بقلم الشيخ

الفتاوى الشرعية في أحداث صَعْدَة

الحمد الله رب العالمين، والصلاة الأتمان الأكملان على سيد الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد … فقد ورد إليّ عدد من الأسئلة حول الفتن الجارية في بعض مديريات محافظة “صعدة” أقوم بالجواب عنها سائلاً المولى عز وجل أن يوفقني في ذلك، وأن يرزقني الهدى والسداد في أمري كله، وأن ينفع بها المسلمين، وإن ربي رحيم ودود.

  • السؤال الأول: نسمع هذه الأيام عبارات يتداولها كثير من الناس، كقول بعضهم: “الطائفة الفلانية روافض” أو “مِنَ الرافضة” أو “إثنا عشرية” فما معنى ذلك؟ وما هي عقائد الروافض والإثنى عشرية؟ وهل هي موافقة للكتاب والسنة، أم لا؟

 الجواب: الحمد الله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وخيرُ مَنْ فَزَعَ إليه المرء وبه اكتفى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سيد ولد آدم، الشفيع لمن سار على نهجه، وبفهم أصحابه تَمسَّك واقتفى، أما بعد …….

فإن الروافض فرقة قد انحرفت على طريق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه الكرام ـ رضي الله عنهم ـ ومع ذلك فقد تظاهرت بحب أهل بيت النبوة، والحقيقة أنها خذلتهم، ورفضتهم، فقد بايع منهم عدةُ آلاف زيدَ بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ ثم طلبوا منه أن يتبرأ من أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فقال: “كيف أتبرأ منهما؛ وهما وزيرا جدي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ؟” فرفضوه، ونكثوا بيعته، فسُمُّوا روافض ذلك.

وقد بالغوا في دعوى حُبَّ أهل البيت ونُصرتهم، حتى أتوا بفضائح وقبائح، يستحي منها أهل البيت، لأن الصديق الأحمق قد يقول في صاحبه ما يكون شينًا وعارًا عليه، حتى قال زين العابدين علي بن الحسين ـ رحمه الله ـ : “يا أهل العراق، أحبُّونا لحب الإسلام، فوالله لقد زاد حبكم بنا؛ حتى صار شينا([1]) وفي كتب الروافض نصوص عن جماعة من أهل البيت منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وابنه الحسين بن علي، وأخيه الحسن بن علي ـ رضي الله عنهم  جميعًا ـ وغيرهم من أبنائهم وأحفادهم ـ رحمهم الله ـ وهي نصوص صريحة في أن الروافض قد خذلوهم، وأنهم بايعوهم ونكثوا بيعتهم، ومكروا بهم، إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على أن الروافض أصحاب شعارات وهمية، وحقيقتهم غير ذلك، وأن هذه الشعارات كالسراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وصدق من قال:

لا يسْتَنزِ لَّك أقوام بأقوال        ***        ملفقات حريات بإبطال

فلا يغتر بذلك إلا جاهل بعقيدة أهل السنة وتاريخ ومواقف الروافض عبر الأحداث التي مرت بها أمة الإسلام، وصدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم القائل : ” لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين “([2]) وصدق من قال:

وراعِي الشاة يحمي الذئب عنها      ***      فكيف إذا الرعاة لها ذئاب

وكل صاحب باطل لا ينفق باطله إلا بشعارات مقبولة، أو نسب دعوته إلى طائفة مرغوب فيها، أو إمام له قدم صدق في الأمة، فالروافض ادّعوا حب أهل البيت؛ ليدسوا باطلهم، ويَنْفُثوا سمومهم، والخوارج خرجوا على أمير المؤمنين علي، وكفَّروا الصحابة رافعين هذا الشعار: ( إن الحكم لله ) وهم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، وأفراخ الفلاسفة أصحابُ عِلْمِ الكلام ادعوا أن الإيمان لا يُعرف إلا بطريقتهم، وأنهم أهل التحقيق والنظر، وغيرهم مهما بلغوا من العلم فهم من الحشوية المقلدة، الذين لا يفهمون ما يحفظون!! وهكذا اتخذ أهل الباطل هذه السبل لترويج بضاعتهم الكاسدة وقواعدهم الفاسدة، لكن  الهدى هدى الله [وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] {النور:40}.

ومعلوم أن أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قد هلكتْ فيه فرقتان: فرقة غَلَت في حبه، ووصفته بما لا يجوز أن يُوصَفَ به، حتى وصَفَتْهَ بصفات الرب عز وجل، وتفَرَّقَت هذه الفرقة إلى فرق كثيرة، وتفاوتت في غُلُوِّها، وتباينت في معتقداتها، وفرقةٌ جَفَته وتنقَّصَتْه، ولم تعطه حقه، وهم النواصب، ولذا قال علي ـ رضي الله عنه ـ : ” ليُحبني قوم ـ  أي ويبالغون في ذلك ـ حتى يدخلوا النار فَّي، ولَيُبْغضني قوم حتى يدخلوا النار في بغضي ” وقال أيضًا[3]: ” يهلك فيَّ رجلان: مفرط في حبي ومفرط في بغضي”[4].

وقد قال القحطاني في نونيته في حق علي ـ رضي الله عنه ـ:

 

واحفظ لأهل البيت واجبَ حقِّهم         ***         واعرف عليًا أيمـا عـرفان

لاتنتَقصه ولاتَـــزدْ في قـدره         ***         فعليه تَصـلى النارَ طائفتان

إحــدهما لا تـرضيه خلـيفةً          ***         وتنصُّه الأخــرى إلهًا ثاني

فالواجب أن نحب جميع الصحابة ـ رضي الله عنهم، ومن جملتهم علي ـ حبًا شرعيًا، لا إفراط ولا تفريط، وقد مدح الله الوسطية فقال: ( [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] {البقرة:143}  ).

ولقد دخل الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس على الروافض، فَغَلَوْا وجَفوا، وكفَّروا جمهور الصحابة، وزعموا أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا نفرًا يسيرًا،وتجرءوا على الخلفاء الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ وكفَّروهم، ولعنوهم، ولعنوا من لم يلعنهم، وكلما كان الشخص سبابًا لعانًا لخيرة هذه الأمة ـ وهم الصحابة ـ بعد رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؛ كان مُقَرَّبًا عندهم، ومُبَجَّلاً في صفوفهم، وكذبوا عليهم، وعابوهم بما ليس فيهم، أو بما لهم فيه تأويل سائغ، وربما هو مغفور لهم، إما شهادة القرآن والرسول الذي بشرهم بالجنة، أو لتوبة صادقة، أو لحسنات غالبة، أو لمصائب مكفِّره، ونحو ذلك ،وصدق من قال:

إذا لم تصُنْ عِرْضًا ولم تخشَ خالقًا     ***     وتستحِ مخلوقًا فما شئتَ فاصنعِ

ثم كيف يمدحون الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويخوَّنون الصحابة، والمرء من خليله؟! فهل كان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصاحبهم وهم ألوف مؤلَّفة يبطنون الكفر ؟! ولماذا لم يخبره الله بأنهم سيرتدون بعد موته ، حتى يُحَذِّر أمته منهم، ومع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يترك أمرًا يسيرًا حتى آداب الخلاء إلا وأخبر بها ، ولم يترك طائرًا في الهواء إلا جاءنا منه بخبر؟ ولذا فقد قال القحطاني :

إن الروافض شرُ منْ وطئ الحصى         ***        مِن كل إنس ناطـقٍ أو جان

مدحـوا النـبي وخوَّنوا أصحابه         ***        ورَموهمُ بالظلـم والعـدوان

حَبُّـوا قرابتـه وسَبُّـوا صَحبه          ***        جَدَلان عنــد الله منتقضان

فكـأنما آل النبـي وصحبــه         ***        روح يضـم جميعها جسدان

فئتان عقـدهما شريـعة أحمـد         ***         بأبي وأمـي ذانك الفئتـان

فئتان سالكتان في سُبُلِ الهـدى          ***         وهما بــدين الله قائـمتان

ومعلوم أن الطعن في الصحابة؛ طَعْنٌ في الدين الذي نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لأنهم الشهود الذين شهدوا نزول الوحي، وصحبوا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحل والترحال، والسفر والحضر، وهم الذين يحكون وينقلون لنا كل ما جرى من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فإذا كانوا كفارًا، أو فساقًا، أو خونة ـ كما تزعم الروافض قبحهم الله ـ فكيف نستأمنهم على الدين؟!! وإذا رددنا رواياتهم؛ بطل الدين، وخطبت الزنادقة على المنابر، وظهرت الدجاجلة، وهذا مآل من طعن في الصحابة، ونعوذ بالله من الَحْورِ بعد الكَوْرِ!!!

