(كيف نستقبل رمضان؟)
الحمد لله الذي أنزل القرآن هدىً للناس، وبيِّنات من الهُدى والفرقان، وأشهد أن لا إله إلا الله الكريم المنّان، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله إلى الإنس والجان، أما بعد:
فما هي إلا سُوَيْعات ويَهِلُّ علينا شَهْرُ رمضان المبارك، الذي جعله الله مباركًا من جهاتٍ عدِّة، فمن ذلك:
1- أنه الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، حُجَّةُ الله على عباده، ودستور هذه الأمة، وزادُ السائرين إلى الله على نور وبصيرة، وأصْلُ الأصول عند أهل الحق، وإليه تَرْجِع كل المرجعيات الصحيحة في القول والعمل، والتقرير والاستدلال، من نَطَق به صَدَق، ومن عمل به أفلح وأُجِرَ.
2- وهو الشهر الذي تُصَفَّد فيه مردة الشياطين، التي تحول بين الناس وطاعة خالقهم ومولاهم، فهو البيئة الصالحة، التي يُخَلَّى فيها بين الناس وإيمانهم، وهو المدرسة التي ينطلق منها المؤمن التائب المستغفِر، الذي ذاق حلاوة الإيمان، بما يجعله يستمر في الحفاظ على ما حققه من زيادة إيمانه.
3- وهو الشهر الذي تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُزَين لعُشَّاقها، الذين نَفَضُوا غُبار الغفلة عن قلوبهم، وأَحَسُّوا بحلاوة القُرْب من ربهم، وعاينوا بقلوبهم ما كانوا عنه -مِنْ قبلُ- غافلين، وتُغْلَق فيه أبواب النيران.
4- وهو الشهر الذي تَنْزِل فيه الرحمة، فتتراحم القلوب، وتَقِلُّ الذنوب التي تُسبب الجفاء والقسْوة، وتجْلب الهموم والكُروب، فتقع البركة في الأموال والأرزاق، والأعمال والأعْمار، فَتَعُمُّ الرحمة، ويُنْزَع الغِلُّ من القلوب، وتزْكُوا النفوس.
5- وهو الشهر الذي يُباهي الله فيه ملائكته بعباده المؤمنين، فما أعظمها من منزلة لو عقِلْناها، وأرَيْنا الله فيها من أنفسنا خيرا.
6- شهْرٌ فيه العَشْر الأواخر، عَشْر الاجتهاد والتشمير عن ساق الجِدّ والمنافسة في الحصول على رضى الله –جل وعلا- وفيه ليلة القدْر التي هي خير من ألف شهر، أي خير من أكثر من ثمانين عامًا من الطاعة، وتتنزل الملائكة والروح فيها بكل أمر حكيم يقضيه الله –عز وجل- في خلقه، وهي ليلة السلام والأمان، والصَّفاء، وطيب الأجواء التي من طيبها وطراوتها على القلوب؛ كأنك تتنفَّس مِنْ عَبِير الجنة.
7- وشَهْر ينْبغي أن تُعَافَى فيه الأبدان من مرض التُّخْمة وإدخال الطعام على الطعام، وفيه يشعر الأغنياء بما يعانيه الفقراء طيلة العام، وفيه تنكسر النفوس العاتية، وتلين القلوب الجافية، وتكثر فيه الصِّلة والهبات، ويُكافأ أصحابها بعظيم الدعوات، وتمتد فيه الأيدي إلى الله بالدعاء والابتهال، والتذلل والافتقار، ويطول فيه الوقوف والصبر –دون مَلَلٍ- على باب الكبير المتَعال.
فتأتيهم الهدايا الرحمانية بغفران المعاصي والذنوب، وطهارة النفوس والقلوب، وسِتْر العورات والعيوب، وتفريج الهموم والكروب.
فيالله، ما في هذا الشهر من العطاء الجزيل، والستر الجميل، ورِيِّ الغليل، وشفاء العليل، فهل يَسْمع بذلك أَحَدٌ يُوقن بلقاء ربه، ويُضَيّع هذا الشهر في القيل والقال، والاشتغال بعيوب الناس، والغفلة عن التلاوة والذِّكْر، والتنقُّل بين مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، في أمور أحسن أحوالها الإباحة، ومعلوم أن من مصايد الشيطان الستة التي ذكرها الإمام ابن القيم –رحمه الله- في “إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان”: إشغال الناس بالمباحات، ليصُدَّهم بها عن فعل المستحبات، فتنقضي أعمارهم بلا حسنات ترْجُح على السيئات!!
وهل يكون موفَّقًا من يكون هَمُّه الاستعداد لرمضان بأنواع المأكولات، وأصناف الملذات، فيُعكِّر صَفْوَ المراد من رمضان، ويشغل أهله عن اهتبال فُرْصة هذا الشهر، بإهدار أكثر النهار في النوم وإعداد الطعام، وضياع أكثر الليل بالسَّمَر والزيارات وفضول الكلام، وضياع العَشْرِ الأواخر في الموُلَات ومحلات بيع الملابس والمكسَّرات والحلويات استعدادًا للعيد، الذي هو فَرْحَةٌ للصائمين، لا للمفرِّطين؟!
أيها المسلمون، عِبَاد الله: لا يعلم أحد منا هل يعود عليه رمضان أم لا، فاحذروا من موجبات الندم، وطَلَب الرجعة إلى الدنيا رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ وفي يوم القيامة يَكْثُر الندم، وهو يوم التَّغَابُنِ، والشعور بالغَبْنِ والخسارة: فالمقصِّر يقول: يا ليتني فعَلْتُ، والمجتهد يقول: يا ليتني أكثَرْتُ!!!
فالله الله، في عقْد العزم على التوبة النصوح، والخروج من رمضان مغفورًا لنا خطايانا، ورُجْحان موازين حسناتنا، وخِفَّة موازين سيئاتنا، والموفَّق من وفقه الله، ومن حُرِم بركة هذا الشهر، فقد خاب وخسِر، ورَغِمَ أنْفُه، وأبْعَدَه الله، كما نطقتْ به الأحاديث.
أعاننا الله وإياكم على فِعْل الخيرات، وترْك المنكرات، وتقبَّل الله مِنَّا ومنكم، وجعل شهركم مباركًا عليكم وعلى أهليكم، إنه جواد كريم، بَرٌّ رحيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.
كتبه/ أبو الحسن
مصطفى بن إسماعيل السليماني
قبل مغرب يوم 30/شعبان/1439هـ