الأسئلة العامة

“إذا أذن المؤذن والإناء في يد أحدكم…” وما هو الصحيح في هذه المسألة؟

[س14] سؤال: أريد فتوى أو بحثا يشتمل على أقوال الصحابة والأئمة وأصحاب المذاهب في حديث “إذا أَذَّنَ المؤذن والإناء في يد أحدكم…” وما هو الصحيح في هذه المسألة؟ نفع الله بشيخنا، وبارك في علمه وعمله.

الجواب: حديث أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: “إذا سَمِع أحدكم النداءَ والإناءُ على يده؛ فلا يَضَعه حتى يقضي حاجته منه” أخرجه أحمد والبيهقي وغيرهما، وقد اختُلف في رفعه ووقفه، وأعلّه من المتقدمين أبو حاتم الرازي، وكذا أَعَلَّه ممن بعدهم ابن القطان الفاسي، لكن صححه عدد من المتأخرين والمعاصرين، ولم يتيسر لي البحث الحديثي الموسّع لهذا الحديث، وهناك من تكلم على هذا الحديث رواية ودراية، ومال إلى ترجيح صِحَّته كالأخ أبي عمر عبدالله بن محمد الحمادي من طلاب العلم بالشارقة، وسمى رسالته “دفع العناء بتصحيح حديث إذا سمع أحدكم النداء” وقد بذل في هذه الرسالة جهدًا مشكورا، فجزاه الله خيرا.

وعلى القول بصحة هذا الحديث؛ فهل معناه: أن المسلم إذا سمع المؤذن يؤذن الفجر الثاني الذي هو بعد طلوع الفجر الصادق، وهو الضوء المستطير، أو المعترض وليس بالمستطيل في السماء، هل يَقْضِي نَهْمَتَه مما في الإناء، ولا يضعه إلا بعد ذلك؟

وللعلماء في ذلك تأويلان: فهناك من يرى أن الحديث محمول على أن المؤذن قد أذن الأذان الثاني، والفجر لم يتبين طلوعه بعد، والله -عز وجل- يقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) فجعل الله -جَلَّ شأنُه وتعالى- نهاية وقت الأكل بتبين طلوع الفجر، وعلى هذا فلا تعارض بين الحديث والآية، وهذا قول الجمهور، القول الثاني: قول من قال الحديث محمول على أن المؤذن أذن بعد ما تبين طلوع الفجر، ولكن هذه رُخْصَة من الله -جَلَّ شأنه- وتَيْسِير منه –سبحانه وتعالى- على الصائم حتى يقضي نهمته، ويحقق رغبته التي ربما إذا مُنع منها أفطر ذلك اليوم، أو أتمّ صومه مع حاجة في نفسه، وهذا القول له حَظٌّ من الوَجَاهة؛ لأنه في حالة معينة، وهي حالة انطلاق المؤذن بالأذان، والإناء في يد من سَيُمْسِك للصيام، وقد يُشغل بكلام منه، أو إنصات لغيره، ثم يُفاجأ بأذان المؤذن، فهذه حالة نادرة جدًّا، ولا يُقاس عليها غيرها، كأن يكون الإناء على الأرض، وبعدما يشرع المؤذن في الأذان يرفع الرجل الإناء من الأرض إلى فيه فيشرب، أو يفتح ثلاجته، ويُخرج الماء ليشرب، أو يتعمد الصائم أن يمسك الإناء في يده ينتظر متى يبدأ المؤذن في الأذان، فإذا سمع بداية الأذان شَرِب، وقد كان بإمكانه أن يَشْرب قبل الأذان، فَأَمْرُ الرخصة والتيسير في حق من فعل ذلك فيه بُعْدٌ، وهذا بخلاف من ظن أن الوقت لازال الأكل والشرب فيه جائزًا، فرفع الإناء ليشرب، فإذا به يُفاجأ بالأذان، فالقول بأن هذه الصورة مثل صورة من يمسك الإناء في يده، ويشرع في كلام طويل، لكنه –لظاهريته- لا يُسْرع بالشرب من الإناء، بل ينتظر متى يؤذن ليشرب، بجامع أن الإناء في يده، فهذا لا يخلو من ظاهرية مَمْجُوجة، فيها نظر، فالعبرة بالتأكد من تبين طلوع الفجر، وهو بداية الإمساك، وهذه الصورة المستثناة من العموم دون إلحاق غيرها بها، وقول الجمهور بحمل الحديث على ما إذا لم يتأكد المسلم من طلوع الفجر الصادق بعيد؛ لأن مع عدم التأكد للمتحري الخبير يجوز الأكل والشرب وليس مجرد الشرب، وقد جاء عن عدد من الصحابة المبالغة في تأخير السحور بألفاظ تحتاج إلى مزيد بحث حديثي دقيق لها، والعبرة بتبيّن طلوع الفجر لمن هو خبير بذلك، وإلا فكثير ممن يدعي الخبرة ليس كذلك، والله تعالى أعلم.

