بقلم الشيخ

عزاء الشيخ أبي الحسن المأربي في وفاة الشيخ سعيد بن سهيل رحمه الله تعالى

عزاء الشيخ أبي الحسن المأربي في وفاة الشيخ سعيد بن سهيل رحمه الله تعالى:

بِسْم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ، أمابعد :
فقد فُـجِعْــتُ الْيَوْمَ بنـبأ وفاة الأخ الكريم في خلقِه ، والشيخ الحليم في تعامله ، الحكيم في عرض الدعوة بما تحتمله عقول الحاضرين على اختلاف مشاربهم ومراتبهم ، فيستفيد من موعظتِه العالم والطالب والعامّـي ، بل يستفيد من عرضه والأمثلة التي يتناولها في موعظته من يخالفه إن سلِم من غِشَاوَة الهوى ، وعِماية الردى .
وهو حبيبنا الذي عرفته منذ أربعين سنة ، وهو لا زال طالباً يدرس في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ، ألا وهو : الشيخ سعيد بن عبدالرحمن بن سهيل ، الرجل الذي ما أذكر مهما عَصَرْتُ ذهني أنّـه بلغني عنه كلمةٌ يُعـتذر من مِثـلِها ، أو رأيته والبشاشة والسماحةُ لا تعلو وجهه ، مع طول المـدة وسخونة الميدان الدعوي الذي يعـجّ بغبار الخلافات والصراعات .
فلله درّك يا أبامحمد ، كيف حماك الله وعصمك من الخوض فيما يخوض فيه الخائضـون ، وكيف اكتـسيت برداء الأخلاق والبشاشة وإزار الكرم والسماحة ، وغيرك على اختلاف انتـماءاتهم في الفتنة وفِي الهمز والغمز والتهاوش والتهارش يخبّـون ويضعون ؟

حقاً : الموفَّـق من وفّقه الله ، والمعصوم من عصمه الله ، والمعافَـى من عافاه الله ، وإلا فما المانع أن يتأوّل كما تأوّل غيره ؟ ويستبيحُ بسوء الفهم أو سوء القصد – وهما سبب الشر كلِّه على وجه الأرض – أعراضاً معصومة ، ثم ينافقهم فتعلو البشاشةُ وجهَـه إذا لقِـيَهم بعد ذلك ، فلا يكون من الذين نصحوا إذا آبوا ، أو ستروا إذا غابوا ، لكنّ مكارمَ الرجل تحْـجزه عن هذه المساوئ وسفاسف الأمور ، ولا نزكيه على الله تعالى .

إنّ المصاب فيك يا أبامحمد مصابٌ جَلَل ، وبفقدِك دخل الحزن بيوت المتجرّدين للحق ، المؤثرين له على كل الانتماءات ، وليس المصابُ فيك مصابَ قبيلة أو طائفة أو حزب أو جماعة ، إنه مصاب العقلاء ، الذين يفرحون بمن يساعدهم في حملِ العبء الدعوي الثقيل ، الذي لا يقوم به فردٌ بعينه أو حزب بجميع مؤسساته ومكوناته وإمكانياته ، بل قد لا تقوم به دول ، فإن أمر الدعوة شديد ، ويحتاج إلى رجال مخلصين يبحثون عمن يبني ولا يهدم ، ويؤلّف ولا يمـزّق ، ويجمع ولا يُشـتّت ، ويعالج الخطأ في حدود المتاحات لا في خيال المثاليات والطموحات ، ويصبّ جهده لنصرة التوحيد الخالص ، والسنة المحضة ، لا لنصرة فرد أو جماعة أو فكرة ليس لها حجّة أو برهان ، فما أحوج الدعوة والدعاة إلى الذين يؤثرون الحق على الخلق ، ويهَـبون حياتهم وأوقاتهم لتنهض الأمة من سباتها العميق ، ولترتبط الأمة بتاريخها العريق ، ولكن أين هؤلاء ؟ كدتُ أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب ، وقد خلَفَتْهم خُلُوف مَرَجَتْ عهودهم ، وتنافرت قلوبهم ، واضطربت كلمتهم ، وأشتموا الناس فيهم وفِي دعوتهم ، كلّ هذا باسم الدين ونصرته ، والثبات على الحق في زمن الغُربة ، هكذا يزعمون !!

