بقلم الشيخ

حُكْم التصويت على الدستور

(حُكْم التصويت على “الدستور”)

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فإن مصر تمرُّ هذه الأيام بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة، فنسأل الله –عز وجل- أن يرزق أهلها من الخير فوق ما يرغبون، وأن يجنبهم من الشر فوق ما يحذرون.

ولعل أزمة “الدستور” الجديد تسير نحو النهاية والانفراجة، وذلك بالاستفتاء الذي سيكون يوم السبت القادم، والسبت الذي يليه، إن شاء الله تعالى.

وإنني أنصح الجميع بأن يصوِّتوا على “الدستور” بقولهم: “نعم” وليس ذلك من باب الرضى بما فيه من مواد تحمل معاني وإطلاقات وعمومات مخالفة للشريعة، ولكن التصويت بـ “نعم” من أجل ما فيه من مواد كثيرة موافقة للشريعة، ومحققة لكثير من حاجات الناس ومصالحهم، فهذا من باب الرضى بأخف الضررين، إذْ لا قدرة على دَفْع جميع المفاسد.

ومعلوم أن الإسلاميين الذين شاركوا في صياغة “الدستور” لو كان في استطاعتهم أن يُصَفُّوا “الدستور” من أي مادة أو عبارة مخالفة للشريعة لفعلوا، ولكنهم قابلتهم عراقيل كثيرة، وما يجري في مصر منذ أسابيع من أزمات، ومظاهرات، واعتصامات، وقتْل، وسَفْك للدماء في الجانبين، كل ذلك بسبب أزمة “الدستور” وكل هذا يدلُّ على أن المعوّقات أمام الإسلاميين كثيرة وشاقّة، والله عز وجل يقول: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وملخّص أدلة جواز الاستفتاء بـ “نعم” على “الدستور” الآتي:

1- قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “ما أمرتكم بأمر فَأْتوا منه ما استطعتم” ولم يستطع الإسلاميون أكثر مما عملوه، لما قابلهم من معارضات، لازالت موجودة حتى الآن.

2- العمل بقواعد الشريعة عند تزاحم المصالح والمفاسد، والتي تقضي باتباع خير الخيرين، واجتناب شر الشرين، وليس المطلوب عند التزاحم معرفة جنْس الخير والشر وأدلة ذلك، فإن هذا يعرفه كثير من الناس، إنما المطلوب معرفة مراتب الخير والشر، وإدراك أي الأمرين أوْلى بالأَخْذ، ومعرفة هذا الأمر يحقق المعرفة بحقيقة الفقه في الدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: “فتفطَّن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تُقَدِّم أهمها عند المزاحمة، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جِنْس المعروف، وجِنْس المنكر، وجِنْس الدليل، وغير الدليل يتيسر كثيرا، فأما مراتب المعروف والمنكر، ومراتب الدليل، بحيث تُقَدِّم عند التزاحم أَعْرَفَ المعروفين، فتَدْعو إليه، وتُنْكِر أَنْكَر المنكرين، وترجِّح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين”([1]) اهـ وقال أيضًا –رحمه الله- “لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنْ الشَّرِّ، وَإِنَّمَا الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ”([2]) اهـ وقال –رحمه الله-: “فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ؛ فَمَنْ وَلِيَ وِلَايَةً يَقْصِدُ بِهَا طَاعَةَ اللَّهِ، وَإِقَامَةَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ دِينِهِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَامَ فِيهَا مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتِنَابِ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَبْرَارِ خَيْرٌ لِلْأُمَّةِ مِنْ تَوْلِيَةِ الْفُجَّارِ” ([3]) اهـ .

3- الإسلاميون لا يعيشون وحدهم في مصر، فهناك قوى غير مسلمة أصلاً، وقوى مسلمة معارضة لما حققه الإسلاميون من إنجازات في “الدستور”، وليس للإسلاميين إلا خيار واحد من ثلاثة خيارات:

أ‌-     إما الاعتزال، وترك الشر يزداد، وهذا مخالف للأدلة والقواعد.

ب‌-      وإما إعلان القتال على المخالفين، ومعلوم أن هذا يُفْضي إلى الحرب الأهلية، وهذا محرم شرعًا، لما لا يخفى من أحوال، ثم إنه لا يُبْقي ولا يَذَر، والجميع في هذا الخيار خاسر لا محالة، وهذا يعرِّض البلاد للسقوط في أيدي المتربصين، ولا يقول بهذا عاقل فضلاً عن عالم بالشرع.

ج- وإما المشاركة، وإصلاح ما أمكن إصلاحه، وما عجزوا عنه فلا يؤاخذهم الله به، وهذا ما حصل ولله الحمد.

4- أن ما تحقق في هذا “الدستور” من خير –على ما فيه- أفضل من الدساتير السابقة بمفاوز، وما لا يُدْرك كله، لا يُتْرك جُلُّه، ونورٌ فيه ظُلْمة؛ خير من ظُلْمة لا نور فيها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-.