(تنبيه): هناك بعض المسلمين طيلة العام يصلي على أذان المؤذن، ويثق بأن المؤذن يؤذن بعد تبين طلوع الفجر الصادق، فإذا جاء وقت الصيام لا يتقيد بأذان هذا المؤذن، بحجة أنه لا يتحرى الوقت، أو أن الساعة التي يسير عليها غير مُنْضَبِطة، تقديمًا وتأخيرًا، فلماذا كان المؤذن -عنده- متحريا، وساعة المسجد دقيقة التوقيت طيلة العام إلا في أيام الصيام؟ ثم لماذا تكون عدم دقة الإمام وساعة المسجد في القول بأن المؤذن يؤخر أذان المغرب، ويعجل أذان الفجر، من غير عكس، هل لرغبة الإنسان أَثَرٌ في هذا التصرف؟

فليراقب كل إنسان ربه، وليعلم أن عمله هذا ربما يقلّده أولاده على ذلك، ولا يكون عندهم التحري والتدين الذي عند والدهم، فيكون بذلك قد سنَّ فيهم سُنّة سيئة، لأن الأولاد يتوسعون في الأمر، وليس عندهم الانضباط والورع الذي عند والدهم –إلا من رحم الله- وكذلك الرجل الذي هو موضع قدوة عند الآخرين، ربما يكون سببا في توسُّهم في أمر يَجُـــرُّ عليهم ما لا يُحْمد، ولو أن الإنسان علَّم أولاده أن يحتاطوا إذا كان المؤذن لا يتحرى بالانتظار يسيرا قبل التعجّل في الإفطار، وبالإمساك قليلا قُبَيْل أذان الفجر، لكان ذلك أَولى من العكس، والخطأ في الاحتياط والتورع أولى من الخطأ في التماس الرُّخَص، أو الحرص على التيسير، ومع هرولة الناس نحو التيسير؛ يُنبغى أن يُرفع الصوت بالتورع والاحتياط، وإذا كنا في زمن المبالغة في الاحتياط؛ فينبغي رفع الصوت بأدلة التيسير والأخذ بالرُّخص (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا).

على أن هذا البعض من المسلمين يتهم المؤذن بعدم التحري، وهو في داخل بيته قد أغلق على نفسه الأبواب، فيا ليته يخرج من غرفته ليرى، أو يخرج خارج المدينة والكهرباء قبيل دخول شهر رمضان بليلة أو ليلتين ليتحرى المغرب والفجر، وليعرف الفرق في الوقت بين ما ظهر له من تحريه ورؤيته من خبرته الموثوق بها، وبين ساعة المسجد، أما الحكم بعدم تحري المؤذن وعدم دقة الساعة، والإنسان مُغْلِق على نفسه الأبواب، وفي وسط المدينة التي اتسعت مساحتها، وشَعَّ نورها –في جوف الليل- في السماء، فكيف يتأتى له الحكم بتصويب فعله وتخطئة فعل غيره الذي يصوّبه ويسير عليه طيلة العام، وكيف يجزم بذلك حتى إنه يأكل قبل أذان المؤذن المغرب أمام الناس، أو أمام أهل بيته، ويأكل بعد أذان المؤذن الفجر في حضرتهم، وعلى مَرْأَى ومَسْمَعٍ منهم، فالله المستعان.

للتواصل معنا