أحسن الله عزاءكِ يا أعواد المنابر التي علاكِ الشيخ أبومحمد واعظاً ومذكّراً ، وأحسن الله عزاءكِ يا بيوت الرحمن ، فكم سعِدتِ بصرَخات هذا الشيخ ، وهو يُخَوِّف رُوّادَكِ عذاب الله ، وعاقبة من أعرض عن ذكر الله ، وأحسن الله عزاء العوام في تجمّـعهم حوله في ليالٍ قمرية ، وفِي ساحات واسعة على صعيد رمال مأرب وكُـثْبانِها ، وهو يذكّرهم بالتمسّك بدين الله عزوجل ، وردّ المظالم لأهلها ، والتخلّي عن صفات الجاهلية في النظرة الدونيّة للمرأة ، والاحتيال عليها في المواريث ، وغلاء المهور ، ونحو ذلك من المخالفات التي كانت منتشرة في بلاد مأرب وما والاها من بلدان ، وكان له – رحمه الله – الدور الفاعل والمؤثر في التصدّي لهذه العادات القبيحة ، بعرْضٍ شيّق وأمثلة واقعية جذّابة ، حتى اضمحَلّت وكادت أن تتلاشى في بعض الأماكن .
وأسأل الله أن يجبر طلاب الشيخ سعيد في الدار التي يُشرف عليها ، والذين وهب نفسه للجلوس معهم ، وانتقل إليهم في الدار ووراءه أحب الناس إليه ، والداه وإخوانه وعشيرتُه .

إنني أعزّي نفسي ، وأعزّي كلّ من يدرك أثر موت العلماء ، ودفن علومهم في قبورهم ، وموتِ كثير من صور معالي الأمور بموتهم ، لكن لابدّ لي أن أعزّي والد الجميع ؛ الوالد عبدالرحمن بن سهيل ، والوالد سعود بن سهيل ، وبقية آل سهيل أجمعين ، كما أعزّي إخوان الشيخ سعيد ، وهم آل عبدالرحمن : الشيخ محمد والمهندس صالح والشيخ علي والشيخ سعود ، كما أعزّي أبناء الشيخ سعيد ، وأقول لهم ولأعمامهم وأجدادهم : موت الشيخ سعيد – رحمه الله – بهذه الهيئة الكريمة ، والخاتمة التي نرجو أن تكون حسنة ؛ شرفٌ لكم ومفخرة لجميع محبّـيه ، وأما الآجال فاعلموا أنه لم يبقَ له شربة ماء ، ولا لقمة زاد ، ولا نفس هواء ، ولا خطوة على ظهر الأرض ، قد كتبها الله له ، إلا وقد أخذها كاملة ، وأما الحُـزن فهو أمْرٌ جِـبلّي ، قد جُبِل عليه الإنسان ، والراحمون يرحمهم الرحمن ، فالقلب يحزن ، والعين تدمع ، والظنّ فيكم أنكم تعلّمون الناس الصبر على قضاء الله ، والتقرّب إلى الله بحمده وشكره على ما جاء من عنده ، ولا نزكّيكم على الله .

اللهم يا حيّ يا قيّوم ، يا من بيده ملكوت كل شيء ، وعنده خزائن كل شيء ، ارحم عبدك ووليّك سعيد بن عبدالرحمن بن سهيل ، واغفر له وتجاوز عنه ، فليس له إلا كريمُ فضلك وواسع مغفرتك ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلهاً خيراً من أهله ، وأكرم نُزُلَه ، ووسّع مُدْخله ، وابعثْه آمناً يوم القيامة ، وآنِس وحشتَه ، وأذهِب روعَتَه ، وثبّـته عند سؤال الملكين ، واجعل قبره روضة من رياض الجنة ، ومدّ له في قبره مدّ بصره من الجنّة .
اللهم إن كان أخونا الشيخ سعيد وجميع موتى المسلمين مسيئين فتجاوز عن إسائتهم ، وأبدل سيّـئاتهم حسنات ، وإن كانوا محسنين فزدْ في إحسانهم أضعافاً مضاعفة ، اللهم ارحم موتانا وموتى جميع المسلمين ، المستقدمين منهم والمستأخرين ، السابقين منهم واللاحقين ، يا من يمحو من يشاء ويُثَبِت وعنده أمّ الكتاب . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

أخوكم : أبوالحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
من مكة المكرّمة 21 ذي القَعدة 1439 هجري