بقلم الشيخ

لم يسْلُكوا الطريقة الشرعية

“قضاة مصر المجتمعون الليلة -ليلة الأحد 11/محرم/1434هـ- في الجمعية العمومية: لم يسْلُكوا في عدة مواضع من اجتماعهم الطريقة الشرعية، ولا الصورة الحضارية”!!!
(والموقف من الإعلان الدستوري)
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فقد تابعتُ -عن بُعْد- الأزمة الموجودة هذه الأيام في بلدي مصر، بين الرئاسة من جهة، وبين كثير من القضاة، وفصائل من الثوار، وعدد من القوى السياسية على اختلاف أشكالها من جهة أخرى، وذلك بسبب الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ الأربعاء 21/نوفمبر/2012م، والذي أصدره الرئيس الدكتور محمد مرسي، وفقه الله، وأخذ بنواصي الجميع لما يحب ويرضى، وَدَفَعَ عن بلادنا وبلاد المسلمين كل سوء ومكروه، وأَلْهَم الجميع رُشْدَهم، وألَّف بين قلوبهم، وجعلهم مفاتيح خير مغاليق شر، إنه جواد كريم، بَرٌّ رحيم.
وحديثي الموجز في هذا المقام مع المعترضين على هذا الإعلان من القوى السياسية أو الثوار، أو مَنْ رَكِبَ الموْجَة ممن لا يهمه إلا مصلحة نفسه، غير مُبَالٍ بما تؤول إليه الأمور!!!
لكني أتحدث -بتوسع- مع القضاة، قضاة مصر، الذين اجتمعوا في الجمعية العمومية هذه الليلة، ليلة الأحد 11/محرم/1434هـ الموافق 25/11/2012م، وذلك لما للقضاء من مكانة في نفوس الجميع، وأهمية لا تستغني عنها حياة الناس، ولكونه شوْكة الميزان الذي إذا اختل عمَّت الفوضى، وماجَت بالناس الفتن!!!
فأقول –مستعينًا بالله عز وجل- ومقدِّمًا بين يديْ حديثي معهم عدة نقاط:
1- لَسْتُ مدافعًا عن شخص الرئيس –وفقه الله- ولا عن أفراد جماعة الإخوان المسلمين، أو السلفيين، أو غيرهم ممن ثبت بوجه شرعي أنه أخطأ، أو جانَب الصواب، إنما يهمني المصلحة العامة لمصر وأهلها.

2- كل فرد من الناس –بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- غير معصوم من الخطأ، فيخطئ ويصيب، ويعلم ويجهل، فإذا أحسن يجب أن يُشْكر ويُعَان، وإذا أخطأ وَجَبَ أن يُقَوَّم ويُصَان.
3- مصر هذه الأيام تمر بمرحلة من أصعب مراحلها: فحدودها مهدّدة، وأمْنها في انفلات، واقتصادها منهار، شبه مفرّغة من المؤسسات الدستورية، ونسيجها الاجتماعي على المحكّ، بل أصبح مما ينْدى له الجبين!!! والمتربصون بالبلد كُثُر، والعابثون حتى الآن لم يكُفُّوا، والكلُّ مُعْجَب بنفسه ورأيه وانتمائه –إلا من رحم الله- وكل فئة لا ترى إلا مطالبها، وصاحب الحاجة أعمى، لا يرى إلا قضاء حاجته …الخ.
4- رُبَّ كلمة –بحسن نية أو بسوء نية- في وقت استعار الفتن، وهيجان النفوس تكون نافذة من الجحيم على البلاد والعباد، والحكيم من يعرف الفتن قبل إقبالها، ويسعى في صدِّها، أو تخفيفها، أما إذا وقعت الفتن، وأنشبت أظفارها؛ فالناس كلهم حينذاك يعرفونها، والعاقل الذي يعرف خير الخيرين فيتبعه، وشر الشرين فيجتنبه.
5- الإنصاف شعار الصادقين العادلين، وحِلْية أهل الورع المتقين، والعدْل في القضية سبيل العقلاء، فضلاً عن رجال القضاء، ولذلك فالإنصاف عزيز، وليس كل ما يتمنى المرء يدركه، لكن ما لا يُدْرك كله؛ لا يُتْرك جُلُّه، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
6- رجال القضاء قد أُحيلت إليهم دماء الناس، وأموالهم، وأعراضهم، وحقوقهم، وَوُلُّوا عليها، ليحكموا في ذلك كله، ولا رقيب عليهم إلا الله عز وجل، فإن كانوا ممن يُسْتفَزّون، أو يتعصّبون، أو يُعانِدون، أو يُزَجُّ بهم في الولاءات السياسية، أو يحملون الأحقاد والضغائن على هذا أو ذاك أو ذذلك، أو كانوا ممن يبحثون عن ثغرات –فضلاً عن صلاحيات– تمكنهم من الانتقام لأنفسهم، أو الفخر بالانتصار على مخالفهم، حتى يعرف الناس من هم، وما هي مكانتهم، وأنهم الصخرة التي يتحطم عليها الكبير والصغير ….!!! فإذا بلغوا هذا الحد –كما يفعل غيرهم من شرائح المجتمع- فعلى العدل، ومن ثَمَّ الأمن والأمان السلام!!!
وبعد هذه النقاط، أقول بتوفيق الله وعونه:
لقد تابعتُ المؤتمر الذي عقده نادي القضاة هذه الليلة في دار القضاء العالي، وسمعتُ ما ذكره النائب العام المُقال المستشار عبدالمجيد محمود –شفاه الله ووفقه- في الرد على التهم التي يوجهها إليه عدد من الإسلاميين وزملائهم الثوار، وليس الإشكال عندي في هذا، فمن حق الرجل أن يدافع عن نفسه، وأن يردّ كل أو بعض ما يُوَجَّه إليه إذا كان ظلمًا وعدوانًا، وإن كان من المعلوم عند القضاة أن التهم لا تثبت في حق الأبرياء إلا بأدلة، وأن مجرد دفاع الشخص عن نفسه في عدم حضور خصمه، وأمام مُحَكَّم في القضية؛ فإن هذا ليس كافيًا أيضًا في قطْع الشبهة، وإزالة العذر، والجزم ببراءة المتهم، وإدانة خصمه، فهذا شأن له مقام آخر.
وإنما الإشكال الذي كنتُ أربأ بقضاتنا أن يقعوا فيه ملخَّص فيما يلي:
أولاً: صُراخ القضاة في القاعة، وترديدهم شعار: “الشعب يريد إسقاط النظام” وكلامي معهم في هذا الشأن من وجوه:
أ- معلوم أن هؤلاء القضاة ليسوا كل ولا أغلبية الشعب المصري أصلاً وإن كانوا جزءًا مهمًّا منه!!- فكيف يتسنى للقضاة -أهل الدقة في التعبير- أن يدَّعوا شيئًا خلاف الواقع؟! وإذا كان المجتمعون لم ليسوا كل القضاة –فضلاً عن الشعب- فكيف يدعون هذه الدعوى العريضة؟!
ب- معلوم أن الأغلبية في الشعب هي التي اختارت الدكتور مرسي رئيسًا لمصر، وأن القضاة أنفسهم هم الذين أشرفوا على سيْر العملية الانتخابية، وأنهم الذين أعلنوا فوز الدكتور محمد محمد مرسي العياط بمنصب رئيس الجمهورية، فلو رّدد أنصار الرئيس الدكتور مرسي: الشعب يريد تثبيت النظام، أو الشعب يريد بناء النظام؛ لكان قولهم أقرب إلى العقل والصواب –للأغلبية التي تدعمهم- من قول عدد من القضاة: الشعب يريد إسقاط النظام!!!
ج- لو سلَّمْنا بخطأ الدكتور مرسي في بعض فقرات الإعلان الدستوري؛ فهل يُعالجَ هذا الخطأ –في هذه المرحلة بالذات- بترديد هذا الشعار؟!! وماذا لو أسقطتم النظام اليوم، وجاء نظام آخر، فصرخ المعارضون له بقولهم: الشعب يريد إسقاط النظام!! وهكذا، فمتى تقوم للبلاد قائمة؟ وهل هذا الحال يرضى به عاقل؟!
د- إذا كان القضاة الذين يُرْجى منهم إصْلاح غيرهم، وتوجيهه، وإرشاده إلى المصلحة العامة، ولو بترك بترك ما هو له من حق أبلج، حتى نحافظ على ما بقي من خير في البلاد، وحتى نفوِّت الفرصة على جاهل، أو عابث، أو متربص، فإذا كان هذا حال القضاة، وفقهاء الدستور؛ فماذا ننتظر ممن هو دونهم؟!!
صَدَقَ مَنْ قال:

إلى الماء يَسْعى مَنْ يُغَصُّ بلُقْمةٍ *** إلى أين يَسْعى مَنْ يُغَصُّ بماءِ؟!

