بقلم الشيخ مقابلات ولقاءات

النصيحة والتبيان لأهل السودان

بسم الله الرحمن الرحيم

النصيحة والتبيان لأهل السودان

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى مَنْ بآثار النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- اقْتفى، وبمنهج الصحابة الكرام قَنَع واكْتفى.

فهذه كلمة أُوَجِّهُها إلى أحبتنا في السودان الشقيق، أهل البلد المبارك، والقلب الرقيق، وذوي الشِّيم والقِيم والمكارم والأصل العريق.

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:

  • لا شك أن ما يجري في هذه الأيام في بلادكم من أزمة خانقة، تهدد تماسككم، وأمْنكم، وسيادتكم في ربوع بلادكم، وتُزَعزع استقراركم، ونُموَّكم واطمئنانكم، وتُخَيِّم بالظلام والوجَل على مستقبل أجيالكم … الخ، لا شك أن هذا حالٌ يَهُمُّ كلَّ مسلم غيور، يتعدى ولاؤه لأهل الإسلام والتوحيد حيثما كانوا، وإن كانوا وراء الحدود والصحاري والبحور، وإذا كان المسلمون في صَدْر الإسلام قد اغْتَمُّوا بهزيمة الروم -وهم أهل التثليث- أمام الفرس الوثنيين، وبشَّرهم الله –عز وجل- بتبدُّل الحال إلى ما يُدْخِل عليهم الفرح والسرور، وذلك بنصر أهل الكتاب على الفرس في بضع سنين، حتى قال الله –عز وجل-: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 1 – 5] فأضاف نصْر الروم –على ما هم عليه من عقائد فاسدة- على الفرس إلى ذاته العليَّة.

فإذا كان ذلك كذلك؛ فكيف لا يَهْتَمُّ بأمر الإخوة في السودان كل مسلم، وإن لم يطأ بقدمه أرض السودان من قبل؟ أليس الإسلام رحِمًا بين أهله؟ أليس هدوء السودان واستقراره، وانصلاح حال أهله، وبقاء عزتهم وهيبتهم، وانطلاق عجلة التنمية فيه، واجتماع كلمتهم، وتفويت الفرصة على المتربصين بهم … الخ، أليس كل هذا وأكثر منه مما يُوجِبُ بذلَ النصيحة للراعي والرعية؟ والتفكيرَ في وَضْع الحلول للخروج من هذا المنعطف الخطير؟

  • وقد تلخَّص لي أن السبب الرئيس -فيما يظهر- لإشعال هذه الأزمة يتلخص في أمور اقتصادية تنموية -وهي مشكلة متجذرة عتيقة في هذا القطر وكثير من أقطار المسلمين-.
  • ولا شك أن نصيحتي هذه إنما هي موجهة للعقلاء من هذا الشعب الأَبيّ، الذين لا يقدّمون أهواءهم ورغباتهم ورغبات من وراءهم من منظمات وأحزاب وانتماءات على مصالح شعب السودان الدينية والدنيوية، والذين يبحثون عن تحقيق ما اتفقتْ عليه الشرائع السماوية، وينادي به العقلاء من جميع الطوائف: من تحقيق العدل والرحمة، وتعطيل المفاسد أو تقليلها، وتكميل المصالح أو تحصيلها، وهذا ما أجمع عليه عقلاء كل مِلّة ونِحْلة، وما ينبغي أن يَسْلُكَهُ عمليًّا مَنْ يَمْلِكُ زمام الأمور في كل جهة ودولة.
  • إنني أريد للإخوة في السودان أن يكونوا من السعداء، فالسعيد من وُعِظَ بغيره، ولا يكونوا من الأشقياء، فالشقيّ من وُعِظَ به غيره.

فأريد لهم أن ينظروا فيما حولهم من جميع الجهات من بلدان المسلمين: هل المظاهرات والإضرابات والاضطرابات “والفوضى الخلاقة”!! أو “البنّاءة”!! عادتْ بأي خير على بلاد المسلمين؟ هل هو حقًّا ربيعٌ عربي تنفَّست فيه البلاد أجواءه اللطيفة، وتنعَّمتْ بآثاره ومناظره الخلابة؟ أم هو خريف عربيّ حارق، وربيع عِبْريّ مارق؟

  • انظروا يا أهل السودان في جميع الجهات من حولكم: فشمالكم مصر، وغربُكم ليبيا، وشرقكم اليمن، وجنوبكم –وإن بَعُد قليلا- الصومال، ما هي آثار الفوضى فيها؟ بل هذه تونس قائدة الثورات –كما يزعمون!!- ما هو حالها، وهل تَحرّكَتْ نحو ما كانت تتضمنه شعارات ثورتها الخضراء كما يُدَّعى؟
  • فها هي مصر البلد العظيم بأهله وتاريخه وطبيعته لازال يعيش على صَفِيحٍ سَاخِنٍ، ولا زالت الفُرْقةُ والكراهيةُ بين الشعب المصري العملاق المعطاء الصبور تُبَدِّد ولاءه ولُحْمته، والمنظمات الدولية تَبُثُّ سمومها بينهم، وشعارها: سنستمر في مخططاتنا حتى يَفْنَى آخر مواطن مصري، وكما يُقال في اليمن: الحَجَرُ مِنَ القاع –أي من الأرض- والدمُ من رأْس القَبِيلِي، أي أن المنظمات المشبوهة، والدول الممسوخة لا تَخْسَر شيئا في إشعالها الحروب بيننا، فنحن الذين تَطْحَنُنُا الرَّحَى في كل البلاد، ونحن وأجيالنا الذين ندفع الثَّمن باهظًا بدمائنا وأموالنا وأعراضنا، وحاضرنا ومستقبلنا، وتبقى بلادنا سوقًا رائجة لأسلحتهم، وميدانًا لمكايدهم، وهم الذين يُمْسِكُون بزمام الأمور، ويُصْدِرون القرارات التي تتحكم في مصيرنا، وكلما كادت الحروب والفتن تَضَعُ أوزارها؛ أجَّجُوا نيرانها، ونفخوا في كيرها من جديد، وبشعارات برَّاقة، وقرارات متهافتة، ولجان ومباحثات عقيمة، تعيد الفتنة بيننا جَذَعة، وكلما قيل: انْقَضَتْ تَمَادَتْ!!! وكما قيل: البلاد الإسلامية والعربية تُمْسك بقُرونِ البقرة، وخَصْمُهُم هو الذي يَحْلبها، فليس للعرب حظٌّ من الأمر إلا النطح بالقرون القاسية، وللغرب اللبن الـمُصَفَّى!!!
  • وها هي العراق وسوريا مُسْتَنْقَعان للفتن، وقد تغيرتْ أحوالهما إلى أسوأ حال، فالشعب السوري ما بين غريق في بحار ومحيطات العالم، ومقتول تحت الهدم، وحريق ما بقي إلا رفاته، أو جثة متفحمة، وناهيك عن الدماء التي تسيل في كل مكان، والأعراض التي تُنْتهك، والأموال التي تُنْهَبُ، والقلوبُ المعلَّقةُ بخصمها، تنتظر المطر والعافية من عارِضِ قوم عادٍ، {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24، 25].

والشعب العراقي الذي كان في أحسن مستوى معيشي إذا ما قُورِن ببلاد كثيرة، ها هو لا يملك إلا أن يعمل الأعمال المهينة في البلاد المجاورة، وأما في داخل بلده فلا تسأل عن الفُرْقة التي تعصف بهم، والانقسام الذي يهددهم، والتفجيرات والاغتيالات التي تبيدهم، والغزْو الفِكْري والعَقَدي الذي يُخْيِّم عليهم بظلامه وحقده، فيا لله، أين بترول العراق، وأين رخاؤها واستقرارها، وهيبة جيشها –على ما كان فيه من أمور لا تُحْمَدُ-؟!

  • وها هو اليمن السعيد، يَئِنُّ ويَئطُّ ويسيل دمه في رؤوس الشعاب، وبطون الأودية، فأين رجالاته الذين كانت بيوتهم مفتوحة بالعزِّ والكرم والشهامة، وتسْري في ظُلماتِ الليل صدقاتُهم للفقراء والمساكين، وتكْتظ مساجدهم بالمصلين وخطباء السنة والتوحيد، وتزخر مدارسهم وجامعاتهم ومراكزهم العلمية بمنهج الوسطية والاعتدال، ويحذِّر علماؤه من التطرف والإرهاب بجميع صوره، الفكري منها والدموي، فأين علماؤه اليوم، وأين مشايخ القبائل، وأين أهل الشيم والقيم والمبادئ؟ لا تكاد تراهم إلا في كتاب، أو تحت تُراب، أو في الطوابير أمام مقرّات وسيارات الإغاثة، ينتظرون النَّزْرَ اليسير من حفنات الأرز، وجالون الزيت، والدقيق الذي يَسُدُّون بها رمقهم، ويُسكّتون بها صِبْيَتَهُم الذين يَتَضَاغَوْن جُوعًا، أو قليلا من الدواء لعلاج المرض الذي قَتَل أطفالهم وشيبانهم، ونشأ فيهم من تُجَّار الحروب، والسوق السوداء، والقِطَطِ السِّمان ما الله به عليم.
  • وقد كان الرئيس اليمني السابق يخاطب الشعب، ويُحَذِّرهم من مآل الأمور إلى أن يكون اليمن صومالا آخر، وها هو الرئيس الصومالي –فيما بلغني- يُحذِّر الصوماليين من الفوضى فتكون الصومال يمنًا آخر!!

