(كيف تخرج مصر من أزمة الدستور الحالية؟؟؟)
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن الذي يتابع ما يجري في مصر؛ يجد أن الأزمة قد بلغتْ ذرْوتها، وأن الانقسام العمودي في جميع المجالات قد ألْقى بآثاره السيئة على الحالة السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والاجتماعية، والأخلاقية، بما قد يهدِّد المجتمع كله والمنطقة بأسرها بما لا تُحْمد عقباه!!
– وأنبه أولاً: على أنني لستُ مقرًّا صنيع بعض الإسلاميين في الزجِّ بكثير من المعارضين للدستور في زاوية كراهية الشريعة الإسلامية، والصد عن سبيل الله، وإن كان كثير منهم كذلك!! إلا أن أكثرهم يحب الإسلام وشريعته، ومُسْتَعِدٌّ أن يبذل الغالي رخيصًا من أجل دينه، لكن الصراع السياسي أفضى بالجميع إلى ما لا يحب أن يصل إليه!! ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
وفي المقابل: فمن المنكر اتهام كل المخالفين لعدد من القوى السياسية بأنهم وهابيون أو تكفيريون، أو أعداء للحضارة والتقدم، فكل هذا من الاتهام بالباطل!!
كما أنني لسْتُ مع بعض الإسلاميين في التصريح بسبِّ أناس بأعيانهم في المظاهرات -سواء كانوا من القضاة، أو الإعلاميين، أو السياسيين، أو غيرهم، وإن كان كثير منهم قد أساء إلى البلاد والعباد- !! إلا أننا يجب أن ننافس منافسة شريفة، لا تنسينا أصولنا وثوابتنا، وإن عاملنا الآخرون بغير ذلك، فكل إناءٍ بما فيه ينضحُ!!
كما أنني لسْتُ مع بعض الإسلاميين في الدعوة إلى جَعْل مظاهرة بجوار أخرى مخالفة لها، فإن ذلك يُفْضي إلى شر عظيم، وقد وقع بعض ذلك عند قصر الاتحادية!! وإنا لله وإنا إليه راجعون!!
كما أنني لسْتُ مع أي صورة من صُور العنف في التعبير عن الرأي،أو محاصرة أي مبنى أو مسجد، أو تهديد أي شخص، سواء كانت هذه الأمور وغيرها قد وقعت من قوى إسلامية، أو ليبرالية، أو علمانية، أو يسارية، أو اشتراكية، أو قومية ….الخ، وإن كانت هذه الأمور قد وقعت من غير الإسلاميين أكثر مما وقعت من الإسلاميين!!
كما أنني لسْتُ مع من يرى كل أتباع النظام السابق فلولاً مجرمين، ففيهم صُلحاء، وشرفاء، ووطنيون، وكثيرون كانوا خائفين على أنفسهم من النظام السابق، وفيهم –وفي غيرهم- بلطجية، مفسدون في الأرض، و {كل نفس بما كسبت رهينة} و {لا تزر وازرة وزر أخرى} والثورة يجب أن تكون بيضاء نقية مع الحذر واليقظة، والواجب كسْبُهم حيثما كانوا بما يخدم البلد، وحتى نعذر لأنفسنا عند الله، فلا يهلك على الله إلا هالك.
– ومع هذا كله؛ فإنني أرى أن الخروج من أزمة الدستور لا يكون إلا بالله عز وجل ثم بالرضى بنتيجة الصندوق في الاستفتاء، فمن كان معه الأكثر من عدد الأصوات –ولو 50% +1- فالآخر يُسلٍّم له، سواء كان ذلك بقول: “نعم” أم بقول: “لا”.
ومما يدل على صحة ذلك الآتي:
1- أن الطرفين جميعًا قد رضيا بنتيجة الصندوق، وهذا جزء من النظام الديمقراطي، الذي طالما سمعنا من غير الإسلاميين الصراخ به في المؤتمرات من وراء الطاولات والميكرفونات، والذي طالما صَدَّرُوا به صُحفهم بالخطوط الحمراء العريضة، وكثيرًا ما عقدوا له الحوارات الفضائية، وسوّدوا به الصفحات الألكترونية، فلماذا يتراجعون عنه اليوم، أو يضعون له شروطًا أخرى غير متفق عليها عالميًّا؟!
فإن قيل: إن الدستور يختلف عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لأن مدة العمل به طويلة، ويصْعب تغييره قريبًا: كالرئيس أو عضو البرلمان، ولذا فيشترط في الدستور أن يحصل على موافقة 70% من المشاركين لقبوله، أو 50% +1 من المشاركين بشرط أن لا يقلُّوا عن ثلثي المصرّح لهم بالانتخاب أو الاستفتاء.
فالجواب: إن خصمكم يقول: لا نريد منكم أن تفصِّلوا لنا ديمقراطية الآن على مزاجكم، بما يتناسب مع حجمكم!! فهاتوا لنا نصًّا باشتراط ذلك من الدول الواضعة للديمقراطية، وإلا فهذه الشروط منكم بدعة ديمقراطية!!!