ومن قال:

يا معشر (الفقهاء) يا مِلْحَ البلد *** من يُصْلح الملحَ إذا الملحُ فسَدْ؟!

ماذا يقول القضاة الكرماء لمن يسمعهم في العالم من رجال العلم، والعُبَّاد، والزهّاد، وغيرهم من أهل الهدى والتُّقى، وهم يرون قضاة مصر –وما أدراك ما قضاة مصر- يهتفون بطريقة لا تختلف عن طريقة أقوام دون منـزلتهم بكثير؟!
هـ- معلوم أن تحقيق هذا الشعار الذي ردّده القضاة لا يتم تنفيذه بإسقاط النظام إلا بثمن باهظ من الدماء، والدمار، والحرب الأهلية، وإهلاك الحرث والنسل، وطَمَع الأعداء في اقتحام البلاد، ونهْب ما تبقى من خيرها، فهل فات هذا القضاة، أم لا؟
فإن كان قد فاتهم: فقُلْ بربك كيف دَرَسُوا السياسة الشرعية، ودرَّسوها في الجامعات، وطبقوها في المحاكم طيلة هذه السنين؟! وإذا علموا ذلك –والحال كذلك- فهل من المصلحة العامة تجميد وترحيل بعض المطالب، وطأطأة الرأس لله ثم لحرمات الدين ومصلحة البلاد وأهلها حتى حين؛ أم هذه الصرخات المبيرة التي يتنـزه عنها العقلاء، فضلاً عن رجال القضاء؟ صدق من قال:
إنْ كُنْتَ لا تَدْري فتِلْك مصيبةٌ *** وإنْ كنتَ تَدْري فالمصيبةُ أعظمُ
و-قد كان من الممكن –ولازال إن شاء الله- أن تقوم لجنة من عقلاء ووجهاء وشرفاء القضاة، الذين عُرفوا بالغيرة على مصلحة مصر، وتسعى هذه اللجنة بين مؤسستي الرئاسة والقضاء والقوى السياسية الأخرى –وهم أهل ذلك ورجاله- ويراجعوا الرئيس في جلسات ودّية، فإن وجدوا له –أو لمن أشار عليه بذلك- عُذْرًا؛ عذروه، وأقنعوا من وراءهم، وإن لم يكن الحال كذلك؛ أقنعوا الرئيس ومن أشار عليه بخطأ هذا الإجراء الذي اتخذه، وبينوا لهم من الحجج القانونية والدستورية ما يزيل الشبهة التي عندهم، فإن استجابوا لهم؛ فالحمد لله على فضله وإنعامه –وللقضاة ومن معهم الأجر والفضل- وإلا نظروا وسائل ولجانًا أخرى، وعلى أسوأ التقديرات؛ نظروا في تزاحم المصالح والمفاسد، ورجّحوا الراجح، وحققوا ما أمكن من المقاصد، كما هي طريقة أهل العلم والفقه في مقاصد الشريعة، ومصالح الأمم.
أليس إصلاح ذات البين من أرجى الأعمال الصالحة؟ كما قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أم أن إصلاح ذات البين لا يكون كذلك إلا في نزاع بين امرأة وزوجها، أو جارٍ وجاره…الخ، أما إصلاحُ أَمْرِ أمّة، ونَزْعُ فتيل الفتنة بحكمة ورُشْد؛ فلا يَهُمُّ قضاتنا!!
ز- إن الاستقْواء، وإعلاء الصوت، والتهديدات، والتكتل، والاستقطاب، حتى تكون كلمة القضاة –مهما كانت- هي العليا، وإثبات أن من مسَّهم بسوء فقد حمل حَتْفَهُ على كَتِفِهِ، أو حفَرَ قَبرَه بيده، حتى وإن نعقت في البلاد غرْبان الفتن، أو تلبّدت السماء بغمام المصائب الحالقة، وفساد ذات البين، وعمَّت الكوارث التي ليس لها من دون الله كاشفة؛ فما كان هذا الظن بكم يا قضاة مصر، وفقكم الله!!
ح- ماذا أنتم قائلون لله -عز وجل- ثم للتاريخ والأجيال القادمة إذا ناديتم بإسقاط نظام دولةٍ لم تقم إلا بعد نحو ألف من القتلى، وأضعاف ذلك من الجرحى والمعوقين، وكل هذا انتصار منكم لأنفسكم بسبب ظلم قد وقع على بعضكم، أو التدخل في صلاحياتكم على أسوأ التقديرات؟! ألا كان يسعكم أن تقولوا –إذا كنتم ولابد قائلين-: الشعب يريد إصلاح النظام؟!
ط- لقد زُجَّ بالقضاة –وللأسف- في أَتُون السياسة المستعر، فهل نأمن بعد ذلك –كما كنا من قبل- على الدماء والأموال والأعراض والحقوق؟! أليس القضاة بشرًا قد يتأثرون بما حولهم، وقد يعتريهم القصور، والغضب للذات، والانتصار للنفس، ونصرة الموافق، والنيْل من المخالف، ولا سبيل لهم –أو لغيرهم- في صدِّ هذه المداخل الشيطانية عليهم إلا بمزيد الورع والتقى، لا التعصب السياسي، الذي يفتح باب التأويلات المفضية إلى المكايدات إلا من رحم الله من عباده، ومعلوم أن الشريعة جاءت بسدِّ الذرائع، لا بفتحها وجَلْبها!!!
ثانيًا: استمر المستشار عبدالمجيد محمود –وفقه الله- في الدفاع عن نفسه –وهذا حق له بضوابطه، فإن الشبهات خطّافة، والقلوب ضعيفة- وقد خَتم حديثه بكلام عاطفي، ألْهب به حماس ومشاعر القضاة –وهم أولى الناس بالرزانة والتؤدة- وذلك عندما ذكر أنه يتوقع أن يكون هو وأسرته الصغيرة أو الكبيرة خلف القضبان، وادعى أن وقوع ذلك ليس ببعيد، ولكن بظلم وزيْف خصومه عليه.
فَبَدَلَ أن يقول القضاة: لا يمكن أن يتم ذلك إلا بمحاكمة عادلة، وإذا كنتَ بريئًا فسينصرك الله، ونحن معك في الحق بكل الوسائل الشرعية والقانونية …الخ.
فَبَدَلَ ذلك كله إذا بهم يصرخون –وبطريقة لا تليق بالقضاة أيضًا وهم أهل السمت والوقار- قائلين: “ع المكتب!! ع المكتب!! ع المكتب …!!” أي على المكتب، أي سنحملك أو نصحبك، حتى ندخلك أو نصعد بك إلى مكتبك الذي أبعدك الإعلان الدستوري عنه، وجعل غيرك فيه.
ولاشك أن الكرسي لا يتسع لاثنين: المستشار عبدالمجيد محمود النائب العام المُقال، والمستشار طلعت إبراهيم محمد عبدالله النائب العام الجديد، فلن يتم لهم تنفيذ ما أرادوا، وتحقيق ما هتفوا به إلا بطرد زميلهم –الذي أطنب المستشار أحمد الزند في مدحه والثناء عليه- ألا وهو المستشار طلعت عبدالله، ولن يتم ذلك لهم أيضًا إلا بإراقة الدماء مع رجال الأمن، أو مع بعض أنصار الدكتور مرسي المؤيدين لإقالة النائب الأول، وتعيين النائب الثاني، والزمام إذا أفلت من أيدي الحلماء –فضلاً عن أن يكون الحلماء وقود الفتن وحطبها- تولى الأمر الحدثاء والغوغاء، وصدق من قال:

إذا كان ربُّ البيتِ بالدفِّ ضاربًا *** فَشِيمةُ أهلِ البيتِ كلِّهم الرقصُ

فهل هذا مسلك شرعي تعلمتموه من ديننا، أو أسلوب حضاري، تُباهون به الأمم التي تتابع أخباركم يا قضاة مصر؟!! {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
إذا كنتم –معشر القضاة- تُسْتفَزُّون إلى هذا الحد، فهل نأمن على رقاب وظهور وحقوق شعبنا الذي أسْلَم لكم السكين، وكَشَفَ لكم عن جلده وبدنه، وقال: افعلوا ما ترونه حقًّا وعدلاً، وأنصفوني وأنصفوا خصمي مني؟!!
هل مِنَ العدْل، والتأني في الحكم، والنظر في الحال والمآل ما صدر منكم –أيها القضاة- هذه الليلة؟!! ما صَدَر منكم عمل حضاري، وأسلوب يليق بمكانتكم؟! إنا لله، وإنا إليه راجعون!!
ثالثًا: لقد كان المستشار عبدالمجيد محمود أكثر وعْيًا وتماسكًا من هؤلاء الهاتفين بما لا يرضي الله عز وجل، لكن للأسف لم يستمر الأمر على ذلك؛ فقد عالج الزكام بالجذام!!
ولقد أعجبني بداية جوابه عليهم، وعدم انصياعه لطلبهم بالذهاب به إلى مكتبه، الذي بينهم وبينه عدة أمتار، في طابق أعلى من قاعة مؤتمرهم من المبنى نفسه، وتعلّل أو تعلَّل له المستشار أحمد الزند –وفقه الله- بأن صحة المستشار المُقال لا تحتمل بقاء وجوده معهم أكثر من ذلك، ولو اقتصر الأمر عند هذا الحد؛ لكان حميدًا، لكن الموفّق من وفقه الله، فماذا كان؟!
إذا بالمستشار المقال يعلِّل عدم تنفيذه لأمر أنصاره بأنه أعرف منهم بهذه الجماعات التي تدّعي أنهم “بتوع ربنا”!!! حيث أنه كان قاضيًا فترة طويلة، وأنه جرَّب الإخوان المسلمين، والسلفيين، والجهاديين، والتكفير والهجرة، وأنهم قوم لا يعرفون الله، ولا الحق …الخ!!!
وهذا نصّ كلامه –سلمه الله-: “أنا أقول هذا الكلام يا إخوانَّا، لأنني أكثر منكم خبرة بالتعامل مع هذه النماذج، تعاملتُ مع كافة فصائل هذه الجماعات، أيًّا كان اسمها: خلافة إسلامية، جهاد، تكفير وهجرة، سلفيين، إخوان مسلمين، قضيْتُ أكثر من عشرين سنة، وأنا أتولى التحقيق مع هذه النماذج، نماذج لا تعرف الله، نماذج لا تعرف الحق، نماذج لا تعرف إلا الباطل” اهـ.
ولي مع هذه الإطلاقات وقفات:
أ- أفهكذا يكون العدل في القضية أيها المستشار؟ أهكذا تحكم على ملايين من البشر ممن ينتمون إلى هذه الجماعات في جميع ربوع مصر منذ عقود من الزمان، بأنهم لا يعرفون الله، ولا يعرفون الحق، ولا يعرفون إلا الباطل؟! وذلك كله لأنهم أساءوا إلى شخصك –على أسوأ تقدير- أو أنهم ظلموك، أو نالوا منك!! أليس الله عز وجل يقول: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}؟ فإذا كان الله عز وجل قد أمرنا بالعدل مع قوم كفار مشركين، أُمِرْنا ببغضهم في الله –لحربهم الشعواء على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودينه وأنصاره- فما ظنك بأناس أُمِرْنا بولائهم ومحبتهم؟!
ب- أيها المستشار: هل يخفى عليك أن من قواعد أهل السنة والجماعة في التعامل مع المسلمين -وهي من القواعد المجمع عليها-: أن المؤمن يُحَبّ ويُبْغَض، ويُوصَل ويُهْجَر، ويُمْدَح ويُذَمّ بحسب ما فيه من خير وشر، وسُنَّة وبدعة؟! والمسلم مهما كان فسيكون عنده شيء من الإيمان يجعلنا نحبه ونمدحه بقدر ذلك، إلا إذا كان المستشار يكفِّر كل هؤلاء، ولا يراهم مسلمين –ولا أظنه كذلك- فهذه باقعة ليس لها راقعة!!
هل أطلق المستشار هذا القول في اليهود، أو النصارى، أو البوذيين، أو غيرهم من غير المسلمين؟ هل أطلق هذا القول في قطاع الطريق، وتاركي الصلوات، ومرتادي بيوت الخنا والدعارة، والغافلين اللاهين ممن ينتسبون إلى الإسلام؟
لماذا هذا فقط مع هذه الجماعات الدعوية، الذين نَفَع الله بهم في البلاد طولاً وعرضًا، في الوقت الذي غفلت النخبة في المجتمع عن هموم هذا الشعب الكادح، –وإن كان عند بعض هذه الجماعات أو كثير منهم مالا يُحمد عليه-؟!
فأين شعار “العدل أساس الملك”؟ وأين الآية والشعارات التي تُكتب على واجهات دور القضاء، والمحاكم، وفي مكاتبكم فوق صورة الميزان، وخلف ظهوركم، وفوق رؤوسكم: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} أم أن هذه الآيات تكون كذلك إذا لم يكن القضاة طرفًا في الخصومة، فإذا كانوا طرفًا في الخصومة؛ فلا نُبقي ولا نذر؟!
– وليس في كلامي هذا بأي وجه من الوجوه تسويغ أو تبرير لظلم أحد أو افترائه على المستشار المُقال أو غيره، سواء كان من المنتسبين للدعوة أم لا، فإن الله عز وجل قد أمر بالعدل مع كل أحد، وفي كل زمان ومكان، والظلم حرام، ومُجْمَعٌ على حرمته بين الأمم المسلمة والكافرة، وإن وقع على أكفر خلْق الله، فكيف بالمسلم؟! نبرأ إلى الله من كل ظلم أو عدوان على أي بريء ما بقي الليل والنهار.
لكن لو سلَّمْنا بوقوع هذا؛ فهذا ظلم من فرد أو أفراد لفرد أو أفراد معينين، وغالبًا ما يكون هذا البغيُ واقعًا ممن ليس معه من الثقافة الدينية والقانونية ما يكون مع المستشار، أما حكمك يا أيها المستشار على ملايين من البشر ينتمون لهذه الجماعات في مصر من أقصاها إلى أدناها: رجالاً ونساءً، شيبًا وشُبانًا، بأنهم لا يعرفون الله، ولا يعرفون إلا الباطل؛ حُكم لا يَصْدُر مِنْ مثلك، ومَنْ في موقعك!! وهذه باقعة ليس لها راقعة، وفاجعة لا يغطيها ذيل، ولا يسترها ليل.
ج- والعجَب أنك –أيها المستشار- قلت هذا مع تصريحك في المؤتمر نفسه بأنك لا تريد أن تقول كلامًا يسائلك به أحد أمام القانون!! فهل ما ذكرته لا تستحق به المساءلة أمام القانون؟
فلو احتكم إليك –يا أيها المستشار- رجلان، قال أحدهما لخصمه: أنت متواطئ عليّ، أو أنت أخفيت أدلة كانت تدين رموز النظام السابق، فردّ عليه الآخر بقوله: إنك وكل الجماعات الدعوية في مصر لا تعرفون الله، ولا تعرفون إلا الباطل.
فأي القولين سيكون أعظم عندك، وفي ضميرك؟ وهل سيقع صاحب المقولة الثانية في نظرك تحت طائلة الحساب أيضًا أم لا؟
د- أما تعلم -أيها المستشار- أن كثيرًا من هذه الجماعات الذين شملهم عموم قولك هذا لا يعرفون ما اسمك، ولا يتابعون أخبارك، ولا يَدْرُون مَنْ أنت، ولا أين تَبِيتُ، ولا أين تَقِيلُ، ولم يذكروك بخير أو شر على لسانهم قط، فترميهم أنت بهذا البهتان والإفك –مع أنهم ولم يسيئوا إليك- فأين أنت من قوله تعالى: {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وربما يكون من حَكَمْتَ عليهم أيام النظام السابق، أو حَقَّقْتَ معهم -وكثير منهم أو أكثرهم كان مظلومًا باعتقاله ومحاكمته أمامك أو أمام غيرك- ربما يكون كثير منهم قد لقي الله عز وجل، وودّع الدنيا، وهو الآن تحت أطباق الثرى، فإن كان صالحًا؛ فنرجو أن يحطّ رحْله في الجنة، ويلقى ربه وهو عنه راضٍ، وإن قذفه المستشار بالجهل بالله والحق، والعلم فقط بالباطل!!
