الأسئلة العامة

بعض الأئمة إذا قرأ الفاتحة لا يَسْكُت من أجل أن يقرأ المأموم الفاتحة

السؤال: بعض الأئمة إذا قرأ الفاتحة لا يَسْكُت من أجل أن يقرأ المأموم الفاتحة , إنما يبدأ في قراءة السورة بعد قول المأمومين : ” آمين ” فهل هذا الفعل منه صحيح ؟ وإذا كان صحيحًا ؛ فهل تسقط عن المأمومين قراءة الفاتحة , أم لا ؟

الجواب : هذه المسألة – أعني مسألة القراءة خلف الإمام – لقد شاع وذاع فيها الخلاف ، وكثرت فيها التصانيف , بما لا يكاد يخطر ببال أحد , ومع ذلك فقد وجدتني مضطرًا لكتابة مصنف فيها مع تحقيق يعض الأحاديث الواردة في هذا الأمر , وقد اتَّضح أن العلماء فيها على ثلاثة أقوال مشهورة :

الأول : وجوب القراءة خلف الإمام للفاتحة في الجهرية والسرية , وهو الأصح عندي .

الثاني : ترك قراءة الفاتحة وغيرها خلف الإمام في السرية والجهرية , وهذا أبعد المذاهب عن الصواب , وأكثرها مخالفة للأدلة , وأضعفها سندًا .

الثالث : التفصيل بين الجهرية والسرية : فيقرأ المأموم خلف الإمام الفاتحة وغيرها في السرية , ولا يقرأ شيئًا من ذلك في الجهرية , إن كان يسمع إمامه , فإن بعُد عن الإمام ، ولم يسمعه ؛ قرأ الفاتحة وغيرها ، وهذا القول له وجه , وإن كان الأول أرجح منه .

ولكل قول من هذه الأقوال أدلة وعلماء قالوا به , ولا تحتمل هذه الفتوى البسط في ذلك , فيرجع إلى ما حُرِّر في هذا الأمر على وجه الاستقلال والخصوص , لكن حسبي أن أذكر أشهر الأدلة في ذلك :

 

فدليل من قال بالوجوب مطلقًا : الحديث المتفق عليه : ” لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ” ودليل من لا يرى القراءة حديث : ” من كان له إمام ؛ فقراءة الإمام له قراءة ” ودليل من فصَّل : قوله تعالى : ]وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون[ [الأعراف : 204] وهناك أدلة أخرى , لا يتسع المقام لذكرها .

لكن أقوى هذه المذاهب : قول من أوجب القراءة مطلقاً , ومن فصّل , أما من قال بترك القراءة , ففي سند حديثه بحث طويل الذيل , ولو سلمنا بصحته , فهو قابل للتأويل لأحد المذهبين , فأعتني بالكلام هنا على كلام وأدلة علماء المذهبين الراجحين , فأقول :

هناك حديث فاصل للنـزاع , وهو حديث أبي هريرة , قال : انصرف رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – من صلاة يُجْهر فيها بالقراءة – وفي رواية : لا أعلم إلا أنه قال : صلاة الفجر – فقال : “ هل قرأ معي أحد منكم آنفاً ؟ ” فقال رجل : أنا , فقال : ” إني أقول مالي أنازع القرآن ” فانتهى الناس عن القراءة فيما لم يجهر فيه الإمام , وقرأوا في أنفسهم فيما جهر فيه الإمام ، وفي رواية : فانتهى الناس عن القراءة خلف رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فيما جهر فيه … الخ . وهذا حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره , من طريق الزهري عن ابن أكيمة عن أبي هريرة به .

