبلاء” (8/٣٤٣) في إثبات عيسى بن يونس التشيع لبيت علي بن هاشم، ثم قال: وليس ثَمَّ كذب. ا.هـ، وانظر دفاع الذهبي عن رابعة العدوية في “تاريخ الإسلام” وفيات سنة (١٧١-١٨٠ ) (ص: ١١٨-١١٩) على ما عندها من مخالفات، وانظر دفاع شيخ الإسلام عنها –أيضًا- في “مجموع الفتاوى” (2/٣١٠) بل قد كذّب شيخ الإسلام كثيراً مما نُسب إلى الحلاج – وأمره مشهور في الضلالة، حتى كفّره من كفّره – انظر “الاستقامة” (1/١١٩) اهـ.
فهذا كله من عدل أهل السنة مع مخالفيهم.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أيضًا في سياق المقارنة بين أهل البدع ونحوهم، كما في “مجموع الفتاوى” (١٣/ ٩٧- ٩٩) : “وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ خَيْرٌ مِنْ الرَّافِضَةِ وَمِنْ الْخَوَارِجِ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تُقِرُّ بِخِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَكُلُّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ عَلِيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ وَلَكِنْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَنَّهُ قَالَ: فَسَقَ يَوْمَ الْجَمَلِ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَلَا أَعْلَمُ عَيْنَهَا، وَقَالُوا: إنَّهُ قَالَ: لَوْ شَهِدَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا؛ لِفِسْقِ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَلَوْ شَهِدَ عَلِيٌّ مَعَ آخَرَ؛ فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ قَوْلَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ فِيهِمْ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّتُهُمْ تَعْظِيمُ عَلِيٍّ، وَمِنْ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ ذَمُّ مُعَاوِيَةَ وَأَبِي مُوسَى وَعَمْرِو بْنِ العاص لِأَجْلِ عَلِيٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُ هَؤُلَاءِ وَيُفَسِّقُهُمْ؛ بِخِلَافِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ هَؤُلَاءِ تَابُوا مِنْ قِتَالِه،ِ وَكُلُّهُمْ يَتَوَلَّى عُثْمَانَ، وَيُعَظِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيُعَظِّمُونَ الذُّنُوبَ، فَهُمْ يَتَحَرَّوْنَ الصِّدْقَ كَالْخَوَارِج،ِ لَا يَخْتَلِقُونَ الْكَذِبَ كَالرَّافِضَةِ، وَلَا يَرَوْنَ أَيْضًا اتِّخَاذَ دَارٍ غَيْرَ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْخَوَارِجِ، وَلَهُمْ كُتُبٌ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَنَصْرِ الرَّسُولِ، وَلَهُمْ مَحَاسِنُ كَثِيرَةٌ، يَتَرَجَّحُونَ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ، وَهُمْ قَصْدُهُمْ إثْبَاتُ تَوْحِيدِ اللَّه، وَرَحْمَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَصِدْقِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَأُصُولُهُمْ الْخَمْسُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْخَمْسِ؛ لَكِنَّهُمْ غَلِطُوا فِي بَعْضِ مَا قَالُوهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُصُولِهِمْ الْخَمْسِ: فَجَعَلُوا مِنْ “التَّوْحِيدِ” نَفْيَ الصِّفَاتِ، وَإِنْكَارَ الرُّؤْيَةِ، وَالْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، فَوَافَقُوا فِي ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة، وَجَعَلُوا مِنْ “التوحيد” و “الْعَدْلِ” أَنَّهُ لَا يَشَاءُ مَا يَكُونُ، وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، فَنَفَوْا قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَخَلْقَهُ؛ لِإِثْبَاتِ الْعَدْلِ، وَجَعَلُوا مِنْ الرَّحْمَةِ نَفْيَ أُمُورٍ خَلَقَهَا،لَمْ يَعْرِفُوا مَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ، وَكَذَلِكَ هُمْ وَالْخَوَارِجُ قَالُوا بـ “إنْفَاذِ الْوَعِيدِ” لِيُثْبِتُوا أَنَّ الرَّبَّ صَادِقٌ لَا يَكْذِبُ؛ إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ قَدْ أَخْبَرَ بِالْوَعِيدِ الْعَامِّ، فَمَتَى لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ؛ لَزِمَ كَذِبُهُ، وَغَلِطُوا فِي فَهْمِ الْوَعِيدِ، وَكَذَلِكَ “الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالسَّيْفِ” قَصَدُوا بِهِ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ،كَمَا يَقْصِدُهُ الْخَوَارِجُ وَالزَّيْدِيَّةُ، فَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْكَارُهُمْ لِلْخَوَارِقِ غَيْرِ الْمُعْجِزَاتِ، قَصَدُوا بِهِ إثْبَاتَ النُّبُوَّةِ وَنَصْرَهَا، وَغَلِطُوا فِيمَا سَلَكُوهُ، فَإِنَّ النَّصْرَ لَا يَكُونُ بِتَكْذِيبِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُحَقِّقُوا خَاصَّةَ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالْأَشْعَرِيَّةُ مَا رَدُّوهُ مِنْ بِدَعِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالرَّافِضَةِ، وَالْجَهْمِيَّة، وَغَيْرِهِمْ، وَبَيَّنُوا مَا بَيَّنُوهُ مِنْ تَنَاقُضِهِمْ، وَعَظَّمُوا الْحَدِيثَ وَالسُّنَّةَ وَمَذْهَبَ الْجَمَاعَةِ، فَحَصَلَ بِمَا قَالُوهُ مِنْ بَيَانِ تَنَاقُضِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ الْكِبَار وَرَدِّهِمْ مَا انْتَفَعَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبَقِيَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يَقْرَأُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الجُبَّائي، فَلَمَّا انْتَقَلَ عَنْ مَذْهَبِهِمْ، كَانَ خَبِيرًا بِأُصُولِهِمْ، وَبِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ [وَأَمَّا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ]، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمُعْتَزِلَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَهْمِيَّة، وَأَمَّا خَصَائِصُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمْ يُوَالِهِمْ الْأَشْعَرِيُّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا؛ بَلْ نَاقَضَهُمْ فِي جَمِيعِ أُصُولِهِمْ، وَمَالَ فِي “مَسَائِلِ “الْعَدْلِ” وَ”الْأَسْمَاءِ” وَ”الْأَحْكَامِ” إلَى مَذْهَبِ جَهْمٍ وَنَحْوِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الطَّوَائِفِ “كالنجارية” أَتْبَاعِ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ، و “الضرارية” أَتْبَاعِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو يُخَالِفُونَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي “الْقَدَرِ” وَ “الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ” وَ “إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ”، وَالْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْكَشْفِ وَالْخَوَارِقِ، وَالصُّوفِيَّةِ يَذُمُّونَهَا وَيَعِيبُونَهَا” ……… اهـ.
وفي “الميزان” (3/160) ترجمة علي بن هاشم ابن البريد الكوفي، قال الذهبي: وثقه ابن معين وغيره، وقال أبوداود: ثبت يتشيع، وقال البخاري: كان هو وأبوه غاليَيْن في مذهبهما، قال ابن حبان: غالٍ في التشيع، روى المناكير عن المشاهير.
قال الذهبي: ولغلوِّه ترك البخاري إخراج حديثه، فإنه يتجنب الرافضة كثيرا، كأنه يخاف من تديُّنهم بالتَّقِيَّة، ولا نراه يتجنب القدرية، ولا الخوارج، ولا الجهمية؛ فإنهم على بدعهم يَلْزَمون الصدق. اهـ.
