بقلم الشيخ

سبيل العزة بنصائح الشعوب والحكّام والعلماء بسبب ما حدث في غزّة

تنبيـه: لقد شرعتُ في كتابة هذه النصائح قبل إيقاف الحرب في غزّة، ولم يتيسّر لي إتمامها،  والنظر في تصحيحها، ومراجعتها إلا بين حين وآخر، فلما انتهيتُ من ذلك فرَّج الله بإيقاف الحرب، فأسأل الله عز وجل أن يديم على المسلمين في قطاع غزة وفلسطين خاصة وبلاد المسلمين عامة الأمان والرخاء، وأن يدفع عنها شرَّ كلّ ذي شرّ هو آخذٌ بناصيته، وقد تردَّدتُ كثيرًا خلال عدّة أيام في نشر هذه الرسالة؛ لانصراف همم كثير من طلاب العلم وغيرهم إلى أمور أخرى مستجدّة، ثم رأيتُ نشرها؛ لعل الله ينفع ولو بكلمة من هذه النصائح، وما ذلك على الله بعزيز، فأسأل الله أن يصلح نيتي وعملي وأهلي وذريتي.

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

فلا يخفى على بَرٍّ أو فاجر هَوْلُ هذا الحدَث في نفسه ـ أعني القصف اليهودي لغزّة ـ وتداعياتُه وآثارهُ المتوقعةُ على المنطقة العربية على وجه الخصوص مستقبلاً، فلا بد من وقفات صادقة ـ يُراد بها المخرج لا المأزق ـ مع الشعوب، والحكام، والعلماء، وأهل الحل والعقد، وغيرهم، ولا يجوز استغلال بعض الطوائف هذا الحدَث وغيره لتوسيع رقعة الفتن، وزيادة الضحايا في كل قُطر، فإن ذلك مخالف لمقاصد الشريعة وكلّيّاتها، والله عز وجل يقول:[وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الأنفال:25}  وهذا المسلك القائم على النصح والرفق هو واجب العقلاء جميعًا، وإلا غرقت السفينة، فلا دينًا أقمنا، ولا دنيا أبقينا!! وصدق من قال:

  أرى خَلَلَ الرمادِ وميضَ نارٍ ***خليقٌ أن يكون له ضِـرامُ

                       فإن النارَ بالزَّنْدَيْن تُـورَى *** وإنّ الفعلَ يَسْبقُه الكـلامُ

                       فإنْ لم يُطْفِها عقلاءُ قـومٍ ***  يكون وقودَها جثثًُ وهامُ

إن المقام ليس مقام كَيْل التُّهَم والرْمي بالخيانة والعمالة ـ في جميع وسائل الإعلام والشوارع والميادين العامة ـ لحاكم أو لنظام؛ فإن ذلك لا يفيد القضية شيئًا، بل يضر، ولكن المقام مقامُ تذكيرٍ للجميع حكامًا ومحكومين بواجبهم تجاه هذه الأحداث الدامية في غزّة، ولفتِ نظرهم إلى أبعاد وأهداف المشروع الصهيوني الصليببي الصفوي في المنطقة ـ وإن كان هذا لا يخفى عليهم أو كثير منهم ـ، وتجييش العواطف الدينية ـ أو على الأقل الإنسانية ـ تجاه أي طائفة مسلمة تصيبها هذه النكبات، والتحذير من مغبة خذلانها أو الرضا بما يحدث لها ـ تحت أي تأويل كان ـ فإن ما أمسى عند جارك أصبح في دارك، والأمة لا قيمة لها إلا باعتصامها بالحق وائتلافها عليه، ولنحذر من عاقبة سياسة: أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض، مع التنبيه على أن التاريخ ـ إن سَلِم من الأيادي الخبيثة ـ مُنْصِفٌ، ولا يظلم أحدًا ولا يُحابيه، وسينتهي كل شيء حولنا، والعز والذل لا يدومان، و”حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وَضَعَه“([1]) كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتاريخ لا يحتفي بظلم المتحاملين ولا لهث المتزلفين، إنما يحمل بين دفَّتَيْه المواقف بما لها وما عليها، فمن الذي يرضى أن يلعنه تاريخُ أمته وأجيالُها اللاحقة؟ ومن ذا الذي يختار لنفسه حال الأسف والندم والخزي بين يدي ربه عز وجل[يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)]؟ {الشعراء} إن الأمر حقًا يحتاج إلى صِدْقٍ مع الله تعالى وصِدْقٍ مع الأمة، وصدق أمام التاريخ والأجيال اللاحقة، وإلا فما هي إلا سنوات قلائل ويستبدلنا الله عز وجل بآخرين، وتدوم بعد ذلك الحسرات والآهات، لكن ماذا تغني الندامة من رجل قذفت به الأحداث إلى أسفل السافلين؟!!

إن جراح الأمة كثيرة، وتنزف في كل مكان، ولم يرقأ لها دم، ولم يغمض لها جفن، ولم يطمئن لها فؤاد، فلا ترى على شاشات التلفاز إلا نساء المسلمين يبكين ويصرخن على أولادهن، أو أطفال المسلمين اليتامى يبكون فَقْد من يعولهم، أو هَدْم بيتِهِم ومأواهم، ولا ترى مكان عبادة مهدومًا على من فيه إلا مساجد المسلمين:

أنَّى اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصوصًا جناحاه

وهذا مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث ثوبان: “يُوشِكُ أن تَدَاعَى الأممُ عليكم كما تَدَاعَى الأكَلَةُ إلى قَصْعَتِها” فقال قائل: من قلّة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثَاءٌ كغثاءِ السَّيْل، ولينزعنَّ اللهُ من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن” فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: “حُبُّ الدنيا، وكراهية الموت“([2])!!

 ولعل الله عز وجل يريد من وراء هذا الابتلاء خيرًا بعباده المؤمنين،كما قال تعالى: [لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] {النور:11}  وكما قال تعالى: [وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] {آل عمران:141} وقال عز وجل:[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ] {البقرة:214}  وكم تولد المنَحُ تُولَد مِنْ أرحام المحن، فلعل الله عز وجل يريد أن يُصفِّي قلوبنا من التعلق بغيره، أو الاغترار بغير طريقه؛ فقد شطحت الأمة في الاتجاهات القومية، واليسارية، والرأسمالية، والديمقراطية دهرًا، وهرولت ـ ولا زالت ـ وراء بريق منظمات دولية لم ترفع بقضيتها ـ خلال سنوات طويلة ـ رأسًا، فما كان للمسلمين من حقوق كالشمس في رائعة النهار؛ فقرار “الفيتو” يُقَطِّعُهم حَسَرات، ويصادر أي قانون يأتي لهم بحقهم ولو نظريًّا، وإن صدرت قرارات لصالح قضيتنا فهي غير ملزمة، وإن كانت ملزمة فلا جدّية في تنفيذها، وما كان ضد المسلمين ـ وإن كانوا أبرياء مظلومين ـ فيُبرم الأمر في دقائق، وربما لم تعلم به هذه المنظمات الأممية أصلاً إلا بعد تنفيذه على الواقع، ومع هذا فلا زالت الأمة مفتونة بهذه الزخارف وهذا السراب، فتحرث في الماء، وتزرع في الهواء، فيا لله العجب!! مع أن الأمر كما قيل:

ويُقْضَى الأمرُ حينَ تغيبُ تَيمٌ *** ولا يُستَأذنونَ وهمْ شُهودُ

فهل أمتنا تستجيب؟ أم أنه كما قيل: ما لجُرْحٍ بميتٍ إيلامُ؟!

وهل آن لأمتنا أن تدرك موقعها ومكانتها في البشرية،وأن البشرية بحاجة إلى منهجها والدواء الناجع السماوي الذي ورثته عن نبيها والتابعين له بإحسان؟ إن الله عز وجل يقول: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ] {آل عمران:110}  ويقول سبحانه: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] {البقرة:143} والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: “أنتم شهداء الله في الأرض، تشهدون على المحسن بأنه محسن، وعلى المسيء بأنه مسيء”.

إن المرء ليخجل عندما يرى حال هذه الأمة المعاصر، ويقرأ تاريخها ومواقف رجالاتها إلى عهد قريب، وصدق من قال:

          أُمَّتي هل لكِ بين الأممِ *** مـــنْبرٌ للسيـفِ أو للقَلَـمِ
         أتلَقَّاك وطَرْفي مُطْـرَقٌ *** خَجَـلاً مـن أَمْسِك المنْصَـرِمِ

          أمتي كَـمْ غُصَّةٍ داميـةٍ *** خَنَقَـتْ نَجْـوَى عُلاك في فمي
              أَلإسرائيلَ تَعْلُـو رايــةٌ *** في حِمَـى المهْـدِ وظِلِّ الحرم!!([3])
          كيف أغْضَيتِ على الذلِّ ولَمْ *** تَنْفُضي عَنْـكِ غُبـارَ التُّهَم؟
         أوَما كنتِ إذَا البغْي اعْتَـدَى *** موجـةً مِنْ لَهَبٍ أو (حُمَمِ)؟

إن فلسطين قد احتُلَّتْ منذ ستين عامًا ، وقد أدى الفلسطينيون واجبهم وزيادة تجاه أرضهم وقضيتهم، فلله دَرُّهم من شعب أبيٍّ وفيٍّ لدينه ووطنه وقضيته ودماء شهدائه، وإن أصابهم من التفرق مؤخرًا ما أصابهم، فأسأل الله عز وجل أن يجمع كلمتهم على الهدى، وأن يجنبهم الفتن وسُبُلَ الردى، والمراد: لو كان عند الأمة مشروع عملي إسلامي صادق لتحرير فلسطين، وكانت تسير فيه بصدق ولو سيْر السلحفاة؛ لكانت ظِلاله منذ وقت سابغة ممدودة، وثمراته بادية مشهودة، ولكن للأسف فما تزداد الأمة يومًا بعد يوم إلا وهنًا وتفككًا، ولا يزداد مشهدها أمام العالم إلا خزيًا وعارًا، وما ذاك إلا لأنهم أعرضوا عن منهج الله في رَدِّ الأمرِ إلى نصابه، والسيفِ إلى جِرَابه، والحق إلى صوابه [فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ] {المائدة:52}  [وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216}  وصدق من قال:

   لا يُفْزعنّك هَوْلُ خَطْبٍ دامسٍ *** فلعلَّ في طيّاته مـا يُسْعِـدُ

   لـو لَمْ يَمُدَّ الليلُ جُنْحَ ظلامـهِ *** في الخافقين لما أضاء الفَرْقَدُ

إن نصيحتي هذه أُلخّصها في نقاط:

أولاً: نصيحتي للشعوب الإسلامية ـ دفع الله عنّا وعنهم كل فتنة وبليَّة ـ :

لا شك أن الشعوب الإسلامية فيها خير كثير، وإن كان أكثر هذه الشعوب يسودهم الجهل بحقيقة دينهم، إلا أن الشعوب تتفاعل مع النوازل العامة بالأمة، وتشعر بآلام وآمال إخوانهم من الشعوب المنكوبة بتسلُّط الكفار عليهم، ولذلك فأعداء الإسلام حريصون على أن يفسدوا ولاء هذه الأمة، ويُجَهِّلوا هذه الشعوب بأمر دينها الصحيح؛ لتكون فريسة للأراجيف والدبلوماسية الشيطانية، أو للأفكار المنحرفة سواء كانت دينية أو غيرها، ولذلك فمن الأهمية بمكان أن يحرص دعاة الإسلام على الشعوب المسلمة بتبصيرهم دينهم، ونشر العلم والمكارم بينهم، وترشيد ولائهم، فقد أوصى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من يتولّى أمر المؤمنين من بعده بعوام المسلمين، فقال: وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا: فإنهم رِدْءُ الإسلام، وجُباةُ المال، وغَيْظُ العدو.