وإذا كان اليهود لا يَسٌبُّون أصحاب موسى عليه السلام، والنصارى لا يَسُبُّون حواري عيسى عليه السلام، فكيف يَسُبُّ الروافض أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهم أفضل من حواري موسى وعيسى؟!! إن هذا لشيء عجاب!!!

فيا ويح الروافض الذين جعلوا شرار هذه الأمة أولها وخيرتها، ويردُّون على الله حكمه فيهم، فيشهدون بالنار على من وعدهم الله بالجنة !!!

أليس الله عز وجل يقول في الصحابة:[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:100} ؟ فالله تعالى يٌبَشِّر الصحابة بالجنة قائلاً: [خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا] {النساء:57}  والروافض يزعمون أنهم ارتدوا !! فكيف يكونون مخلدين في الجنة أبد الآباد، وهم مرتدون؟! هل نصدق الله عز وجل، أم نصدق الروافض الذين عُرفوا بالجهل والزور والبهتان؟! [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا] {النساء:122} ،[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا] {النساء:87}؟

والله عز وجل يقول في حق الصحابة: [لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى] {الحديد:10} فالله عز وجل يقول في الصحابة: ([وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى] {النساء:95} والروافض يكفرونهم، ويشهدون لهم بالنار !!!

والله تعالى يقول: في الصحابة الذين جاهدوا في سبيل الله:[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] {الأحزاب:23}  بل إن الله سبحانه يفرض على الناس أن يؤمنوا بمثل ما آمن به الصحابة، فيقول سبحانه جل شأنه: [فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا] {البقرة:137}  ويقول عز وجل: [وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:115}  فلو كانوا كفارًا، أو أنهم سيكفرون بعد ذلك؛ فكيف يفْرض على من بعدهم أن يؤمنوا بمثل إيمانهم، ويلزموا سبيلهم؟!!

والله تعالى يقول مادحًا الصحابة : [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ] {الفتح:29}  الآية.

فهل يصف الله الصحابة في الكتب السابقة: التوراة والإنجيل بالوصف الحسن، ويصفهم في القرآن بأنهم أشداء على الكفار، ثم نُصَدِّق بعد ذلك الروافض في إفكهم وزعمهم أن الصحابة ارتدوا جميعًا إلا النفر القليل؟!!!

ولقد جاء في ” صحيح مسلم”[5] من حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ” النجوم أَمَنَةٌ للسماء، فإذا ذهَبَتِ النجومُ؛ أتى السماء ما توعدون، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهَبَتُ؛ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أَمَنَةُ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي؛ أتى أمتي ما يوعدون ” فكيف يكون أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ أَمَنَةً لأمته بعد موته ـ  صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهم كفار على زعم الروافض؟!!!

وفي ” الصحيحين “[6] أن رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ” خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم …” فلو كانوا سيرتدون كما زعمت الرافضة؛ فكيف يمدحهم بأنهم خير الناس، بل يمدح من بعدهم بهذا المدح؟!!

والكلام على الروافض ومعتقدهم في عبادة المقبورين، والقول بخلق القرآن، وزعمهم أن القرآن محرَّف، وأنه ناقص قَدر الثلثين، وأنه لا يظهر كاملاً إلا مع مهديهم وموالاتهم للنصارى عبر التاريخ الماضي والحاضر ضد المسلمين، وغير ذلك من العقائد الباطلة يطول ذكره، وقد فصَّلْت ذلك في أشرطة أربعة بعنوان: ” الروافض عبر التاريخ ” وفي هذا القدر كفاية لمن أراد الله له الهداية.

وأما الإثنا عشرية: فهم من أشهر فِرَقِ الروافض بُعدًْا عن السنة ـ فإنهم فوق ما سبق ذِكره ـ يعتقدون في الأئمة الانثى عشر ـ ومنهم من هو صحابي، ومنهم من هو عالم فاضل، ومنهم من لا يُعرف بعلم، ومنهم من هو خرافة لا عين له ولا أثر ـ فيعتقدون أنهم  أعلى منزلة من الملائكة المقَّربين، والأنبياء المرسلين، وحتى قال الخميني ـ كبيرهم في هذا العصر ـ: ” فإن للإمام مقامًا محمودًا، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية، تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وإنه من ضروريات مذهبنا: إن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه مَلَكٌ مقرب، ولا نبي مرسل”[7] )ونحن وإن أحببنا عليًا وولديه ـ رضي الله عنهم ـ فضلاً عمن دونهم فلا ننزلهم منزلة نبي واحد من الأنبياء فضلاً عن جميعهم، فضلاً عن جعل الأنبياء دونهم!! وأيضًا فذرات الكون لا تخضع إلا لله عز وجل مالك السماوات والأرض، ولكن الروافض أهل جهالات ومجازفات!!!.

وأما وصفهم  علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بأوصاف الرب جل جلاله، ومذهبهم في المتعة والخُمُس وغير ذلك؛ فهذا بَحر لا ساحل له، وبلاء لا يغطيه ليل، ولا يستره ذيل، ومن سمع ورأى ما يجري في الحسينيات والديوانيات؛ رأى ما يندى له الجبين، وما يكون عارًا على الإسلام وأهله، وما يجلب التَّفكُة والتّنَذُّر من أعداء الإسلام بهذا الدين، ومن قلّب صفحات كتب أهل السنة؛ عَلم أن هذه الفرقة لا ترى عدوًا لها إلا أهل السنة، فيستحلون دماءهم وأموالهم وأعراضهم، ويعتقدون فيهم أقبح وأخبث العقائد، لكن اتخاذهم التقيه شعارًا ودثارًا ـ فيُبْطنون شيئًا، ويُظهرون خلافه ـ هو الذي جعل باطلهم يروج ويَنْفُقُ على جهالة أهل السنة، وعلى كثير من المسلمين [وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:21}، وصدق من قال:

لكل ساقطةٍ في الجو لا قطةٌ         ***       وكلُّ كاسدةٍ يومًا لها سوق

وهذه عقيدة الروافض والفرقة الأثنى عشرية عبر التاريخ، وقد ينتمي إليهم ـ مغترا بهم ـ من يجهل هذا أو بعضه، فالجاهل يُعلَّم ويُحذّر من الدخول في ظلمات بعضها فوق بعض، والمستبصر بذلك نسأل الله أن يهديه، ويكفي المسلمين شره.

 

  • السؤال الثاني: في كثير من الحالات نرى هؤلاء الروافض يتسترون بمذهب الزيدية؛ ليقبلهم الناس في اليمن، فهل الروافض والإثنا عشرية من الزيدية، أم بينهما فرق؟

الجواب: بل بينهما فرق واسع، وبَون شاسع، فالزيدية  ـ متمسكون بما عليه زيد بن علي بن الحسين رحمة واسعة ـ لا يَسُبُون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل يتَرضّون عنهم، ويُثنون  عليهم خيرًا، وقد سبق أن زيدًا قد طلب منه الروافضُ أن يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فأصر على موالاتهما، وقال: ” كيف أتبرأ منهما؛ وهما وزيرا جدي” بل قد قال شيخ الإسلام بن تيمية ـ رحمه الله ـ[8]: ” قد تواتر عن علي  من الوجوه الكثيرة أنه قال عَلَى منبر الكوفة ـ وقد أسمع من حَضر ـ: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ” وقال شيخ الإسلام[9] ” رُوي  هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهًا، ورواه البخاري وغيره [10] ” ا.هـ

وزيد بن علي بن الحسين بن علي ـ رضي الله عنهم ـ متبع لآبائه في موالاة الشيخين وغيرهما، فإن صالحي أهل البيت هم الصحابة وأتباعهم في خندق واحد ضد من خالف سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فمن اتبع سبيلهم؛ فموفّق، ومن ابتدع طريقًا آخر؛ فما عليه مُعَوَّلٌ، ولا يهلك على الله إلا هالك.