هـ- أليس من حق من شملهم هذا الاتهام الجائر في دينهم وأخلاقهم أن يرفعوا دعوى على المستشار، فيكون حقًّا خلف القضبان بسبب هذا القول فقط، دعْ عنك غيره من قضايا الثورة؟!
و- كل هذا إذا عاملنا المستشار بظاهر لفظه، كما قد يفعل هو أو غيره مع خصومه، ونفْي معرفة الرجل ربه قد تكون كفرًا، وقد تكون فسقًا، وقد تكون عن جهل، وقد تكون عن إعراض، أو شك، وبقية الكلام تقوي أحد هذه المعاني –وهو الجهل الناتج عن الإعراض- ومن ذلك قوله: “لا يعرفون إلا الباطل”!!!
ح- وأيضًا: فهل يُحْمد المستشار على توليه التحقيق عشرين عامًا في النظام السابق مع المنتمين للجماعات الإسلامية؟ أهذا يدل على انحيازه للحق وأهله كل هذه الفترة، أم عكس ذلك؟ فلو كان المستشار قوَّالاً بالحق؛ فهل كان سيبقى في مكانه الذي كان فيه طيلة هذه المدة؟! وهل يُتصور ممن يحمل هذا البغض لهذه الجماعات، أن يكون عادلاً في تحقيقه معهم؟ فإذا أنكر عليه المظلومون من الجماعات الإسلامية أثناء تحقيقة معهم تلك الأيام؛ فلا يجوز أن يكون حانقًا عليهم إلى هذا الحد، لكن الإنصاف عزيز، والله المستعان!!
رابعًا: وليْت الأمر انتهى عند هذا الحد: قضاة ومستشارون يهتفون بإسقاط النظام، وبتحدي الدولة بأمنها ورجالها، ونائب عام يرمي مخالفيه –وإن سدُّوا الأفق- بأنهم لا يعرفون الله، ولا يعرفون إلا الباطل –ناهيك عما يكون في مثل هذه المجالس من سب، وطعن، ولعن، …الخ- إلا أن المستشار أحمد الزند –أكرمنا الله وإياه- زاد الطينَ بِلَّة، والمريضَ علَّة، فإذا به يزيد هؤلاء الإسلاميين أوصافًا أخرى، ويُوسِعهم سبًّا مُقْذعًا، فيقول: “وأريد أن أَسْمعَ الموتورين، الأفاكين، المعجونين بماء الكذب، والخداع، والخيانة، والضلال، الذين لا يعرفون عن الرجولة شيئًا..” اهـ،
وهذه عدة وقفات أمام هذه الكلمات: 
أ- إن الله عز وجل خلق الناس جميعهم على الفطرة، ثم ما وقع منهم من الانحراف فإنما يكون بعد ذلك، والمؤمن مهما ظَلَم واعتدى؛ فلا يقال فيه هذا القول بهذا الإطلاق، بل يُذْكر خطؤه، ويُنْصَح، وإلا حُذِّر منه، إذا كانت المصلحة في ذلك، ولكن يبدو أن بعض قضاتنا صَدَّقوا أنه عندهم حصانة، تجعلهم يشعرون أنهم لا سلطة فوقهم، وتجعل أحكامهم محترمة مهما قالوا في المسلمين: الأحياء منهم والأموات، وأن لهم أن يردُّوا الصاع صاعيْن، ومن تكلم فيهم –ولو بحق أو دفاع عن نفسه- فالويل كل الويل له، وكأنهم لم يشعروا بالمتغيرات من حولهم، ومع هذا كله فالميزان شعارهم –كما يقولون- والحق إنما ينقدح في ضمائرهم، وضمائرهم فقط!!! وكما قيل: إذا كان غريمك القاضي؛ فمن ينصفك؟!!
ب- إنني لا أستجيز لنفسي ولا لغيري أن يقال هذا القول في مسلم قط –ومنهم المستشار أحمد الزند مع إسرافه في هذا القول- فكيف استساغ المستشار هذا الإطلاق في أقوام رُكّع، سُجّد، وإن ظلموا؛ فالكبيرة لا تخرج المسلم من الإسلام، بل الكبائر، بل الإصرار على الكبائر التي هي دون الكفر، لا تخرجه من الإسلام، إذا بقي معه أصل التوحيد، وقد سبق من قواعد أهل السنة والجماعة: أن المسلم يُحَبُّ ويُبْغَض، ويُمْدح ويُذَم بقدر ما فيه من خير وشر، أي لا يُطلق مدحه ولا ذمه إلا بقدر ما معه من الخير والشر.
ج- ثم متى تم هذا العجن لهم بهذا الماء الآسن الكريه؟ أعند بداية خلقهم؟ كيف هذا، وكل مولود يولد على الفطرة!! أم أن هذا وقع بعد خلقهم، وبلوغهم سن التكليف الشرعي؟ فإن كان كذلك فمن الذي أخبر بذلك المستشار؟! هل هو يعلم الغيب؟ فإن قيل: عرفه من خلال أعمالهم، فيجاب: من سبقك أيها المستشار بهذا القول في مسلم قط –مهما كان إسرافه على نفسه- من علماء الأمة عبر التاريخ؟ سَمِّ لنا رجلاً معروفًا في الأمة بالعلم والورع قال مثل قولك في خصم مثل خصمك، وإلا فما هو حال رجل كذلك؟!
وقد كان يكفيك أو يسعك –أيها المستشار- أن ترد ظلم من ظلمك –إن كان كذلك- دون هذه الإطلاقات التي لا خطام لها ولا زمام، والتي تُنْـزِل صاحبها عن الرتب السَّنِيَّة، والدرجات العَليَّة!!!
د- وتأمل قوله: “لا يعرفون عن الرجولة شيئًا” هكذا بصيغة النكرة في سياق النفي، ولا يخفى على المستشار أنها تعم كل أفراد العموم، وأن ذلك من صيغ العموم عند الأصوليين!!
فيا لله العجب!! أهكذا أيها المستشار؟! أما تعرف معنى كلمة الرجل المصري للآخر: “ما أنت براجل”؟! ولاشك أن معرفة الشيء فرع عن تصوره، فمن لم يتصور الرجولة؛ لم يعرفها، ومن لم يعرفها في شيء؛ فلم تتحقق فيه بأي وجه من الوجوه، ومن كان كذلك، فقل إن شئت: هو ديوث، أو مخنَّث، أو لوطي، وفي أقل معانيها قبحًا وسوءًا: إنه ليس عنده من مكارم الأخلاق التي يتمتع بها الرجال عبر التاريخ شيء!!!
ومعلوم أنه لو قال أحد هذا القول القبيح في المستشار الزند، أو فيمن دونه من أنصاره؛ لرفع عليه دعوى بتهمة القذف في العِرْض والأخلاق …الخ!!
إن الذي لا يعرف الرجولة في شيء -أيها المستشار- يكون ديّوثًا، أو لا يغار على أهله، بل يرضى الفاحشة فيهم، أو يكون ممن يُلاط به، أو يُفعل به الفاحشة، وممن لا يوصف بأي صفة من مكارم الأخلاق، ومنها الغيرة، والأنفة، والعزة، والشموخ، والإباء …الخ، ورجل هذا حاله؛ فَبَطْنُ الأرض خير له ولذويه من ظهرها!!
ولا يسمن ولا يغني من جوع تنصُّل المستشار من هذه الورْطة التي على الهواء مباشرة بقوله: ما قصدت، وأردت …الخ، فإن الرجل ليس ممن لا يعرف ما يخرج من رأسه، وسياق الكلام وسباقه يدلان على أنه أمعن في اختيار أغيظ كلمة يقولها في خصومه، والشريط بالصوت والصورة موجود، وربما يكون بين يدي القضاة في حينه –إن شاء الله تعالى-.
هـ- وليس هذا اتهامًا من المستشار لشخص واحد، بل لكل مخالفي المستشار أحمد الزند الذين يوجّه خطابه إليهم!!! ومعلوم أنهم –ومن على شاكلتهم- يشكّلون الأغلبية في الشارع المصري، وفي مجلس الشعب، ومجلس الشورى، فهل أغلبية أهل مصر لا يعرفون عن الرجولة شيئًا؟! فأين قولكم في خطاباتكم: شعب مصر العظيم؟!! وأين افتخاركم ببلد الحضارة من آلاف السنين، وهذا حال الأكثر أو الكثير –على الأقل- من رجالها؟!!!
إنني أضع هذا الأمر أمام المستشار أحمد الزند نفسه، وأمام العقلاء المنصفين –لا المتهورين- من القضاة، ليفْتونا مأجورين!! وإلا فهذا إتهام صريح في العِرْض، وماذا بعد العرض عند أهل الشموخ والعزة والإباء، بل عند أقل مسلم؟ صَدَقَ مَنْ قال:

أَصُون عِرْضي بمالي لا أُدنِّسه *** لا بارك الله بعد العِرْضِ في المال

إن من حق أي رجل من القوى الإسلامية الذين يدل سياق كلام المستشار على أنهم المقصودون بهذا القذف الجماعي أن يحتسب، ويرفع دعوى قضائية على المستشار الزند، حتى يكون للسانه خطام وزمام، ويعرف أن أمامه رجالاً يعتزُّون بدينهم، ورجولتهم، ونخْوتهم، وشهامتهم، ومروءتهم، كل ذلك بالحق والعدل {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
و- ومع هذا كله فإني أحذِّر من أي أسلوب غير اللجوء إلى القضاء ببوّابته الواسعة المنْصفة في ذلك، فإن الحق يضيع بالتهور والعنف، وديننا بريء من ذلك أيضًا، ومن سلك هذا المسلك؛ فقد أساء وظلم، وأما في حق الدعوة والدعاة فقد عصى وأجرم.
إن الكلام الذي قاله المستشار المُقال، والمستشار الزند حقًّا هو الذي يجعلهما خلْف القضبان، وإن لم يثبت ضدهما شيء في كل ما نُسب إليهما من اتهامات قبل ذلك.
ز- ومع هذا كله؛ فيكفي العقلاء من هذه الجماعات المقذوفة ظلمًا وزورًا الاعتذار مِنْ كل مَنْ أساء إليهم بهذه الاساءات، لأننا لسنا في مقام تصفية الحسابات، وبلدنا أهم علينا من أنفسنا، وتماسكُنا، وتلاحُمُنا في هذه الأزمة خير لنا من حُكم قضائي لنا عند فلان أو فلان، وكسْب القلوب أهمُّ من كسْب المواقف عند من يغضبون لله عز وجل، وقد كان العفو من الأساس أولى، لكن هذه عبارات تهزُّ الوجدان، وتجلب الأرق والقلق، والمهم أن يعرف المرء خطأه، حتى لا يعود إليه.
ح- إن إنكاري خطأ القضاة المذكورين؛ ليس معناه أن القوى الإسلامية منـزَّهة عن وجود أفراد –كثروا أم قلّوا- فيهم بغْي، وظُلم، وجهل، وتهور، وانحراف، وبذاءة لسان، وأنه يجب عليهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل من كل ما يغضب الله عز وجل أو أحدًا من خلْقه بدون وجْه حق، وإلا فيجب على ولاة الأمر ردعهم وزجرهم بما يحقق العدل، والأمن، والاستقرار.
فإذا كنا ننكر على الآخرين أخطاءهم؛ فلا نعالج ذلك بأخطاء أخرى، والأصل عدم نقْل الكلام بدون روية، حتى لا يكون جواب المرء إذا نزل في قبره: “وجدتُ الناس يقولون شيئًا فَقُلْتُه”، والتقليد في حقوق وأعراض الآخرين جالبٌ للذل في الدارين!!!
(خاتمة): إن الإعلان الدستوري الذي كثر النـزاع حوله في أكثر مواده لا بأس به، وقد كان هذا مطلب الأغلبية في الميادين، والواجب على المعترضين عليه اليوم أن يفصِّلوا بين مواده، فيقولوا: المقبول منه كذا، والمردود منه كذا، أما إطلاق الرفض؛ فليس من الإنصاف، وكذا الطعن في النوايا، والقول بأن المقبول منه ما هو إلا ذَرُّ للرماد في العيون، أو دسٌّ للسُّم في العسل؛ كل هذا ليس من العدل في القضية، ولو سلمنا بأن هذا الرفض المطلق من العامة أو السياسيين مقبولٌ؛ فلا يُقبل هذا من القضاة، أهل العدل، والرويّة، والتمييز، فلابد إذًا من التفصيل.
وإذا كان الله عز وجل قد ذكر أن المشركين احتجوا على باطلهم وفواحشهم بأمرين: الأول: أنهم وجدوا آباءهم على ذلك.
والثاني: أن الله أمرهم بذلك، فلم يرد الله عليهم قولهم كله –وهم مشركون فجرة- بل فصَّل سبحانه وتعالى فيه، فقال سبحانه: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فأقرهم سبحانه على بعض قولهم –وإن كان باطلاً في نفسه- وهو أنهم وجدوا آباءهم على هذا الباطل، وأنكر عليهم البعض الآخر، وهو نسبتهم باطلهم إلى أَمْرِ الله عز وجل إياهم بذلك.
وأيضًا فالقضاة ينظرون في دعاوى المرء، فإن ادعى عشرين دعوى مثلا، وليس معه دليل إلا على خَمْس منها؛ حكموا له بالخَمْس التي أقام حجته فيها، وأبطلوا دعواه في الباقي العاري عن الأدلة، ولا يجوز لهم أن يطلقوا القول ببطلان كل دعاويه.
ومن هذا المنطلق أقول:
1- القرارات التي جاءت في الإعلان الدستوري هذا، والتي فيها ذِكْر لحقوق الشهداء والمصابين حق لا إشكال فيه، وهذا مطلب الجميع، فلماذا التنكر لها اليوم؟!
2- القرار الذي جاء بإقالة النائب العام وتولية غيره: أَمْر خاضع للمصلحة والمفسدة، وقد كان هذا مطلب الثوار، بل هو مطلب كثير من القضاة، والرجل قد بلغ سنًّا وحالة صحية لا تساعده على مشاق هذا العمل، وكثيرون يرون أن تشبثه بالمنصب ما هو إلا من باب المعاندة لخصومه، وإثبات أنه أو القضاة رقْم لا يُتجاوز، وإن كان ذلك في صورة الدفاع عن المؤسسة القضائية، وقد يكون -على أحسن الأحوال- مقصدهم الدفاع عن استقلالية القضاء؛ لكن ما هكذا يا سعد تورد الإبلُ!!
فيجب على المستشار –وفقه الله- أن يُنْـزِل نفسه منـزلة أعلى من هذه المنـزلة، ويقدم المصلحة العامة على تحقيق نصر زائل له ولأنصاره –إن تحقق- والعبرة بأن يُوجَد في المنصب بعده من هو أهل له –وهو كذلك كما يظهر من ثناء المستشار الزند نفسه على المستشار طلعت عبدالله- فإن كان عنده شيء على النائب الجديد، فيناصحه بالتي هي أحسن، ويناصح الرئيس الذي ولاّه، أما التكتل والاستقطاب؛ فهذه قضية ليس فيها منتصر ومهزوم، بل الكل فيها مهزوم، إذا عمت الفوضى في البلاد، وإذا أنشبت الفتن أنيابها وأظفارها في جسد الأمة وأمعائها.
ثم إذا كان منصب رئيس الجمهورية –وهو أعلى سلطة في البلد- غير قابل للديمومة، وأنه لا ينتهي إلا بموت، أو تقاعد، أو استقالة؛ فمن باب أولى مَنْ دونه مِنْ ذوي المناصب، وهذه “غلْطة” دستورية –في نظري- يجب أن تُصحَّح وتُسْتدرك، لأن هذا ربما يصنع الطواغيت والجبابرة، ثم يُنظر بعد ذلك ما هو الأصلح في كيفية تولية النائب العام، هل بتعيين؟ وإن كان فبتعيين من؟ أم بانتخاب؟ وإن كان فبانتخاب من؟
فإذا بدأ الرئيس –وفقه الله- بخطوة الإقالة بعد ذلك، وهو يملك الآن سلطة التشريع بصفة مؤقتة؛ لكان أولى وأبْعد عن النـزاع، فالقرار في الجملة لا يستحق كل هذا الإزعاج، وإن استعير له أي ثوب أو غطاء!!