ولذا فمن الفساد سوء الظن بهذه الشعوب، والإياس من خيرها وصلاحها، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول كما عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكَُهُمْ” ـ بفتح الكاف وضمها ـ ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على آذاهم؛ خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم“([4]) وبناءً على ذلك فلا بد من العناية بالشعوب ونصحها بما ينفعها في دينها ودنياها، ولا بد من مكافحة الغزو الفكري لهم، فإن الشعوب الواعية جند من جنود الله، يقيم الله بها الحق، ويُزْهق بها الباطل، وإلا فالعامة إذا لم يتفقهوا في ثوابت دينهم فقلوبهم مع العلماء وسيوفهم عليهم!! والعلماء الربانيون والدعاة الموفّقون هم السد المنيع بين الشعوب والفتن بجميع أنواعها، ولذا فأقول مستعينًا بالله تعالى:

1- علينا جميعًا أن نَصْدُق في اللجوء إلى الله عز وجل، وأن نُصَفِّي العبودية لله عز وجل من كل شائبة، فإن الله عز وجل جعل كفايته وحمايته لمن صدق في عبوديته، فقال الله تعالى: [أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ] {الزُّمر:36}   فهو وعْدٌ مشروط بوصْف، فبقدر النقص في الوصف يكون النقص في تحقيق الوعد، وبنحو ذلك قوله تعالى: [وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا] {النساء:141}  وقوله تعالى: [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] {الرُّوم:47}  وقوله سبحانه: [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55   فبقدر تحقيق الإيمان يكون الأمن والتمكين، وبقدر النقص في ذلك يكون تَسَلُّطُ الأعداء الغاشمين، فعلى الشعوب أن توقن بهذه الحقيقة، ولا يصرفهم عنها شياطين الإنس والجن، ولا يغتروا بتطبيل وسائل الإعلام لهم، وصَرْفهم عن هذه السنة الكونية، ولا ينخدعوا بزمجرة قائد ما أو وعوده الخاوية لهم إذا كان يجهل نفسُه هذه الحقيقة، وعليهم أن يوظِّفوا هذه الأحداث توظيفًا صحيحًا مثمرًا، وذلك بالاستقامة على أمر الله تعالى، والرجوع إلى منهج الله عز وجل، والتربية الصادقة على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم،حتى تُؤَهَّل المجتمعات باختلاف شرائحها وأطيافها نحو تحمل أمانة الله عز وجل، وقيادة البشرية بالعدل الذي عُرف به القادة الفاتحون والأئمة الربانيون، لا مجرد تقليد الغرب في الهتافات في الشوارع، ثم يرجع صاحب الخمر إلى كأسه، وآكل الربا إلى ظلمه وجشعه وأرصدته، وتارك الصلاة إلى غفلته، وصاحب الفاحشة إلى شهوته، وعابد القبر إلى شركه ووثنيته …الخ.

 وفي التاريخ ما يدل على صِدْق هذه الجملة: فلما غزا التتار بلادَ الإسلام، كان أكثر المسلمين يفرون منهم، ولا يَلْوِي بعضُهم على بعض، ويموتون في الكهوف والشعاب وبطون الأودية، والفتن تلفُّهم بظلامها ومع ذلك فلا يعودون إلى الله تعالى، فما ازدادوا بذلك إلا ذلاً وتفريقًا بين الرجل وأهله وولده، وكان هناك من يقول:

يا خائفين من التتر *** لوذوا بقبر أبي عُمر

 فما نفعه ذلك شيئًا، واجتاح التتار بخارى وسمرقند (616-617هـ) فأهلكوا الحرث والنسل، وآثر ملك الدولة الخوارزمية محمد بن خوارزم شاه أن يفرّ ولا يلْوي على خاصته ـ ومنهم أمه ونساؤه ـ فضلاً عن جنوده ورعيته، ولم يُوفق لقرار الثبات والجهاد حتى يلقى الله عزيزًا أبيًّا، مع أن مملكته واسعة الأطراف شاسعة الأكناف، وكانت هناك كتيبة تتارية تطارده من بلد إلى بلد، حتى وصل إلى ساحل بحر قزوين في بلاد إيران، فركب سفينة، ومات في جزيرة، ولم يجدوا ما يكفنونه به بعد ذاك الملك وتلك الأبُّهة، وقد أصبح بين الكتيبة التتارية وقيادتها ـ تحت إمارة جينكزخان ـ في سمرقند نحو (650) كيلو مترًا، كل ذلك في عُمق ديار الإسلام، ومع ذلك لفم يُفَكِّر المسلمون في الانقضاض على هذه الكتيبة، وهي قليلة العدد والعتاد، أمام الملايين المسلمة التي تحيط بها كما يحيط السِّوار بالمعصم، وقد انقطعت عن مركز قوتها الذي يمدها، كل ذلك بسبب الفزع الذي ملأ أركان قلوبهم من التتار، بل رجعت الكتيبة واحتلت بلادًا عُرفت بالصمود والثبات وشدة البأس عبر التاريخ، لكن انهارت قوى أهلها بسبب الخوف من التتار، وكان المائة من الرجال المسلمين لا تحملهم أقدامهم أمام الرجل الواحد من التتار، أو المرأة التتارية الواحدة فيمدون أعناقهم لأخس أنواع الذبح، ولا يفكّرون في المقاومة على كثرتهم، كل ذلك بسبب تعلق القلوب بالدنيا، وشيوع المنكرات والمظالم، وطمْس مبدأ الولاء والبراء الذي به عزُّ الإسلام والمسلمين!!

 وفي المقابل كانت هناك مواقف مشرفة لبعض الحكام والعلماء والشعوب، كما حصل من سيف الدين قطز والعز بن عبد السلام وجيش مصر وشعبها آنذاك ، حتى تحطمت أسطورة: “جيش التتار جيش لا يهزم” أو” من قال لكم: إن التتار يُهزمون فلا تصدقوه” تحطمت هذه الأراجيف في موقعة عين جالوت الشامخة العملاقة في سنة (658هـ)، كما تحطمت كبرياء النصارى وغطرستهم على ملوك الطوائف بالأندلس في موقعة “الزلاقة” تحت قيادة يوسف بن تاشفين قائد دولة المرابطين الأبيين، فالأمة ليست عقيمة من الخير، وليست عاجزة عن إيجاد أمثال هؤلاء الجبال الرواسي في جميع الميادين، لكن كيف تستغل المواقف وتستفيد منها؟ كيف تتعامل مع النوازل والمصائب بعمق وعقل وفهم واستفادة من التاريخ الحاضر والغابر، لا مجرد العواطف والسباب والشتائم؟ كيف تستدرك الأمة ما فاتها؟ كيف تجدد عزيمتها، وتشعر بمكانتها، وحاجة البشرية الشقية إلى منهجها الذي به سعادة الأمم وإن جحده الجاحدون، أو شك فيه المنهزمون؟ كيف تبدأ الطريق من جديد وإن طال أمده؟ فليس هناك طريق غيره، كيف تُوجِدُ من بينها القدوة الصالحة التي ترفع رأسها بهذا الدين، فيجتمع المسلمون حولها؟ فعند ذاك ـ وعند ذاك فقط ـ يفرح المؤمنون بنصر الله.

 وقد جرتْ سنة الله عز وجل أن طريق العز والتمكين طريق طويل بطيء مليء بالمكاره، كما قال سبحانه: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] {العنكبوت:3-2}  وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم “حُفَّت الجنة بالمكاره” رواه مسلم (2822) من حديث أنس رضي الله عنه، لكن ليس هناك طريق غيره، وهذا كله ليميز الله الخبيث من الطيب، وليكون الحاملون لراية الحق أهلاً لذلك، فلا يفرطوا فيها، ولا يطلبوا العزة في غيرها، ولا يضيعوها بأتفه المكايد والحيل، أو بأدنى الشهوات والشبهات، وإلا فليس على الله بعزيز أن يخسف بأمة ويأتي بأخرى في لمحة بالبصر: [وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ] {القمر:50} فلا مجال في هذا الطريق للمتهورين المتعجلين، ولا لأصحاب الأماني مع الغفلة والتفريط، فإن التمكين لمن يجد ويعمل برًا كان أو فاجرًا، والذل ملازم للغفلة عن السنة الكونية والأخذ بها وإن كان ذلك من قوم صالحين في أنفسهم.

2- لا يلزم من الاهتمام بتربية الأمة على منهج  الوسطية والاعتدال ـ  وهو الإسلام الصحيح ـ والعناية بنشر العلم في جميع شرائح المجتمع كُلٌّ بما يليق به؛ لا يلزم من ذلك أن تترك الأمة بقية الميادين النافعة لها، فإن هذا من جملة الدين، والله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] {البقرة:208}  ويقول سبحانه: [خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ] {البقرة:63} فكل مجال فيه عمارة الدنيا على منهج الحق فهو من مقاصد استخلاف البشرية في الأرض، كما قال تعالى: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] {البقرة:30}  وكل مجال فيه قوة للدعوة في أمور الدين والدنيا فالعلم لا يُحذّر منه، وكذلك فلا تترك الأمة القيام بواجبها عندما يُعتدى على عرينها وحرماتها، بل الواجب عليها أن تدفع بالحق ما استطاعت، إلا إذا كان ذلك  ـ حسب نظر كبار أهل العلم الربانيين، والعالمين بواقع الفتوى والمستفتي ـ يؤول إلى مفسدة أكبر لتفرق الأمة وتخاذلها، أو لتبعيتها لأعدائها، أو لقلّة الأعوان والأنصار أو نحو ذلك؛ فهذا الحال يُتعامل معه بفقه المقارنة بين المصالح والمفاسد، ويُنظر خير الخيرين فيُتَّبع، وشر الشرين فيُجْتنب ـ وهذا موضع اجتهاد لا يخفى ـ أما إثارة الأعداء من بعض المندفعين، وارتكاب أعمال تزيد الطين بِلة، والمريض علة، والأمة وهنًا وذلة؛ فهذه ظلمات بعضها فوق بعض، والإسلام منزه عن هذا العبث، وعن الزجِّ بأبنائه إلى معارك خاسرة ومناهج فاشلة بائرة.

