الأسئلة العامة

إن أردت أن تشتري نقدًا فبكذا , وإن أردت أن أمهلك سنة فبكذا

السؤال: ذهب رجل إلى السوق ليشتري سيارة , فقال له صاحب السيارة : إن أردت أن تشتري نقدًا فبكذا , وإن أردت أن أمهلك سنة فبكذا وكذا – بسعر أعلى من الأول – فاشترى المشتري السيارة بالسعر الغالي من أجل المهلة , فهل هذا البيع صحيح أم لا ؟

الجواب : هذه المسألة – وهي البيع بالزيادة من أجل المهلة – قد أباحها جماهير أهل العلم من السلف , والبعض يراها صورة من صور الربا , وقد حققت هذه المسألة في رسالة مستقلة , تناولت فيها أدلة القائلين بالجواز ، وأدلة القائلين بالمنع ، وجعلتها في صورة مناظرة بين مانع ومجيز ، وانتهي بي القول فيها إلى الجواز , وسميتها : ” جامع التحصيل في جواز البيع بالزيادة مع التأجيل ” .

وملخص أدلة من أجاز هذا البيع : عموم قوله تعالى : ]وأحل الله البيع[ [ البقرة: 275 ] حتى يقوم دليل على التحريم , ولا دليل مع المانع , والأصل الحل حتى يثبت دليل للمنع، لأن هذا من باب المعاملات، ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أمره أن يجهز جيشاً , قال عبد الله بن عمرو : وليس عندنا ظَهْر , قال : فأمره النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أن يبتاع ظَهْرًا إلى خروج المصَّدِّق , فاتبع عبد الله بن عمرو البعير بالبعيرين وبالأبعرة , إلى خروج المصدق , بأمر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – . أخرجه الدارقطني والبيهقي , وسنده حسن , فقاسوا الأمر المؤول عنه على ذلك , وبالقياس العكسي على السَّلَم , الذي هو تقديم الثمن وتأخير السلعة , وبالقياس العقلي على زيادة الثمن من أجل استعجال السلعة , وبأقوال الجماهير من علماء هذه الأمة الذين صرحوا بأن من اشترى بأحد الثمنين فلا بأس .

 

وأدلة المانعين ملخصها : أن هذا البيع من صور الربا , والله يقـول : ]وحرّم الربا[ [البقرة : 275] وأنه إذا قال : نقداً بمائة , ونسيئة بخمسين ومائة , واشترى بالنسيئة , فقد دخل في نهي النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – عن بيعتين في بيعة , وقوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: “ من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ” قالوا: ولأن حقيقة هذا البيع أنه باع المائة النقدية بخمسين ومائة للأجل , قالوا : وهذا ربا النسيئة , وأجابوا عن قوله تعالى : ]وأحل الله البيع[ [البقرة: 275] بتتمة الآية : ]وحرم الربا[ [البقرة : 275] وعن حديث عبد الله بن عَمرو بأنه منسوخ بأحاديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة , وهي ثابتة بمجموع طرقها , وعن الأقيسة السابقة , بأنها أقيسة في مواجهة النص .