2- تعالَوا ننظر في الطريقة العملية لو أننا سلمنا بصحة شروط المعارضين للدستور:
فلو سلمنا أن القائلين بـ “نعم” أقل من الثلثين أو 70% فالمطلوب الآتي:
أ- الاستعداد لإجراء انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية الجديدة، وهذا يحتاج عدة أشهر.
ب- إذا اجتمع الأعضاء للمناقشة حول المواد التي تُقرُّ في الدستور، فهذا يحتاج منهم عدة أشهر أخرى حتى ينتهُوا من إقرار جميع المواد!!!
ج- لو فرضْنا أنه جاءت أغلبية الأعضاء المنتخبين إسلامية، ولم يقع إجماع على مادة أو أكثر، وكذا لم يقع توافق عليها في مجلس الجمعية التأسيسية الجديدة، فما هو الحل إذا كان الإسلاميون أو غيرهم لم يحقق 70% أو الثلثين من أعضاء الجمعية؟ فهل سترجعون إلى مطلق الأغلبية، أي 50% +1 فأكثر، أم ماذا ستفعلون؟!
فأنتم بين هذه الخيارات:
*إما أن تخرجوا من المجلس بلا توافق، وهذا معيب، ووخيم العاقبة، ودليل على عَجْز النظام الديمقراطي عن علاج مشكلاته وإفرازاته، بخلاف المنهج الإسلامي الرباني الذي لم يقبله الكثيرون منهجًا وسبيلا!!
*وإما التصويت، والعمل بمطلق الأغلبية، لا بالأغلبية المطلقة، وهذا ما رفضتموه حاليًّا!!
*وإما القتال، والغلبة للأقوى، وهذا مع كونه محرمًا؛ فهو شريعة الغاب والهمجية!!
*وإما انتخاب جمعية تأسيسية أخرى، وهذا يحتاج إلى مزيد وقت، وتحتاج إلى المرور بالخطوات السابقة مرة أخرى، أو مرات، وهكذا تعيش البلاد مرحلة فراغ مؤسسي ودستوري لا يعلم نهايتها إلا الله عز وجل!!
وعلى ذلك: فالطريقة العملية لما تراه المعارضة قد تفضي إلى عدم وضع دستور أصلاً، وما ظنك ببلد يعيش في حالة فراغ دستوري؟!
* وإما العمل بدستور 1971م مع تعديلاته، حتى يتم وضْع دستور جديد، وهذا لو تم عليه الاتفاق؛ فهو مخرج من أزمة التشرذم والانقسام الموجودة، لكن إذا لم يتم عليه الاتفاق؛ فلابد من العودة إلى الخيارات السابقة.
ثم إن دستور 1971م هل حظي باستفتاء كبير ونزيه –حسْب كلام اللجنة العليا للانتخابات- كهذا الاستفتاء على دستور 2012م؟ وهل يُسلِّم لكم المؤيدون بأن دستور 1971م مَوَادّه –في الجملة- أفضل من مواد الدستور الحالي؟!
ثم كيف تصادرون رأي الشعب الذي وافق على الدستور –إن تمت الموافقة- وأنتم من جملة من شارك في الاستفتاء؟ هل كان الاستفتاء مجرد أُلْعُوبة: فإن جاء بما يريده فصيلٌ ما، وإلا رفض قبوله، وطالب بدستور غيره؟!
فلو كان الحال معكوسًا، وجاءت نتيجة الاستفتاء بزيادة صوت واحد للرافضين، هل كنتم ستقبلون من المؤيدين صرفًا أو عدلا؟!
3- قد كان المعارضون اليوم يقولون في أوائل الثورة: الدستور أولاً، أي لابد من وضْعه قبل انتخاب البرلمان، وجَرَت الأمور على خلاف ذلك، ثم حُلَّ مجلس الشعب، ولا زال المعارضون يسْعَوْن أو يتمنَّوْن حَلَّ مجلس الشورى، وإذا كان الدستور –بناء على اشتراطهم لا يتم إلا بتحقيق أغلبية معينة- فهو مُهدَّد بعدم إخراجه للناس أصلاً إلا أن يشاء الله، ومعنى ذلك أن الموجود من المؤسسات سينهار، والمفقود منها لازال متعسِّرًا في ولادته، وهذا هو الانهيار بعينه!!
4- إذا كان القائلون بـ “نعم” أكثر من 50%؛ فلاشك أن معهم مطلق الأغلبية –وإن لم يحققوا الأغلبية المطلقة– وقول يحظَى بصورة ما من صُور الأغلبية، أولى من قول لا يحظَى أصلاً بشيء من الأغلبية، فلو سلمنا بأن تمرير الدستور بأغلبية 50% +1 فيه هَضْمٌ لقول معارضيه -وهم عدد كبير في المجتمع، وإن كانوا دون 50%- فلاشك أن ردَّ الدستور -والذين قبلوه أكثر من الذين رفضوه- فيه هَضْم لمن هم أكثر منهم عددًا، وأخفُّ الضررين –في هذه الحالة- يكون اعتماد قول المؤيدين لا المعارضين، وارتكاب أخف الضررين لدفْع أعظم المفسدتين ما اتفق عليه العلماء والعقلاء.