فيا لله العجب من تَبَدُّل الأحوال، ومن سُنَن الله الكونية التي تجري بين عباده، ولكن العرب –وللأسف- ذاكرتُهم ذاكرةُ الذباب، التي يُضْرب بها المثل في ضعفها، وقلة مخزونها المعلوماتي، فَيَذُبُّها المرء من مكان، ثم تعود إليه، كأن لم يكن شيء، إلى أن تُقْتل أو تُبَاد!!!

  • وقد وردت أدلة كثيرة في النهي عن الخروج على الحكام المسلمين، لا رغبةً في فسادهم وفساد إداراتهم، ولا حُبًّا في استمرار شرّهم، ولكن خوفا من انفلات الأمور، فيقع المحذور، وتزيد الشرور، كما قال القائل:

رامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ           ومِنَ البِرِّ ما يكونُ عُقوقا

قال الله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]

وقد جاء عند مسلم([1]) أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-  فقال: يا نبي الله  أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟ فأَعْرض عنه، ثم سأله، فأَعْرض عنه، ثم سأله في الثانية أو الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، فقال له رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «اسْمَعُوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلْتم».

وفي البخاري ومسلم  من حديث ابن مسعود، قال: قال لنا رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «إنكم سَتَرَوْنَ أثَرةً، وأمورًا تُنْكِرُونها» قالوا : فما تَأْمُرُنا يا رسول الله؟ قال: «أدّوا إليهم حَقَّهُم، وسَلُوا الله حَقَّكُم»([2]).

وجاء في «السنة» لابن أبي عاصم ([3]) من طريق معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- قال: لما خرج أبو ذر إلى «الرَّبَذَة» ؛ لقيه رَكْبٌ من أهل العراق، فقالوا: يا أبا ذر، قد بَلَغَنَا الذي صُنِعَ بك، فَاعْقِدْ لواءً؛ يأتيك رجالٌ ما شئتَ، قال: مَهْلًا مَهْلًا يا أهل الإسلام، فإني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: «سَيَكُون بَعْدي سلطانٌ، فَأَعِزُّوه، مَنِ الْتَمَسَ ذُلَّهُ؛ ثَغَر ثَغْرة ً في الإسلام، ولا يُقبَلُ منه تَوْبَةٌ؛ حتى يُعِيدَهَا كما كانت»([4]).

وعن حذيفة -رضي الله عنه – قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: “يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لا يَـهْتَدُونَ بِـهُدَايَ، وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُـثْمَــانِ إِنْسٍ”، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ الله إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: “تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ؛ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ([5]).

وعن عَوْف بْنَ مَالِكٍ الأشْجَعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-يَقُولُ: “خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ: الَّذِينَ تُـحِبُّونَهُمْ وَيُــحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ: الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أَفَلا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، لا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، أَلا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ الله؛ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ الله، وَلا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ([6]).

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أَنَّهُ قَالَ: “عَلَى الْـمَرْءِ الْـمُسْلِمِ الـسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَـا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِـمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ([7]) أي لا يطيعه في المعصية، ولا يَخْرُجُ عليه.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَــالَ: “مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِر، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَــــاهِلِيَّـــــةً([8]).

وقد حذَّر علماء أهل السنة والجماعة من الخروج والافتئات على الحاكم المسلم، وذلك ليس من باب الرضى بالمنكرات، ولا التهوين من شأنها، ولكن حملهم على ذلك ما جرَّبوه من كون الفوضى لا تُزِيل الأزمات والمنكرات بل تَزيدها، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى -: «ولعله لا يَكَادُ يُعرف طائفة خَرَجَتْ على ذي سلطان ؛ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظَمُ من الفساد الذي أَزَالَتْهُ»([9]). اهـ.

وقال -رحمه الله-: «وقَلَّ مَنْ خرج على إمام ذي سلطان؛ إلا كان ما تولَّد على فِعْلِهِ من الشر؛ أعْظَمَ مما تولَّدَ من الخير، كالذين خرجوا على يزيد –أي ابن معاوية- بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة، الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء».

قال: «وغايةُ هؤلاء إما أن يُغْلَبُوا، وإما أن يَغْلِبُوا، ثم يَزُول مُلْكُهم، فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلْقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحَرَّة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم؛ فهُزِموا وهُزِم أصحابهم، فلا أقاموا دِينًا، ولا أَبْقَوْا دُنْيَا، والله تعالى لا يَأْمر بأمر لا يَحْصُلُ به صلاح الدين ولا صلاحُ الدنيا، وإن كان فاعلُ ذلك من أولياء الله المتقين، ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي، وعائشة، وطلحة، والزبير، وغيرهم، ومع هذا لم يَحْمَدُوا ما فَعَلُوه من القتال، وهم أعظم قَدْرًا عند الله، وأحْسَنُ نِيَّةً من غيرهم».

قال: «وكذلك أهلُ الحَرَّة: كان فيهم من أهل العلم والدين خَلْق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث: كان فيهم خَلْق من أهل العلم والدين، والله يَغْفِر لهم كُلِّهِم».

قال: «وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنتَ يا عامر؟ قال: كنتُ حيث يقول الشاعر:

عَوَى الذِّئْبُ فاسْتَأْنسْتُ بالذِّئْبِ إذْ عَوَى

وصَـوَّت إنسـانٌ فكِـدْتُ  أَطِـيرُ

أصابَتْنَا فتنةٌ؛ لم نَكُنْ فيها بَرَرَةً أَتْقِياء، ولا فَجَرَةً أَقْوِياء».

قال: «وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله، فلا تَدْفَعُوا عذابَ الله بأيديكم، ولكنْ عليكم بالاستكانة والتضرع؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] وكان أفاضل المسلمين يَنْهَوْن عن الخروج في الفتنة ، كما كان  عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلى بن الحسين، وغيرهم يَنْهَوْن عام الحَرَّة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري، ومجاهد، وغيرهما يَنْهَوْن عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا اسْتَقَرَّ أمْرُ أهل السنة على تَرْكِ القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وصاروا يَذْكُرون هذا في عقائدهم، ويَأْمُرون بالصبر على جَوْر الأئمة، وتَرْك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خَلْقٌ كثير من أهل العلم والدين…».

إلى أن قال: «وهذا كله مما يبين أن ما أمر به الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الصبر على جَوْرِ الأئمة، وتَرْكِ قتالِهِم والخروجِ عليهم ؛ هو أصلح الأمور للعِبَاد في المَعَاشِ والمَعَادِ، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا؛ لم يَحْصُلْ بِفِعْلِه صلاح، بل فساد، ولهذا أَثْنَى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على الحسن بقوله: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، ولم يُثْنِ على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نَزْع يدٍ من طاعة، ولا مُفَارَقَةٍ للجماعة»([10]) .اهـ.

فتأمل قول شيخ الإسلام : « ولم يُثْنِ على أحد لا بقتال في فتنة ... » الخ، يظهر لك أن باب الخروج باب فتنة ، فلا تكن من المتهورين فيه ، حتى وإن كان الإمام الجائر من الأشرار الفجار ، لأن خروجك عليه لا يرجع – في الغالب – إلا بشر أكبر.

وقد جاء في «الفتح»([11]) كتاب الفتن، باب قول النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «هلاك أمتي على يد أُغَيْلمة سفهاء»  قال ابن بطال: «وفي هذا الحديث – أيضًا- حُجَّةٌ لما تقدم من ترك القيام على السلطان -ولو جار- لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أعْلَمَ أبا هريرة بأسماء هؤلاء، وأسماء آبائهم، ولم يَأْمُرْ بالخروج عليهم مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم لِكَوْنِ الخُروج أشَدَّ في الهلاك ، وأَقْرَبَ إلى الاستئصال من طاعتهم ، فاختار أَخَفَّ المفسدتين، وأَيْسَرَ الأَمْرَيْنِ».اهـ.

وهذا يدلنا على أن هَدْي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومنهج الصحابة –رضي الله عنهم- ليس فيه إشغال المسلمين بتتبع أخبار وأحوال الحكام، وإشهار ذلك في الناس، حتى يكون ذلك حديث الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والصالح والطالح!! وإلا فلماذا لم يُخبر رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جميع الصحابة بحال هؤلاء الغلمان الذين يكون هلاك الأمة على أيديهم، كما أخبرهم بالصلاة والزكاة ونحوهما؟ وإذا كان إشْهَارُ ذلك في الناس هو الهَدْي الصحيح؛ فلماذا لم يَبُثَّهُ أبوهريرة في الناس؟! إن هذا كله ليدل على فِقْهِ السلف الذي يُغلق الأبواب أمام الفتن المفضية للخراب والدمار، وأما من لـم يَهْتَدِ بهَدْيِهِم ؛ فإنه يرى ذلك جُبْنًا وخِذْلانًا، وعَمَالة وخُنوعا، وضَعْفا وكتمانا للأمانة!!! فإلى الله المشتكى. 

فأين هؤلاء الذين يجعلون الجهل بتفاصيل أمور الحكام جهلًا بالمعلوم من الدين بالضرورة، ويرونه جهلًا بحقائق الدين، ويرمون المعرض عن ذلك بالغفلة، والسذاجة، والبلادة، ويستحلون عرض  مخالفهم، بل ربما استحلوا دمه ؟!

وقال شارح « الطحاوية »([12]): «وأما لُزُومُ طاعتهم  وإن جَارُوا  فَلِأَنَّهُ  يَتَرَتَّبُ على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أَضْعافُ ما يَحْصُل  من جَوْرِهم،  بل في الصبر على جَوْرِهم تكفيرُ السيئات، ومُضَاعَفُةُ الأجور» اهـ.