وقد يتسلل الروافض بعض حِيَلِهِمْ وَمكْرهم على بعض من يقول: إنه من أتباع زيد بن علي، فيوغرون صدورهم على بعض الصحابة، ويبثون فيهم عقائد ليست عقيدة زيد ـ رحمه الله ـ ولا غيره من أهل العلم، فمن اغتر بمكرهم فقد خالف زيدًا وأهل البيت، ولا يضر إلا نفسه بطعنه في الصحابة، ويقال له :

ألا أيها الناطحُ الجبلَ العالي ليوهنه     ***     أَشفِقْ على الرأس لا تُشفق على الجبل

وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ” سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر [11]” وقال: ” لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة [12]” وقال: ” كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه ..[13] “وإذا كان هذا فيمن سب رجلاً من عَرْض المسلمين؛ فكيف بمن سب أفضل هذه الأمة بعد نبيها؟ فكيف بمن كفّرهم، ولعنهم؟!!

هذا، وقد أعلن عدد من علماء الزيدية في اليمن براءتهم من معتقد الإثني عشرية، ومن الفتنة التي أثاروها في البلاد، فجزاهم الله خيرًا على ذلك.

السؤال الثالث: إن الروافض يُشِيعون كثيرًا أن أهل السنة لا يحبون أهل البيت، وأنهم أعدائهم، ويوهمون كثيرًا من أهل البيت بذلك، حتى نفر كثير من أهل البيت عن أهل السنة بسبب هذه الافتراءات، فما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في أهل بيت النبوة؟ وما هي النصيحة لهم فيذلك؟

الجواب: من كان صالحًا من أهل البيت؛ فله حقان: الأول: حق الإسلام والتقوى، والثاني: حق القرابة من رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأما من كان منهم قاطع طريق، أو سفاكًا للدماء، أو تاركًا للصلاة، أو مشعوذًا دجالاً، أو معتنقًا لعقيدة كُفْرية أو بِدعية؛ فإننا نتقرب إلى الله تعالى ببغضه ـ كغيره من العصاة أو المجرمين ـ وذلك بعد نصحه، واستيفاء الشروط، وانتفاء الموانع في حقه، فنحن لا نحب إلا في الله،ولا نبغض إلا في الله.

وللعلماء أقوال في تحديد  المراد بأهل البيت؛ فمنهم من يقول: هم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول: هم قرابته عامة، ومنهم من يقول: هم الذين مُنِعُوا الصدقة، وهم آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس، ومنهم من يقول: هم من ناصروه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآمنوا به من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم.

وعلى كل حال فالمنتسبون اليوم ـ حقًا ـ إلى آل علي ـ الحسن والحسين رضي الله عنهما ـ داخلون في آله صلى الله عليه وسلم، وصالحوهم لهم على المسلمين حق الصلاح وحق القرابة، وقد قال الله سبحانه وتعالى في حق قرابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كما في بعض وجوه التفسير ـ: [قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى] {الشُّورى:23} فإذا كان المشركون ـ على هذا التفسير ـ مخاطبين بالإحسان إلى قرابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وكانت قرابته في كل بطن من قريش ـ وقد كان بعض قرابته عند نزول الآية لم يُسلِم بعد، فكيف بصالحي قرابته في هذا العصر ؟!! لا شك أنهم أولى بمراعاة حقهم وحرمتهم دون وكس أو شطط.

وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ” أيها الناس، إني قد تركتُ فيكم ما إن أخذتم به؛ لن تضلوا: كتاب الله،  وعترتي أهل بيتي [14]” وفي صحيح مسلم”[15]  من حديث زيد بن أرقم، قال: قام الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يُدعي ( خمًّا ) بين مكة والمدينة، فحمد الله ، وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، ثم قال : ” أما بعد،ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولها: كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك به، وأخذ به؛ كان على هدى، ومن أخطأه ضل، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به ” فَحَثَّ على كتاب الله،ورغب فيه، ثم قال: ” وأهل بيتي، أُذكِّركم الله في أهل بيتي، أُذكِّركم الله في أهل بيتي ” أي احفظوا لهم حقهم ما أقاموا الدين، وإلا فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : مَن بطأ به عمله؛ لم يُسرع به نسبه [16]

ويقول : ” إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين[17]

وقد قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في فضائل قرابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم  : ” والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أحبُّ إلى أن أصل من قرابتي[18]

وقد ورد في فضل علي ـ رضي الله عنه ـ أحاديث كثيرة، حتى صنَّف الإمام النسائي ـ رحمه الله ـ كتابًا في ” خصائص علي ” وورد في فضل فاطمة والحسن والحسين ـ رضي الله عنهم ـ أحاديث لا يترك العمل بها إلا مبتدعة النواصب والخوارج ومن سلك سبيلهم، وقد تكلمت عن هذا بتوسع في كتابي ” سلسلة الفتاوى الشرعية ” جوابًا على السؤال (40)   .

فهذا كله يدل على أن أهل السنة ـ قديمًا وحديثًا ـ هم الذين يعرفون لصالحلي  أهل البيت حقهم دون إفراط أو تفريط، ولذلك فإنني أوجه لآبائنا وإخوننا وأبنائنا من أهل بيت النبوة نصيحة محبَّ ومشفق:

أن يقوموا ـ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ـ بما كان عليه جدهم صلوات ربي وسلامه عليه ـ دون أن يأخذهم في ذلك شيء من الكبر والفخر ـ وأن يكونوا خير خلف لخير سلف، وأن يحفظوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم حقهم، فهم أنصار هذا الدين، وفرسانه، ورجاله، ومن أحبهم؛ فهو صادق في محبة النبي صلوات ربي وسلامه عليه، ومن أبغضهم؛ فقد ضل ضلالاً بعيدًا.

وليحذر أهل البيت من حيل الروافض، الذين يتظاهرون لهم بأنهم شيعتهم وأنصارهم، وصدق من قال:

إن الأفاعي وإن لانَت ملامسُها   ***    عند التقلُبِ في أنيابها العطبُ

وقول من قال:

وراعي الشاة يحمي الذئبَ عنها    ***     فكيف إذا الرعاةُ لها ذئابُ؟!!

وليرجعوا للتاريخ الصحيح لا المزيف، ولينظروا في كتب السنة المعتمدة،وليطالعوا مقالات مشاهير الأئمة كمالك  والشافعي وأحمد والسفيانين والحمّادين والبخاري وغيرهم ممن قبلهم أو بعدهم، ليعرفوا من هم أنصار أهل البيت ـ حقًا  ـ بالكتاب والسنة، لا بالشعارات السَّرابية، وليعلموا أيضًا أن صالحي أهل البيت لم يكونوا يومًا من الأيام أعداء الصحابة، بل إنهم قد نصروهم،وتتلمذوا عليهم وعلى مَنْ أَخذَ العلم عنهم، فحذا ري حذاري يا أهل البيت من أن تغتروا بشبه وتلبيسات الروافض، فسلفكُم من أئمة السنة، وبيتكم بيت السنة، فلا تخرجوا من بيت السنة إلى بيت الرفض والفتنة، فإن أخذتم بذلك؛ وإلا [فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ] {غافر:44} وعلى كل حال فالدين منصور بنا أو بغيرنا، وقد قال تعالى: [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] {محمد:38}  ويقول تبارك اسمه وتعالى جدُه : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ] {المائدة:54} .

  • السؤال الرابع : سمعنا من جهات كثيرة: أن جماعة في ” صعدة ” يَدْعُون الناس إلى طائفة ” الإثنى عشرية ” وأنهم رَفَعوا علمًا غير علم الجمهورية اليمنية، وأفتوا بعدم السمع والطاعة لرئيس البلاد، واستحلوا دماء الجنود، حتى حصل قَتل وقتال بينهم ومن ناصرهم من القبائل وبين الجيش، فهل هذه الأفعال جائزة شرعًا؟

الجواب: لا شك أن هذا كله لا يجوز شرعًا ولا عُرفًا، فقد سبق بيان معتقد فرقة الإثنى عشرية عبر التاريخ، وأنه معتقد باطل، وزُخرف زائل، وأنه فساد كبير في البلاد والعباد، فإن كان المتمردون على هذه العقيدة؛ فهذه فتنة الدين التي هي أعظم من كل شيء والله تعالى يقول : [وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا] {المائدة:41}  ويقول عز وجل : [وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] {النور:40} .