وقد تعرضت لهذه الردود بشيء من التفصيل في الرسالة المشار إليها سابقاً بما لا تحتمله هذه الفتوى , ولكن خلاصة الرد: أن الاستدلال بتتمة الآية استدلال بمحل النـزاع , وليس له عند المحققين قبول ولا سماع , فلو سلمنا بأن محل النـزاع ربا ما خالفناكم , وأجيب عن حديث ” من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ” بأنه بهذا اللفظ شاذ مرجوح , ولو صح لكان معناه بمعنى حديث : ” نهى عن بيعتين في بيعة ” . وقد فسره السلف , وتواترت كلماتهم على غير هذه الصورة التي هي موضع النـزاع, بل قال بعضهم : إذا قال : نقداً بكذا أو نسيئة ً بكذا , وتم البيع على أحدهما ؛ فليس هذا بيعتين في بيعة ، إنما هي بيعة واحدة بسعر واحد , لأنه عندما عَرَضَ ثمنين لسلعة واحدة , فلا يسمى بائعاً حال العرض , إلا أن يشتري المشتري , ويبيع البائع ، بالإيجاب والقبول، فإذا اشترى بأحد السعرين , فهي سلعة واحدة بسعر واحد ، لكن إذا قال : قد اشتريت دون أن يجزم بأحد السعرين , وتفرقا قبل أن يحددا السعر ، فهذا منهي عنه لعدم استقرار الثمن , المفضي إلى النـزاع , وهو منهي عنه, فإن قيل: لا تتصور جهالة الثمن في هذا البيع، لأنه -أي: المشتري- إن اشترى بأحد الثمنين فلا جهالة ، أو لم يشترِ أصلاً , فلا إشكال . قلت : قد تواتر كلام أهل العلم على التحريم إذا كان في البيع جهالة للثمن , فنحن ننـزه علماءنا عن القول بما لايتصور عقلاً , وواقعاً , على أن تصور ذلك ممكن , كأن يتفرفا من المجلس دون جزم بأحد الثمنين , فلا يقال هنا : ” البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ” لأن هذا بيع فاسد , وكذلك لو قال: عاجل بكذا وآجل بكذا , ولك خيار لمدة كذا , وتفرقا على ذلك دون جزم بأحد الثمنين، والله أعلم .

وقد فسر أهل العلم حديث “النهي عن بيعتين في بيعة” بتفاسير عدة, منها بيع العينة , ومنها شرط في بيع , وقول القائل : بعني دارك على أن تشتري عبدي , وغير ذلك , وغالب من استدل المانعون بقوله , إما أنه قد ثبت عنه خلاف قولهم , وإما أن السند إليه لم يصح , وإما أن كلامه مجمل يحتمل قولهم وقول مخالفيهم , وحمل المجمل من كلام أهل العلم على المفصَّل المبين من كلامهم أولى ؛ لأن الأصل أن كلام أهل العلم يتعاضد لا يتعارض .

وأما من جَعَلَ ذلك كمن باع مائة بخمسين ومائة ؛ فبعيد , لأننا لو قلنا بذلك لزمنا تحريم المرابحة , التي اتفق المسلمون على جوازها بين البائع والمشتري على تفاصيل معروفة , فهل من باع سلعة قيمتها مائة في السوق ، بعشرين ومائة نقداً دون خداع للمشتري ، يقال له : أنت رابيت ؟! وهل من باع سلعة بأجل بسعر يومها، يقال له: أنت بعت نقدًا بنقد دون أن يكون يداً بيد ؟! وقس على ذلك , وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في هذا الأمر , وفرق بين حالة الاضطرار , وحالة الانتفاع والاتجار , أي أنه فرّق بين من باع بأجَل مع زيادة على مضطر للسلعة , وبين من باع بأَجَل مع زيادة على متجر ومنتفع بالسلعة دون ضرورة , فمنع الزيادة في الحالة الأولى ، لعمومات الأدلة في ذلك , وأباح في الثانية , والحق يقال : إن الذين قالوا : هذا البيع من صور الربا لم يستدلوا بدليل سالم من الاعتراض , وإنهم لم يعطوا اجتهادات السلف حقها في النظر , وبعضهم بالغ في ذلك, وحمل الكلام ما لم يحتمله , ويكاد يجعل فتوى المجيزين لذلك بأنها السبب في البنوك والشركات الربوية , وما هكذا يا سعد تورد الإبل !!

وأسأل الله أن يجزي الجميع خيرًا على اجتهـادهم وتحريهـم للحق – وإن أخطأ المخالف في ذلك – والله من وراء القصد , وهو حسبنا ونعم الوكيل . 

للتواصل معنا