وقد عرف كثير من الأعداء أن قوة الأمة في نشر العلم بين صفوفها، وتنوير أفهامها ، ولذلك حاربوا الكثير من العلماء والدعاة الربانيين بزعم حرب الإرهاب، وإن كان هؤلاء العلماء يُكْوَوْن بنار المخالفين لهم من الشباب الذين لم يعرفوا حكمة الشيوخ، ولا تجربة أهل الفقه والرسوخ، وللأسف أن كثيرًا من حكامنا يجهل أن مضايقتهم للعلماء وطلاب العلم حرْب لأمن الأمة وعزها وبقائها، والناس في أمان في دينهم ودنياهم ما بقي فيهم علماء حكماء حلماء، فيا لله العجب من تسابُق كثير من هذه الأمة إلى تجفيف منابع الدعوة الصافية، ومحاربة من يمدّ يده بكفالة الدعاة والعلماء بحجة حرب الإرهاب، أو مكافحة غسيل الأموال، وقد كان هذا الدعم واجبًا عليهم بل من أوجب الواجبات، لاسيما ودولة الرفض وغيرها من دول العقائد الزائغة تدعم أتباعها في جميع أنحاء العالم بكل ما تملك، وبدون مواربة أو خجل!! فهل أحد عاقل يقطّع أوصاله بنفسه؟ أو يئد قوته التي إن احتاج إليها في وجه الأعداء نفعتْه؟ أو يسعى في إضعاف الجنود المخلصين للمجتمع دون رغبة أو رهبة وهم العلماء وطلاب العلم؟ أو يخرِّب بيته بيده؟ إن هذا كله فرْع عن النظرة الخاطئة عند كثير منهم عن جميع العلماء والدعاة، والظن أنهم جميعًا دعاة عنف، أو يقفون في صف أعدائهم ـ أيًّا كانوا ـ ضدهم، أو يفرحون بما يزعزع الأمن والاستقرار، أو ينافسوهم على ما بأيديهم من ملك وجاه، والأمر على خلاف هذا الإطلاق، وقد أثبتت الأيام ذلك، لكن من جهل شيئًا عاداه.

وقد أراد بعض قادة الصليبيين أن يغزو بلاد الأندلس لما كانت راية الإسلام ترفرف عليها، فأرسل بعض الجواسيس، وكلّفه بمهمة واحدة، وهي النظر في حال الشباب في الأندلس، فطاف هذا الرسول متخفيًا في عدد من مدائن الأندلس، فلم يجد الشباب في المراقص والملاهي، ولا وجدهم قد ذابوا بين الأفكار الضالة، فرجع إلى القائد الصليبي، وقال: رأيتُ الشباب مُتَحَلِّقين في المساجد حول شيوخهم، فقال ذاك القائد: ليس هذا زمان غزوٍ للأندلس، هكذا ـ وللأسف ـ فقد عرف ذاك القائد الصليبي ما يجهله كثير من قادة العمل الإسلامي هذه الأيام  ـ فضلاً عن كثير من المحللين السياسيين ومديري البرامج الفضائية وغيرهم ـ عندما ينفِّرون عن طلب العلم، ونشر العلوم الشرعية، والتوعية الدعوية بين الناس، بزعم أن هذا طريق طويل، أو هذا ليس زمانه أو بزعم أنه اشتغال بميدان لا عدو فيه، أو ليس فيه خصم يملك رمحًا أو سِنانًا!! أو غير ذلك من الأعذار التي تُسمع منذ أكثر من نصف قرن، وما جرّ ذلك على الأمة إلا ما هو أشد، والمناهج التي لا تستقي معالم طريقها من المعين الصافي ـ وإن كان عندها جوانب طيبة ـ إلا أنه يقال فيها: لا الإسلام نَصَرَتْ، ولا العدو كَسَرَتْ، والله المستعان.

وفي زمن دولة السلاجقة السُّنِّيين، كان الوزير نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي ـ رحمه الله ـ مُدْركًا لأثر المدارس الدينية في بناء الأمة، وجمع كلمتها، ووحدة صفوفها أمام المد الصليبي والتغلغل الباطني، فأنشأ كثيرًا من المدارس، سميت بالمدارس النظامية، فوشى بعض القادة والجلساء إلى السلطان ملكشاه بالوزير، وقال: إنه ينفق سنويًا على الفقهاء والفقراء ثلاثمائة ألف دينار من الخزانة، لو أُنفقت على جيش لرفع الرايات على أسوار القسطنطينية، فأرسل السلطان إلى الوزير، وعاتبه في ذلك!! فأجاب الوزير بجواب، ومن ذلك أنه قال للسلطان: “إنك تنفق على الجيش المحارب في كل سنة أضعاف هذا المال، مع أن أقواهم وأرْماهم  لا تبلغ رميته ميلاً، ولا يضرب سيفُه إلا ما قرب منه، وأنا أقمتُ بهذا المال جيشًا يُسَمَّى بجيش الليل، يقوم بالدعاء إذا نامت جيوشك، فيمدون أكُفَّهم، ويُرْسِلون دموعهم، فتصل مع دعائهم سهامًا إلى العرش، ولا يحجبها شيء عن الله تعالى، فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون، وبدعائهم تثبتون،وببركتهم تُرزقون” فبكى السلطان، وقال: استكثرْ من هذا الجيش اهـ.

 إن أمة ما زالت تُزَهِّد في علوم دينها وتركة نبيها؛ فلن تقوم لها قائمة، والنقل والعقل والتاريخ والنظر والاعتبار والواقع كل هذا يدل على ذلك، فكفى إساءة إلى الأمة، وتضليلاً لها عن طريق سؤددها، وإشغالاً لها بغير منهجها!! وكان من آثار هذا التجهيل للأمة انتشار الأفكار الغالية المنحرفة، وقد استدلوا على ذلك بشبهات كثيرة، قد أجبت عنها في كتابي “فتنة التفجيرات والاغتيالات: الأسباب، الآثار، العلاج” نفع الله به.

3- على الشعوب أن تفيق من سُباتها العميق، فلا زالت تُجَرَّعُ السموم الفتاكة كأسًا بعد كأس، فتلهث وراء نظريات مستوردة، قد شقي بها أهلها، ولا يُصدِّرون لنا منها إلا أردأها، ولا تُدرك الأمة أنها الضحية لترويج هذه البضاعة المزجاة إلا بعد فناء عدة أجيال، فما تكاد تُفيق وتشعر بعمق جرحها، إلا وقد أعدّوا لها نظرية أخرى أشد فتكًا من الأولى، ويُقْنِعُون بها بعض أبناء هذه الأمة، الذين تحسن بهم الظن، وتأمل فيهم النجاة من أزمتها، ولكن الأمر كما قيل:

إذا نَعَق الغرابُ فقال خيرًا *** فأين الخير من وَجْهِ الغراب؟

ومَنْ جَعَل الغرابَ له دليلاً *** يمرُّ به على جِيَفِ الكلابِ

فلا عز إلا برجوع الأمة لعلمائها، وتصدر عن فتواهم وإرشاداتهم، ولا يجعل قول العالم كقول أي رجل سياسي أو غير ذلك، فالله تعالى يقول: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النحل:43} وقال أيضًا: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ] {الزُّمر:9}  ويقول سبحانه: [ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] {فاطر:28} ويقول جل شأنه: [أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ] {محمد:14} ويقول عز شأنه: [أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {الملك:22} فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وينظرون بنور من الله عز وجل، فهل يستوي هؤلاء مع أفراخ رباهم الشرق أو الغرب؟! أو هل يستوون مع من هو محب للخير، لكنه يجهل طريقه، فأكثر التنقل والتطواف بين الأفكار، وكان وَلاّجًا خَرّاجًا؟!

4- تُشكر شعوب السنة على تعاطفها مع القضايا الإسلامية حيثما كانت، فقد ثاروا وضجوا عندما ضرب اليهود ما يُسمى بحزب الله في لبنان ـ على ما في هذا الأمر من خبايا وتفاصيل قد تكشفها الأيام والليالي ـ لكن يجب عليهم الحذر من نشر مذهب الرافضة الشتّامين للصحابة بينهم، فإن مَنْ كَفّر جمهور الصحابة، وطعن في صحة القرآن، وادّعى أنه مُحَرَّف في ألْفي موضع، ولم يؤمن بالسنة النبوية، وكفّر من لم يكن على مذهبه من جميع المسلمين، واتهم أمهات المؤمنين، وطعن في عِرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع التواطؤ في مواقف كثيرة عبر التاريخ مع اليهود والنصارى والوثنيين الهمجيين ضد أهل السنة، كما في قصة ابن العلقمي والطوسي وغيرهما؛ من كان كذلك فلا يمكن أن ينصرنا، أو يَصدق معنا في صحبته وأُخُوّته، نعم: نحن مستعدون أن نناصر عددًا من فرق الشيعة ـ لأنهم معدودون في الجملة من المسلمين ـ ضد أي كافر، فإن أهل السنة لا يرضون بنصرة كافر على مسلم صادق وإن كان فاسقًا، لكن كثيرًا من الشيعة مستعد أن ينصر أي كافر على أهل السنة، فإن أهل السنة هم عدوهم الأكبر، وقد يكون العدو الوحيد، وليس ذلك  من باب إثارة الطائفية كما يتشدق به الانهزاميون المهرولون أكثر من نصف قرن وراء السراب بدون ضوابط عقدية أو عِبر تاريخية:

إنَّ العدوَّ وإن أبدى مُسَالمةً *** إذا رأى منك يومًا فرصةً وَثَبَا

ولكن هذا هو مقتضى العقائد وأثرها في أهلها، فمن كان يكفرك ويكفر أئمتك من الصحابة، والتابعين، وأئمة المذاهب، ورواة الحديث النبوي، وعلماء الأمة، وقادة المسلمين الفاتحين، وكل من لم يعتقد مذهب الإمامية، أليس هو الذي عمّق الطائفية والعداوة؟ أليس هو المفرِّق للأمة؟ وهو الذي ينكأ الجرح، ويُدْمي القلوب، ويكوي الأكباد، ويفسد البلاد والعباد؟ ومن كان يتبجح في وسائل الإعلام العالمية والمحليّة بأنه لولاه ما دخلت أمريكا أفغانستان أو العراق، أليس هو الذي يتحدى الأمة ويعمّق جراحاتها؟! فدعونا أيها السُّذَّج من تزوير الحقائق، وتسمية الأمور بغير اسمها!!

