السؤال : رجل دخل المسجد للصلاة , فوجد الصلاة قد أقيمت , ولم يصَلِّ الراتبة , فبعض الناس يقول له : ادخل مع الجماعة , والبعض يقول له : صلّ صلاة خفيفة وأدرك الجماعة , فما هو الصواب في هذه المسألة ؟
الجواب : قد يسر الله لي كتابة جزء خاص بهذه المسألة , فأسأل الله أن ييسر النفع به في الدارين , وخلاصة ما كتبته هنالك :
أن ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – قال في كتابه ” فتح الباري ” ( 6/59): ” ولا نعلم خلافًا أن إقامة الصلاة تقطع التطوع ، فيما عدا ركعتي الفجر , واختلفوا في ركعتي الفجر , هل تقطعهما الإقامة …” الخ ما قاله – رحمه الله- .
وفي ركعتي الفجر خلاف واسع :
فمن أهل العلم من يرى أنه لا يجوز لأحد أن يشرع في صلاة بعد إقامة الصلاة إلا المكتوبة , بل لا يُتم صلاة قد شرع فيها قبل الإقامة , وأقيمت الصلاة وهو يصلي , واستدلوا بحديث أبي هريرة عند مسلم : أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : ” إذا أقيمت الصلاة ؛ فلا صلاة إلا المكتوبة ” وقد أعله بعضهم بالوقف , ومن نظر فيمن رووه مرفوعًا ؛ علم أنهم أضعاف من أوقفه , فالرفع زيادة ثقة .
واستدلوا – أيضًا – بحديث أبي هريرة المتفق عليه : ” إذا أقيمت الصلاة ؛ فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون , وعليكم السكينة , وما أدركتم فصَلُّوا ، وما فاتكم فأتموا .. “, وفي رواية عند البخاري برقم (636) : ” إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة ..” الحديث .
قالوا : فظاهر الأمر الوجوب , وهو عام في جميع حالات المتنفل.
واستدلوا أيضًا بحديث عبدالله بن مالك ابن بحينة , أن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – رأى رجلاً , وقد أقيمت الصلاة – أي : صلاة الصبح – يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لاث به الناس – أي : أحاطوا به – وقال له رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ” آالصبح أربعًا ؟ آالصبح أربعًا ؟ “وفي رواية “ أتصلي الصبح أربعًا ” متفق عليه ، وعند مسلم بلفظ : مر رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – برجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح ، فكلمه بشيء لا ندري ما هو ، فلما انصرفنا أحطنا به ، نقول : ماذا قال لك رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: قال لي ” يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعًا ” ، والجمع بين هذا وذاك ؛ أنه كلمه مرتين : مرة سرًّا قبل الدخول في الصلاة , ومرة جهرًا بعد الانصراف منها , وفائدة التكرار تأكيد الإنكار , انظر ” فتح الباري ” للحافظ (2/149) .
واستدلوا بأثر لعمر في ضربه من صلاهما بعد الإقامة , ولا يصح , ففيه جابر الجعفي , وهو إلى الوهاء أقرب , ومن طريق أخرى فيه ابن أبي فروة ذاك التالف , واستدلوا أيضًا بأثر ابن عمر في رميه بالحصباء من صلاهما بعد الإقامة في المسجد , وهو صحيح عنه .
ومن أهل العلم من يرى صلاة النافلة بعد الإقامة إذا غلب على ظن المصلي أن الركعة الأولى لا تفوته , ومنه من يرى ذلك إذا كانت الركعة الأخيرة لا تفوته , واستدلوا بحديث علي – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كان يصلي ركعتي الفجر عند الإقامة , وسنده ضعيف , ففيه الحارث الأعور , والراجح ضعفه لا تركه , وفيه عنعنة أبي إسحاق ، وهو مدلس , ولو صح فليس فيه شاهد .
واستدلوا بأن ابن عباس , وابن مسعود , وأبا الدرداء – رضي الله عنهم – قد ثبت عنهم أنهم شرعوا في صلاة النافلة بعد الإقامة في ناحية المسجد , والناس يصلون , وأنت خبير بأن المسألة قد كثر فيها الاضطراب , ولا يؤخذ فيها بالآثار لتعارضها , والتحكيم فيها للسنة , لأن هؤلاء قد عارضهم ابن عمر , والسنة بقيت سالمة من المعارض , وليس مع من أجاز الشروع في النافلة بعد الإقامة دليل مرفوع يُرجع إليه.