وأما رفع عَلم آخر على شيء من أراضي البلاد اليمنية فهو افتئات وخروج عن الطاعة، وهذا محرم شرعًا، فإن الناس قد اجتمعت في اليمن كلمتهم شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا على السمع والطاعة لرئيس الجمهورية اليمنية ـ زاده الله حكمة وتوفيقا، وأصلحه وأصلح به ـ وقد حقن الله به كثير من الدماء، ودفَعَ الله به عن اليمن كثيرًا من المحن، وهذا أمر قد شهد به العدو والصديق، والحق ماشهدت به الأعداء فالخروج عليه خروج عن الطاعة، وفتح باب للشر والفساد، والدين بنصوصه وقواعده وفتاوى علمائه يحرم ذلك أشد التحريم، فقد قال تعالى: [وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] {الأنفال:46} وقال عز وجل : [أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] {النساء:59}  ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حق الأمراء ـ وإن كانوا ظالمين ـ ” إنكم سترون أثرة وأمورًا تنكرونها” قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال ” أَدُوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم “[19] وسأله سلمة بن يزيد، فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء: يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس،فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ” اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُملوا،وعليكم ما حُملتم “[20]، وعند مسلم[21] من حديث حذيفة في وصف فتنة بعض الأمراء، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ” يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي، ولا يَسْتَنُّون بسَنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس ” قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله عن كنت أدركتُ ذلك؟ قال: ” تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع “.

ولما خرج أبو ذر إلى الرَّبذة ” لقيه رَكبٌ من أهل العراق، فقالوا: يا أبا ذر، قد بلغنا الذي صُنِعَ بك، فاعقد لواءً؛ يأتيك رجال ما شئت، قال: مهلاً مهلاً يا أهل الإسلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: “سيكون بعدي سلطان فأعزوه، من التمس ذٌلّه؛ ثَغَر تَغرة في الإسلام، ولا تُقبل منه توبة حتى يعيدها كما كانت”[22]

ومن المعلوم أن السمع والطاعة لولاة الأمور أَصْلٌ عظيم عند أهل السنة والجماعة قديمًا وحديثًا، وما سُمُوا بهذا الاسم إلا لاجتماعهم على السنة والولاة ـ وإن ظلموا ـ وقاموا بواجب الاتباع والاجتماع، وكم من طائفة خرجت على الحاكم تريد أن تغير المنكر؛ فأتت بمنكر أكبر من ذلك، وأهل السنة لهم اليد البيضاء في هذا الباب وكل باب بخلاف غيرهم من الفرق، لأنهم يعلمون أن الباغي له شوكة، والحاكم له شوكة، وسيكون القتل والقتال في الجميع ـ وكلهم مسلمون ـ وهذا شر أعظم من كثير من منكرات الحكام، فيرون الصبر لذلك، وعملاً بالأحاديث الدالة على ذلك، لا تزلفًا وطمعًا في دنيا الحاكم ـ كما يفتري عليهم الجهلة ـ فإن علماء السنة أبعد الناس عن ذلك، كما يشهد الواقع سلفًا وخلفًا، وصدق من قال:

فهذا الحق ليس به خفاء  ***   فدعني من بُنَيَّات الطريق

والفقه كل الفقه في العمل بخير الخيرين، واجتناب شر الشرين، مع الصبر على الشر الأقل إن عجز المرء عن دفع الشرين إلا بذلك،وقد ذكر العلماء ـ رحمهم الله ـ أن سبب الفتنة راجع إلى ترك هذا الأصل، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: ” لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان؛ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته”[23] وقال أيضًا: ” وَقلَّ مَن خرج على إمام ذي سلطان؛ إلا كان ما تولد عن فعله مِنِ الشر أعظم مما تَوَلَّد من الخير …” وذكر رحمه الله من خرج على بني أمية والعباس،ثم قال: ” فلا أقاموا دينًا، ولا أَبْقوا دُنْيا والله تعالى لا يأمر بأمر لا يصلح به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا،وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين …” إلى أن قال: ” ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وصاروا يَذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم”[24]

وقال تلميذه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ” إذا كان المنكر يَستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره ـ وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله ـ وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر …” إلى أن قال ـ رحمه الله ـ: ” ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار؛ رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على المنكر، فَطَلبَ إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه …”[25] وصدق من قال:

ذو الحْزمِ لا يبتدي أمرًا يِهِمُّ به     ***     حتى يُطَالِعَ ما تبدو عواقبه

فهذه نصوص الكتاب والسنة، وهذه قواعد الأئمة وفتاويهم في منع الخروج على ولي الأمر ـ وإن كان طالبًا لتغيير منكر ـ فكيف بمن يخرج طعمًا في مال، أو طلبًا لِمُلك، أو غير ذلك؟!! فمن لم تنفعه أدلة الكتاب والسنة وتجارب السلف؛ فلن تملك له من الله شيئًا، والله عز وجل يقول :[فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ] {المرسلات:50} ويقول:[تِلْكَ آَيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ] {الجاثية:6} ؟!!

ولا شك أن من يكون سببًا في زعزعة الأمن، وتطاول أعناق المتربصين في الداخل والخارج، وإثارة الفتنة بالقتل؛ فقد ثغر في الإسلام ثغرة لا تُسد ما بقي الليل والنهار، إلا أن يشاء ربي شيئًا.    

وكثير من القبائل ـ للأسف ـ يفرحون بهذه الفتن التي تكون في الداخل، أو على الحدود التي بين الدول، ظانين أن هذا متنفسًا لهم، وأنهم سيعيشون في الليل مع جهة، وفي النهار مع جهة أخرى، ليجمعوا حطام الدنيا الفاني أو يخرجون من تحت أمر السلطان، بزعم طلب الحرية والعزة،!! ويجب عليهم أن يعلموا أن الفتن إذا طالت؛ فلا بد أن يقيئوا ما ابتلعوا أضعافًا مضاعفة، فيخسروا دينهم ودنياهم، وعرضهم وأرضهم، وإذا لم يصبروا على من هو منهم ـ مع كثرة محاسنه، وإن أخطأ في جهات أخرى ـ فربما يضطرون إلى الصبر على الأجنبي، وخسارة الدنيا قد تُعوض مع الصبر، وأما خسارة الدين، والاستنصار بالأجانب الحاقدين فلا طِبَّ لها، وقد قال تعالى: [قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] {الزُّمر:15} وبعض الناس يريد أن يُطِبَّ زكامًا؛ فيُحدث جذامًا، والله المستعان.

وإني لأسال الله أن يحفظ بلاد المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزق المسلمين العفاف والورع، وأن يُعَظم في قلوبهم نعمة الأمن والأمان، وحرمة الدماء والأموال، وإنه على كل شيء قدير.

  • السؤال السادس: لقد قرأنا في بعض الصحف: أن بعض الأحزاب المعارضة تعاطفوا مع الخارجين عن الطاعة في ” صعدة ” بحجة أن هؤلاء إنما يرددون شعارات معادية لأمريكا وإسرائيل، فيقولون: الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، ويُنظمون مظاهرات ومسيرات تهتف بذلك، فهل هذا يُسوِّغ لهم التعاطف معهم؟

الجواب: هذه الشعارات جوفاء فارغة وراءها ماوراءها، وصدق من قال:

فلا تقنع بأولِ ما تراه    ***    فأول طالعٍ فَجرٌ كذوبُ

ومن أراد أن يحارب أمريكا واليهود؛ فلماذا لا يذهب إلى فلسطين والعراق، فيدفع عن المسلمين هناك بعض ما يجري لهم؟ فهل يوجد في ” صعدة ” جنود أمريكية أو يهودية؟ ولو وجُد من الأمريكان أحد في اليمن؛ فهل يجوز قتله وهو معاهَد، وقد دخل بأمان؟ ولو فرضنا أنه قد أخل بالعهد؛ فهل عقابه على ولاة الأمور، أم لآحاد الرعاية؟!! ولو قصَّر ولي الأمر، أو تركه لِعُذر؛ فهل المسلمون قادرون على الدخول في حرب مع غيرهم،وهم وغيرهم على الحال الذي لا يخفى؟!! كل هذه أمور لا بد من مراعاتها، وقد تكلمت عنها في كتابي: ” فتنة التفجيرات والاغتيالات ” ثم هل قَتَل هؤلاء المتمردون بأعمالهم هذه أحدًا من أمريكا أو إسرائيل؟ أم أن القتل في الجنود والقبائل اليمنية من الجانبين؟! وهل نُصَدِّقُهم في أن الحكومة لا تقاتلهم إلا من أجل هذه الشعارات؟! وهاهي كثير من مساجد اليمن تعج بالكلام والاستنكار لأعمال أمريكا وإسرائيل في العالم الإسلامي ـ لا سيما في فلسطين والعراق ـ ومع ذلك فلم تقاتلهم الحكومة اليمنية، بل إن إذاعة وصحف وكلمات كبار المسئولين في اليمن تصرح بما هو أكثر من ذلك!!! فاحذروا الشعارات البراقة المزخرفة، ولا تنسوا أعمال الروافض بأهل السنة عبر التاريخ ـ إن تمكَّنوا ـ ففي ذمة مَن قتلُ هؤلاء المسلمين؟ ولصالح من تُراق هذه الدماء، وتُزهق الأنفس؟ ومن المستفيد من زعزعة الأمن، وخلخلة الثقة في أمن البلاد وقدرتها على الحفاظ على زمام الأمور؟ ومن الذي يعجبه الخدش في هيبة السلطان وتجرؤ الناس عليه؟أليس السلطان ظل الله في الأرض، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ـ وإن كان الظل ليس سابغًا ـ؟!! أليس الأمن مظلة يستظل بها الجميع الراعي والرعية؟ ولولا الله ثم الأمن لما عُمرت المساجد، وما استأمن رجل على نفسه وأهله وماله في طريق أو بيت!! أليس السلف كانوا يقولون: سلطانُ غَشُوم خير من فتنة تدوم؟ ويقولون: ستون سَنَة مع إمام جائر، خير من ليلة واحدة بلا سلطان؟ وقد قال ابن المبارك ـ العالم العابد الزاهد المجاهد ـ:

الله يدفع بالسلـطان معضلة        ***     عن ديننا رحمة منه ورضوانا

لولا الأئمة لم تأمَنْ لنا سُبثلٌ         ***    وكـان أضْعَفُنا نهـًْا لأقوانا

إن الواجب على جميع طوائف الشعب أن يُنكروا هذه الفتنة بالقال والحال، ولا يجوز لهم أن يُسوَّغوها، أو يلتمسوا لها المعاذير، أو يهوَّنوا من أمرها، أو يتعاطفوا مع فكر يَسبَحُ في بحر من الدماء، وينشط في جو قد أظلم بالفتنة والبلاء، فإن دين الإسلام برئ من هذا كله.

يقول الله سبحانه وتعالى : [وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا] {النساء:107} ويقول تبارك وتعالى: [هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا] {النساء:109} ويقول جل شأنه: [وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ] {هود:113} .

إن الواجب على أحزاب المعارضة وغيرهم أن يُقدموا مصلحة البلاد، وأمنها ، واستقرارها، والحفاظ على مقدراتها وممتلكاتها، على جميع الخلافات الحزبية، وألا يجعلوا البلاد مهدَّدة الأركان واهية البنيان من أجل تصفية حسابات حزبية أو شخصية، وليحذروا من القاعدة الباطلة المتواترة: ” عَدُو عَدُوي صديقي ” ولا يحملهم بغضهم لشخص أو حزب ـ وإن كنا لا نُقر المنكر من أي أحد كبر أم صغر، حاكمًا أو محكومًا ـ على إعانة من شَرُّهُ عظيم، وخطره جسيم، بل لا يجوز إعانة من خرج على الحاكم ، وإن كان ظالمًا ـ وتسبب في الفساد؛ وإن كان الخارج عليه من أولياء الله الصالحين، أو العلماء العالمين!!! فليست هذه الطريقة الصحيحة في تغيير المنكر، وتقويم الاعوجاج، والواجب أن يأتوا البيوت من أبوابها .

وإذا كان اللوم متوجهًا إلى كل من ناصر أصحاب هذه الفتن فيفتنهم ـ ولو بشطر كلمة  ـ فإن إلقاء اللوم والعتاب على من يذكر  ـ منهم ـ في شعاراته وبرامجه المسائل الدينية أشد وأشد، فالواجب أن تكون المواقف نابعة من العقيدة الصافية، لا من سياسات ملتوية، والواجب عليهم أن يحافظوا على ما بقي من خير في البلاد، ويحاولوا ـ بالتي هي أحسن ـ تقويم ما بقي، لا أن يعينوا مَنْ حمل معاول الهدم لتقويض هذا البنيان، والذي هو حصاد وجهد أمة في هذا البلد منذ عشرات السنين !!!

وإن لم ينظروا بنظرة شرعية ـ وأرجوا ألا يكونوا كذلك؛ لأن هذا وحده هو الحق ـ فلينظروا بنظرة ديمقراطية ـ كما يُدَنْدِنُون بذلك كثيرًا ـ فالديمقراطية لا تقر إشهار السلاح في وجه الحاكم،بل تنادي بالتداول السلمي للسلطة !!! ثم لو آلت السلطة بأيدي المعارضة أو بعضهم؛ فهل سيرضون أنُ يعامَلوا بهذه المعاملة؟!! والمؤمن يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه، والله المستعان!!

وإني لأُهيب بالعلماء والصادقين على مصلحة البلاد في المعارضة وغيرها ألا ينجروا وراء اجتهادات خاطئة من المنظرين والسياسيين فيهم، وأن يدركوا أن المصلحة الحقيقية كائنة في الطاعة لولي الأمر في المعروف ـ مع النصح بالتي هي أحسن ـ وهذا مقتضى الفهم الصحيح والعقيدة الصحيحة، فالعقيدة أعز على الصادقين من كل شيء، فإنهم يقيمون الولاء والبراء على مقتضى الشريعة، لا على مقتضى العواطف التي ربما تجر إلى كل مقالة وبدعة وشنيعة، والله المستعان.

فنحن جميعًا كقوم ركبوا سفينة، ولابد من الأخذ على يد من أراد خزقها، لأن نجاة أو غَرَقَ الجميع بالله ثم بذلك، والله المستعان.            

  • السؤال السادس: سمعنا أن هؤلاء البغاة يفتون أتباعهم بأن من قاتل معهم حتى يُقتل؛ فإنه شهيد في سبيل الله، ومن أهل الجنة، فهل هذا صحيح؟

الجواب: نحن ـ في الجملة ـ لا نشهد لمعين بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار؛ إلا إذا وَرَدَ فيه بعينه نص من القرآن، أو من السنة الثابتة، وإلا فنحن نرجوا للمحسن من المؤمنين، ونخاف على المسئ منهم،كما هو معلوم من معتقد أهل السنة والجماعة في هذا الباب.

وأما من خرج عن الطاعة وأجرى سيول الدماء، واعتقد المذهب الإثني عشري ـ فيما يُحكى ويُنقل ـ فلا يكون مجاهدًا في سبيل الله؛ فالخوارج عندما خرجوا في زمن الصحابة الأخيار كانوا يزعمون أنهم هم المسلمون وحدهم، وأن غيرهم من الكافرين، وهذه ثمرة الجهل المركب بالدين، والله عز وجل يقول: [أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] {فاطر:8} ويقول سبحانه جل شأنه: [قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا] {الكهف:104}  وقال تبارك وتعالى : [أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ] {محمد:14} وقال جل شأنه: [فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] {الأعراف:30}.

إن الجهاد في سبيل الله لا يكون كذلك إلا عندما تكون كلمة الله هي العليا،ويكون ذلك ضد الكفار لا ضد المسلمين، فقد قال سبحانه: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ] {الأنفال:39}  ويكون ذلك مقيدًا بالاستطاعة وعدم حصول شر أعظم، لقوله تعالى: [فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] {التغابن:16} .

أما من قاتل من أجل الدولارات والدراهم والدنانير، أو يريد الملك، أو يثير فتنة ثم يدعي أنه يدافع عن دينه وعرضه!! أو نحو ذلك؛ فليس هذا من سبيل الله في شيء؛ فقد جاء في ” الصحيحين” من حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، أو شجاعة، أو يريد المغنم، أي ذلك في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ” من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله “[26] وجاء في ” صحيح مسلم ” [27]من حديث جندب البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم  قال: ” من قاتل تحت راية عُمِّيَّة، فمات؛ فميتته جاهلية” والراية العُمِّيَّة: هي الراية المجهولة الهوية، أو المجهولة الهدف والغاية، أو التي لا يُعرف موافقتها للحق أم لا، ومن ذلك قتال الحمية والعصبية الجاهلية، والقتال من أجل الدنيا والملك، ونحو ذلك.