3- القرار الذي جاء بإعادة المحاكمة لرموز النظام السابق: لاشك أنه قرار خاضع لوجود أدلة جديدة تغير مسار الحكم السابق، وإلا كان عبثًا، أو ظلمًا، فإذا كانت هذه الأدلة موجودة؛ فمن عَلِمَ حُجَّة على من لم يعلم، والمثْبِتُ مقدم على النافي، لاسيما والقضية لا زالت منظورة في بعض المحاكم، فإذا كان النظام القضائي يسمح بقبول الأدلة الجديدة؛ وإلا أعيدت المحاكمة العادلة من جديد، والحق مطلب الجميع وضالته، ولا يجوز ظُلْم بريء في النظام السابق أو اللاحق، ولاشك أن هذا كان مطلب الثوار جميعًا، فكان ماذا؟!
4- المادة الخامسة في الإعلان، والتي تُحصِّن سَيْر الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى: في نظري أن هذه المادة أولى من عدمها؛ لأن الجمعية والمجلس إذا كانا مهدَّديْن بالإلغاء، وأن هناك مخططات جهنمية ستُجْهز على ما بقي من مؤسسات، ومن ثَمَّ تعيش البلاد بعد ذلك –وقد تطول المدة- بلا أي مؤسسة دستورية؛ فإن ذلك لا يرضى به أحد يحب مصلحة مصر، ولو سلمنا بكل ما يقال حول الجمعية التي أسسها مجلسُ شعبٍ قد أُلغي –سواء كان الإلغاء حقًّا أو باطلاً- فإن تَحَمُّلَ الشر في ذلك أهون من تَحَمُّل الشر في إلغائها، وحنانيْك بعض الشر أهون من بعض!!
ووجه ذلك ما يلي:
أ- إذا أُلغيت الجمعية التأسيسية، فإما أن يعين الرئيس مرسي جمعية أخرى –باعتباره يملك السلطة التشريعية مؤقتًا- أم لا!! فإن عينها: فإما أن يعيدها كما كانت، أم لا!! فإن أعادها كما هي؛ فهذا عَبَثٌ، وإهدار للمال العام، والعقلاء منـزّهون عن الدخول في مظاهرات، واعتصامات، وإصابات –وربما قتلى- وإهدار للمال العام والخاص، كل ذلك من أجل أنهم يطالبون بأن تُلغى الجمعية التأسيسية الموجودة، ثم لا يمنعون من أن يعيدها الرئيس كما هي، وبأعضائها الموجودين الآن بعد ذلك!! أي عَبَث أعظم من هذا؟!!
ب- وإن كان الرئيس من حقه أن يُشَكِّل جمعية تأسيسية جديدة، فإما أن يُبْقِي فيها على نسبة الإسلاميين التي كانت لهم في الجمعية الأولى، وإما أن يزيدها، وإما أن ينقصها، وإما أن يغيّر جميع الأعضاء، ويأتي بأعضاء لا ينتمون إلى أي جهة من القوى السياسية، وليس هناك احتمال آخر بعد ذلك:
فإن أعاد الرئيس النسبة للإسلاميين كما هي –فضلاً عن الزيادة فيها- فهل سيرضى المعارضون لذلك اليوم؟ أم أنهم سيرفضون؟ فإن رضوا؛ فهذا عَبَث أيضًا يُلْحَقُ بالذي قبله.
وإن رفضوا: فهل يحق لهم دستوريًّا ذلك؟ فإن كان لا يحق لهم ذلك؛ لأن السلطة التشريعية في يد الرئيس مؤقتًا، فكيف يعرِّضون البلاد لفساد عظيم دون وجه حق شرعي أو دستوري لهم؟
وإن كان يحق لهم ذلك، وتم اختيارهم لأعضاء آخرين، إما بالزيادة في العدد، أو بإبدال رجل بآخر، فقام الإسلاميون واعترضوا، وتظاهروا، واعتصموا، وتناوشوا مع رجال الأمن؛ وحصل منهم وفيهم قتل وإصابات، فنعود مرة أخرى لمربع ما تحت الصفر!!! وهكذا لو نقص العدد في نسبة الإسلاميين؛ فلا نأمن من الرفض منهم أيضًا، فهل يرضى بذلك عاقل؟!
وأما وجود أناس ذوي كفاءات ليس لهم أدنى ميول إلى القوى الإسلامية، أو الليبرالية، واليسارية، والقومية، وغيرهم؛ فهذا نادرٌ جدًّا، ولا يخفى على أحد أن أكثر العوام قد ولج في أتون السياسة، وإذا كان القضاة الممنوعون من هذا، قد ولج كثير منهم في ذلك؛ فمن بقي بعدهم ليس له مَيْل إلى هؤلاء أو أولئك؟!
ولو سلَّمْنا بوجود ذوي كفاءات شبه سالمين من الانتماءات؛ فلاشك أنهم إذا رشحت بعضهم القوى الإسلامية؛ ما لوا إليها، وإذا رشحت بعضهم القوى الليبراليين ونحوها؛ ما لوا إليها، فرجعنا إلى ما كنا نحذر مرة أخرى!!
ج- فإن قالوا: ننتخب أعضاء الجمعية الجديدة انتخابًا مباشرًا من الشعب؛ قيل: إن الانتخاب على تكاليفه المادية، وطول مدته الزمنية، وما يصحب مسألة الانتخابات من اختراقات، واتهامات، ومطالبة بإلغائها، وإعادتها،… وهكذا، وبعد هذا كله فقد تأتي عملية الانتخابات بمن دَبَّ ودَرَج، والمقام مقام وضْع دستور يُحتاج فيه إلى كفاءات، ومعلوم أنه كلما طال وقت الفراغ الدستوري؛ فُتح الباب للتهارج والفوضى!!
فإذا قال المعارضون: نحن عندنا كفاءات؛ فالإسلاميون سيجيبون عليهم بالجواب نفسه، ويقولون: ونحن كذلك عندنا كفاءات، فإن قالوا: نقسم العدد نصفين 50% للإسلاميين، و50% للقوى الأخرى، فكيف سيكون الترجيح إذا اختلفوا في مادة ما؟ ومعلوم أيضًا أثر نظام المحاصصة على وَأْدِ العمل والثمرات، هذا إذا سَلَّم الإسلاميون بهذه النسبة!!
فإن قالوا: نتوافق على كل مادة؛ فيقال لهم: لكم قَدْر نصف عام، ولو كنتم متوافقين؛ لخرج مشروعكم إلى النور، ولابد من آليّات فاعلة، لا مجرد أماني باطلة، وأحلام زائلة!!
أيها الأحبة: إن ما تمر به مصر بعد ثورتها في 25/يناير/2011م أشبه ما يكون بعملية جراحية في منطقة خطيرة في البدن، فكلما كان مسار المِشْرَط ضيقًا؛ كان أكثر أمنًا، وكلما توسّع مساره، وطاش يمْنة ويسْرة في البدن؛ كان احتمال الهلكة أكبر!! فكل ما كان من الطرق أخْصر للوقت، وأقلّ في الجهد؛ وجب على الجميع أن يسلكوه.
د- وبعد هذا كله، ننظر: دستورٌ قد اتَّفَقَ على المشاركة في جمعيته التأسيسية جميعُ الشرائح، أو أغلبيتهم، واستمروا على المشاركة والمناقشة لمواده عدة أشهر، وقطعوا أكثر الطريق فيه، وما بقي منه إلا القليل، واتفقوا على كثير من مواد النـزاع الشائكة بعد جهد جهيد؛ فهل نمضي فيه، ولم يبق في الطريق إلا القليل، لنخرج من هذا النفق، ونستفتي الشعب عليه، وندخل في عملية انتخاب مجلس الشعب الجديد، وتعود للدولة مؤسساتها، -على ما في ذلك من النـزاع في بعض المواضع- هل هذا خير، أم نرجع ونعود القهقرى، ونسير في النفق المظلم، حتى نصل بدايته، ونذهب لنتلمس الطريق من أوله، ونبقى عدة أشهر أخرى نبحث عن بداية الطريق، والله أعلم متى سنهتدي إليها حسب الاحتمالات التي سبقت في النقاط (ب،ج،د)؟ وإذا اهتدينا إلى بداية الطريق؛ فنبدأ فيه من البداية مرة أخرى، ونختلف في صياغة كل مادة، وما كان يُعاب على الدستور الأول، سيكون في الدستور الآخر أكثر وأكثر!!