ما خَضْبُ رأسٍ كخَضْبٍ في بنان يدٍ *** وحُمْرةُ الفجر ليستْ حُمرةَ الشفقِ

5- علينا أن نسلك في نصح حكامنا ـ على ما عندهم من مواقف لا تُحْمَد وإن كثرت ـ وتوجيههم لنصرة إخواننا في غزّة وغيرها المسالك التي تُجنِّب أمتنا الاحتقان، ومِنْ ثَمَّ الانفجار، فإن ذلك لا يخدم أمتنا ولا إخواننا في غزة شيئًا، ومن أهداف المشروع الصهيوني الصليبي الصفوي إيجاد ما يُسمونه “بالفوضى الخلاَّقة” في المنطقة، حتى تصير أحداث غزة وأضعاف أضعافها في كل بلد بين الشعوب وأنظمتها، وعند ذاك يقولون: سُقينا بدعوة غيرنا، وإذا قد أََنْهَكَ كل منا الآخر، ولم يَعُدْ في القوس منزع؛ ارتمى كل منا في حضن عدو جديد يكمل بقية فقرات المشروع الذي يقطر حقدًا على المنطقة وأهلها، أو تدخَّلُوا في شؤوننا بزعم إنهاء الفتنة الطائفية، أو الحرب الأهلية، أو حماية الأقلية، ثم أحكموا سيطرتهم على جميع البلاد، وساموا الناس سوء العذاب، وفي التاريخ وقائع كثيرة تدل على أن الجهل بمعرفة العدو من الصديق ـ حسب ميزان الشريعة لا حسب فهم المحللين السياسيين أو الإسلاميين المندفعين ـ هو أكبر سلاح مع الأعداء ضدنا، والله تعالى يقول: [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ] {يونس:39} وقديمًا قيل: “من جهل شيئًا عاداه” ولو نظرنا كيف قامت الدولة العبيدية الباطنية الحاقدة على السنة وأهلها في القيروان والمغرب؛ لوجدناها قامت على إثْر بغضاء بين الشعوب وحكامهم بسبب ظلم حكامهم، وإرهاق شعوبهم بالضرائب والمكوس وغيرها، ثم جاء العبيديون فنصرهم الناس للتخلّص بهم من ظلم حكامهم، فلما تمكّنوا أهلكوا الحرث والنسل، وحاول من كان قد نصرهم أن يخرج عليهم ويعيد الأمر على ما كان عليه، ولكن هيهات هيهات، واستمروا أكثر من (280) سنة، وهكذا العامة إذا جهلوا دينهم فلا يعرفون عدوًا من صديق، ولا ينظرون إلى عواقب ثوراتهم، وهذا يجعل الشعوب الثائرة بجهل ترجو السلامة بين أنياب الأسُود عند فرارها من مقارض الفيران، وصدق من قال:

المستجير بعمروٍ عند كربته *** كالمستجير من الرمضاء بالنار.

ثانيًا: نصيحتي لحكّام المسلمين:

1- اعلموا ـ وفقنا الله وإياكم لكل خير في الدنيا والآخرة ـ أن من اختاره شعبه من الحكام؛ فإنما اختاره ليقوده إلى العز والأمان والمستقبل الواعد، وهذه أمانة لا تبرأ ذمم الحكام إلا بالوفاء بها، ولا طريق إلى هذا الهدف المنشود إلا بتحكيم شريعة الله عز وجل في جميع مناحي الحياة، قال تعالى: [أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ] {التِّين:8}  والإعراض عما سواها من اجتهادات البشر المخالفة لها، فقد قال تعالى: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50}وقال سبحانه: [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} وقد مكّنكم الله أيها الحكّام في الأرض وهذا الملك سيذهب عنكم أو تذهبون عنه، فقوموا بواجب التمكين عليكم، كما قال تعالى: [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] {الحج:41} فلا تصغوا إلى أراجيف الجاهلين والحاقدين الذين يزهدونكم في الحكم بما أنزل الله بحجج واهيات كبيوت العنكبوت، فإن الله أعلم بمصلحة عباده من هؤلاء الأبواق، قال تعالى: [وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {البقرة:216}  وفي زماننا نجد بعض الدول المسلمة تحكم بالشريعة الإسلامية، وهي في أوج الحضارة والتقنية والرخاء والأمن، فجمعوا بين خير الدين والدنيا، ووجدنا من يعيب عليهم ذلك يعيش في الخوف، والفقر، والمرض، والصراع المرير بينهم وبين شعوبهم، وصدق الله عز وجل القائل: [وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ] {الشُّورى:16} والقائل سبحانه: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى(126) ]. {طه} وقال سبحانه: [ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] {الرُّوم:41}  .

وانظروا أيها الحكام في تاريخ أمتكم وقادتها الذين سبقوكم: هل بُسط أمن ورخاء للراعي والرعية إلا بتحكيم شرع الله، وردِّ المظالم لأهلها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونزاهة القضاء واستقلاليته، والمرابطة في الثغور؟ هل سادت دولة بني أمية، وبني العباس، والغزنوية، والسلاجقة، والزنكية، والأيوبية، والمماليك، والعثمانية إلا عندما قامت بشريعة الله، وعظَّمت حرماتها، وأحْيَتْ فرائضها ـ على ما في هذه الدول من دخن يكثر أو يقل ـ؟ وهل دخلها الوهن، والضعف، وتَسَلَّط الأعداء عليها: فساموهم سوء العذاب، فأخذوا أموالهم، وسلبوا ملكهم، واقتادوا نساءهم حاسرات ذليلات إلا بعد استبدالهم الهدى بالهوى، والوحي بالآراء القاصرة، وظهرت فيهم المنكرات، وداهنوا في الحق، وقدموا الدنيا  على الآخرة، وتفاخروا بقوميات وعرقيات؟ [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ] {يوسف:111} [ فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {الأعراف:176}.

  وأحداثُ التاريخ تُعادُ علينا مرة بعد أخرى كل عدّة سنوات، فقط التغيير في الأشخاص والبلدان، وإلا فالأحداث بأسبابها ونتائجها وعِبرها هي هي، والسعيد من وُعِظ بغيره [ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ] {الجاثية:6}  [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا] {محمد:10}

ومعلوم لمن نظر في الواقع أن تحكيم شرع الله اليوم تحكيمًا شاملاً في أكثر بلدان المسلمين لا يتم بين عشية وضحاها ـ فإن الأمة أُصيبت في مقتل في أكثر الميادين ـ إنما يكون ذلك على مراحل طويلة المدى، لكن الشأن كل الشأن في الصدق مع الله ثم مع النفس والأمة في وضع الخطط والبرامج الموصِّلة لذلك، مع الجدية في تفعيل ذلك حسب القدرة والظروف التي تمر بها الأمة، ويكفي غفلة عن هذه الأمانة خلال أجيال مضت: والأمة تُغَرَّب عن قضيتها، وتُقَطَّع أوصالهُا، وتنتف جذورُها، وتُلَهَّى بغير أمر سُؤددها وعزِّها، وتُغْزى في عقيدتها وعُقر دارها، ويُستهزأ بثوابت الدين في وسائل الإعلام بزعم حرية الرأي والتعبير!! ووالله، لولا أن هذا الدين من عند الله لما بقيتْ له باقية أمام التحديات الظاهرة والخفية، وأمام كيد أعدائه وجهل أبنائه، إلا أن [اللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف:21} وإذا استمر الأمر على هذا الحال فكيف يُرْجَى نصر وتمكين وأمن وأمان؟!

عجوزٌ تُرَجَّى أن تكون صبيةً *** وقد غارتِ العينان واحْدَوْدَب الظهرُ؟!

ألسنا نسمع فشل الرأسمالية ومن قبلها الاشتراكية وغيرها؟ ألسنا نرى أصحاب هذه النظريات يكشفون عوارها، ويهتكون أستارها، ونحن لا زلنا مخدوعين بها؟ ونبحث عن فتاتهم المتعفن بين قماماتهم، ثم نزينه لشعوبنا وهم أمانة في أعناقنا!! ألسنا نسمع بانهيار النظام المالي العالمي لبعده عن دين الله عز وجل، وارتكازه على الربا الممحوق؟! ألا يردنا هذا إلى الله تعالى وشرعه، ونعتبر بعواقب البعد عن الكتاب والسنة في الأمم والشعوب؟!

2- يجب أن يكون عند كل حاكم قسط وافر من معرفة أصول الدين، وثوابته، ومقاصده، وكلياته، وقواعده، ووسائله، مع النظر في تاريخ الأمة، والاعتبار بذلك، لمعرفة عوامل النصر والتمكين وأسباب السقوط والاندثار للأمم والممالك، ومعرفة مكايد الأعداء، والأساليب المرحلية التي يستخدمونها، وكيف تؤثر العقائد في حملتها فلا يتخلَّوْن عنها وإن تظاهروا بمبدأ السلام العالمي وغيره، وكيف تجتمع العقائد المتقاربة ـ على اختلاف بينها ـ ضد من هو أسلم معتقدًا، وأصفى مشربًا، كل ذلك لمعرفة العدو ـ وإن تظاهر بثوب الصديق ـ ومعرفة الصديق وإن ركب بعض الحماقات، فالمؤمن يجب أن يُوَالَى بقدر ما عنده من الخير وإن أساء إلينا، والكافر يجب أن يُعَادَى ويُحْذَر منه بقدر ما عنده من الكيد والحقد والخُبْث وإن أحسن إلينا، وهذا لا يمنع  إقامة علاقات مع بعض الكفار أو الأمم الأخرى إذا كانت هذه العلاقات لا تخالف الشرع، أو كانت تجلب مصالح هامة للأمة، أو تدفع ضررًا أعظم، بشرط أن تقوم هذه العلاقات على الإنصاف والمصالح المتبادلة، ففي الشرع المطهر تفاصيل ذلك وغيره.

إن العلماء لا يُحذِّرون من أصل فكرة تبادل الحضارات النافعة، وكذا لا يمانعون من عمل منظمات دولية أو أممية تضبط شؤون العالم الدنيوية، ولا تتطاول على الدين الإسلامي، ويعيش العالم في أمان من التسابق إلى أسلحة الدمار الشامل التي لا تُبْقي ولا تذر، فأي خدمة للبشرية ـ مسلمها وكافرها ـ من التسابق الجنوني في الحصول على هذه الأسلحة لتهديد العالم؟ وأي مصلحة للعالم في إبادة ملايين البشر بهذه الأسلحة، وبقاء أضعاف أضعافهم معوّقين؟ إن العلماء لا يستنكرون أي فكرة تؤول إلى إيقاف هذا الدمار، ولا يمنعون من اشتراك المسلمين في مثل هذه المنظمات التي تحافظ على الجميع من هذه الأساليب الوحشية المروِّعة، إنما ينكرون على هذه المنظمات أنها أظهرت ولاءها لأعداء المسلمين، ولم تستطع أن تغير من شرهم شيئًا، وفي المقابل فإنها تَنْقَضُّ على المسلمين بالقرارات الصارمة: بالحصار، والتجويع، والقتل البطيء، ثم إرسال القوات المتحالفة لاجتياح ما بقي من قوة وأمن في البلاد، بحجة حرب حزب، أو طائفة، أو رئيس معين، فيهلكوا شعبًا كاملاً، مع أن أعداء المسلمين عندهم من المتهورين والإرهابيين ـ حقًّا ـ أضعاف أضعاف من عند المسلمين، بل هناك دول كبرى تملك الجيوش والإعلام تمارس الإرهاب في أبشع صُوَرِه، فتمحو من الخارطة دولاً صغرى، فتقتل أهلها، وتشرد من بقي منهم، وتُهلك الحرث والنسل، ومع ذلك فلا يحاكمهم أحد، ولا يَصْدُر فيهم قرار بإدانتهم!! مع أن المسلمين هم الذين يُتهمون بالإرهاب، ويُحَاكمون أفرادًا ورؤساء محاكمة مجرمي الحروب، وخطأ بعض أفرادهم وإن قلَّ تشهره وسائل الإعلام الداخلية والخارجية، وبَوَاقِعُ وفَواقِرُ غيرهم لها مسوّغات عالمية وأمنية ومصالح قومية!! كما قال القائل:

قَتْلُ امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تُغتفرْ *** وقتْلُ شعبٍ كاملٍ قضيةٌ فيها نظرْ

 إذن فهذه منظمات قد ظهر حيفها وعدم إنصافها، فلماذا يُتَّهَم العلماء بالجمود، وهم ينكرون الظلم فقط، ويؤيدون أي عمل يفضي إلى الاستقرار والأمان، وفتح المجال للحوار الفكري المنصف؟ ولو فرضنا أن دولنا عاجزة هذه الأيام عن الانسحاب من هذه المنظمات ـ إذا لم تُغيّر من حالها هذا ـ خشية ضرر يُحدق بها؛ فهل وضعت أمتنا خططًا عاجلة وآجلة لإخراج الأمة من هذا العجز والوهن، حتى يكون قرارها في يدها، أم أنها استسلمت لهذه الحياة الذليلة المهينة؟!