وقال المعلمي – رحمه الله تعالى-  في « التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل»([13]): «كان أبو حنيفة يَسْتَحِبُّ أو يُوجِبُ الخروج على خلفاء بني العباس ، لِمَا ظهر منهم من الظلم ، ويرى قتالهم خيرًا من قتال الكفار ، وأبو إسحاق – يعني : الفزاري – يُنْكِرُ ذلك ، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك ، فمن كان يرى الخروجَ؛ يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والقيام بالحق ، ومن كان يَكْرَهُهُ، يرى أنه شَقٌّ لِعَصَا المسلمين، وتفريقٌ لكلمتهم، وتَشْتيتٌ لجماعتهم، وتَمْزِيقٌ لِوَحْدَتِهِم، وشُغْلٌ لهم بقتل بعضهم بعضًا، فَتَهِنُ قُوَّتُهُم، وتَقْوَى شَوْكَةُ عَدُوِّهم، وتتعطل ثُغُورهم، فَيَسْتَوْلِي عليها الكفار، ويَقْتُلُون مَنْ فيها مِنَ المسلمين، ويُذِلُّونهم، ويَسْتَحْكِم التنازع بين المسلمين، فتكونُ نتيجَتُهُ الفشلَ المخزي لهم جميعًا ».

قال: «وقد جَرَّبَ المسلمون الخروج؛ فلم يَرَوْا منه إلا الشر: خرج الناس على عثمان، يرون أنهم إنما يريدون الحق، وخرج أهل الجمل، يرى رؤساؤهم ومُعْظَمُهم أنهم إنما يطلبون الحق، فكانت ثمرة ذلك بعد اللُّتَيَّا والتي: أن انقطعت خلافة النبوة، وتأسست دولة بني أمية، ثم اضطُّر الحسين بن علي إلى ما اضطُّر إليه، فكانت تلك المأساة، ثم خرج أهل المدينة، فكانت وقعة الحَرَّة، ثم خرج القراء مع ابن الأشعث، فماذا كان؟! ثم كانت قضية زيد بن علي، وعَرَضَ عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر؛ فأبَى، فخذلوه، فكان ما  كان، ثم خرجوا مع بني العباس، فنشأت دولتهم -التي رأى أبو حنيفة الخروج عليها- واحتشد الروافض مع إبراهيم -الذي رأى أبو حنيفة الخروج معه ولو كُتِبَ له نَصْرٌ؛ لاستولى الروافض على دولتهم، فَيَعُودُ أبو حنيفة يُفْتِي بوجوب الخروج عليهم»!!

ومما يدل على وقوع الإجماع على ترك الخروج والافتئات على الحاكم، ونزْع اليد من الطاعة، ومفارقة الجماعة، ما ذكره الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – في عقيدته التي رواها عنه اللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة »([14]) فقال: « لَقِيتُ أَكْثَرَ من أَلْفِ رجلٍ من أهل العلم: أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، وواسط، وبغداد، والشام، ومصر، لقيتُهم كرّاتٍ، قَرْنًا بعد قرْن، ثم قَرْنًا بعد قرْن([15]) ، أدركتُهُم وهم متوافرون منذ أَكْثَرَ من سِتٍّ وأربعين سنة: أهل الشام، ومصر، والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات، في سنين ذوي عدد، بالحجاز سِتَّةِ أعوامٍ، ولا أُحْصِي كَمْ دَخَلْتُ الكوفة، وبغداد، مع محدثي أهل خراسان... » ثم ذكر أسماء بعضهم في عدد من البلدان.

ثم قال : « واكتفينا بتسمية هؤلاء؛ كي يكون مختصرًا، وأن لا يطول ذلك، فما رَأَيْتُ واحدًا منهم يختلف في هذه الأشياء… » فذكر أمورًا في العقيدة المتفق عليها، ومن ذلك قوله: «وألا نُنَازِعَ الأمر أَهْلَهُ؛ وألا يُرَى السيفُ على أمة محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقال الفضيل: لو كانت لي دَعْوَةٌ مستجابةٌ؛ لم أَجْعَلْها إلا في إمام؛ لأنه إذا صَلُحَ الإمام؛ أمِنَ البلادُ والعِبادُ، قال ابن المبارك: يا مُعَلِّم الخير، من يجترئ على هذا غيرك؟».اهـ.

فتأمل هذا الإجماع المستقر الثابت الرافع للخلاف في هذه المسألة ، وتأمل قول ابن المبارك للفضيل، فلعله – والله أعلم – يشير إلى أن أهل الأهواء من عادتهم رَمْيُ أهل السنة بالجبن والضعف أمام الحكام، ولذلك -والله أعلم -ربما سكت بعض أهل السنة عن التصريح أمامهم بالدعاء للإمام، خوفا من تصنيفهم إياه، وإلحاقه بأي فِرْقة من فِرَق الضلالة، ولما سمع ابن المبارك هذا القول من الفضيل؛ قال له: «من يجترئ على هذا غيرك» ؟! مما يدل على شدة وطْأة الإرهاب الفكري لدعاة الفوضى آنذاك، كما يدل على قوة الفضيل في الصدع بما يعتقد، وكم من عالم أو إمام اليوم يُنتقد عليه أنه يدعو لولي الأمر بالصلاح والسداد، ويقال فيه – بدون وجه حق -: هو عميل، أو متزلِّف، أو جبان .. إلخ هذا القاموس الجائر، فما على صاحب الحق إلا المضيّ فيه ، وإلى الله سبحانه وتعالى المشتكى، وعليه التكلان !!

وقد ذكر اللالكائي – أيضًا- الإجماع عن غير واحد، فارجع إليه في المصدر السابق.

وقال الأشعري في «رسالة أهل الثغر»([16]): «وأَجْمَعُوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل مَنْ وَلِيَ شيئًا من أمورهم عن رِضًى أو غَلَبَةٍ، وامتدتْ طاعتُهُ  مِنْ برٍّ وفاجر لا يَلْزَمُ الخروجُ عليه بالسيف جارَ أو عَدَل، وعلى أن يُغْزا معه العدو، ويُحَجَّ معهم البيت، وتُدْفع إليهم الصدقات إذا طلبوها ، ويُصَلَّى خلفهم الجُمَع و الأعياد».اهـ. كلامه – رحمه الله تعالى -.

وهذا الإجماع موافق لما سبق، ولا حجة للمخالفين في ذكر الأشعري غزو الإمام العدوَّ، لأنه لا يَلْزَمُ من تركهم الغَزْوَ – وفيه تفاصيل طويلة الذَّيْل-خَلْعُ اليد من طاعتهم مطلقًا، والله أعلم.

وبنحو ذلك قال الصابوني في «عقيدة السلف أصحاب الحديث»([17]) :  «ويرى أصحابُ الحديث الجمعةَ والعيدين وغيرَهُما من الصلوات خلف كل إمام مسلم، برًّا كان أو فاجرًا، ويرون جهاد الكفار معهم، وإن كانوا جَوَرة فَجَرة، ويَرَوْنَ الدعاء لهم بالإصلاح، والتوفيق، والصلاح، وبَسْط العدل في الرعية، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف ، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجَوْرِ والحَيْفِ...». اهـ.

وقال الإسماعيلي في «اعتقاد أهل السنة»([18]): «ويروْن الدعاء لهم بالإصلاح، والعطف إلى العدل، ولا يَرَوْن الخروج بالسيف عليهم».اهـ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى –([19]) : « وأما أهل العلم والدين والفضل؛ فلا يُرَخِّصون لأحدٍ فيما نَهَى الله عنه: من معصية ولاة الأمور، وغِشِّهِمْ، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عُرِف من عادات أهل السنة والدين قديمًا وحديثًا، ومِنْ سِيَرةِ غيرهم».اهـ.

وقال -أيضًا-: «فلهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة: لُزومُ الجماعةِ، وتَرْكُ قتال الأئمة في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم»([20]).اهـ.

ونقل الإمام ابن القيم في «حادي الأرواح»([21]) عن حرب صاحب أحمد في «مسائله» المشهورة، أنه قال: «هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الآثار، وأهل السنة المُتَمَسِّكين بها، المُقْتَدَى بهم فيها من لَدُنْ أصحاب النبي  -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى يومنا هذا، وأدركْتُ مَنْ أدركْتُ من علماء أهل الحجاز، والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طَعَنَ فيها، أو عاب قائِلَهَا؛ فهو مُخَالِفٌ، مُبْتَدِعٌ، خارجٌ عن الجماعة، زائلٌ عن منهج السنة وسبيلِ الحق».

قال: «وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وعبد الله بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم، ممن جالسْنَا وأخَذْنَا عنهم العلم، وكان من قولهم... » فذكر أمورًا،  وفيها: «… والانقياد لمن ولاه الله -عز وجل- أَمْرَكم، ولا تَنْـِزعُ يدًا من طاعة، ولا تَخْرُجُ عليه بسيف، حتى يجعل الله لك فرجًا ومخرجًا، ولا تَخْرُجُ على السلطان، وتَسْمَعُ وتُطِيعُ، ولا تَنْكُثُ بيعته، فمن فَعَلَ ذلك؛ فهو مُبْتَدِعٌ، مخالفٌ، ومفارق للجماعة...».اهـ.

وقال الإمام النووي – رحمه الله تعالى -:

«وأما الخروجُ عليهم وقتالُهُم؛ فحرامٌ بإجماع المسلمين وإن كانوا فَسَقَةً ظَلَمَةً وقد تظاهرت الأحاديثُ بمعنى ما ذكرتُهُ، وأجمع أهل السنة أنه لا يَنْعَزلُ السلطانُ بالفسق»([22]).اهـ.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب»([23]) ترجمة الحسن بن صالح بن حي، أنه كان يرى السيف، ثم قال: «وقولهم: كان يرى السيف، يعني: كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مَذْهَبٌ للسلف قَديمٌ، لكن اسْتَقَرَّ الأمرُ على تَرْكِ ذلك؛ لِمَا رَأوْهُ قد أفْضَى إلى أَشَدَّ منه، ففي وَقْعَةِ الحَرَّة، ووَقْعَةِ ابن الأشعث، وغيرهما عِظَةٌ لمن تَدَبَّرَ…».اهـ.