وإذا كان هذا حال من قاتل تحت راية مشتبهة ـ وأن ميتته جاهلية ـ فكيف بمن قاتل تحت راية واضحة البطلان؟ فإن من خرج على ولي الأمر الممكَّن، وأثار الفتن؛ فإن على ولي الأمر الوقوف في وجهه، وقتاله حتى يعود إلى الطاعة ـ بعد بذل نصحه، وإزالة شبهته ـ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حديث عرفجة: ” إنه ستكون هَنَاتٌ وهَنَات فمن أراد أن يُفرق هذه الأمة ـ وهي جميع ـ فاضربوه بالسيف كائننا من كان”[28] وفي رواية: ” من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد،يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه”[29] ومن حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ” إذا بويع لخليفتين؛ فاقتلوا الآخر منهما “[30].

ونحن لا نستبعد أن كل صاحب مقالة ـ وإن كانت باطلة ـ يدعي أنه صاحب الحق، وأن من قتل تحت رايته فهو شهيد !!!

بل قد سمعنا من يقال في حقه ـ وهو من أهل الغناء والرقص ـ: “فلان شهيد الفن “!! فإنا لله وإنا إليه راجعون من غربة الدين، وقلب الحقائق، وعند الله تجتمع الخصوم!!!

وصدق من قال:

ذهب الرجالُ المقتدى بفعالهم         ***             والمنكرون لكل أمرٍ مُنكرِ

وبقيت فيخلف يُزيِّن بعضهم          ***           بعضًا ليدفع معور عن مِعوَرِ

  • السؤال السابع: هل كل من خرج على ولي الأمر يُسمى خارجيًا؟ وما هو الموقف الشرعي لولي الأمر فيمن خرجوا عليه من الأفراد والطوائف؟

الجواب: الخارجون عن الطاعة في هذا الزمان أقسام: 

  • الخوارج: وهم الذين يُكفرون ولي الأمر بسبب وجود بعض المنكرات، مع أنها من جملة المعاصي لا المكفرات، ويسعون مع هذا لعزل الأمير أو قتله، ويُكفرون أعوانه، بل يكفرون من لم يأخذ بمذهبهم العاطل وإن كان من جهاذبة العلماء!!!
  • البغاة: وهم الذين يخرجون على ولي الأمر من اجل أمور دنيوية، سواء كانت مالاً أو ملكًا، ونحو ذلك، ومن أهل العلم من يجعل هذين القسمين قسمًا واحدًا، ويُدخل قتال الخوارج في قتال البغاة.
  • المحاربون: وهم قُطَّاع الطريق.

      ومعلوم أن لكل من هؤلاء معاملة تليق به، مع مراعاة قوتهم أو ضعفهم، وكذا قوة ولي الأمر أو ضعفه، ومدى تأثر الناس بهؤلاء وأولئك، واستجابتهم لدعوتهم، أم لا، وما تؤول إليه الأمور من ذلك كله.

والأصل في التعامل مع هؤلاء قوله تعالى: [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الحجرات:9}.

فعلى ولي أمر المسلمين إن ابتلى أن يرسل إلى البغاة المارقين من يناظرهم، ويزيل شبهتهم ـ حقنًا للدماء، وكسرًا لشوكتهم ـ كما فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إْذ أرسل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لمناظرة الخوارج، فرجع منهم عدة آلاف بدون قتال.

وإن كان لهم طلب صحيح، وأمكن ولي الأمر أن يجيبهم إليه، فَعَلَ، وإلا بيّن لهم عُذرهُ ـ إذا لم يكن في ذلك مفسدة ـ فإن أبوا وسفكوا الدم الحرام، وقطعوا السبيل، وأصروا على خلع أيديهم من الطاعة، وإثارة الفتن؛ قاتلهم الإمام حتى يقطع دابرهم، أو يعودوا إلى الله، لقوله تعالى : [فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ] {الحجرات:9} ولقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ” من أتاكم وأمركم جميع على رجل، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه ” وفي رواية: (فاضربوه بالسيف كائنًا من كان ” وللقاعدة الأصولية: ” ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب ” أي إذا كان الأمان لا يتم إلا بقتال البغاة ـ وإيجاد الأمن واجب ـ وجَب قتال البغاة. والواجب على الأمة أن تقف وراء أميرها وولي أمرها في علاج فتنة البغاة أولاً بالتي هي أحسن، فإن أبوا؛ ناصروه في قمع من يخالف الكتاب والسنة وقواعد الأئمة ـ و إن كان الإمام مقصرًا من جهات أخرى، فبعض الشر أهون من بعض ـ فإن التفريط في ذلك قد يُفضي إلى فساد يدخل على ذوات الخدور في خدورهن، ويسلم البلاد إلى المتربصين الحاقدين، ويُهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، ومعلوم أن قتال البغاة ليس كقتال الكفار، وهذا أمر مُفصل في موضعه من كتب الفقه.

أما قُطَّاع الطريق الذين يُخَوِّفون السبل، وينزعون الأمن من الأمصار والفلوات أو القفار: فإن تابوا قبل أن يقدر عليهم الإمام؛ وإلا فهذه الآية قد شملت أحكامهم، وهي قول الله عز وجل : [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {المائدة:33} [إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {المائدة:34} وولي الأمر مُخير في إحدى هذه العقوبات، بما يحقق المصلحة العامة والله أعلم.

  • السؤال الثامن: بعض الشباب تكثر أسئلتهم حول الذهاب للجهاد ضد هؤلاء المتمردين فما هي النصيحة لهم؟

الجواب: أسأل الله عز وجل أن يعين ولاة الأمور على حزم الموقف بما يوافق الشرع الحنيف، وأن يوفقهم لإطفاء نار هذه الفتنة في القريب العاجل، وألا يحوجهم إلى استنفار الناس للجهاد، وإلا فإذا استنفر ولي الأمر الناس لذلك؛ وجب عليهم طاعته، لقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] {النساء:59}  وللأدلة الدالة على وجوب السمع والطاعة لولي الأمر في المنشط والمكره، والعسر واليسر، ولقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ” لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد وإذا استنفرتم فانفروا “[31]

فالتقاعس عن الطاعة في هذا الموضع؛ يفضي إلى الاضطراب والتهارج، وقوة شوكة البغاة وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى على عاقل. 

فالناس لا يذهبون إلا بطلب من ولي الأمر، وهو لا يَقدُمُ  على ذلك إلا  باستشارة أهل العلم والفضل وأهل الحل والعقد والخبرة في جميع التخصصات التي تتصل بالمقام، أما أن يذهب الناس من تلقاء أنفسهم؛ فإن هذا يؤدي إلى شر أعظم، وربما فُتنوا بالأطماع، فمالوا إلى هؤلاء في النهار، وإلى أؤلئك في الليل، والله تعالى  يقول:[وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ] {البقرة:235} ويقول: [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] {غافر:19} فتبًا لمن يبيع دينه بِعَرضٍ من الدنيا، وسُحْقًا وبُعدًا لم يساوم ويتاجر بأمن البلاد وحرمتها، ومن أجل حظوظ النفس وشهواتها، والله المستعان.

  • السؤال التاسع: ما هو دور العلماء في هذه الفتن، وكذا ما هو دور وسائل الإعلام في ذلك؟

الجواب: إن واجب العلماء ـ لا سيما في الفتن والتهارج ـ عظيم، فإن الله عز وجل يدرأ بالعلماء الفتن، والعلماء يعرفون الفتن إذا أَقْبَلَتْ، وغيرهم لا يعرفها إلا إذا أَدْبَرَتْ !!!

فعلى العلماء أن يسعوا في إقناع البغاة بترك إثارة الفتن، ويخوِّفوهم مِنْ مَغبّة الاستمرار في ذلك في الدنيا والآخرة، ويذكّروهم بجريمة دماء المسلمين، وحَقِّ ولي الأمر في السمع والطاعة في المعروف، ويزيلوا شبهاتهم التي كانت سببًا في هذه الفتن، ويذكروا لهم النصوص من الكتاب والسنة في كل  ذلك، ويعضوهم بما جرى للمسلمين مِنْ مِحَنٍ عبر التاريخ بسبب الخروج على ولاة الأمور.