3- يجب أن يعلم الحكام المسلمون حكم الشرع والإجماع والعقل والعرف فيما إذا احتُلَّت بلد من بلاد المسلمين،  أو اعتُدي على طائفة من المسلمين، وأنه يجب مناصرتهم بكل الوسائل التي يستطيعها المسلمون، سواء كانت بالمال، أو الرجال، أو العتاد والقوة، فإن عِرْض المسلمين واحد، ووطنهم واحد، ودماءهم واحدة، فلا يجوز للمسلمين أن يخذلوا إخوانهم، فـ“المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يُسْلمه” كما في الصحيحين من حديث ابن عمر، وعند مسلم من حديث أبي هريرة: “ولا يخذله” والله تعالى يقول: [ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ] {الأنفال:72} ويقول: [وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] {التوبة:71}

أخوك الذي إن تَدْعُهُ لمُلِمَّةٍ *** يُجِبْكَ وإنْ تَغْضَبْ إلى السيف يغضبُ

ومهما كانت هناك وجوه اختلاف بين بعض الحكام أو الشعوب المسلمة البين فأخوّة الإسلام باقية في الجملة، وهي مناط الولاء والنصرة، ولو أن المسلم خذل أخاه أمام كافر لا خلاف فيه كاليهود والنصارى لوجود اختلاف في الفهم ـ والخلاف أمر لا بد منه ـ فلا تكون هناك مناصرة أبدًا بين أهل الإيمان، وهذا مآله إلى اندثار هذه الأمة وإذلالها ـ كما هو حاصل ـ فمن جعل النصرة منوطة بالاتفاق في جميع المفاهيم حذو القُذَّة بالقُذَّة؛ فقد ربطها بأمر مستحيل:

وإذا رجوتَ المستحيلَ فإنما *** تبني الرجاءَ على شفيرٍ هارِ

 والله تعالى يقول: [وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] {هود:118-119} ومعلوم أن أمة الإسلام العريقة قد ضمّتْ قوميات، وطوائف، وعرقيات كثيرة، ولكل من هؤلاء عندما دخلوا الإسلام مفاهيم معينة تخالف مفاهيم الآخر، لكن العبرة بالاتفاق على الثوابت والكليات العامة، وكانوا جميعًا يجاهدون عدوًّا واحدًا، ويأتمرون بأمر ولي أمرهم، ويتناصرون فيما بينهم، وهذا الحال إنما يكون إذا قوي الولاء للدين، فإذا ضعف ذلك الولاء تمزقت الأمة، وتسلّط عليها عدوها، ولا يمكن أن تجتمع الأمة على قومية، أو عرقية، أو مناطقية، أو طائفية، إنما تجتمع على حبل الله المتين، فقد أمر الله بذلك فقال سبحانه: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ] {آل عمران:103}  وقال جل شأنه: [وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:46} ولذلك فالأعداء حريصون على إماتة منهج الولاء والبراء في الأمة ـ وإن كان مرشَّدًا حكيمًا، قائمًا على فهم للأدلة والواقع، والظروف العامة والخاصة، مراعيًا الحال والمآل ـ لأنهم لا يريدون أصلاً من يأخذ بهذا المبدأ، الذي هو أوثق عُرَى الإيمان، لأنه يعيد بذلك للإسلام قوته ودولته، فيحاولون بث الأفكار القومية، واليسارية، والطائفية، والعرقية بين المسلمين، لأنهم  يعلمون أنها سبب الوهن والتفرق، ومن ثم التناحر والتمزق، ويفترس العدو شعبًا بين ملايين من المسلمين وجيوشهم ـ تحيط به من الجهات الأربع ـ ولا أحد يحرك ساكنًا، بل الأعداء يتهمون من دعا للولاء والبراء ـ ولو بحكمة ونُضْج ورويَّة ـ بأنه عدو للسلام العالمي، وعدو لحوار الحضارات!! وأي سلام عالمي وآلاف الأطنان من القنابل تُرمى على الأطفال والنساء في غزة، ثم لا نسمع عن الرئيس الأمريكي “بوش” إلا قوله: يجب على “حماس” أن توقف صواريخها؟! أي سلام عالمي وأكثر من مليون قتيل في العراق باسم إدخال الديمقراطية إلى العراق؟ أي سلام عالمي في أفغانستان أو الصومال أو غيرهما؟ إن مجرمي الحرب شرَّابي الدماء هؤلاء هم أعداء السلام العالمي، فإنه لا سلام إلا بمنهج الله عز وجل، الذي يعطي كل صاحب حق حقه، وقد حَكَم المسلمون العالم فأرْسَوا قواعد العدل والرحمة:

مَلكْنا فكان العدلُ منّا سجيّةً *** فلما مَلَكْتم سالَ بالدم أبطُحُ

وإذا لم يكن التعايش بين الشعوب على منهج الله: فعلى الأقل يجب أن يقوم على قواعد الإنصاف ورحمة الشعوب الضعيفة لا افتراسها.

 فهل من رجال يمسحون غبار الذل عن هذه الأمة، بسلوك المنهج المعتدل، الذي يمثِّل الإسلام في صفائه ونقائه وسماحته، لا الإسلام الذي يختاره لها الشرق أو الغرب، أو الذي يجرُّنا إليه الشباب المتعجّل المندفع؟!

إن جهل كثير من الحكام بكثير من ثوابت الدين في هذا المجال الذي نحن بصدده أكبر سلاح مع العدو في تسلُّطهم على الأمة، ودخول الحكام في حروب مع شعوبهم بالنيابة عن الأعداء!! وقد كان الواجب استبقاء هذه القوى ـ حكامًا ومحكومين ـ للوقوف في وجه الزحف الفكري ومن ثم الوقوف في وجه الزحف العسكري الذي أمطرت سحبه المنايا في عدّة أقطار.

إن الذي يحتل فِكْرَك قد احتل أرضك وعرضك دون أدنى جهد عسكري، إن الحرب الحقيقية حرب فكرية، ولا صمود أمام ذلك إلا بتعلم الحاكم ما يجب عليه من أصول دينه وقواعده وكلياته، حتى يسوس شعبه نحو أهدافه وطموحاته، وحتى يكون سدًّا منيعًا أمام المناهج المدمرة لشعبه في الحال والمآل، ويربّي في الأمة روح العزة والطموح والأنفة، فإن أمة لا رأي لها، ولا هدف لها، ولا طموحات لها؛ أمة لا تستحق الوجود.

وإذا كان كذلك ففلسطين عامة وغزة خاصة وبلدان أخرى قد اعُتدي على أرضها وعرضها ودمائها فهي داخلة في هذا الحكم، وأنه يجب على المسلمين مناصرتهم بقدر الاستطاعة فيما يقلل الشر أو يعطّله، وكل ذلك حسب ضوابط دقيقة يعرفها أهل العلم، لا مجرد اندفاعة وإن أفْضَتْ إلى شر أعظم!! فما هو موقف من خذلهم أمام الله عز وجل، ثم أمام أمته والتاريخ؟ نعم، من كان عاجزًا عن نصرة أخيه، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها:

ما كلّف الله نفسًا فوق طاقتها *** ولا تجود يدٌ إلا بما تجد

 لكن الكلام فيمن هو قادر على ذلك، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: “من كان في حاجة أخيه؛ كان الله في حاجته،ومن نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا؛ نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة“([5]) ألا يوخز المشاعر والضمائر عندما نرى بعض النصارى والوثنيين في بلاد أخرى ينادون بنصرة أهل غزة، ويَقْطَعون علاقاتهم مع إسرائيل لجرائمها ضد الإنسانية، لكن المشهد العربي والفلسطيني منقسم على نفسه بهذا الحال الذي لا يرضى به أحد؟!

4- يجب على الحكام أن يصلحوا أمورهم مع شعوبهم، وأن يحرصوا على كَسْب وُدِّهم فهم ذخرهم ورصيدهم بعد طاعة الله عز وجل، وليحذروا من الفرح برضى غير المسلمين عنهم مع كراهية شعوبهم لهم، وليحذروا من تحقيق رغبات أعداء الجميع في شعوبهم بما يغضب الله تعالى ويسخطه، وليعتبروا ببرويز مشرّف الرئيس الباكستاني السابق الذي باع شعبه ووطنه لأمريكا، ثم لما لفظه شعبُه صادقت أمريكا من جاء بعده، وأجاب قائلهم عن ذلك بقوله: نحن نتعامل مع أنظمة ترضى عنها شعوبها، لا مع أفراد رفضتهم شعوبهم!! وهكذا حال الشعوب إذا غضبت:

يُخَالُ سُكُوتُ الليثِ وَهْنًا فيعتدِي *** غرورًا وينسى بأْسَهُ حين يَغْضَبُ

ولا سبيل إلى كسب رضا الشعوب إلا بطاعة الله أولاً، وسياستهم بمنهج الله الذي ساس به القادةُ الربانيون الأمم والشعوب قرونًا متطاولة، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومن أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويُصَلُّون عليكم وتُصلُّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم” فحذار حذار من تجاهل الشعوب، واحتقارها؛ فإن ذلك يزرع البغضاء في قلوبها، ثم يستعملها من هو عدو الجميع ضد حكامها، وليس معنى ذلك أن يُهتم برضى الشعوب ولو في غضب علام الغيوب “فإن التمس رضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس“([6]) لكن ذلك فيما يُرْضي الله عز وجل، لاسيما في الأحداث العامة التي تهيج المشاعر، وتوخز الضمائر، وتجعل الثغر مفتوحًا بين الحكام وشعوبهم أمام من يعكرون الماء ليصطادوا فيه، فكيف لا يصطادون فيه إذا كان عكرًا من نفسه؟!

إن الشعوب بعقيدتها، ودمائها، وأموالها، وأعراضها، وذرياتها أمانة في أعناقكم أيها الحكام “كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته“([7]) وضياع الأمانة جالب لسخط الرب، وتسلّط الأعداء، ولعنة التاريخ، فلله درُّ من ولي من أمر هذه الأمة شيئًا ورفق بها، ولم يَشُقَّ عليها، وإلا فهي أيام والشعوب باقية، والأنظمة بالية:

إنَّ الولاية لا تدوم لواحدٍ *** إن كنتَ تُنْكره فأين الأوَّلُ؟!!