وقد قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ  – رحمه الله تعالى- ([24]): «… ولم يَدْرِ هؤلاء المفتونون: أن أكثر ولاة أهل الإسلام، من عهد يزيد بن معاوية حاشا عمر بن عبد العزيز ومن  شاء الله من بني أمية قد وقع منهم من الجراءة، والحوادث العظام، والخروج، والفساد في ولاية أهل الإسلام، ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام، والسادة العظام معهم معروفةٌ مشهورةٌ: لا يَنْـِزُعون يدًا من طاعة فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام، وواجبات الدين…».اهـ.

وليس هذا إقرارًا من علماء السنة للمنكرات الموجودة في المجتمعات -فمعاذ الله من الضلالة بعد الهدى  إنما المراد: الحفاظ على ما أَمْكَنَ أو بقي من الخير، ودَرْء ما أَمْكَن من المفاسد.

ولذا فقد قال صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- : «… وإذا فَرَضْنَا على التقدير البعيد: أن وَلِيَّ الأمر كافر؛ فهل يعني ذلك أن نُغِيرَ الناسَ عليه، حتى يَحْصُلَ التمردُ، والفوضى، والقتالُ؟! لا شك أنه خطأ، المصلحة التي تَحْصُل غير مَرْجُوَّة في هذا الطريق، المصلحة التي يريدها هذا؛ لا يُمْكن أن تَحْصُل بهذا الطريق، بل يَحْصُل في ذلك مفاسد عظيمة؛ لأنه مثلًا إذا قام طائفة من الناس على ولي الأمر في البلاد، وعند ولي الأمر من القوة والسلطة ما ليس عند (هذه الطائفة) ما الذي يكون؟ هل تَغْلِبُ هذه الفئةُ القليلةُ؟ لا تَغْلِبُ!! بل بالعكس: يَحْصُلُ الشر والفوضى والفساد، ولا تستقيم الأمور، والإنسان يَجِبُ عليه أن يَنْظُرَ أولًا بعين الشرع، ولا يَنْظُرَ أيضًا إلى الشرع بعَيْنٍ عَوْراء: يَنْظُر إلى النصوص من جهة دون الجهة الأخرى، بل يَجِبُ أن يَجْمَعَ بين النصوص .

ثانيًا: يَنْظُرَ أيضًا بعين العقل والحكمة، ما الذي يترتب على هذا الشيء؟ لذلك نحن نرى مثل هذا المسلك، مسلكًا خاطئًا جدًّا، وخطيرًا، ولا يجوز للإنسان أن يُؤَيِّدَ مَنْ سَلَكه، بل يَرْفُضَ هذا رفضًا باتًّا، ونحن لا نتكلم على حكومة بعينها، ولكن نتكلم على سبيل العموم»([25])اهـ.

وقال صاحب الفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله – في سياق ذَمِّ الخروج على الحكام الظلمة: «لأن في الخروج عليهم أَشَدَّ مما هم واقعون فيه من الخطأ والخلل، ويَحْصُلُ مَضَرَّةٌ أكبرُ من الصَّبْرِ على أذاهم، الصَّبْرُ على أذاهم مَضَرَّةٌ بلا شك، ولكن ما يترتب على الخروج عليهم أَشَدُّ: مِنْ نَقْضِ عصا الطاعة ، وتفريق كلمة المسلمين، وتَسَلُّط الكفار على المسلمين، هذا أَشَدُّ من الصبر على ظُلْمِ الوالي الظالم أو الفاسق ، الذي لم يَصِلْ إلى حد الكفر»([26]) .

وذكر ابن الـمُنَيِّرِ المالكيُّ -رحمه الله- في “الانتصاف” (4/106) أنه نُقل عن بعض السلف أنه دعا لسلطان ظالم، فقيل له: أَتَدْعُو له وهو ظالم؟ فقال: إي –والله- أدعو له، إن ما يدفع الله ببقائه أعظم مما يندفع بزواله. اهـ.

وأخرج البيهقي في “شُعَبِ الإيمان” (9/ 498)  عن أَبي عُثْمَانَ سَعِيدِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْوَاعِظِ الزَّاهِدِ، أنه قَالَ بعد روايته لحديث تميم الداري مرفوعا: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ” قِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِنَبِيِّهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ” قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: “فَانْصَحْ لِلسُّلْطَانِ، وَأَكْثِرْ لَهُ مِنَ الدُّعَاءِ بِالصَّلَاحِ وَالرَّشَادِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا صَلُحُوا صَلُحَ الْعِبَادُ بِصَلَاحِهِمْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ؛ فَيَزْدَادُوا شَرًّا، وَيَزْدَادَ الْبَلَاءُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنِ ادْعُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، فَيَتْرُكُوا الشَّرَّ، فَيَرْتَفِعَ الْبَلَاءُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ” اهـ.

وقال الإمام البربهاري في “شرح السنة” (ص: 113): “وإذا رأيتَ الرجلَ يدعو على السلطان؛ فاعلم أنه صاحبُ هَوىً، وإذا رأيتَ الرجل يدعو للسلطان بالصلاح؛ فاعلم أنه صاحب سُنَّةٍ إن شاء الله“.

وأخرج أبو نعيم في “حلية الأولياء” (8/ 91): عن الْفُضَيْلِ بْنَ عِيَاضٍ , أنه قال: “لَوْ أَنَّ لِيَ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً؛ مَا صَيَّرْتُهَا إِلَّا فِي الْإِمَامِ؛ قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟ قَالَ: مَتَى مَا صَيَّرْتُهَا فِي نَفْسِي؛ لَمْ تَجُزْني، وَمَتَى صَيَّرْتُهَا فِي الْإِمَامِ؛ فَصَلَاحُ الْإِمَامِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ … ” فَقَبَّلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ جَبْهَتَهُ , وَقَالَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ مَنْ يُحْسِنُ هَذَا غَيْرُكَ” إسناده صحيح. اهـ.

وأخرج الخلال في “السنة” (1/ 83): أَنَّ حَنْبَلًا، حَدَّثَهُمْ أن الإمام أحمد قَالَ: «وَإِنِّي لَأَدْعُو لَهُ بِالتَّسْدِيدِ، وَالتَّوْفِيقِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالتَّأْيِيدِ، وَأَرَى لَهُ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيَّ»

وأخرج أيضا في “السنة” (1/ 84): عن أَبي بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَذَكَرَ الْخَلِيفَةَ الْمُتَوَكِّلَ -رَحِمَهُ اللَّه- فَقَالَ: “إِنِّي لَأَدْعُو لَهُ بِالصَّلَاحِ وَالْعَافِيَةِ، وَقَالَ: لَئِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ لَتَنْظُرَنَّ مَا يَحِلُّ بِالْإِسْلَامِ” اهـ.

  • ونصيحتي التي أُوَجِّهُها لأحبتنا في السودان تُوَجَّه إلى عدّة جهات، وإن لم أكن رجلَ سياسة، ولا فِكْرٍ، ولا اقتصاد، لكني أتكلم بحقيقة الحال، وما آل إليه الواقع الـمُرُّ الذي تعاني منه أُمتنا، مع وضْع ذلك على ميزان الشريعة الإسلامية، والانطلاق من تعاليمها السامية:
  • الأولى: نصيحتي للحزب الحاكم، حزب المؤتمر الوطني، وعلى رأس الهرم فيه: فخامة الرئيس السوداني عمر بن حسن البشير –وفقه الله لكل خير، ووقاه فتنة القول والعمل-:

1- اعلم –وفقك الله- أن تولِّي منصِب الرئاسة إنما هو في الحقيقة تكليفٌ لا تشريفٌ، وأن الشعب السوداني رعيتُكَ في الدنيا وخصماؤك يوم القيامة، وأن الحاكم إما أن يفُكّه عَدْلُه من فتن المحيا والممات، أو يُوبِقَهُ ظُلْمُهُ وجَوْرُه.

2- أرجو أن تتواضع لشعبك، وأن تنظر في أسباب المشكلة الحقيقية، ولا تُصْغِ إلى مَنْ يُشِيرُ عليك بأن جميع المعارضين أشرار، ونواياهم سيئة، وأنه لا حَلَّ معهم إلا إبادتُهم، فللمشكلة القائمة الآن ما يُبَرِّرها من التعثرات والكبوات والإخفاقات المعيشية والاقتصادية، ووجود ما تُسَمُّونه أنتم بالقِطط السّمان، الذين يمتصون دماء الشعب باسم حكومتكم، وتحت مظلة نظامكم، غيرَ آبهين بمصير ذلك عليكم في الدنيا والآخرة، فما كان من حق في مطالب الناس فبادرْ إلى السعي في تحقيقه، ولا يَصُدّنَّك عن ذلك ما في طلبات بعضهم ونواياهم من دَخَن من جهات أخرى، فتحقيق بعض الخير أقل شرًّا من ضياعه كله، ولا تُصْغِ إلى من يَعُدُّ الاستجابة لبعض الحق من مطالب الشعب ضعْفًا، وسقوطًا لهيبة الحاكم، فليس للحاكم هيبة إلا بطاعة الله –عز وجل- ثم خدمة شعبه، والرفق به.