وفي المقابل ينصحون ولي الأمر فيما يجب عليه تجاه دينه ورعيته وأن يبيِّنوا له سنة الله الكونية والقدرية في الحكام العادلين الراشدين، وكذا سنته في من مال عن ذلك واتبع سبيل الهالكين، لا سيما والأخ الرئيس ـ أصلحه الله وأصلح به ـ له مواقف مشكورة، وجهود لا يجحدها إلا جاهل أو حاقد، وكل هذا يوطّد العلاقة بينه وبين أهل العلم والفضل، ولا يجعلهم ييئسون من قبوله النصح، وانتفاعه بمشورتهم، وفي هذا صلاح للبلاد والعباد، كما لا يخفى على أحد، فلا يلتفتوا إلى طعن من يطْعن في إخلاصهم بِقُرْبهم من وليّ الأمر  بنصحه والأخذ بيده، فالذي يعلم السرائر هو الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وعلى العلماء أن ينهضوا بدورهم العلمي والتربوي في المساجد وغيرها، فإن ذلك سَدٌ منيع أمام الأفكار المنحرفة المبيرة ـ سواء كانت تُنسب إلا الدين أم لا ـ ومعلوم أن فراغ الشباب سبب في تلقفهم هذه المنهاج المعوجّة، وشعورهم بأنهم هم الوحيدون على الحق، وأن غيرهم إما كافر، أو مبتدع، أو ضال، أو منافق متزلِّف، أو جاسوس متطلع على العورات، كما يكون الفراغ سببًا في ابتلاع  أفكار شرقية وغربية تصادم المعلوم من الدين بالضرورة!!! وهذا مفتاح شر لا نهاية له، إلا أن يشاء الله.

وعلى العلماء أن يُبصّروا الأمة ـ لا سيما هذه الأيام ـ بضرر عقيدة الرفض ويُبينوا للمسلمين في هذا البلد أنَّ عليهم أنْ يلزموا عقيدة أهل السنة والجماعة، التي كان عليها الصحابة والتابعون، والقرون المفضلة، وكبار الأئمة، وفقهاء المذاهب والأمصار، وأن يَحْذَروا من الأفكار الهدامة  بجميع أشكالها.

وعليهم أن يبصِّروا الأمة بواجبهم تجاه هذه الفتن، وأنه يجب عليهم أن يلتفوا حول قيادتهم بما يُرْضِي الله عز وجل، وأن يَصْدُقوا في ولائهم لهم في المعروف؛ فلا يفرحوا بقوة مَنْ خرج عليهم، ولا يناصروه ولو بشطر كلمة، ولا يُشِيعوا في مجالسهم انتصارات البغاة وقوتهم، فإن في ذلك إعانة لهم على الإثم والعدوان، وتطويلاً لزمن الفتنة التي وقودها مال ورجال، وربما أفضت إلى تبدُّل الأحوال، والله المستعان.

وعلى وسائل الإعلام أن تحشد قدراتها لخدمة أمن البلاد، وأن يجعلوا المصلحة العامة فوق المصالح الحزبية التي تنطق هذه الوسائل بأسمائها، وأن يقفوا في وجه مثيري الفتن ومزعزي الأمن والاستقرار، كما وقفوا وغيرهم جميعًا في وجه القائمين بالتفجيرات والاغتيالات، فإن ضرر هؤلاء المتمردين، المدجَّجين بالأسلحة، المتمركزين في منطقة أو أكثر أشد وأخطر من ضرر من يُفجِّر أو يغتال خُفية، ثم يولي هاربًا، كما لا يخفى.

وليست المهاترات الإعلامية إلا أداة لتمزيق الأمة وفتح الباب لإثارة الفتن في أماكن أخرى، فليتقي الله القائمون على هذه الوسائل الإعلامية  في عقول أبناء الأمة، وليعلموا أنهم أنفسهم من جملة ضحايا الفتن لو استمرت، فلينظروا للأمور نظرة ـ إن لم تكن شرعية، وقد كان هذا واجبًا ـ فعلى الأقل أن ينظروا للأمور بتعقل وتجرد، ووزنها بميزان بعيد عن العواطف والمصالح الحزبية الفانية.

فما أحسن العلاج الرصين للفتن، بتوضيح القواعد الشرعية، والتجارب التاريخية للأمة، وما أجمل إستضافة أهل العلم بالكتاب والسنة، والمعتدلين المتوسطين، وإفادة الأمة ـ عبر صفحات الصحف والمجلات وبرامج الإذاعة وغيرها ـ بخبراتهم ونصائحهم في الفتن الجارية وغيرها، وأسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع للقيام بواجبهم تجاه دينهم وبلدهم، وأن يجعلنا جميعًا مفاتيح خير، مغاليق شر.

  • السؤال العاشر: ملوم أن هؤلاء البغاة لهم أعوان وأنصار، سواء كان ذلك عن عقيدة فاسدة أو لشيء من حطام الدنيا، فما هي النصيحة الشرعية لمن يناصر هؤلاء البغاة؟

الجواب: يجب على هؤلاء أن لا يغتروا بمن يفتي بإراقة الدماء المعصومة، فإذا كانت الفتنة راقدة، وجاء من يوقظها، ثم يرمي خصمه بأنه الذي أثارها، فكيف نُسْلم لمن كان ذلك زمامنا، ونَقْتُل ونُقْتَل بسببه، ونفارق الدنيا بهذه الخاتمة السيئة؟ وعليهم أن يحذروا ممن يكفر الصحابة أو يلعنهم، أو يوغر صدور الناس على بعضهم أو جمهورهم ، ومن أهان الصحابة الذين ألقى الله محبتهم في القلوب؛ فمن سيحترم غيرهم من الناس بعد ذلك؟!!

فو الله أن سب أبائنا وأمهاتنا ـ على ما فيه من المنكر ـ أهون من سب الصحابة الذين بشرهم الله ورسوله بالجنة، ونحن لا ندري ماذا يُفْعل بنا أو بأبائنا وأمهاتنا؟!! ونحن لم نعرف الإسلام إلى بنقل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فلهم مِنَّةٌ في عنق كل مسلم، لكن الروافض يجحدون ويمكرون!!!

وأنصحهم بألا ينخدعوا بالمال، فالدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ومهما جمعوا من المال؛ فإما أن يزول عنهم، أو يزولوا عنه، وإذا كان المال لا يدخل عليك ـ أيها المسلم ـ إلا بهذه السبيل، فخيرٌ لك أن تعيش فقيرًا، وتلقى الله عز وجل سالمًا من حقوق الناس، وأي حق هو  أعظم من حق الدماء وهو أول ما يُقْضَى فيه بين العباد من حقوق الناس؟!! والله تعالى يقول: [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] {النساء:93}  ويقول سبحانه جل شأنه: [وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا] {النساء:29} ويقول سبحانه: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ] {المائدة:32} .  

والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ” لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق”  [32] .

ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ” لا تراجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض[33]  ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ” يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دمًا، فيقول: يارب، سَلْ هذا فيما قتلني؟ حتى يُدينه من العرش”[34]  وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأسامة بن زيد ـ وقد قتل رجلاً كافرًا دخل في الإسلام بقوله: ” لا إله إلا الله ” ـ : ” كيف تصنع بلا إله إلا الله، إذا جاءت يوم القيامة“؟[35]  هذا مع أن أسامة ـ رضي الله عنه ـ ما قتل ذاك الرجل إلا غيرة على دماء الصحابة الذين قتلهم بغير  وجه حق، فكيف بمن يقتل اليوم المسلم المشهود له بالاستقامة من أجل درهم أو دينار؟!! وكيف بمن يلقى الله والدماء وراءه تسيل بسبب دنيا أو تأويل فاسد؟!!

وأنصحهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي يحذر فيه من القتال في الفتن المشتبهة، فكيف بالقتال في صحف الخارجين عن الطاعة؟!! فقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ” ستكون فتن؛ القاعد فيها خبير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، ومن وجد ملجئًا أو معاذًا؛ فليعُذبه [36]                    

وليحذروا من فتنة المال، فقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ” من كانت الآخرة همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا هَمَّه< جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ” [37] .

وليحذروا أن يكونوا مفاتيح شر على البلاد والعباد، مع رفعهم شعارات وهمية فقد قال عز وجل: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ] [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ] [وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ] {البقرة:206}.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مغاليق للخير مفاتيح للشر، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه “[38]  أسأل الله أن يهدينا جميعًا سواء الصراط، إنه جواد كريم، بر رحيم.

  • السؤال الحادي عشر: ما هي نصيحتكم لولاة أمور المسلمين عامة، ولا سيما في الفتن؟

الجواب: كما أن الله عز وجل أو جب على الرعية طاعة ولاة الأمور في المعروف، ونُصرتَهم والوقوف في وجه من أراد الخروج عليهم ـ وإن كانوا جائرين ـ فلقد أوجب الله عليهم، أن يقوموا بحقه سبحانه في رعيتهم ، وما استطاع إمامُ قومٍ أن يتّقي شرهم وشر غيرهم، بمثل طاعته رَبه، واستقامته على أمره، فإن طاعة الله تصرف عن الراعي والرعية مصارع السوء والهلكة، وتجلب لهم العيش الهنيء، وِعزَّ الدنيا والآخرة، والله عز وجل يقول: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {الأعراف:96} وقد قال تعالى: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ] {المائدة:65} [وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ] {المائدة:66} ويقول عز وجل : [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا] [وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا] [وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] {النساء:68} .