5- ليس التصويت بـ “نعم” من باب اختيار حُكم غير الله عز وجل، وتفضيله على حكم الله، لأن المرء لا يُسْتَفْتى: هل تريد حكم الله، أم تريد حُكم الجاهلية؟ فالمانعون من التصويت بـ “نعم” ليس لهم أن يستدلوا بقوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون}وغيرها من آيات، لأن هناك فرقًا بين حالة الاختيار –وعليها تُنـزَّل هذه الآيات- وحالة الاضطرار، التي يُعمل فيها بقاعدة تزاحم المصالح والمفاسد.

6- لا يجوز لأحد أن يقول: لا التفات إلى المصالح والمفاسد في هذا الأمر، مستدلاً بأن النهي صريح في الشريعة عن الحكم بغير ما أنزل الله، ومستدلاً بأن الشريعة جاءت بكل المصالح، ونهتْ عن كل المفاسد؛ لأننا نقول: هذا كله عند السعة والاختيار، أما عند الإلجاء والاضطرار فالحكم يختلف، وهذا التفصيل مأخوذٌ من الشريعة أيضًا، وقد ترك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إقامة الحد على عبدالله بن أُبي بن سلُول –رأس النفاق- قائلاً: “لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه” ولم يقل: لا مراعاة للمصالح والمفاسد، فلابد أن نقيم الحد، وليكُنْ ما يكون.

وكذا فقد قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شروط صُلْح الحديبية، وفيها جَوْر ظاهر على المسلمين، بل قد ردَّ أبا جندل -وهو مسلم- للكفار، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه هو القائل: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسْلمه،..” ولم يقل: لا مراعاة للمصالح والمفاسد، كما يقول بعض المانعين!!

إن الذين يقولون هذا القول ينسفون قواعد شرعية، قامت عليها الأدلة، وعمل بها الأئمة، وهي تمثل حقيقة الفقه لما جاءت به الرسل، من حيث لا يشعرون!!

7- معلوم أن سُنَّة الله عز وجل في إنزال الوحي التدرُّج، كما قال تعالى: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} وكذا هَدْي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في البلاغ، لم يكن إلا بما يمكن العلم به والعمل به، ولاشك أن المُصْلِحين في كل زمان ومكان يسْلكون منهج التدرج في الدعوة، والإصلاح، ومن طلب الشيء كله؛ ضيَّع الشيء كله، وقديمًا قيل: مُرْ بالمستطاع؛ كي تُطاع.

8- بعض المانعين من الاستفتاء اليوم كان يُفتي بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية –وقد أصاب في ذلك- لكن ما هو الفرق بين الأمرين، حتى يجيز الأول، ويمنع الآخر؟ ومعلوم أن الرئيس إذا فاز، وكذا النائب في مجلس الشعب، فلن يحكم بكل الشريعة لارتفاع صوت المخالفين، وقوة شوكتهم في مصر منذ عقود من الزمان، واستقواء بعضهم بالخارج!! وهل يُعْقل أن يُطَالَب الإسلاميون بتحقيق كل شيء، مع أنهم لم يظهر لهم وجود فاعل على الساحة السياسية إلا منذ بضعة أشهر، ولم تثْبت أقدامهم بعد في هذا المجال، ويتعرضون لمكايد ومؤامرات ليس لها من دون الله كاشفة؟!

9- لا يجوز لنا أن نجمع على إخواننا العاملين في الساحة السياسية بأْسنا وغلظتنا عليهم، مع ما هم يُلاقون الليل والنهار من الإعلام وغيره مما يضيق به صابرُ الحيوان.

10-   من قاطع الاستفتاء، كان كمن قال: “لا للدستور” وإذا قال: “لا” فهل سيغير المخالفون من القوى السياسية في مصر هذا الدستور المعيب إلى دستور إسلامي صافٍ؟ لو كان كذلك؛ لقلنا كلنا: “لا للدستور” لكن سيأتون بما هو أشد مخالفة للشريعة!! ويبعدون المواد التي تنصر الشريعة؟ فلينظر كل منا في عاقبة قوله، فإن الأمور بالمآلات والعواقب {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا}.

(خاتمة): أنصح من ترجَّح عنده القول بالمقاطعة: أن يجعل هذا رأيًا لنفسه، ولا يتخذ لذلك رايةً بالتحذير من التصويت بـ “نعم” فإن فاز الإسلاميون؛ فإما أن يكون الحال أخف شرًّا مما هو كائن، أو على الأقل فلا يزداد الأمر سوءًا عما هو كائن منذ عشرات السنين، أما لو فاز الفريق الآخر؛ فإن الأمر سيزداد سوءًا ولابد، ولا ينفع عند ذاك الندم، لأن من جملة اعتراضات كثير منهم على “الدستور” المادة (219) التي هي أعظم إنجاز إسلامي في هذا “الدستور” وانظروا –رحمكم الله- فتاوى العلماء الكبار كالشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك –حفظه الله- فإن فيها هداية وكفاية، وقد قرّر أن التصويت بـ “نعم” إن لم يكن واجبًا؛ فهو جائز، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كتبـه

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني

الخميس 29 / محرم / 1434هـ

الموافق 13 / 12 / 2012م

([1]) “اقتضاء الصراط المستقيم” (1/ 298).

([2] ) “مجموع الفتاوى” (20/ 54).

([3]) “مجموع الفتاوى” (28/ 396).

الملف وورد منسق من هنا 

للتواصل معنا