3- أرجو أن تُلْزِم الجهات الأمنية بضبْط النفس ما أمكن، وعدم اللجوء إلى القوة المفْرِطة؛ فإن حُرْمَة النفوس عند الله عظيمة، والله -عز وجل- يقول ناهيًا عن ذلك: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [ النساء :  93]  ويقول –سبحانه جل شأنه- : {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]  .

وقال الله تعالى : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] .

ويقول النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: « لا يَحِلُّ قَتْلُ امرئ مسلم ، إلا بإحدى ثلاث : الثَّيِّب الزاني ، والنفْس بالنفْس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة »([27]) ويقول-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: « لزوالُ الدنيا  أَهْوَنُ على الله مِنْ قَتْلِ امرئٍ مسلمٍ بغير حق»([28])، ويقول-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»([29]) وغير ذلك من الأحاديث، وقد شاع عنكم –ولله الحمد- أنكم ممن يخاف عذاب الله، ويُعظِّم حرماته، فلا تُخيِّبوا ظن الكثيرين فيكم.

4- أرجو أن تدعو إلى اجتماع عاجل لمن يمثِّل العقلاء المخلصين أصحاب النوايا الصادقة، والحِرْص على سلامة البلاد، وخروجها من محنتها؛ للتشاور معهم في أسباب الأزمة، وطرق حَلِّها، وتفادي شرِّها في الحال والمآل، ولا تَخْتَزِلْ هؤلاء في حِزْبِكَ والـمُقَرَّبين منك، فالبلاد لا تَخْلُو من محبين كُثُر لمصلحة السودان، حريصين عليه، ومن يفدونه بأنفسهم وأموالهم، وعَدُوٌّ عاقلٌ خيرٌ مِنْ صَديقٍ أحمق، وصديقُك مَنْ صَدَقك لا مَنْ صَدَّقك.

5- أرجو أن تحرصوا على تفويت الفرصة على الحاقدين والماكرين المتربصين بالسودان في الداخل والخارج، ولو أدى ذلك إلى ترك ما هو لك من حقوق أو منصب، للحفاظ على سلامة السودان، ولن ينسى لك التاريخ ذلك، فلا زال السودانيون يذْكرون المشير عبدالرحمن محمد سوار الذهب –رحمه الله- الذي ترك الحكم عن طواعية وهو على سُدَّته.

6- اعلم –وفقك الله- أن التاريخ شاهِدُ عَدْلٍ، مهما تناولَتْهُ أقلامُ المزيِّفين، ولابد أن تَظْهَرَ الأمور على حقيقتها، وإن طال الزمان، فأُحِبُّ لك أن يذكرك التاريخ برحمة الشعب، والسعي في مصالحه، والانحياز إلى مطالبه التي تُرضي الله –عز وجل- وإن أخذ الزمام من لا ترضاه من أهل السودان، فقد تنازل الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وهو أحق بالأمر من معاوية –رضي الله عنه- وقال في خطبته بعد أن ذَكَر أنه أحق بهذا الأمر من معاوية، إلا أنه قال: “أرى أن تجتمعوا على معاوية، وإن أدري لعلَّه فتنة لكم ومتاع إلى حين” وقال أيضًا وقد اجتمع الناس إليه، يَدْعُونه لقتال معاوية ومن معه، وقد رأى الناس اجتمعوا من الفريقين أَمْثَالَ الْجِبَالِ فِي الْحَدِيدِ, فَقَالَ: “اضْرِبْ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ فِي مُلْكٍ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا، لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ؟!!” وقام خطيبا بعد وفاة علي –رضي الله عنه- فَخَطَبَهُمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَثْنَى عَلَيْهِ, ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ, وَإِنَّ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَوَاقِعٌ, مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ, وَلَوْ كَرِهَ النَّاسُ, وَإِنِّي مَا أُحِبُّ أَنْ أَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَزِنُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ, يُهَرَاقُ فِيهِ مُحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ, قَدْ عَرَفْتُ مَا يَنْفَعُنِي مِمَّا يَضُرُّنِي, فَالْحَقُوا بِطَيبَتِكُمْ»([30]) أي ارجعوا إلى المدينة سالمين راشدين.

وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بهذا الموقف قبل وقوعه بأكثر من ثلاثين سنة، وأشَاد بِهِ، وقال: “إنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ، يُصْلِحُ الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين” وَحَقَنَ الله به الدماء، وسُمِّي هذا العام: عام الجماعة.

7-أرجو أن تقوم بتوجيه وسائل الإعلام التابعة لكم على ضبط كلامها وعباراتها، وترشيد وسائل علاجها للأزمة، دون تكثير جبهات الخصوم، أو جحد ما عند المخالف من حق، وترويج ما عند الموافق من باطل، فالكلمة العاقلة تزيل الجبال الرواسي من الأكاذيب، وإن طال الزمن، وكلّ إنسان مسؤول عن كلمته وكلمة من يأتمر بأمره.

8- لابد من التضحية ببعض حيتان الفساد في النظام، الذين تُسَمُّونهم: بــ “القِطَط السِّمان” حتى يشعر الناس بجديتكم في الإصلاح والعلاج، وذلك ضِمن إعلانكم حربًا على الفساد والمفسدين.

9- أرجو المبادرة بحل ما أمكن من عُقَد هذه الأزمة، بتثبيت الدعم الحكومي للسلع الضرورية من الدقيق، والخبز، والوقود، ومراجعة سياسة الأجور بما يتلاءم مع صعود الدولار، وسُعَار الأسعار، فإن الأعمال –لا مجرد الوعود والأقوال- هي التي تُسْكت المخالف، وتَقْطَعُ الطريق على المتربِّص، وتميّز الصفوف، فبها يُعْرف سيئ النية والمقصد من غيره، ويُعَامل بما يردع شرّه وفق شريعة الله –عز وجل- ولا يُؤخذ البريء بجريرة المسيء، كما قيل:

غَيْرِي جَنَى وأنا الـمُعَذَّبُ فِيكُمُ              فكأنّني سبَّابَةُ الـمُتَنَدِّمِ

أما مجرد الكلمات أو الخُطب الرنانة –وإن صدرتْ من مشاهير- فمن الذي يسمعها وسط هدير الجماهير، وزمجرة الغاضبين، لكن الاستجابة الفورية الواقعية لتفكيك ما أمكن من عُقَد الأزمة المعيشية خطوة ضرورية لعودة الهدوء والاستقرار إلى البلاد، ونزْع فتيل الفتنة، وإطفاء عُودِ الثّقَاب، الذي اقترب كثيرا من خزانات الباروت، ولكل مرحلة خطتها الملائمة لها، ورجالها الذين يُحْسنون الكلام فيها.

10- أرجو الاجتماع بقيادات حزبكم الحاكم ورجال الحكومة في العاصمة وبقية الولايات، وتوجيههم بما يجعلهم يستشعرون الأزمة ومآلاتها، دون تحقير أو تقزيم لها ولمن وراءها –وإن ساءت مقاصدهم- حتى لا تُفَاجَأَ البلاد بما هو أسوأ، فاستعظام الأمر للجدية في علاجه سبيل العقلاء، وليس استصغاره وتسفيهه أو تسطيحه، ثم تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وعند الصباح يَحْمَدُ القومُ السُّرَى!!

11- أذكركم بموقف تاريخي للمسلمين في مصر، في سنة (657هـ) عندما غزا التتار بلاد الإسلام، ولم يبْق قُطْر لم يسْلم من شرهم إلا مصر، فاستغاث سلطان دمشق وحلب بالمسلمين في مصر، فاجتمع القادة العسكريون بمصر، وعلى رأسهم السلطان سيف الدين قُطُز –رحمه الله- والعلماء والقضاة، وجعلوا الرأي للعز ابن عبدالسلام سلطان العلماء –رحمة الله عليه- واجتمعوا على الخروج من مصر لقتال التتار قبل وصولهم مصر، فطلب القادة العسكريون أن تُفْرض الضرائب على الشعب المصري؛ لشراء الأسلحة، وتجهيز الجيش بما يحتاج إليه من مال وعتادٍ ورجال، فقال العز بن عبدالسلام –رحمه الله- ما خلاصته: الشعب لا يحتمل أكثر مما هو فيه من الضيق وضنك العيش، ولكن فَلْيَرُدَّ القادةُ والـمُتْخَمُون بالثروات ما بأيديهم من الحوائص الذهبية –وهي سبائك الذهب التي كانت تُوزَّع عليهم في تشجيعهم للألعاب والرياضة- وكذا فلْيَرُدُّوا الضياع –وهي الحدائق- وبساتين النزهة وغير ذلك مما يملكونه للرفاهية في عطلاتهم، حتى يتساووا مع المواطنين، فإذا وفَّتْ هذه الأموال بحاجة الجيش؛ وإلا فرضنا –عند ذاك- الضرائب على الشعب، فباع القادة الكبار ما بأيديهم، فكان في ذلك كفاية حاجة الجيش وزيادة، وخرج الجيش، والتقى بالتتار في عين جالوت سنة (658هـ)، فكان يومًا مشهودًا، ونقطة تَحَوُّل في تاريخ المسلمين، وشامة بيضاء في جبين الجيوش الإسلامية، وقياداتها وعلمائها، وذلك بعد ما سقطت خلافة المسلمين وبلادهم، وأصابهم ما يَنْدَى له الجبين من الذل والهوان ما أصابهم من أقصى الشرق إلى بلاد العراق والشام، وها هو التاريخ يُسطّر لهم هذا الموقف بأحرف من نور([31])، فأرجو أن تعيد لشعب السودان كرامته وتماسكه ببذل ما يساعد على إخراج السودان من محنته.