واستدلوا بقوله تعالى : ] وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [ وقد أجاب عليه الشافعي , كما في ” تفسير القرطبي ” (16/255) بأن المقصود من الآية : نهْي الرجل أن يبطل ثواب عمله ، وقال أبو محمد بن حزم في “المحلى” (3/112) : إنه لم يبطلها , إنما أبطلها الله , فلا إثم عليه , اهـ بمعناه. لأن الرجل إذا كان مأمورًا بالدخول في المكتوبة وترك ما سِواها , فلا يكون قطعه للصلاة إبطالاً منه لها , فالآية تتكلم على من تعمد إبطال عمله .
ويُرَدُّ على من قال بجواز الصلاة إذا غلب على ظنه إدراك الجماعة حديث عبد الله بن سرجس الذي أخرجه الإمام مسلم قال : دخل رجل المسجد , ورسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في صلاة الغداة , فصلى ركعتين في جانب المسجد , ثم دخل مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم , فلمَّا سلَّم رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال : ” يا فلان ! بأي الصلاتين اعتددت ؟ أبصلاتك وحدك , أم بصلاتك معنا ؟! ” , قال الخطابي في ” معالم السنن ” : ” وفيه دلالة على أنه لا يجوز له أن يفعل ذلك , وإن كان الوقت يتسع للفراغ منهما قبل خروج الإمام من صلاته , لأن قوله : ” أو التي صليت معنا ” يدل على أنه أدرك الصلاة مع رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بعد فراغه من الركعتين ” اهـ. وبنحوه انظـر ” شـرح الإمام النووي لصحيح مسلم ” .
ومنهم من قال بجواز الصلاة للنافلة بعد الإقامة لكن خارج المسجد , كما فعل ابن عمر , وممن قال بهذا الإمام مالك – رحمه الله – وظاهر الأدلة تشمل كل من علم بالإقامة داخل المسجد وخارجه ، وإن كانت آكد داخل المسجد .
ومنهم من يرى أن المصلي إن كان قد شرع في الصلاة , وأتم ركعة كاملة , ثم أقيمت الصلاة ؛ فليتم صلاته , ويخفف فيها ليدرك الجماعة , واستدل بعموم حديث أبي هريرة المتفق عليه : ” من أدرك من الصلاة ركعة ؛ فقد أدرك الصلاة “, وقد ذهب لذلك شيخنا محمد بن صالح العثيمين – حفظه الله ومتع به – كما في ” الشرح الممتع ” (4/238) وحديث ابن بجينة السابق ليس فيه هذا التفصيل , وهو هنا أقرب للاستدلال به من حديث أبي هريرة , لأنه خاص في صلاة ركعتي الفجر قبل الإقامة , وقد أقيمت الصلاة أثناء صلاة الرجل , والنبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لم ينتظره حتى يفرغ من صلاته ويسأله : كم مضى من صلاتك عندما أقيمت الصلاة ؟ ولا سأل غيره عن ذلك , ومعلوم أن ترك الاستفصال ، مع قيام الاحتمال ؛ يُنَـزَّل منـزلة العموم في المقال , وعموم حديث أبي هريرة قد خصص بزيادة في مسلم : ” من أدرك مع الإمام ركعة فقد أدرك الصلاة ” والعام الذي لم يُخَصَّصْ يُقَدَّمْ على العام الذي اعتراه تخصيص , فإن التخصيص يضعف القوة العمومية , وحديث أبي هريرة هذا قد ذُكر لبيان أوقات الفرائض كما في ” الفتح ” وأما النوافل فوقتها أوسع من الفرائض , ألا ترى أن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قضى سنة الظهر بعد العصر ؛ لأنه شُغِلَ عنها بأحد الوفود , ولا يصح ذلك في الفريضة , ولا أعلم من قال بهذا التفصيل الدقيق الذي قال به شيخنا ابن عثيمين – حفظه الله وسلمه – وقد تكلمت على ذلك في الجزء الخاص بهذا المسألة .
وهناك أقول أخرى لست بحاجة للتعريج عليها هنا , فما ذكرت هنا هو أشهر المذاهب , والذي يترجح عندي في هذه المسألة : أنه لا يجوز الشروع في ركعتي الفجر إذا أقيمت الصلاة , لحديث أبي هريرة : ” إذا أقيمت الصلاة ؛ فلا صلاة إلا المكتوبة ” والمراد هنا بالإقامة قول المؤذن الذِّكْرَ المأثورَ للإعلام بالقيام للصلاة , لا مجرد تكبيرة الإحرام , لورود ذلك مصرحًا به في الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره .
وأما من شرع في صلاة النافلة ، ثم أقيمت صلاة الصبح ، فالأولى له أن يقطعها , سواءً كان في بيته أو في المسجد , ويدرك الجماعة في تكبيرة الإحرام , ولو فرضنا أنه لم يخرج منها ؛ فلا أحكم على صلاته – هذه – بالبطلان , لأن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لم يحكم على صلاة الرجل بالبطلان , إنما اكتفى بقوله : “أتصلي الصبح أربعًا ؟ ” أو : ” يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعًا ” وقد قال القرطبي في “تفسيره” ( 1/168) : ” ويمكن أن يستدل به أيضًا على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت , لأنه – عليه السلام – لم يقطع صلاته مع تمكنه من ذلك , والله أعلم ” . اهـ .
وقال الحافظ في ” الفتح ” (2/149) : “… لكن لما لم يقطع النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – صلاة المصلي , واقتصر على الإنكار ؛ دل ذلك على أن المراد نفي الكمال …” ثم تكلم الحافظ على أن النفي هنا بمعنى النهي , ثم قال : ” والنهي المذكور للتنـزيه , لما تقدم من كونه لم يقطع صلاته ” . اهـ .
بقي أن يقال : فكيف لو أقيمت الصلاة , وغلب على ظن المصلي للنافلة أنه سينتهي منها قبل شروع الإمام في تكبيرة الإحرام ، إما لعلمه أن من عادة الإمام تسوية الصفوف ، والتحري في ذلك ، أو لكونه في التشهد أو في نهايته , أو غير ذلك , فهل يكون الأولى في حقه الخروج من الصلاة عند شروع المؤذن في الإقامة ؟
والجواب : أننا لو نظرنا لظاهر الأدلة ؛ فهي تشمل هذه الحالة أيضًا ؛ لعموم : ” إذا أقيمت الصلاة ؛ فلا صلاة إلا المكتوبـة ” , ولما جـاء في ” صحيح البخاري ” من حديث أبي هريرة : ” إذا سمعتم الإقامة ؛ فامشوا إلى الصلاة .. ” الحديث , فإن قيل : لماذا لا يُتِمُّ المصلي صلاته ، فيستفيد من أجر النافلة والفريضة ؟ قيل : أما الأجر فهو على الله U , وطالما أنه مطيع لله في هذا ؛ فهو مأجور بطاعته وانقياده لله U , وليس عليـه إثم لقوله تعالى : ]مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ [ وما يُظن أن الله عز وجل يأمر عبده بأمر ، فيستجيب له ؛ ومع ذلك لا يُؤْجَر !! تعالى الله عن ذلك !! لكن النفس لا ترى أن هذه الحالة كغيرها مما تفوّت على المصلي تكبيرة الإحرام , بل ربما تفوت ركعة من الصلاة أو أكثر , ومن نظر إلى علة النهي التي قال بها بعض أهل العلم , وهي : التفرغ لصلاة الفريضة ؛ قال : إذا غلب على ظنه أنه ينتهي من النافلة قبل تكبير الإمام ؛ يتم صلاته , وإذا كان الاستمرار في الصلاة – في هذه الحالة ؛ يعرض صاحبه للإنكار – عند قوم – فإن الأمر يكون أشد إنكارًا إذا كان هذا المتنفل قائمًا بين الصفوف , مخالطًا لها , وهو مخالف لهم في الهيئة والنية , وقد قطع الصف , وفيه وعيد شديد ، حيث قال – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : ” من قطع صفًّا قطعه الله ” وقد صححه شيخنا الألباني – حفظه الله – .
وقد تكلم أهل العلم على علة هذا النهي بما لا تتسع له هذه الفتوى , إلا أنه يهمني هنا أن بعضهم – كالإمام الطحاوي – ذهب إلى أن العلة النهي عن وصل الصلاة بالصلاة , ومن أجل ذلك وغيره أباح التنفل في ناحية المسجد لمن غلب على ظنه الإدراك , وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره , والأمر كما قالوا , والله أعلم .
(تنبيه) : رُوي في بعض طرق حديث أبي هريرة : ” إذا أقمت الصلاة ؛ فلا صلاة إلا التي أقيمت , أو أقيمت لها ” ولا تصح هذه اللفظة .
وكذلك روي في بعض طرقه : ” إذا أخذ المؤذن في الإقامة ؛ فلا صلاة إلا المكتوبة ” , ولا تصح هذه اللفظة – أيضًا – في الحديث , وإن كان معناها ثابتًا من غير هذا الحديث , كما في حديث ابن بحينة عند مسلم – رحمه الله – .
هذا ما يسّر الله بتلخيصه في هذه المسألة , والعلم عند الله – تعالى -.