فلو حكّم حُكَّام المسلمين شرعَ الله في كل صغيرة وكبيرة ـ قدر استطاعتهم ـ لكفاهم الله مؤنة خصومهم، ووطّد لهم عروشهم، ولهابهم القريب والبعيد، لأن من حفظ الستر الذي بينه وبين الله؛ حفظ الله الستر الذي بينه وبين الناس، وإصلاح الفاسد؛ إرغام الحاسد، فأسأل الله أن يوفقهم جميعًا للعمل بما في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأن يجمع عليهم قلوب رعيتهم بما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.

وليتدبر ولاة أمور المسلمين حوادث التاريخ الماضي والحاضر، فإن العِبَرَ في خَبَرِ مَنْ غَبَرَ، وليتأملوا في القرن السابع والثامن الهجريين كيف نصر الله المماليك ـ وهم عبيد أرقاء ـ لما نصروا السنة، وخضعت لهم مصر والشام، وأرجعوا الخلافة العباسية بعد سقوطها بثلاث سنوات، وارتادوا بيت المقدس وثغور المسلمين وبلادهم التي التهمتها الحروب الصلبية، مستغلة اختلاف المسلمين وتفرقهم، وانتشار البدع والضلالات في صفوفهم من الداخل، فهجم عليهم الصليبيون من الغرب، والتتارُ من الشرق، ومسح المماليك العار عن جبين هذه الأمة، وأصبحت النصارى ودويلات البدع تهابهم؛ كل ذلك لما كانوا محبين للسنة، ومناصرين لها، فإن النصر بيد الله، ينصر من نصره وصَبَر، ويُمكِّن لمن أطاعه وشكر، كما قال الله تعالى: [إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] {محمد:7} ويقول عز وجل: [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] {غافر:51}، ولقد نصر الله نوحًا وما آمن معه إلا قليل؛ لما استنصر ربه، واستغاث به؛ قال تعالى: [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ] {القمر:16} .

وعلى ولاة الأمور أن يفتحوا المدارس والجامعات التي تُعلِّم الدين الإسلامي الحنيف البعيد عن الإفراط والتفريط، أو الغلو والجفاء، ويكون ذلك تحت رعاية علماء السنة الموثوق بعلمهم وفهمهم وإدراكهم وتقواهم، وإلا هرول شباب الأمة إلى أفكار هدامة، وعليهم أن يأخذوا بيد العلماء والدعاة المعتدلين المتوسطين في أمورهم، وأن يفسحوا لهم المجال لتربية أبناء الأمة على الدين تربية صحيحة، وألا يغتروا بأي دعوة تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فإنها كالسراب يحسبه الضمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وليتدبروا حَوادث الأيام بسبب تقريب أهل البدع والأهواء، ومحاربة أهل السنة الغراء، وليعلموا أن الحجة والشبهة لا تدفعها إلا حجة أقوى منها، وأن السبيل الصحيح لعلاج الغلو يبدأ بالنصح والمناقشة الهادئة، لا بالقتل والسجن، فإنْ نَفَعَ؛ وإلا فلكل حادثة حديث، ولكل مقام مقال بما يناسب الشرع الحنيف.

وعليهم أن يعلموا أن سياسة تغليب جانب الحق وعلمائه المعتدلين ونصرتهم ما أمكن، وفتح المجال لهم للتوجيه الصحيح لشباب الأمة؛ أنفع وأصح من سياسة عمل التوازن بين الجماعات والتوجهات المختلفة، فإن هذه الطريقة تعود بشر أعظم، لأنها مخالفة لقوله تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ] {المائدة:2}   وما خالف القرآن والسنة؛ فلا بد أن يعود بشر أعظم، والواقع يشهد بذلك، ولو تركنا صبيين ـ فضلاً عن جماعتين قد ملأنا السهل والجبل ـ يرمي كل منهما الآخر بحجر، لما سلمنا، ولا سلم المارة في الطريق ولا سياراتهم من آثار الرمي بين طفلين، فما ظنكم بقوتين كل منهما تُعدُ للأخرى؟! فلا شك أن أثر ذلك سيعود على المجتمع كله بالشر والفساد، فلا شك أن خير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وسياسة التوازن هذه ليست من هديه، والله عز وجل يقول: [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {النور:63}  ويقول سبحانه : [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] {الأنفال:25}.

أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفق ولاة أمورنا لما فيه الخير والصلاح، وأن يجعلهم رحمه على المسلمين، وأن يُقبِل بقلوب المسلمين عليهم في طاعته ورضاه، وأن يفقه المسلمين في دينهم، فيعرفوا حق الراعي والرعية، ويجتنبوا الفتن المهلكات، وأن يحفظ بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يكفيهم شر عدوهم الظاهر والباطن، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

كتبه الفقير إلى عفو ربه

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني

دار الحديث بمأرب

حرسها الله من كل مكروه

11/6/1425 هـ

([1]) أخرجه ابن عاصم في ” السنة ” برقم (1030 9 وسنده صحيح.

[2] أخرجه البخاري برقم (6133 ) ومسلم برقم (2998 ).

[3] أخرجه أحمد في ” فضائل الصحابة ” وابن أبي عاصم في “السنة” برقم (1017 ) وسنده صحيح.

[4] أخرجه ابن أبي عاصم في ” السنة ” برقم (1018 ) وسنده صحيح.

[5]) برقم (2531 ).

[6] أخرجه البخاري برقم (3650،3651) ومسلم برقم ( 25333 ).

[7] انظر كتاب ” الحكومة الإسلامية” (ص:52) منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى.

[8] في ” منهاج السنة النبوية ” (1/11 ـ 12 ) ط/ الجامعة.

[9] في المصدر السابق (1/308).

[10] ك/ فضائل الصحابة ب/ قول النبي r:  “لو كنت متخذًا خليلاً … (برقم (3671).

[11] رواه البخاري برقم ( 48) ومسلم برقم (64) من حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ

[12] رواه مسلم برقم (2598) من حديث أبي الدرداء ـ رضي الله عنه.

[13] رواه مسلم ـ أيضًا ـ برقم ( 2546) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.

[14] أخرجه الترمذي وغيره، وصححه شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ في : الصحيحة ) برقم (1761).

[15] برقم (2408).

[16] أخرجه مسلم برقم (2699)

[17] أخرجه البخاري برقم (5990) ومسلم برقم (518)

[18] رواه البخاري برقم (3712) ومسلم برقم (1759).

[19] أخرجه البخاري برقم ( 7052) ومسلم برقم (4725).

[20] أخرجه مسلم برقم (1846).

[21] برقم (4763).

[22] أخرجه ابن أبي عاصم في ” السنة” (2/499)وصحح سنده شيخنا الألباني ـ رحمه الله ـ.

[23] انظر ” منهاج السنة النبوية ” (1/391).

[24] انظر المصدر السابق (4/527 ـ 531 9.

[25] انظر “إعلام الموقعين عن رب العالمين ” (3/15 ـ 16) ط/دار الفكر.

[26] أخرجه البخاري برقم (123) ومسلم برقم ( 1904).

[27] برقم (1850).

[28] أخرجه مسلم برقم (1852).

[29] أخرجه مسلم برقم (1852)

[30] أخرجه مسلم برقم (1853).

[31] أخرجه البخاري برقم (2071) ومسلم برقم (1353).

[32] انظر” صحيح الجامع ” برقم (4953).

[33] أخرجه البخاري برقم (48) ومسلم برقم (218).

[34] انظر ” صحيح الجامع ” برقم: (8031)

[35] أخرجه البخاري برقم (4021) ومسلم برقم (274 ـ 275)

[36] أخرجه البخاري برقم ( 3610) ومسلم برقم: (2886).

[37] أخرجه الترمذي (2/76) وابن ماجة (2/524 ـ 525 ) وأحمد (5/وانظر ” الصحيحة” برقم (949، 950).

[38] أخرجه ابن ماجة (237) عن أنس، وانظر ” الصحيحة ” (1332) و” صحيح الجامع” (2223).

للتواصل معنا