ولا يشفع في هذا: أن الناس سيتوافقون بعد ذلك على دستور جديد، لأن هذا التوافق في ظل هذه الظروف دونه خرْطُ القتاد، إلا أن يشاء ربي شيئًا!!
5- تمرير الدستور بأغلبية ليست عالية جدًّا، واستقرار البلد، ودوران عجلة التنمية، وانتشار الأمن في ربوع البلاد، واستعادة هيبة المؤسسات، وتأمين الحدود، ومعالجة هذا الانقسام الذي هو نذير شر، وعَوْدة كُلٍّ في موضعه، كل ذلك أفضل من عدم تمرير الدستور، ودخولِ البلاد في نَفَقِ التيه، وانتشارِ الفوضى، وانهيارِ المؤسسات، وطَمَعِ المتربصين بنا في الداخل والخارج، ولو لم يكن إلا هذا الأمر لكفى!!
6- أهل مصر قدوة لغيرهم، فلا يجوز لهم أن يجعلوا ثورتهم –التي ضحَّوْا من أجلها- لا تساوي بعد ذلك رَوْثة، وأن يجعلوا آمالهم آلامًا لهم، وأن يسنّوا سُنَّة سيئة في المنطقة، بالفرقة بعد القوة والاجتماع، والسقوط بعد العلو والارتفاع، وأن يجعلوا ربيعهم خريفًا أجرد يحمل الجفاف والزوابع، أو شتاء قارسًا يُعيق النموّ والتتابع!! وذلك إذا ارتطموا بفتنة التصعيد والدماء، وتناثُرِ اللحوم والأشْلاء، فعند ذلك لا يُفْرَح بدولة، ولا ثورة، ولا بقاء، عافانا الله وبلادنا من جميع الفتن والبلاء!!
7- على جميع القوى السياسية أن يقدموا المصلحة العامة على المصلحة الشخصية أو الحزبية، وألا يكونوا مَثَلَ السوء في التاريخ المعاصر والمستقبل، وهم أكثر الخاسرين إن أصرُّوا على آرائهم، وسيلعنهم التاريخ، وتنازل الجميع –الحاكم والمعارض- من أجل مصر عنوان القوة والإخلاص، لا دليل الضعف والإفلاس.
8- على جميع وسائل الإعلام أن تسعى إلى الرتْق لا الفتْق، وإلى توطيد الائتلاف، لا بث الاختلاف، فما من قوم ائتلفوا إلا سادُوا ومَلَكوا، وما من قوم اختلفوا إلا فسدوا وهلكوا، وعلى الإعلاميين أن يدركوا أن سفينة المجتمع إذا غرقت؛ فهم من أوائل الخاسرين في الدارين.
9- على رئاسة الجمهورية والإسلاميين السعي إلى رَأْب الصدع ما أمكن، وعدم الإياس من عودة المجتمع إلى مثل ما كان عليه قبل هذه الأزمة أو أفضل، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يُقَلِّبها كيف يشاء، فعلى الرئاسة والإسلاميين أن يظهروا جديّة ومصداقية في تصفية الأجواء، والتئام القلوب، وعلى الرئاسة وضْع كل من المعارضين في الأماكن التي تناسب المصلحة العامة، فإن البلد كبيرة جدًّا، ولا يقوم بها إلا الجميع، ومصر بحاجة ماسة إلى جميع أبنائها، وقدراتهم، ومواهبهم، على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم.
وعلى عقلاء المعارضة أن يتحملوا مسؤوليتهم أمام الله ثم أمام التاريخ، وأن يؤدوا ما عليهم تجاه أمتهم، وليصبروا لله إن كانوا قد ظُلموا حقًّا لهم، كما قال تعالى: {ولربك فاصبر} وعليهم أن يزيلوا ما قد يَلْصَق بهم من تهمة الإصرار على آرائهم بُغْضًا لشريعة الله، أو رغبة في حَرْق البلد، لتقرَّ أعينُ أعداء الأمة، وإن تفويتهم هذه الفرصة على المتربصين، وتنجو سفينة الوطن؛ سيُحْسَب لهم في رصيد حسناتهم.
10- على رجال الأمن أن يضطلعوا بمسؤوليتهم وواجبهم الوطني في هذه الفترة العصيبة، بكل اعتدال ومصداقية، وليحذروا من الحيف أو الميل إلى جهة دون أخرى، كما يلزم القضاء سرعة البتّ في كل ما يُحال إليهم من قضايا فساد أو عنف، حتى يرتدع الآخرون، ويشعر الناس بالأمن، ورد الحقوق إلى أهلها، وإنصاف المظلوم.
هذا، والله المسؤول أن لا يخيب ظننا وظن المحبين لمصر في حكام ومعارضة مصر، وأن يحفظهم ومصر من كل سوء ومكروه، وأن يوفقهم للعمل بشريعته، وإعلاء كلمته، وأن يجعلهم جميعًا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن ينـزع البغضاء من قلوبهم، ويجمع شتاتهم، ويَلُمَّ شعْثهم، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
8/صفر/1434هـ