فأي الأمريْن أيْسر وأهون، وأسرع وأنفع؟ نداء أوجهه إلى العقلاء، ولينظر كل امرئ في الدوافع التي تحمله على الإصرار على قوله، من هو يرضى بذلك؟ فيُعِدُّ للسؤال عند الله جوابًا، وللبلاء جلبابًا، إذا آلت الأمور بإصراره على رأيه إلى فتن قد يهرم فيها الكبير، ويشب عليها الصغير، والله عز وجل يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}!!
فإذا قيل: كيف يُعرض دستور على الناس لم يتم التوافق عليه؟
فالجواب: سبق أن التوافق –وهو غير الإجماع- قد يكون صعب المنال في عدة مواضع، فإذا كان الجميع قد ارتضى المنهج الديمقراطي –بعد أن رفض الليبراليون ونحوهم المنهج الإسلامي الشامل- فليُلجأ إذًا إلى التصويت عند النـزاع.
فإن قيل: لا نرضى بذلك، فيقال: لماذا تتنكرون اليوم لما كنتم تدعون إليه بالأمس؟
فإن قيل: لأن اختيار أعضاء الجمعية من البداية أعطى الأغلبية للقوى الإسلامية.
فيقال: قد رَضِيتم بالمشاركة في جمعية هذا حالها من البداية فلماذا تنكرونها اليوم؟
فإن قيل: رضينا بذلك آنذاك حرصًا على مصلحة مصر، وإن كنا كارهين.
قيل: وما كنتم تخشونه بالأمس فهو اليوم أشد.
ويقال للمخالف: هل لا تكون الجمعية دستورية، إلا إذا جاءت بمواد توافق ما تريد، وإلا هدّدت بالانسحاب، أو ناديت بالمظاهرات والاعتصامات؟ وماذا لو فعل غيرك مثل ذلك فيما جاء من مواد لا يرضاها؟ فمتى ستستقر مصر إذًا؟
ثم ماذا لو لم يتم الاتفاق؟ هل تصطلم مصر، ويقتل بعضها بعضًا، ثم يلتهمهما الأعداء المتربصون؟! أم أن التصويت أخف الضررين؟ وإذا صوَّتْنا: فهل نتبع الأغلبية، أم الأقلية؟! أفيدونا مأجورين، وأخرجونا من هذه الدهاليز التي اضطررتم الناس إليها بضرورة سلوك المنهج الديمقراطي لا الإسلامي، بارك الله فيكم!!
وعندي: أنه إذا أُغلقت الأبواب، وأصر كل فريق على قوله؛ فلا يمكن أن تكون الحرب الأهلية هي المخرج، فقد يقال: لا بأس أن تضع القوى الإسلامية دستورًا بجميع مواده، وتجتمع القوى الأخرى، وتضع دستورًا يوافق توجهاتها بجميع مواده، ثم يُعرض الدستوران على الشعب، فإذا قبلت الأغلبية من الشعب أحدهما؛ فليصبر الفريق الآخر، وهذا كله –على ما فيه- أهون وأقلُّ شرًّا من الحرب الأهلية، التي لا يمكن بعدها أن يحقق أي الفريقين مراده، فإذا كان المرء سيصْبر على عدم تحقيق مراده بعد فتنة وشر ودماء وفناء؛ فليصبر على ذلك مع سلامة الجميع، وهذا أخف الضررين، والله أعلم.
فإن قيل: نخشى أن تختار الأغلبية الدستور الإسلامي، لأن الشعب قد زيّف الإسلاميون وعيه، وضلّلوه، وأغروه ببعض المساعدات المادية أو العينية.
فالجواب: أليست الديمقراطية التي ناضلتم من أجلها، تنص على أن السيادة للشعب، وأنه مصدر السلطات، وأما الحكم للأغلبية، وأما نحن فلا نرى الحكم إلا لله، وأن الله يحكم لا معقب لحكمه، وأنه أحكم الحاكمين، لكن خشية الحرب الأهلية، وتداعياتها المُرَّة؛ سلكنا طريق الديمقراطية، فلماذا تتخوفون أنتم، وتتنكرون لما ناديتم به؟ أم أن المسألة من نهايتها: أنكم لا تريدون أن تحكم الشريعة الإسلامية؟! فإذا كان كذلك؛ فليعرف الشعب مرادكم، وليعلم ماذا تصفونه به من الجهل، والوعي المزيّف، وبيع ضميره ومبادئه مقابل الزيت والسكر ….الخ.
هل القوى الأخرى لا تريد أن يكون في الدستور الجديد شيء يمكن لشريعة الله؟كيف ذلك؛ وهم يصرّحون بأنهم يؤمنون بالله عز وجل، وأنهم يدينون بالدين الذي أنزله، والرسول الذي أرسله؟ وهل الإيمان مجرد قول، أم أنه قول وعمل واعتقاد؟ وهل أنزل الله القرآن ليكون مرجعًا عند التنازع، أم لنقبله بأفواهنا، ونضعه على رؤوسنا، وعند النزاع نتحاكم إلى قوانين بشرية فيما يعارض المحكمات الصريحة؟! إن إصرار الإسلاميين على تحقيق شيء من الشريعة الربانية في الدستور ليس مصلحة خاصة بهم، إنه قيام ببعض الواجب تجاه دين الجميع، وأداء لبعض الأمانة التي هي في عُنق الجميع، وإلا وقعنا في إساءة الظن بالله، وبشريعته، فإن بلغنا هذه الدرجة –لا قدر الله- فلننتظر من الله شيئًا آخر {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.
وإذا كان بعض هذه القوى قد التبس عليه أمْر ما؛ فلا يليق بالقضاة أن يرددوا قوله، فالقضاة يجب أن يكونوا أعرف الناس بعدل شريعة الله عز وجل، وأن كل خير في غيرها من الدساتير؛ فهو فيها أكثر وأشهر.
وعلى ذلك: فالذي يترجح عندي أن قرار تحصين الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى أولى من ترك الأمر كلأ مباحًا لحكم قضائي يُنفّذ نصوصًا دستورية، إن صح ذلك –وليست قرآنًا- وإن كانت مفسدتها أعظم!!
ومعلوم في الشريعة وعلومها ومقاصدها وقواعدها: ترك الواجب لما هو أوجب منه، وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعظمهما، إذا عجزنا عن دفعهما جميعًا، وإن جهل الناس ذلك؛ فلا يجهله القضاة الأفاضل.
هذا في علوم الشريعة المنـزلة من السماء، فكيف بدستور وضعه البشر، إذا تمسكنا بحروفه ومبانيه، ولم نبال بمقاصده ومعانيه، حتى وإن دخلت البلاد في هوّة سحيقة من الفراغ الدستوري، وما يتبع ذلك من تلكّؤ اقتصادي، وانفلات أمني، وفوضى لا تبقي ولا تذر!!
هل لعاقل أن يقدم النص الدستوري، وإن أفضى إلى إراقة الدماء، وتسلّط الغوغاء، ووهن القوة، والفشل؟!
ناهيك عن اختلاف الدستوريين أنفسهم: فمنهم من لا يرى في هذا الإعلان أي مخالفة للدستور، وأن البلاد في حالة ثورية، وأن الثورة المضادة تريد أن تعيد البلاد إلى أمور لا تُحْمَدُ عُقْباها، وأن مِنْ حَقِّ الرئيس قرارات سيادية يحمي بها البلاد، وهذا منها، وليس في هذا تحصين لمواد الدستور بصفة مستمرة، بل تحصين لاستمرار العمل في إعداد مشروع الدستور مدة يسيرة جدًّا، ثم بعد ذلك يُعْرض هذا المشروع على الشعب، فإن قبله الشعب؛ أُقِرَّ، وصار دستورًا، وإلا فلا، فلماذا هذا العويل، ولماذا يكون البكاء أكبر من الميت؟! ولماذا تكون مصر ومقوماتها ثمن الإصرار على أن تكون كلمة فلان هي العليا؟ إن الكلمة العليا لله وحده، ثم الكلمة التي تحقق المصلحة العامة، ونورٌ فيه ظُلْمة؛ خير من ظُلْمة لا نورَ فيها، وقديمًا قيل:

إن اللبيبَ إذا بَدَا في جِسْمه *** مرضانِ مختلفانِ داوَى الأخْطرا

5- المادة الثانية من الإعلان، والتي تحمل القرار الذي يحصِّن قرارات الرئيس السابقة، واللاحقة حتى يتم انتخاب مجلس شعب جديد، بغضِّ النظر عن الدوافع التي حملت الرئيس –سلمه الله- على إدخال هذا القرار في الإعلان فإن عندي في صياغتها، وعمومها، وطريقة إخراجها تحفُّظًا ووقْفة، وذلك بما يلي:
أ- ظاهر الصياغة للقرار أنها عامة تشمل ما لا يخطر بالبال، بل تشمل ما لا يُعْرف من حال الدكتور مرسي –حفظه الله- الرجل الذي لا يُتهم بفساد، ولا خيانة للوطن، ولا يحمل الأحقاد والضغائن لمعارضيه، ولا يُعرف بالحرص على الاستبداد والاستحواذ على كل شيء –ولا نزكيه على الله- وإن كان ليس معصومًا من الخطأ، فكل ابن آدم خَطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون، لكن عموم المادة ليس له حَـدٌّ محدود، ولا سَقْفٌ موجود، وهذا الإطلاق لا يكون إلا لمعصوم، ولا عصمة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلا في الإجماع المتيقن.
ب- الظاهر أن الدكتور مرسي –وفقه الله- أراد بهذا القرار أشياء محددة، فهو عامٌّ أُريد به الخصوص، لكن يجب أن تُوضَّح هذه الأشياء بجلاء، والظاهر أنها القرارات السيادية، فيُنَص عليها، أو ينصّ على عدم إرادة المعاني التي يتخوف منها معارضوه، فيما لا يكون معصية لله عز وجل، والإطلاق في موضع التقييد معيبٌ
ج- وقد يقال: إذا كان الرئيس –سلمه الله- يملك في يده السلطة التشريعية مؤقتًا حسب الدستور؛ ومن حقه أن يستعملها في الحدود التي لابد منها، ويُعْمَل بها في الشعب حتى ينعقد مجلس الشعب الجديد المنتخب، فإما أن يقرها بعد ذلك، وإما أن يرفضها، وبذلك نحقق المصلحة المرجوة من وراء هذا القرار من الإعلان الدستوري، ونَسْلَم من الأمور التي تجري الآن في بلادنا من وراء هذه المادة التي صيغت بطريقة ظاهرها غير مراد!!
د- وعلى ذلك فأرى أن المصلحة التي أنصح بها وليّ الأمر الدكتور مرسي –وفقه الله-: إما أن يسحب هذا القرار من الإعلان، ويكتفى بتحقيق جوهره ولُبّه باستعماله السلطة التشريعية –عند الحاجة الماسة، كما وعد حفظه الله- فإن هذا أولى بذاك الرجل الرحيم بشعبه، الأوّاب للحق إذا ظهر له، لاسيما وقد سبق له أن تراجع عن قرار إعادة مجلس الشعب، وقرار إقالة المستشار عبدالمجيد محمود المرة الأولى، وهذا من شجاعته وحكمته، وأيضًا فإن هذا هو الموافق لمراعاة مقاصد الشريعة، ومراعاة ظروف شعبه وبلاده.
وإما أن يُعَدَّل هذا القرار، ويُحْصَر في القرارات السيادية، لا الإدارية ونحوها، مع تحديد ما هي القرارات السيادية، أو الجهة القضائية التي يُرْجَع إليها في ذلك، فيُنصُّ على ذلك، حتى لا يحصل اختلاف أو تداخل، وحتى لا يكون لأحد منصف على الرئيس مدْخل إن شاء الله، وإن كان هذا للأسف قد لا يُرضي الكثير من المخالفين!!
هـ- يجب أن يكفّ المبالغون في رمْي الرئيس بأنه فرعون، ودكتاتور، وأنه يقول: أنا ربكم الأعلى، وغير ذلك مما هو بريء منه، وكثير منهم يعلم براءته من ذلك، وأي مصلحة شخصية للرئيس في قرار تحصين التأسيسية ومجلس الشورى مثلاً؟! وكيف يكون فرعون أو دكتاتورًا من قيَّد صلاحياته بوقت قصير محدود، وقد حاول إعادة مجلس الشعب المنحلّ ليأخذ السلطة التشريعية منه؟!
ألا فليحذروا من الغوص في النوايا، والجرأة على حدود الله وخلْقه، فإن الله عز وجل قادر على أن يري الناس في الظالم آية وعبرة، وإن حرية التعبير ليست مطلقة، بل لها ضوابط، “والرفق ما خالط شيئًا إلا زانه، وما فارق شيئًا إلا شانه” “وإن الله لَيُعْطي على الرفق ما لا يُعْطي على العنف” والكلام يكون بالتي هي أحسن، لا بالتي هي أخشن!!
وكل كلام المرء في صحيفته، فإما أن يبْيضَّ وجْهه، وإما أن يسْودَّ وجهه، في يوم قال الله فيه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} والاستمرار في هذا الكلام والطعن في النيات، والحرص على التشويه بكل الوسائل؛ يجعل صاحبه موضع التهمة: بالتهور، وسوء النية، واتباع الهوى، والعمل لجهات أخرى على حساب أمته، ومن ثم الوقوع في الخيانة العظمى …الخ!!
و- أنصح الرئيس –حفظه الله- بأن يعيد النظر فيمن يشيرون عليه بأمور أو صياغات لبعض القرارات قد تُصَادِمُ بينه وبين فصائل من شعبه، ثم يرجع عنها بعد ذلك؛ فإن هذا وخيم العاقبة، كما لا يخفى، “والمؤمن لا يُلْدغ من جُحْر واحد مرتين” فكيف بأكثر من ذلك؟ فإن كانوا يجهلون أحكام القانون أو صياغته، أو تقدير المصالح والمفاسد، والحال والمآل، فلا حاجة في استشارة غير متأهل، وإن كانوا يعلمون ذلك كله، ومع ذلك يشيرون بما تؤول إليه الأمور بما قد جرى؛ فالأمر أعظم، والأمر كما قال القائل:

إنْ كُنْتَ لا تَدْري فتِلْك مصيبةٌ *** وإنْ كنتَ تَدْري فالمصيبةُ أعظمُ

ز- على الرئيس –حفظه الله- أن يُرَسِّخ مبدأ الشورى قولاً وعملاً ما أمكن –وهذا الظن به- فإن هذا أمْر الله لنبيه –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ولو كان أحد مستغنيًا عن الشورى؛ لكان رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الذي يُوحَى إليه، ومع ذلك فقد أمره الله بالشورى، لتعْلَم أمته ذلك.
وقد ذَكَر بعض مستشاري الرئيس ومساعديه عدم اطلاعهم على الأمر إلا من وسائل الإعلام، فإن كان الأمر كذلك؛ فما خاب من استشار –لاسيما الفريق المُعَدّ لذلك- وإلا فعليه أن يتفقد هذه الهيئة حتى لا يُؤْتَى من قبلها.
ح- المبادرة في نظري بيد فخامة الرئيس –عامله الله بلطفه وعفوه وستره- فلْيبدأ بها بسحب أو تعديل المادة الثانية من الإعلان، والتي تحصِّن قراراته السابقة واللاحقة –كما سبق تفصيله- وهو الرجل الشجاع، الذي مواقفه الناصعة في حوض النيل، وإفريقيا، وشرق آسيا، وإيران، وتركيا، وغزة، وغيرها جعلت له في قلوب العالمين مودة، ولكن لا يمنع أن يكون للجواد كبوة، وللصارم نبْوَة –وإن كانت غير مقصودة- وكفى المرء نبلاً أن تُعدّ معايبه، والعبرة بتحقيق المصلحة، وهذا ظن المنصفين بالرئيس –سلمه الله-، والله أعلم.
ط- أنصح بأن يستجيب الجميع: الرئاسة، والقضاة، والقوى السياسية، وغيرهم لصوت العقل، ونداء الحكمة، والسعي الجاد لإغلاق الباب أمام أعمال الفوضى والتخريب، وفتْح باب الحوار الهادئ الهادف، دون إصرار على مواقف سابقة للحوار، أو التعنت والاستعلاء في الخطاب، أو الاستقواء بالخارج، وأن يجتمعوا لوضْع خارطة الطريق للوصول بالسفينة إلى برِّ النجاة، فإن السفينة إذا خُرِمَتْ لن يسْلم منها أحد، ولا يظن أحد أنه سيغرق السفينة بالجميع، ثم ينتشل ركامها، ويعيد إعمارها لنفسه ومن معه مرة أخرى، ولا يجوز أن يراهن أحد بقوى خارجية؛ فإن هذا خيانة عظمى للبلد، ثم إنهم قد جُرِّبوا في التخلي عن أعز حلفائهم مراعاة لمصالحهم، والناس في أنحاء الأرض يحسنون الظن بالشعب المصري، بأنه شعب واعٍ، ومُدْرك، فأسأل الله أن يكونوا خيرًا مما يُظَن بهم، وأن يجمع شملهم على طاعته، ويجعلها بلاغًا لمرضاته،، ويكفيهم شر كل ذي شرٍّ هو آخذ بناصيته وجميع المسلمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كتبه
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل
ليلة الأحد 11/محرم/1434هـ
الموافق: 25/11/2012م