12- أرجو أن تسعوا في حلّ أزمة الطوابير أمام المخابز، ومحطات الوقود، وصرافات البنوك، ومواقف النقل العام، ولا تُلْجِئُوا الناس إلى أكل الربا، الذي ما دخل بلدا إلا أفقر أهلها، فقد بلغني أنهم يبيعون مُدَّخراتهم النقدية التي في البنوك، والتي عجزوا عن الحصول عليها في مقابل مبالغ (كاش) بأقل مما سيدفعون لهم إذا صرفوا أموالهم، وهذا بيع نَقْدٍ بِنَقْدٍ مع الزيادة، والإرهاصات حول تهريب العملة الصعبة وغير ذلك مما لا يُحلُّ إلجاء الناس إلى هذا التعامل الرِّبَوي.

13- احرصوا –سلَّمكم الله- على الاستفادة من تجارب دول قد مرّت بنحو ما تمرُّون به من أزمات خانقة، وها هم الآن في صدارة الدول التي نجحت في الخروج من عُنُق الزجاجة، والسودان ليس بلدًا فقيرا، بل تسْعى كثير من الدول إلى الظَّفَر بعقود الشراكة معكم، لو سعيتم ي حلِّ مشكلة الحصار الدولي المفروض عليكم، وسهَّلتم في الشروط.

14- احرصوا –وفقكم الله- على حُسْن العلاقة مع جواركم العربي والإسلامي والإقليمي، وإن تجرَّعْتُم بعض الغُصَص عندما تجدون مما لا تُحبّون، أو عدم المعاملة بالمثل، فالعداوة لا خير فيها مع البعيد، فكيف بالأخ والجار والقريب، ولعل هذا الصبر والتغاضي منكم على إخوانكم يكون نواة لائتلاف إسلاميٍّ عربيٍّ تَنْعَم به الشعوب التي عانتْ كثيرا من الخلافات والفُرْقة؟!

  • الثانية: نصيحتي للقائمين بهذه المظاهرات، ومن يقف وراءهم بأي صُورة من الصُّور:

1- اعلموا –وفقكم الله- أن الله قد أنعم عليكم بنعم كثيرة في بلادكم، في موقعها الجغرافي، وثرواتها الطبيعية، فبلاد يجري في ربوعها نهر النيل على مسافة قد تصل إلى (1700)كم، ويغطي مساحة (2.5) مليون هكتار زراعي، وبلادكم في سعة المساحة تحتلُّ رقما عاليا في دول العالم أجمع، وفيها من الطاقة البشرية، والموارد الطبيعية، والإنتاج الحيواني ما يزيد على (120) مليون رأس من الإبل، والبقر، والغنم، بالإضافة إلى ما بقي من الحقول البترولية، وموانيها التجارية، فحذاري حذاري من أن تُسْقِطُوا هيبة الحكومة، فتذهب هذه الثروات هدرا، وفي أيدي اللصوص المحترفين، وتُجّار الحروب من الداخل والخارج، والفوضى أعظمُ مَرْتَع وأَوْخَمُه لانتشار هذه الظاهرة.

2- خُذُوا العبرة ممن حولكم من البلدان، هل حسَّنت المظاهرات والفوضى مستواهم المعيشي، ولَسْتُم بحاجة إلى الاعتبار بالتاريخ الذي في بطون الكتب، بل اعتبروا بالواقع المشاهَد أمس واليوم وغدا، فما الذي سيجعلكم خيرا منهم، حتى تحققوا كل ما تريدون بالهتاف الذي مجَّتْه الأسماع: “الشَّعْبُ يريد إسقاطَ النظام” وكذا: “ارْحَلَ، ارْحَلْ”؟! والأناشيد الوطنية الحماسية، ونصْب المنصَّات للخطابة في الميداين العامة، ورفع أعلام ورايات الجمهورية؟!!

أما تعلمون أن الحكومات على ما فيها من شَرِّ وبلاء، فهي سِتْر لشعوبها، وشَعْبٌ بلا حكومة شعب بلا كرامة؟ فكم من شعوب انهارت حكوماتها، وأصبحت دولا فاشلة، وها هم أبناؤها مشتتون في البلدان، يموت بعضهم في صحراء، فتدفنه الرياح، أو في بحر، فتأكله الحيتان، ويأكلون أوراق الشجر، ومن القمامات؟!

أما تعلمون أن سقوط النظام إحلال للفوضى، واللصوصية، والبلطجية، وذوي الشرايين الواسعة في التهام الخيرات والثروات محل النظام، وإن كان خاويا؟

أما تعلمون أن ظِلَّ الشجرة التي تَسَاقَطَ وَرَقُها في الخريف خير من لهيب الشمس في مكان لا شجرة فيه أصلا؟ ومن أَصَرَّ على شُرْبِ الماء الصافي؛ طال ظَمؤُه، واشتَدَّ لهيبه!!!

أما تعلمون أن أحد علماء التابعين، وهو عامر بن شراحيل الشعبي، كان يقول: يأتي على الناس زمانٌ يُصَلُّون فيه على الحجاج بن يوسف الثقفي([32])؟ -أي يَدْعُون له، وذلك عندما يرون شَرَّ غيره- والحجاج أمير غَشُومٌ ظَلومٌ عَسُوفٌ، وهو الذي قال فيه عمر بن عبدالعزيز والحسن البصري: لو تَخَابَثَتِ الأممُ يوم القيامة، وقيل لكل أمة: أَخْرِجِي خبثاءكِ، وأَخْرَجْنَا الحجاج لكفيناهم، أو: لزِدْنا عليهم([33])؟

أما تَعْلَمُون أن من كانوا قبلكم وممن حولكم قد ملؤوا الدنيا ضجيجا بنداء: “ارْحَلْ، ارْحَلْ”، فرحلوا هم، أو أُودِعُوا في بطون السجون، ولم يُغَيِّروا من المنكر شيئًا؟

أما تَعْلَمُون أن تغيير المنكر إذا كان سيُفضي إلى مُنْكَرٍ أكبر، فمن المنكر أن تَنْهَوْا عن المنكر؟

أما تَعْلَمُون أن الثورات التي سَبَقَتْكُم قد انقلب قادتها على بعضهم، فكُلٌّ يريد لحزبه أن يَظْفَر بنصيب الأسد، وألْقى لشركائه الفُتات؟ مما جعلهم يثورون عليه مرة أخرى، وهكذا، ثورةٌ تَحْمِل لقاح ثورةٍ أخرى، وثُوَّارٌ يُولِّدون ثُوَّارًا آخرين …، وهَلمَّ جَرًّا، فمتى تَهْدَأُ البلاد، وتَلْتَقِطُ أنفاسَها، وتخْطُو نحو مستقبلها؟ وما من أحد سلك هذا المسلك إلا وقد ندم حيث لا ينفع الندم، فهل لقادة هذه الثورات عقول يُدْرِكُون، أو ذاكرة لا تنسى ما حَلَّ بغيرهم، أم هي الذاكرة الذُّبابية؟

ولا تبالوا بالمكابرين الذين لا زالوا يحتفلون بأعياد ثوراتهم وهم خارج بلادهم في المنفى الاضطراري أو الاختياري، أو من داخل الزنازين، وبعضهم قد توفاه الله، وهم الآن في باطن القبور.

3- اعلموا أن المظاهرات صورة من صور الخروج والافتئات على الحاكم المسلم الذي دان الناس له، وسمَّوه أميرا أو رئيسًا لهم، وهذا غير جائز شرعا، ومخالف للأدلة السابقة، ولما عليه إجماع السلف الصالح، كما مَرَّ بنا في هذه الرسالة، وليس في مخالفة الشرع خير، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فَأْتُوا البيوت من أبوابها، بالنصح الصادق، ودخول أهل الحل والعقد على الحاكم، لتذكيره بحق الله، وحق الرعية، وضرورة السعي الجاد الصادق في حل أزماتهم، وإطلاعه على الحلول الواقعية للأزمة، وليست الحلول الخيالية والمثالية التي لا تراعي الظروف الخارجية والداخلية التي تمر بها البلاد.

ولا تغتروا بالمواد الدستورية التي تَنُصُّ على أن المظاهرات والتعبير عن الرأي حَقٌّ يَكْفُلُه الدستور؛ فالشرع الشريف مقدم على الدستور وغيره، ثم إن هذه المواد عبارة عن مواد نظرية في بلادنا، ومن يضمن لكم أن تسير مسيراتكم في حدود هذا الدستور، فَلَرُبما أثار الفتنة بعضُكم أو ألجأكم إليها غيركم لشيء في نفسه، ثم تكون الزلازل والفتن التي لا تُبْقِي ولا تَذَرُ.

4- اعلموا –أرشدكم الله- أن البنية التحتية في بلادكم لا تكاد تُذْكَر –إذا ما قُوِرَنتْ ببلاد كثيرة- ولا تَقْدِر على تحمل الفوضى أياما معدودات، ولا تزيدها هذه المظاهرات إلا تدنِّيًا وانهيارًا، فحافظوا على ما بقي مما أقمتموه بعرق جبينكم، ودماء عروقكم، ومستقبل أجيالكم، وإلا فمن الخاسر غيركم في الماضي والحاضر والمستقبل؟! ولا تكونوا من الذين يُخْرِّبون بيوتهم بأيديهم.

5- اقْبَلُوا ما تَحقَّق من مطالبكم –وإن قَلَّ- ولا تركبُوا رؤوسكم، ولا يحْملنَّكُم الغرور والشعور بالنصر المزيَّفِ والمؤقت، وتُصِرُّوا على تنفيذ كل مطالبكم، فما لا يُدْرَكُ كُلُّه، لا يُتْرَكُ جُلُّهُ، ومن أصَرَّ على الشيء كلِّه؛ ضيَّعَ الشيء كُلَّه!!! وانظروا إلى عاقبة الإصرار على تنفيذ كل المطالب؛ فلربما أفضى ذلك إلى العناد بسبب الحقد أو العجز من الطرف الآخر، وعند ذلك فلا تشعرون إلا وقد وقعت الواقعة!!!