 والتاريخ خير دليل على ذلك، فيا لها مِنْ سعادة مَنْ سَطَّر تاريخه بصدق الانتماء لأمته وقضاياها، وعاش معها أزماتها، حاميًا لها، مدافعًا عنها، فمن أجلها يصول ويجول، ويا للفجيعة والعار لمن قذفت به أمواج الأحداث إلى مزابل التاريخ [وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ] {الحج:18}  [وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا ] {المائدة:41}  [ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] {النور:40} .  

5- أنصح بعض الحكام الذين يرون عدم مناصرة “حماس” بحجة أنهم يخشوَن من المشروع الإيراني في المنطقة، فأقول إن المشروع الإيراني حقًّا يهدد الجميع، وإذا كان قائمًا على معاداة جمهور خيار الأمة، من الصحابة والتابعين والأئمة فكيف بمن هو دونهم مثلنا؟ لكن الوقوف في وجهه لا يكون بخذلان شعب غزة، وترْكه تحت حُمم أطنان القنابل، والأسلحة المحرمة دوليًّا، أو جعل بيوتهم قبورًا لهم!! إن الوقوف في وجه مشروع إيران لا يكون بعدم التحرك لنصرة الأيتام، والأرامل، والأطفال الرُّضَّع، والشيوخ الرُّكَّع، والمساجد التي تُهدم على المصلين، والمستشفيات التي تنهار بمرضاها وأَسِرَّتهم!! إن الوقوف في وجه مشروع إيران العدواني لا يكون أيضًا بغضَّ الطرف عن المشروع الصهيوني الصليبي في المنطقة ـ لو سلّمنا بأن مشروع غير المسلمين متصادم مع مشروع إيران ـ إنما يكون الوقوف أمام المشروع الإيراني بالتوعية الدينية الواسعة، وفتح المجال أمام الدعاة الحكماء لبيان العقيدة الصحيحة، وتفنيد شبهات الرافضة بالعلم والحكمة، ونشر حلقات القرآن الكريم، ودروس التفسير، والحديث، والفقه، ودعم الدعاة وطلاب العلم في ذلك دعمًا سخيًّا بلا مَنٍّ ولا أذى، لأنهم لم يأخذوا المال لأنفسهم، إنما هو مال الله ويُنْفَق في الدعوة إلى الله، إن الوقوف أمام المشروع الإيراني لا يكون بتخفيف منابع دعم دعاة الوسطية والاعتدال، والذين يقتدون بحكمة وتجربة ونصائح أهل العلم الكبار، ولا يكون بتعطيل أنشطتهم، إنما يكون بفتح المجال لهم، لأنهم دعاة الأمن والأمان للمجتمع، وهم القادرون على رد الغزو الفكري بجميع صوره، ومن وسائل الوقوف في وجه المشروع الإيراني ترك التزلف لهم ومجاملتهم على حساب العقيدة، ومعرفة حقيقتهم من خلال مواقفهم عبر التاريخ ضد قادة السنّة وشعوبها.

أما تعلمون يا حكام المسلمين أنكم بترككم أهل غزة يستغيثون ولا مغيث تفتحون الباب على مصراعيه أمام المشروع الإيراني ليصل إلى شعوبكم، ويخترق صفوفهم، ويثير ضغائنهم عليكم؟ فتشتعل الفتنة بينكم وبين أبنائكم ورعاياكم، وعند ذاك تسقط هيبة وسيادة دول السنة، ويَبِيضُ فيها الرفض ويُفَرِّخ ـ لا قدَّر الله ذلك ـ!!

وأَعْقَلُ الناسِ مَنْ لم يرتكبْ عملاً *** حتى يُفَكِّر ما تَجْني عواقِبُهُ

إنني والله لكم من الناصحين، وأنا ضد إثارة الشوارع والجماهير على حكامها ـ على ما عندهم من أمور يموت لها القلب كمدًا وأسفًا ـ بعواطف لا زمام لها ولا خطام، لا رغبة مني في بقاء ظُلم ظالم، أو رغبة عن تولية عدل، ولكن حفاظًا على أصول السنة وثوابتها أولاً، وثانيًا خشية أن تُلْقِي بنا الأحداث إلى مصير مظلم، وشر أعظم، ونقع في يدي عدو لا يرحم، على حدِّ قول القائل:

رضيتُ ببعضِ الذُّلِّ خَوْفَ جَميعِهِ *** كذلك بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ

لاسيما ونحن في أوضاع يسودها الاضطراب والفوضى الفكرية، وإذا هُتك الستار، وتجرّأ الصغار، دخلت البلاد في أمور وخيمة العاقبة، ويكون من تسبب في ذلك كمن أراد أن يعالج زكامًا فأحدث جذامًا، أو من أراد أن يبني قصرًا فهدم مَصْرًا!!

وإنني أؤكد أن ترككم أيها الحكام لإخوانكم وأبنائكم في غزة في هذه الظروف العصيبة؛ سيجعلهم يرتمون أكثر وأكثر في أحضان الرافضة الذين ينصرونهم ولو بالحناجر ـ أحيانًا ـ ولم يحركوا من الجهة العملية ساكنًا في نصرتهم، كما أن هذا الموقف سيُضعف الجهاز المناعي عند شعوبكم أمام جراثيم إيران وأفراخها، فاحذروا أن يُطْوَى ـ بهذا الموقف منكم ـ بساط السنة، ويُنْثَر شَوْكُ الرافضة وجَمْرُهم في المشارق والمغارب، ونكون كما قال القائل:

رام نفعًا فضرّ من غير قَصْدٍ *** ومن البرِّ ما يكون عُقوقا.

6- كما أقول لمن يترك أهل غزة في هذه الكارثة بحجة أنهم فصيل من جماعة “الإخوان المسلمين”، وأن قوتهم قوة للجماعة في المنطقة  مع الإخوان في عدة نقاط ـ مع اختلافي: إن الخلاف بين المسلمين البين أمر له وقته وطرق علاجه، وأما ترك المسلمين السنيين ـ وإن كانوا تحت أي اسم ـ ليفترسهم اليهود؛ فأمر لا يقول به شرع، ولا عقل، ولا عُرف، ومن سلك هذا المسلك فالجزاء من جنس العمل عاجلاً غير آجل، وهذه سنة الله في الخلق [ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا] {فاطر:43} ولا يخفى عليكم تاريخ ملوك الطوائف في الأندلس الذين كانوا بضعة وعشرين أميرًا للمؤمنين، وبعضهم لا يحكم إلا قرية واحدة وضواحيها، ويُلَقَّبون بالألقاب العظيمة وألقاب الملك والأُبّهة: كالمعتضد بالله، والمعتمد على الله، والمستنصر بالله، والقاهر بالله …الخ، وكل منهم يبيع الآخر للنصارى، ويرضى بحياة ذليلة على أشلاء إخوانه، ثم يأتي دوره، فيفارق الدنيا غير مأسوف عليه، حتى قال القائل:

مما يُزَهّدني في أرضِ أندلسٍ *** أسماءُ معتضـدٍ فيـها ومعتمدِ

ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها *** كالهِرِّ يحكي انتفاخًا صَوْلةَ الأسدِ

وما أوصلهم إلى هذا الحال إلا إيثار الدنيا على الآخرة، وإيثار المصلحة الخاصة على المصلحة العامة للأمة، فيهتم الواحد ببقائه في الملك ـ ولو أيامًا قلائل ـ مع ذلة الأمة، ولا يترك المجال لمن هو أولى منه وأكثر تحقيقًا لطموحات الأمة، وأيضًا ساعد على ذلك طمْس مبدأ الولاء والبراء الذي به قوام هذا الدين وأهله

غريبٌ وأوطاني تُداسُ وأمتي *** تعاني ومَوْجُ الظلم يَشْتَدُّ صائلهُ

إنني أسأل: هل توجد عاصمة عربية اليوم آمنة من طيران إسرائيل الذي لا يملك العرب مضادات له، ولا أجهزة تكشفه قبل انقضاضه على المدن الآمنة؟! وكذلك هل الدول العربية آمنة من ترسانة إسرائيل النووية؟! ومن الذي مكَّن إسرائيل من هذه القوة؟ أليست هبي الدول التي نسميها نحن في وسائل إعلامنا بالدول الصديقة؟ وهل الصديق يرضى ويفرح بما يجري في غزّة وغيرها هذه الأيام؟! إذًا فليس للمسلمين في كشف ما نزل بهم إلا الله عز وجل ثم وحدة صفوفهم، عسى أن يدفع الله بذلك البلاء عنهم، فإننا في فتن ليس لها من دون الله كاشفة، ولن يدوم هذا الحال، وإن دام فلن ندوم نحن، فما بقي إلا حياة تسرُّ الصديق، وإما ممات يسوء العِدا.

وكذلك من يترك أهل غزة بحجة أن قادة “حماس” ركبوا رؤوسهم، ولم يقبلوا الحلول والمبادرات، أو أنهم ضعفاء، ومع ذلك أثاروا عدوهم عليهم؛ فإن النقاش في هذا الأمر يكون وجيهًا قبل دخول غزة في هذا البلاء المبين، أو بعد خروجها منه، لنعرف سبب القوة والضعف للاعتبار والاتعاظ لما سيأتي من أحداث، أما أثناء الأحداث فالمقام مقام نصرة، لا مقام مناقشة، فضلاً عن التوبيخ والتقريع، فضلاً عن الشماتة بأهل غزة وهم إخواننا، ونساؤنا، وأطفالنا!!

7- أنصح الحكام بإجلال العلماء الصادقين وإكرامهم، واستماع نصائحهم، فإن من إجلال الله إكرام حملة دينه، والأخذ بنصائحهم، وحسن الظن بهم، وعدم الاغترار بتشويه الأعداء لهم، فإن أمة تعادي علماءها أمة شؤم، وإن أمة تَظنُّ أن شرارها علماؤها أمة محكوم عليها بالشقاء والهوان، والعلماء هم أصدق من ينصح الحكام، لأنهم لا يريدون من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا، إنما يريدون الأصلح للقيادة والرعية، والعلماء أعرف الناس بمواطن القوة والضعف، وبأساليب الأعداء وحقيقتهم ومدى قربهم وبعدهم منّا، فهم أهل القرآن والسير والتاريخ، وهم أهل المعرفة بسنة الله في الأمم والشعوب، وهم أدْرى الناس بعاقبة الانحرافات والذنوب، ومن كان كذلك مع زهده في دنيا الحكام؛ ففي نصحه خير الدنيا والآخرة ـ وإن جفا فجفاؤه على نفسه وصوابه للأمة ـ ولا يجوز معاداة جميع العلماء بحجة أن بعض المنتسبين للعلم يسلك طريقة التشهير وإثارة العامة، أو ينافس الحاكم في أمره؛ لأن هذا من باب الجور في القضية، ورد الهدى بالهوى، وبطر الحق، وغمط الناس، فإن كثيرًا من أهل العلم وطلابه يعيشون هموم أمتهم، ويحاولون الإصلاح ما استطاعوا، ويحذِّرون من مغبّة العجلة أو التهور، أو التهييج وإثارة الفتن، كما يحذرون من خطر المساومة على عقيدة الأمة وهويّتها [فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] {يونس:35} .