٤ – كما يذكر العلماء بعض محاسن المبتدعة في حالة تقسيم أهل البدع، وبيان مراتب بدعهم، وحال المنتسبين إليها، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما في “مجموع الفتاوى” (٣/ ٣٥٣-٣٥٤): “وَمِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، لَكِنْ فِيهِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ، حَتَّى أَخْطَأَ مَا أَخْطَأَ مِنْ السُّنَّةِ؛ فَهَذَا لَيْسَ بِكَافِرِ وَلَا مُنَافِقٍ ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مِنْهُ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ يَكُونُ بِهِ فَاسِقًا أَوْ عَاصِيًا، وَقَدْ يَكُونُ مُخْطِئًا مُتَأَوِّلًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مَا يَكُونُ مَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ”.
٥ – وكذا يذكرون بعض محاسن أهل البدع عندما يذكرون رد أهل البدع على المشركين، ونقض أدلتهم وشبهاتهم، وكذلك في حالة ردهم على أهل البدع التي هي أكبر وأشد وأغلظ من بدعهم، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في هذا السياق، كما في “مجموع الفتاوى” (١٣/٩٥-٩٧) : “وَهَذَا كَالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ، فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَيَقْوَى بِهَا قُلُوبُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا بَاطِلَةً، فَغَيْرُهَا أَبْطَلُ مِنْهَا، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ دَرَجَاتٌ، فَيَنْتَفِعُ بِهَا أَقْوَامٌ يَنْتَقِلُونَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.
وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ الرَّافِضَةِ، وَالْجَهْمِيَّة، وَغَيْرِهِمْ إلَى بِلَادِ الْكُفَّارِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِير،ٌ وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ، وَصَارُوا مُسْلِمِينَ مُبْتَدِعِينَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمُلُوكِ قَدْ يَغْزُو غَزْوًا يَظْلِمُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ، وَيَكُونُ آثِمًا بِذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ خَلْقٍ كَثِيرٍ، كَانُوا كُفَّارًا فَصَارُوا مُسْلِمِينَ، وَذَاكَ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَائِمِ بِالْوَاجِبِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُفَّارِ فَهُوَ خَيْرٌ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْفَضَائِلِ، وَالْأَحْكَامِ وَالْقِصَصِ، قَدْ يَسْمَعُهَا أَقْوَامٌ فَيَنْتَقِلُونَ بِهَا إلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ كَذِبًا، وَهَذَا كَالرَّجُلِ يُسْلِمُ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا، وَرَهْبَةً مِنْ السَّيْفِ، ثُمَّ إذَا أَسْلَمَ وَطَالَ مُكْثُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، فَنَفْسُ ذُلِّ الْكَفْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَانْقِهَارُهُ وَدُخُولُهُ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ؛ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَبْقَى كَافِرًا، فَانْتَقَلَ إلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَخَفَّ الشَّرُّ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ إذَا أَرَادَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ أَدْخَلَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الْخَلْقَ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ، وَنَقَلَ كُلَّ شَخْصٍ إلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَرُدُّونَ بَاطِلًا بِبَاطِلِ، وَبِدْعَةً بِبِدْعَةِ؛ لَكِنْ قَدْ يَرُدُّونَ بَاطِلَ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِبَاطِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا مُبْتَدِعًا، وَأَخَصُّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَرُدُّ الْبِدَعَ الظَّاهِرَةَ كَبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ، بِبِدْعَةِ أَخَفَّ مِنْهَا، وَهِيَ بِدْعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَصْنَافَ الْبِدَعِ” اهـ.
هذا ما أذكره من الحالات التي يذكر فيها العلماء بعض حسنات أهل البدع ، التي يحتاج إلى ذكرها، وهذا إن دلَّ فإنما يدل على عدلهم وإنصافهم، وعلمهم بالحق، ورحمتهم بالخلق، وفقههم لمقاصد الشريعة وكلياتها، ونظرتهم إلى الحال والمآل، ودقة إعمالهم لقاعدة تزاحم المصالح والمفاسد، والله تعالى أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني.
13 شعبان 1439هـ