6- حذاري أن تسمعوا لمن يقول لكم: الثورات لا تَنْضُجُ ثمرتها إلا بعد العديد من السنين، قائلاً: فهذه الثورة الفرنسية استمرت كذا وكذا من السنين، وبعضهم يحتج بثورة ما نجحت إلا بعد مائتي سنة، فلا زالوا يُوهمون من حولهم بأن النصر قادم بعد عقود من الزمان، ويريدون من الشعوب أن تعيش أَسْرَى لهذه الأوهام، مستدلين بالثورة الفرنسية وغيرها، وكَأَنَّ هذا وَعْدُ الله الذي لا يُخْلِفُ الميعاد!! ويا ليته يستدل بآية أو حديث، أو يتمثل بتاريخ المسلمين ويستشهد به؛ كلا إنما يستدل بالثورة الفرنسية، فكان كما قال القائل فيمن جَمَعَ بين أمريْن مكروهين: “أحَشَفًا وسُوءَ كِيلَةٍ”؟!!

7- احذروا من التخريب للمقرات الحكومية، والمرافق العامة، فهذه ملككم وملك أبنائكم، اليوم، أو غدا، أو بعد غد، وتخريبها يُغْضِب الله –جل وعلا- ويجلب عليكم لعنات العقلاء، وربما كان سببا في تطور الأمور نحو المواجهة وإراقة الدماء.

8- لا تغتروا بوسائل الإعلام التي تتظاهر بالوقوف معكم، وهي تُؤجِّج نار الفتنة بين صفوفكم، فالحزب الحاكم لكم سوداني، والمعارضة سودانية، ولا تكونوا أداة لمن ينفِّذون بكم أطماعهم، وإن فَنَى آخر جندي سوداني!!!

9- اعلموا أن هذه نصائحنا لكم اليوم، وإذا آل الحكم إليكم غدا، وتظاهر ضدكم من تظاهر، وبأيّ اسم يتسمى به، إسلاميًّا كان أو غيره؛ فهذه أيضا نصائحنا له ولكم؛ لأن الأمر دين وعقيدة مُؤَصَّلة على الأدلة الشرعية، والقواعد الأصولية، لا سياسة منافقة متلاعبة، تلهث وراء مطامع رخيصة، أو حزبيّة ضيِّقة، أو تحركها منظمات مشبوهة ظاهرة أو خفية، وفرق بين كلام رجل ينطلق من منطلق شرعيٍّ وكلام رجُل حزبي بدعيّ، يهتم فقط بالأتباع والأطماع.

  • الثالثة: نصائح وتوجيهات، للخطباء والدعاة، في أوقات الفتن والأزمات:

وهذه النصائح قد كَتَبْتُها أيام الأزمة التي كانت ولا تزال في اليمن، ونظرًا لأن ما يجري في السودان شبيه بذلك؛ آثرت نشر ما لابد منها، وإلى الله المشتكى.

فإن هذه المرحلة التي تمرّ بها بلادنا المسلمة تتطلّب من الخطباء والدعاة والإعلاميين، وأرباب التواصل الاجتماعي -المفسبكين والمتوترين- أن يتكلموا بما يهدئ ثائرة الناس، وبما يَصُونُ بيوت الله عن هيشات الأسواق، ويحفظ قلوب المسلمين ومودّتهم بينهم البين في مجالسهم وأماكن اجتماعاتهم، ولذلك فأنصح بالآتي:

1- الحذر من انقسامكم –أيها العلماء والدعاة- وشدة اللهجة في الخطاب على الطرفين، فإن هذا كمن يصبّ الزيت على النار، والرفق ما خالط شيئًا إلا زانه، وما فارق شيئًا إلا شانه، والحكمة في الدعوة مطلوبة دائمًا، وفي هذه الأيام الحاجة إليها أشد، وليس المقام مقام نَكْأ الجِراح، أو ذِكْر عيوب المخالفين، فإن النفوس لا تحتمل ذلك الآن، إنما المقام مقام تهدئة الفوران الذي في الشوارع، والبيوت، والمساجد، والمجالس، وغير ذلك، ولذا فلْيتحمل من يُؤجِّج الخلاف المسؤولية بين يدي الله –عز وجل- وإذا فَسَد العلماء والدعاة وانقسموا؛ فما ظنك ببقية الناس؟ وصَدَق من قال:

يا مَعْشَرَ القُرَّاءِ يا مِلْحَ البلدْ        من يُصْلِحُ الملْحَ إذا الملْحُ فَسَدْ؟!

2- نصيحة الناس بحفظ ألسنتهم عن الثرثرة، والاشتغال بنقل الحديث هنا وهناك، وترويج الإشاعات، سواء في وسائل الإعلام، أو على مستوى الأفراد؛ فإن هذا مذموم دائمًا، لاسيما في أوقات الشدائد، وفيه تشبُّه بالمنافقين في الأزمات لإيقاع الفتنة، وإشعال نارها بين المسلمين، ورُبَّ كلمة يقولها المرء لا يُلقي لها بالاً مِنْ سَخَط الله، تهوي به في نار جهنم سبعين خريفًا.

3- التحذير من الجرأة على الدماء المسلمة، سواء كانت دماء المدنيين المتظاهرين سلميًّا، أو دماء الأمن والقوات المسلحة، وغيرهم من الأبرياء، وتُذْكر الأدلة في حرمة دم المسلم، ويُتوسَّع في ذلك، وتُوجَّه نصيحة صريحة لكل طرف بما يلزمه شرعًا تجاه الطرف الآخر في هذا، مع جَعْل المصلحة العامة للبلاد نُصْب الأعين، وأن ما هم فيه من النزاع لا يبيح دماء بعضهم بعضًا، فإن الإسلام لا يُحِلُّ دم المسلم إلا في حدود ضيقة.

4- عدم الدفاع عن الفساد والمفسدين، لكن الشأن كل الشأن في كيفية علاجه، والتأكيد على أن لغة الحوار المسؤول والهادف والجادِّ هي خير سبيل لحقْن الدماء، لقوة الشوكة عند جميع الأطراف، وإذا كان الحوار سبيل التفاهم في الأزمات العامة والخاصة في العالم من حولنا، وبين المؤمن والكافر؛ فكيف بين المؤمنين البين؟ بالإضافة إلى أن الفتن مهما أَنْشبتْ أظفارها، وفاحَ نتنُها؛ فلابد من الرجوع إلى العقل، والحوار، مع الحذر من المستقبل المجهول، والذي ربما يُفضي إلى ما لا طاقة للأمة به، ولا ينفع عند ذاك الندم، وإلقاء اللوم على الآخرين، فليتحمل كل منا مسؤولية قوله وعمله أمام الله، ثم أمام التاريخ والأجيال القادمة، وليست هذه أولى الأزمات ولا آخرها.

5- لفْت أنظار الناس إلى أن المستفيد من القتل والتخريب هم خصوم الإسلام، والمتربصون بنا الدوائر، وأن مصالح الأمة، ومقدراتها، ومنشآت البلاد مِلْكٌ للشعب، لا للحاكم، والشعب هو الذي سيدفع الثمن غاليًا، من جرَّاء الحرق والتخريب والتدمير، فلا نكون ممن يُخَرِّبون بيوتهم بأيديهم.

6- التحذير من الانزلاق في منزلق الحرب الأهلية، التي يستمر شرها إلى عدة أجيال، بدعوى الثأر القبلي، أو المناطقي، أو المذهبي، أو الحِزْبي، أوغيره.

7- التذكير بأن كل ما نعاني منه من أزمات ومحن بسبب الإعراض عن تحكيم شرع الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] وغير ذلك من آيات.

8- تذكير الأمة بتاريخها وتاريخ أسلافها، وأن عزها منوط بطاعة الله وذِكْره، وأعظم ذلك تحقيق التوحيد، والابتعاد عن الشرك بجميع صُوره ومظاهره، وبذلك يتحقق الأمن والهداية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] وقال الله –جَلَّ ذِكْره-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] وتحذير الأمة من مغبَّة معصية الله والغفلة عن دينه، وتذكيرها بأيام الله وسننه الكونية في قيام الأمم وسقوطها، وأخْذ العبرة من ذلك.

9- الحث على تقديم المصلحة العامة للأمة على المصلحة الخاصة، أو الشخصية، أو الحزبية، والحذر من التقليد الأعمى، والولاء الحزبي الضيق، والحرص على استعمال العقل السليم، والفطرة الصحيحة في كل ما يتلقاه المتظاهر أو الجندي من أوامر، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف، وإذا لم يَقُمِ الناس بهذا الأمر لسبب من الأسباب؛ فلا أقلَّ من أن كل منطقة يتفق أهلها على تجنيب بلادهم القتال والفتن، والاتفاق على حماية المصالح العامة فيها، وحقوق الناس، وأموالهم، وأعراضهم، والتصدي لأي مُخرِّب فيها، أو من يحاول إثارة الفتنة بين أهلها، حتى تنكشف الغمة عند القيادات، وبذلك نكون قد ساعدنا في حل جزء من الأزمة، وتسييرها نحو الحوار النافع، ولا نزيد الطين بِلّة، فتنتهي الأزمة عند القيادات، وتبقى أزماتنا نحن لا يُغَطِّيها ذَيْلٌ، ولا يَسْتُرُها لَيْلٌ!!