فهذا الحديث يدل على جواز القراءة مع الإمام في الجهرية, لكن بدون رفع صوت يؤدي إلى منازعة الإمام ، كما لا يؤدي إلى منازعة المأموم الذي عن يمينه أو يساره لأدلة أخرى, ليس هذا موضعها , فقول النبي – صلى الله عليه وعلى آلـه وسلم – : “ إني أقول مالي أنازع القرآن ” دون نهي منه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – عن أصل القراءة ؛ دليل على إقرارهم على أصل القراءة , وإنما وقع النهي عن رفع الصوت فقط , وقد فهم هذا جماعة من العلماء , فبوَّبوا على هذا الحديث بالنهي عن رفع الصوت فقط , ومعلوم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

فإن قيل : قد قال أبو هريرة : فانتهى الناس عن ذلك , فهو منسوخ ؟

فالجواب : أن هذا القول ليس من قول أبي هريرة , إنما هو من مراسيل الزهري , والدليل على ذلك أمور :

1- رواية الأوزاعي التي صرحت بأن هذا من قول الزهري .

2- تصريح أكثر من عشرة من العلماء بالعلل , منهم الذهلي صاحب حديث الزهري , والبخاري , وأبو داود , وغيرهم بأن هذه زيادة مدرجة من كلام الزهري , ولم أقف على قول لأحد صرح منهم بأن هذا من قول أبي هريرة , اللهم إلا أن يكون ابن القيم , وأين هو من أولئك الفرسان ؟ وهناك كلام للترمذي يفهم منه أنه أخذ بظاهر السند , على كل حال فالإدراج في هذا الحديث واضح .

3- ومما يدل على ذلك : أن مذهب أبي هريرة وجوب القراءة خلف الإمام مطلقًا , فكيف يُظن به أنه يفتي بخلاف ما كان عليه مع الصحابة أيام رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ؟

4- ويزيد الأمر وضوحاً: أن ترك القراءة في الجهرية هو مذهب الزهري , لا مذهب أبي هريرة .

5- وإذا كان هذا من مراسيل الزهري – وهي من أضعف المراسيل – فمما يزيد المرسل وهنًا أنه حكى أن الناس انتهوا عن القراءة خلف رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فيما جهر به , وكيف هذا ولا زالت مذاهب القائلين بالقراءة مشهورة حتى اليوم ، وقد قال بهذا عُمر ، وأبو هريرة ، وعبادة ، وآخرون ؟

فإن قال قائل : قوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ” إني أقول مالي أنازع ” فيه النهي عن القراءة جهرًا وسرًا .

فالجواب : أن هذا مخالف لفهم العلماء , ويلزم أن يقول بذلك في حديث عمران بن حصين الذي أخرجه مسلم (398) أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – صلى الظهر أو العصر بأصحابه , فقال : ” أيكم قرأ : ( سبح اسم ربك الأعلى ) ؟ ” فقال رجل : أنا , فقال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : قد عرفتُ أن رجلاً خالجنيها ” وهو بمعنى ” نازعنيها ” , فهل يُفهم من ذلك ترك القراءة بالكلية في السرية أيضًا , أم ترك الجهر فقط ؟ فإن قلتم بالأولى خالفتم, وإن قلتم بالثانية رجعتم عن قولكم , والله أعلم .

هذا, وفي المسألة بسط أكثر من ذلك, لكن هذا خلاصة البحث, والله أعلم .

وإذا كان ذلك كذلك ؛ فعلى المأموم أن يقرأ الفاتحة خلف الإمام في السرية والجهرية ، فإن أمكنه أن يقرأ مع الإمام فعل , ولا دليل مع من منع من ذلك , أما سكوت الإمام حتى يقرأ المأموم ؛ فهذه السكتة ليس عليها دليل ثابت عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وقد صرح بعض أهل العلم بأن الإمام إذا سكت ليقرأ المأموم ؛ فسكوته هذا من جملة البدع المحدثة , وإذا كان المأموم يصلي وراء إمام يصر على السكوت ؛ فليسمع له في القراءة , ويقرأ إذا سكت , وإذا كان هناك إثم فعلى الإمام الذي يخالف السنة – وذلك بشروط معروفة عند العلماء – هذا ما تيسر من الكلام في هذا الموضع, ومن أراد البسط فلينظر في المطولات , والعلم عند الله – تعالى – . 

للتواصل معنا