إن مما يؤْسَف له أن يفرح بعض الحكام بوجود علماء يزيّنون له سوء عمله [أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا ] {فاطر:8}  فيفرح بهؤلاء، ويحرص على ظهورهم أمام الكاميرات، أما الناصحون بصدق فيُسْتَثْقَلُون، ويُنَحَّوْن عن مواضع الإجلال والتقدير والقرار، أو يُرْمَى بهم في بطون السجون ـ وإن كانوا من أهل الحكمة والتعقّل لمجرد أنهم لم يقولوا كما قال غيرهم حذْو القُذّة بالقُذّة ـ ولذلك وُجد علماء لا رصيد لهم في الواقع، إذْ حُرقتْ أوراقهم كما حُرقت أوراق القادة قبلهم، وعندما يُحتاج حقًّا إلى العلماء الذين يهدّئون ثائرة الناس، والذين يحذرونهم من عواقب احتقانهم وغليانهم، وبيان أن هناك من يتربص بالجميع، وأن الحكمة تقتضي تفويت الفرصة على المتربصين في الداخل والخارج بلمّ الشعث ورأب الصدع بينكم وبين حكامكم، والصبر على ظلم الحاكم أهون من إراقة الدماء، وتسلّط الحاقدين، فلا بد من الصبر حتى نخرج من عنق الزجاجة الحرج؛ عند الحاجة لمن لهم قبول في الناس ليُسمعوهم صوت العقل والحكمة هذا لا نجدهم، إنما نجد من هو وجه آخر للقيادة عند الجماهير التي امتلأت قلوبهم عليها حنقًا وغضبًا، فعند ذاك يقع المحذور، والسبب إقصاء الصادقين واستثقالهم، وتقريب من لا يملك ثقة وطاعة أهل بيته ـ أحيانًا ـ فضلاً عن طاعة شعوب متفاوتة المشارب، متباينة المذاهب!!

إن من العجب أن ينسِّق الحاكم مع بعض معارضيه، ويعطيهم صلاحيات كثيرة في البلاد، مع أنهم لا يملكون من ثقة الجماهير عُشْر معشار ما يمتلكه العلماء، ثم هو يعامل العلماء الحكماء الغيورين بالتجاهل والإقصاء!!

إن العالم الصادق كما أنه يَصْدُقك أيها الحاكم في النصيحة، ويذكّرك بحق شعبك عليك، فإنه سيَصْدُق الشعب في النصيحة، ويذكّره بحق أولياء أمره عليه، وصديقك من صَدَقَكَ لا من صَدَّقَك، وهذا الصوت المتعقل الذي يمثّل الإسلام بصفائه، وبهائه، وسماحته دون إفراط أو تفريط؛ لا تقوم للأمة قائمة إلا إذا انتشر فيهم حملة هذا الفهم، لا المتهورين ولا المتزلفين.  

إنَّ الأكابر يَحْكُمُون على الورَى *** وعلى الأكابرِ تَحْكُمُ العلماء

8- على الحكّام أن يسعَوْا إلى إزالة كل ما يكون عائقًا من اجتماع كلمتهم وعلوّ شأن مجتمعاتهم، فإن العالم لا يحترم إلا القوي، فيجب أن توضع خطط لصدِّ الغزو الفكري، وخطط عسكرية للدفاع عن أي بلد من بلاد المسلمين، والتنسيق بين وزارات الخارجية في الدول الإسلامية، حتى يضغطوا من الناحية الدبلوماسية في المحافل الدولية بما يحقق طموحاتهم، ويدفع البغي عنهم، إلى غير ذلك من المجالات التي يمكن أن يتعاونوا أو ينسِّقوا بين جهودهم فيها؛ فإن بقاءهم منوط بائتلافهم وتوحُّدهم، ولا يكون ذلك إلا على منهج الله الذي رضيه لنا، أو على الأقل يكون الاجتماع على أصول مشتركة لا بقاء للجميع بدونها، كما هو الحال في تحالفات غير المسلمين، فهل فينا رجال يسعون ـ ولو في دوائر صغيرة ـ لإيجاد قواسم مشتركة يتم العمل من خلالها في حماية عرين الأمة ووجودها؟ وهكذا تتسع الدوائر شيئًا فشيئًا حتى تشمل أكبر قدر ممكن من الدول الإسلامية التي صَدَق القائمون عليها في الغيرة على محارم الإسلام وأهله وبلاده، وما لا يُدْرَك كله لا يترك جُلُّه، وحنانيك بعض الشر أهون من بعض[فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ] {التغابن:16} .

ثالثًا: نصيحتي للعلماء والدعاة وطلاب العلم:

لا شك أن كلامي مُوَجَّه لأهل العلم الذين يهمهم أمر قوة الدين وسلامة المجتمعات من الفتن والشرور، أما المتهورون أو المتزلفون، أو الذين يضخمون بعض الآراء الحزبية ولو على حساب مصلحة الأمة؛ فالحديث مع هؤلاء له شأن آخر، فأقول وبالله التوفيق:

1- يجب على أهل العلم أن يدركوا أن الأمة أمانة في أعناقهم، فيبلّغوهم أمر الله عز وجل الذي فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن ينشروا فيهم العلم النافع ومنهج الاعتدال والوسطية ـ وهو الإسلام الحق ـ فإن في ذلك أمانًا للمجتمعات من الغلو والجفاء الجالبَيْن للنزاع والفشل والدمار، وأن يبادروا بالتحذير من أي فكر منحرف سواء كان انتسب إلى الدين، أو تنقَّص الدين واتهمه بالقصور وعدم الصلاحية لهذا العصر، فالعلماء حراس العقيدة،وهم كشُهُب السماء ورُجُومُ الأعداء، ولا يكون ذلك إلا بنشر العلم النافع، وإحياء القدوة الصالحة في الأمة، وبث روح العزة بهذا الدين في النفوس والتحذير من الهزيمة المعنوية، والتحذير من البدع والمحدثات ـ وإن دقّت ـ وربط حاضر الأمة بماضيها، ونشر مناقب مصابيح الدجى، وقناديل الهدى من الصحابة والتابعين والأئمة والقادة المصلحين، فإن ذلك ينهض بالأمة من الحضيض إلى أوج العزة والثبات.

2- يجب على أهل العلم أن يسعَوْا إلى جمع كلمة إخوانهم وأبنائهم من العلماء والدعاة وطلاب العلم على ثوابت منهج أهل السنة والجماعة، وأن يبينوا للناس أن مناط الاجتماع والائتلاف هو أصول الدين، لا فروعه وجزئياته، وأن أي اجتماع لا يرفع بأصول الإسلام والسنة رأسًا؛فإنه كمن يلهث وراء السراب، كما أن أي دعوة للاجتماع على المسائل الاجتهادية أوالمحدَثة أوالدقيقة الخفية؛ مخالفة لمنهج سلف الأمة، وسبب في تحطيم الدعوة وتمزيقها، فلا بد من إيجاد وإبراز مواضع الاتفاق ـ وهي كثيرة جدًّا بين العاملين من أهل السنة ـ حتى يتم العمل من خلالها، والتقارب والتآلف على ضوئها، مع النصح القائم على الشفقة والحرص على تكميل الآخر ما أمكن، فلا عزّة للأمة وعلماءُ السنة فيها مختلفون متدابرون، كل مجموعة تهدم ما تبنيه الأخرى، فَيُفْتَح باب الجدل، وتُغْلَق أبواب التزكية والعمل، وكيف نعيب افتراق القادةِ السياسيين ـ على اختلاف مشاربهم ـ والقادةُ الربانيون أنفسهم مختلفون متدابرون؟! كل منهم لا يرضى عن الآخر، ولا يجتمع بالآخر، ولا يتشاور معه في أمور الأمة، وإذا لم يجتمع العلماء في هذه الكوارث فمتى سيجتمعون!!

إن من المعلوم أنه ما من قوم اجتمعوا إلا سادوا وملكوا، وما من قوم اختلفوا إلا فسدوا وهلكوا:

تأبى العِصِيُّ إذا اجتمعن تكسُّرًا *** وإذا افترقْن تكسّرتْ آحادًا

 والنصوص في النهي عن الفرقة والتدابر في الكتاب والسنة أشهر من أن تُذكر، وأكثر من أن تُحصر، وإذا كان التدابر قبيحًا في الناس؛ فهو في صفوف العلماء أقبح، لأنهم هم الذين يُرجى منهم الدواء، لا أنهم الذين ينشرون الداء، وصدق من قال:

إلى الماء يسعى من يُغَصُّ بلقمة *** إلى أين يسعى من يُغصُّ بماء؟!

3- على أهل العلم أن يدركوا أن طريق التمكين طويل، فليحذروا من التعجّل “وإنما العجلة من الشيطان”[8] ومن تأنّى نال ما تمنى، لكن لا بد من وضع لبنة في جدار العز والسؤدد، هذا الذي علينا [وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] {آل عمران:126}  وعليهم أن يُفعِّلوا الوسائل المستجدة في هذا العصر لخدمة الدين ـ بما لا يكون فيه إثم ولا عدوان ـ وأن يحثوا طلابهم على مخالطة المجتمع وإصلاح أهله ما أمكن، وكذا الدخول في جميع الميادين النافعة، والتدرج فيها إلى أعلى الدرجات، لتخفيف الشر وتقليله أو تعطيله، وتكثير الخير أو تكميله، حسب ما هو معلوم من المقاصد الكلية لهذا الدين، وذلك عندما تؤول الأمور إلى قوم صالحين، يتخذون أهل العلم مرجعية لهم، وينبغي تنوّع الخطاب الدعوي بما ينفع المخاطَب: فيُفرَّق بين من يخاطِب العامة على اختلاف ثقافاتهم، ومن يخاطِب طلابًا متخصصين، وبين من يخاطب أعداء شامتين حاقدين على الإسلام، ومن يخاطب جهلة محبين، وبين الخطاب في زمن السعة والاختيار، والخطاب في زمن الضيق والاضطرار، والخطاب في زمن القوة والاستخلاف، والخطاب في زمن الفرقة والاستضعاف …الخ.

إذا ما أتَيْتَ الأمْرَ من غيرِ بابِهِ *** ضَلَلْتَ وإن تقصد البابَ تهتدي

وكذلك يستفيدون من تجارب بعضهم، ويبدأون من حيث انتهى غيرهم؛ فإن ذلك وغيره يساعد على تحقيق الهدف المنشود في أقل فترة زمنية ـ وإن طالت ـ وبأقل الجهود والتضحيات، والحق ضالة المؤمن، حيث ما وجدها أخذها من بر أو فاجر.

وفي غابرِ الأيامِ ما يَعِظُ الفتى *** ولا خير فيمن لم تَعِظْه التجاربُ

4- إذا اجتمع العلماء وتآلفوا اختاروا مرجعية منهم تكون للأمة قادة وشعوبًا [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] {النساء:83} وشكَّلوا لجانًا علمية ممن يثقون بهم من أهل العلم، وبينوا لكل لجنة مجال عملها، واستفادوا من جهود هذه اللجان، ثم يصدرون الفتاوى على ضوء ذلك، فتكون أقرب للواقع والحقيقة.