10- الرجوع إلى العلماء المشهود لهم بتحري الحق، وقوْل الصِّدْق، والذين عافاهم الله من الحزبيات الضيقة، التي تجعلهم في جميع مواقفهم حول مصالحهم يدندنون، وسؤالهم عن المخرج من هذه الأزمة، مع ضميمة المختصين في كل شأن إليهم، ولن يتفقوا على كل شيء، لاسيما مع اختلاف الأهواء، ولكن حنانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهون من بعضِ.

11- نصيحة الناس بكثرة الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في أوقات استجابة الدعاء، بكشْف الغمة، وجمْع الكلمة، والعفو والعافية من الفتن، وعدم المؤاخذة العامة بما فعل السفهاء منا.

12- الحث على التوبة إلى الله تعالى، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، قال تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّوم:41] وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] فهذه المصائب ثمرة ذنوبنا، ولعل الله -عز وجل- أراد أن نتطهر منها، فعجَّل بعقوبتنا بهذه الأزمات، فافزعوا إلى حِصْن التوبة والإنابة، ومن لاذَ بالله؛ فقد استعاذ بِمُعَاذٍ، فهو حسبنا ونعم الوكيل.

هذا، وقد سبق أن كتبتُ هذه الكلمات في الأزمة اليمنية قبل ثماني سنوات، ولم يأخذْ بها كثير من ذوي الأهواء الشخصية والحزبية، واللاهثين وراء الشهوات المادية، والأحقاد القلبية، وحرص كل منهم على تصفية الحسابات مع الطرف الآخر، ولو على حساب مصير الأمة، فوقع ما كنا نحذر، فزادوا الطين بِلّة، والمريض عِلّة، والبلاد وهنا وفقرا وذِلّة، وها هي الأحداث تتكرر في السودان بوجوه أخرى، لكن بالعلة نفسها، فآثرتُ نشر ما سبق، والله لا يُغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فاقبلوا النصيحة يا أهل السودان، والله إنّي لمُحِبٌّ لكم، وحريصٌ عليكم، ومُشْفق أن يصيبكم ما أصاب أهل اليمن من تدويل قضيتهم، وفَقْد سيادتهم، واندثار جماعتهم، وانفراط عِقْدهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

  • الرابعة: نداء إلى القيادات الخليجية، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده الأمير محمد بن سلمان –حفظ الله الجميع وبلادهم من كل سوء ومكروه-.

فإن إخوانكم وأبناءكم بالسودان يمرّون بمرحلة تكاد تُودِي بأمنهم واستقرارهم نحو الهاوية، وتجعل دماءهم وأموالهم وأعراضهم على محكِّ استباحة ما حرّم الله منها، والسودان جزء عزيز من هذه الأمة، ومواقف أهله في الجملة مواقف تُشْكر لهم، لا سيما في الأزمة اليمنية، ومن المخططات الإيرانية في المنطقة، ونخشى مع اضطراب الأمور، واختلاط الحسابات، أن تنتشر أفكار لا يَسْلَم من شرّها البعيد –فضلا عن الجيران- وكذا ما يتبع هذا الحال من تدابر، وتنافر، وإساءة الظن بين الدول والشعوب والأفراد، ثم محاولة الانتقام ولو بعد حين، وتصفية الحسابات بمواقف لا تمت للمصلحة والعقل بصلة، ولا أحد يدري ماذا في المستقبل من مُخَبَّآت، فاقطعوا الطريق –سدَّد الله على الحق والكرامة خُطاكم- على عدو السودان وعدوكم، بل عَدُو المنطقة بأسرها؛ فأستثير فيكم –أيها القادة الكرام- معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، والمروءة، والشهامة، وأنتم أهلها سلفا وخلفا، ولا أزكيكم على الله تعالى –فرحِمَ الله أمواتكم، وتولى أحياءكم بلطفه وعفوه وستره- فآمل أن تفزعوا مع إخوانكم في السودان بالمعونات المادية والغذائية والمحروقات، التي تدعم اقتصادهم، وتوقف تدهور عملتهم، وتنزع فتيل الفتنة من بينهم، فإذا عاد إليهم الهدوء؛ جَمَعْتُم الأطراف منهم، وسعيتم في إصلاح شؤونهم، واحْتَضنْتُم إخوانكم، قبل أن يحْتضنهم عدو الجميع ذراعيها لهم، فيجعل منهم بؤرة فسادٍ في الإقليم كله، ويدخل منه إلى بقية إفريقيا، فيا له من موقف لا يُنْسَى لكم لو وجَّهْتُم دفتهم نحو الاستقرار، وجَمْع الشمل، وأخذتم بأيديهم نحو التنمية، والاستثمار الهادف الرشيد في بلادهم بما يعوّضهم من تحويل ثلاثة أرباع معادنهم وبترولهم عندما انفصل عنهم جنوب بلادهم، ولعل الله يدفع عنكم بهذا الموقف الإسلامي، والإنساني، والأخوي مكايد الكائدين، ومكر المتربصين باستقراركم وأمنكم، لا سيما أمن الحرمين الشريفين، الذي هو أمن لكل مسلم، وحَقٌّ لازم في ذمته، وإن كان يعيش في كهف وراء البحار والمحيطات، فالله الله يا أهل الشهامة والمروءة والكرم، فإن أنظار المحبين لكم وللسودان تشخص لهذا الموقف منكم، وقلوبهم متعلقة بالله ثم بكم، فلا يخيب ظنهم فيكم، ونسأل الله أن يخْلف عليكم به أضعافا مضاعفة، ولا يُريكم في أنفسكم وبلادكم وأجيالكم شيئا مما تكرهون، أو يكرهه المحبون لكم، والله أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، وهو على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

اللهم يا من لا يذلُّ وليه، ولا يعزّ عدوّه، يا من كل شيء عنده خزائنه، يا من يُعْطِي ويَمْنَعُ، ويَخْفِضُ ويَرْفَعُ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، وبيده الأمر كله، يا من يقول للشيء كن فيكون، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ ارفع بأسك وغضبك عن أمة الإسلام والعرب عامة، وأهل السودان خاصة، وارحم ضعيفهم، واحمل عاجزهم، وفرِّج كُرْبَتَهُم، واكشف غُمَّتَهُم، واحْفَظْ دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وثَبِّتْ أمنهم، واسْلُلْ السَّخِيمة مِنْ صدورهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا مزيدا إلى يوم الدين.

كتبه/ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني

مدير دار الحديث بمأرب

 

حمل النصحية ملف pdf

—————————-

18/ربيع الآخر/1440هـ

26/12/2018م

([1])  برقم ( 1846).

([2])  عند البخاري برقم (7052) ، وعند مسلم برقم (4752).

([3])  برقم ( 1079).

([4])  قال شيخنا الألباني – رحمه الله تعالى – في « ظلال الجنة » ( 2/499) : « إسناده صحيح ».اهـ.

([5])  مسلم (1847).

([6]) مسلم (1856).

([7]) البخاري (2955) ومسلم(1709).

([8])البخاري (7053) ومسلم (1851).

([9])  « منهاج السنة » (1/391) .

([10])  « منهاج السنة » (4/527-531) وحديث أبي بكرة أخرجه البخاري برقم (2704 ، 3629 ، 3746 ، 7109).

([11])  (13/11) الحديث رقم (7058).

([12])  ( 2/542 ) .

([13])  (ا/93-94) ط/المعارف .

([14])  (2/193-197/ برقم320) ط.دار طيبة.

([15])  أي طبقة بعد طبقة، كما هو ظاهر من السياق، وليس المراد جزمًا: مائة سنة !!

([16])  (ص 297) ط/مكتبة العلوم والحكم.

([17])  ( ص 106) ط. مكتبة الغرباء.

([18])  ( ص 50) ط. دار الريان.

([19])  « مجموع الفتاوى » (35/12).

([20])  « الاستقامة » (2/215 – 216).

([21])  ( ص 401،399) ط. مكتبة المدني.

([22])  « شرح مسلم » (12/432-433).

([23])  « تهذيب التهذيب » (2/263).

([24] ) «الدرر السنية» ( 7/177-178) وانظر «معاملة الحكام» (ص 12) وغيرها للشيخ عبد السلام العبدالكريم -حفظه الله- وقد تُوفي الشيخ عبد السلام بعد ذلك شابًّا في ريعان شبابه، فرحمه الله رحمة واسعة، وتقبله عنده من الصالحين الأبرار.

([25])  انظر شريط: “أهداف الحملات الإعلامية ضد ولاة وعلماء بلاد الحرمين”، نقلًا من « الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية » ( ص86 – 87 ).

([26])  انظر « الإجابات المهمة في المشاكل الملمّة » (  1/37 ) .

([27])  أخرجه البخاري برقم (6876) ومسلم برقم (1676) من حديث ابن مسعود.

([28])  أخرجه النسائي برقم (3998) والترمذي برقم (1395) من حديث ابن عمرو , وانظر « صحيح الجامع » برقم (4953).

([29])  أخرجه البخاري برقم (7076) ومسلم برقم( 6875).

([30]) أخرج هذه الآثار الآجري في “الشريعة” (5/ 2169) برقم (1659-1661) بأسانيد بعضها صحاح.

([31]) انظر “البداية والنهاية” لابن كثير (17/388) و “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” للحافظ ابن حجر (7/72-73).

([32]) انظر “السنة” للخلال برقم (858) بسند صحيح، وانظر “البداية والنهاية” (2/543) وفيها زيادة عن الشعبي: “والله، لئنْ بقيتم؛ لتمَنَّوْن الحجاج” أخرجه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (12/174).

([33]) انظر “المجالسة” للدينوري برقم (1817) و “البداية والنهاية” (12/545-546).