فالأمة بدون مرجعية علمية ربانية تخبط خبط عشواء، في ليلة ظلماء، وعندما تُفَعَّل مرجعية العلماء، سيكون صوتُ العلماء ظاهرًا قويًّا مدوّيًا، يسمعه القادة السياسيون وغيرهم، أما أن يُفتى في النوازل المصيرية للأمة محللون سياسيون، وأقوام لا خلاق لكثير منهم، أو شباب متعجّلون، وصوت العلماء صامت، أو خافت، أو متناقض، أو يرد بعضهم على بعض في أمور جزئية، أو يتأثر كل منهم بسياسة بلده، والنوازل تجترف الأمة اجترافًا؛ إن هذا لمن عجب العجاب!! وصدق من قال:

إنَّ الأمور إذا الأحداثُ دبّرها *** دون الشيوخ ترى في سيرها الخللا

وصدق من قال:

متى تصلُ العطاشُ إلى ارتواءٍ *** إذا اسْتقَتِ البحارُ مِنَ الركايا

                    ومَنْ يُثْني الأصاغرَ عن مرادٍ *** إذا جَـلَسَ الأكاَبرُ في الزوايا

                    وإنَّ ترفُّعَ الوضعـاءِ يـومًا *** على الرفعاء من إحدى البلايا

                    إذا استوتِ الأسافلُ والأعالي *** فقـد طابتْ منادمةُ المنايـا

5- ليحذر العلماء من الحرص على تأجيج الشارع على الحاكم إلا في حالات ضيّقة ونادرة جدًّا يعرفها أهل العلم بضوابطها؛ فإن هناك دعاة لا ينشطون إلا في مثل هذه الأحداث، غير مهتمين بالنظر في المآلات،والذي على العلماء أن يرشِّدوا غضب العامة، ويستغلوا ذلك للدخول على حكامهم، والتفاوض معهم بما فيه مصلحة الأمة،فإن قيل: إن منهم من يُغلق بابه أمام العلماء، أو لا يبالي بنصائح العلماء، فالجواب: أن علينا النصيحة بالتي هي أحسن، وقد أمر الله من هو أفضل منا إلى من هو أشر منهم أن يخاطبه باللين، فقال لموسى وهارون عليهما السلام عندما أرسلهما إلى فرعون: [فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] {طه:44} وقال تعالى: [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22) ]. {الغاشية} فإن لم يُسْمَع صوت  العلماء؛ رجعوا إلى مهمتهم الأصلية، وهي تربية الأمة على الدين الصحيح، فإذا نفع الله بهم فيما يحسنونه من التربية، وتركوا ما عجزوا عنه، وأْتمرت العامة بأمرهم؛ كانت لهم هيبة عند الحكام بعد ذلك، وسُمع منهم، وهذا بخلاف من لم يُسْمَع له فيخرج ليهيج الشارع، وينادي بما يؤول إلى شرور لا أول لها ولا آخر، فالواجب لزوم المنهج المعتدل، وبذلك يقوم العالم بواجبه الشرعي، ويدفع الله به الفتنة المحدقة بالمجتمع، وإلا فغضب العامة لا زمام له ولا خطام، وإذا نطقت الدهماء، ضاع صوت العلماء العقلاء، وقد يتقدم العامة أو يحرّكهم ـ ولو على بُعْد ـ من هو متربص بعلماء وحكومات وشعوب السنة وبلادهم، وهذا من جملة المشروع الصهيوني الصليبي الصفوي في المنطقة، ونكون بذلك كمن أراد أن يبْني قصرًا فهدم مصرًا، أو من أراد أن يُطِبَّ زكامًا فأحدْث جذامًا، ودين الله منزّه عن هذا العبث.

إن غيرة الشعوب وتألمهم لما يحدث لإخوانهم في غزة وغيرها أمر يُشْكَرون عليه، ويُعانُون على ذلك، وأمة بلا شعور؛ أمة بليدة مخدَّرة مقطعة الأوصال، لكن لا يكون ذلك بتأجيج احتقانهم، وإثارتهم على حكوماتهم، فتقع الفتنة في كل دار، ويتسع الخرْق على الراقع، بل الواجب وضع خطط عاجلة وخطط طويلة المدى لعلاج هذه الأزمات من خلالها، فأما الخطط التي هي طويلة المدى فقد سبق ذكرها في نصائح القادة والشعوب والعلماء، وأما الخطط العاجلة فمنها:

أ- الدعاء للمسلمين في غزة وغيرهم ممن تسلط الأعداء عليهم في قنوت النوازل وغيره.

ب- الدعم المادي الذي يخفف من محنتهم، ويجبر مصابهم.

جـ- استغلال هذه الأحداث لدعوة الأمة إلى الرجوع الصادق الشامل لدينها، ومن ذلك توحيد كلمة أهل العلم وطلابه.

د- السعي الصادق بالطرق الدبلوماسية ـ وذلك من خلال القادة السياسيين الصادقين مع قضايا الأمة ـ لرفع الحصار، وإيقاف الحرب،ومحاربة مجرمي الحرب على هذه الجرائم البشعة في تاريخ الإنسانية، ولا نيأس من استصدار هذه القوانين ـ وإن لم تُنفّذ هذه الأيام ـ فوجودها أولى من عدمها، وقد تُنفَّذُ يومًا ما إذا تغيرت الموازين، ولا يموت حقٌّ وراءه مطالب، هذا مع فتح المعابر لتخفيف المعاناة على المسلمين المتضررين، وجبر المصابين، ومسح دموع الباكين، وكل ذلك يكون بتشاور العلماء مع ولاة الأمور، ونصحهم ما أمكن، وبيان المخاطر التي تحدق بهم وبالأمة حالاً ومآلاً من جراء التباطؤ في ذلك، والتذكير بالتاريخ وما فيه من عبر، والتحريض على كسب الشعوب والعلماء والمواقف التي يسجلها التاريخ، لا بالإثارة والتهديد، ومدّ اليد للمتربصين، والتعاون معهم على محق ما بقي من خير وأمان واستقرار!! وعلى الحكّام أن يوسِّعوا صدورهم للنقد البنّاء، والنصح الهادف، وقد ذكر الحسن البصري أن رجلاً قال لعمر: اتق الله، فقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها.

هـ- إذا لم يُجْد شيء من ذلك في تخفيف الأزمة أو إنهائها، فيجب على الأمة أن تهيء نفسها للجهاد الشرعي، وذلك عبر خطط طويلة المدى، كما سبق ذِكر كثير منها، وذلك إذا رأى العلماء عجزها عن ذلك هذه الأيام، ونحن وإن كنا ننكر العنف الدموي البعيد عن سماحة الإسلام، والذي يجرّ على الأمة ما هو أشد ضررًا؛ إلا أننا نؤمن بأن الجهاد الشرعي بضوابطه الشرعية ـ لاسيما عند دفع الاعتداء والبغي والغطرسة ـ أن ذلك من ذروة سنام هذا الدين، فلا إفراط ولا تفريط، وليس كل جهاد إرهابًا مذمومًا، فإن الإرهاب الحقيقي هو ما يحدث هذه الأيام في غزة أمام مَرْأى العالم وسمعه، ومن قبله العراق وغيره، وكوننا ننكر العنف المخالف لسماحة الدين ـ من بعض أبناء ملتنا ـ المنطلق من عواطف لا تتقيد بضوابط الشرع؛ فليس معنى ذلك الدعوة إلى نسخ الجهاد الشرعي، أو الدعوة إلى طمس معالم الولاء والبراء، ومهما حاول المنفتحون ذلك فإن سنة الله الكونية تكشف هذه الانهزامية، وتجعلهم يرجعون بخُفَّي حُنَين، بل يا ليتهم يرجعون بهما!!.

إن من العلماء من يدْعون ـ لاسيما مع ظروف الأمة المعاصرة ـ إلى التعايش بين المسلمين وغيرهم، ولا يعني ذلك أنهم تركوا أصول الدين، فما ترك اليهود أصولهم الباطلة مع ضَعْفهم، وتَفَرُّقهم في البلاد، وتعرُّضهم لتسلّط الأعداء عبر عدة قرون، حتى أقاموا دولة تمتلك ترسانة حربية نووية في المنطقة، فهل يتنازل نحو مليار ونصف عن أصول دينهم لمجرد ما نزل بهم؟ كلا ورب الكعبة، لكن المهم إتيان البيت من بابه، والخطاب بما يليق وظروف الأمة [وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ] {البقرة:269}.  

6- أنصح طلبة العلم أن يرجعوا للعلماء الكبار في كل بلدة، وأن يسعوا إلى تفعيل مرجعية هؤلاء العلماء، ولا يكونوا معاول في هدم بناء هيبة العلماء ومكانتهم، فإن العامة إذا زهدوا في العالم الكبير؛ فلن يتمسكوا بالمتعالم الصغير، فسرعان ما يتنكرون له أيضًا، ونكون بذلك قد هيأناهم إلى الفوضى والارتماء في أحضان الأعداء الذين يجيدون الخطب الرنانة، والأساليب الماكرة، والدهاء الماحق، فإذا وقعت الفتن،وصارت البلاد خرابًا يبابًا؛ فهذه الفوضى الخلاّقة التي يريدها أعداؤنا، وهكذا فلا يتنبه بعض طلبة العلم إلى أن اندفاعهم في إسقاط هيبة العلماء الكبار، وإشهار عيوبهم وزلاتهم ـ مع أنهم غير معصومين ـ أنهم بذلك يهدمون الأمة ولو بعد حين، وكثير من هؤلاء الطلاب يسمع نشرة أخبارية في برنامج فضائي، أو يرى صورًا وحشية بشعة من أعمال اليهود؛ فينطلق طعنًا ووخزًا في علماء الأمة، ولو بيّن ما يراه شرعًا، ويسكت عن غيره؛ لكان الخطب أخف، فقبحًا لأمة يسب صغارُها كبارها، ويتطاول أقزامها على عمالقتها ـ وإن لم يصيبوا في موقف أو أكثر ـ.

إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يمر على أصحابه ويراهم وهم يُعذّبون في مكة، ويُفْعل بهم ما تشيب منه مفارق الولدان ـ كما يرى بعض الدعاة اليوم الصور البشعة في المسلمين على الشاشة ـ ومع ذلك فلا يتخلى عن أصول دعوته، قال تعالى: [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {الزُّخرف:43} وقال عز وجل: [وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ] {المائدة:49} وقال جل شأنه: [وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75) ]. {الإسراء}. فلا يجوز أن يرى الداعية نشرة أخبارية، أو “سِيدي” فيه بعض جرائم الأعداء، ثم ينطلق فيصب جام غضبه على كبار أهل العلم، وربما اتهمهم ومن سلك مسلكهم بالعمالة، أو الجبن، أو الميل إلى الدنيا، أو على الأقل يرميهم بالسطحية والجهل بما يدور حولهم، نحن لا ندّعي أن العلماء أحاطوا علمًا بهذه الأمور، لكن لا يلزم من ذلك اتهامهم ورميهم بالقبائح، وبَدَل أن نتهمهم نناصحهم، ونبين لهم خطورة الموقف وأبعاده وآثاره في الحال والمآل، وإذا كنا نرى أن رمي بعض المسؤولين بالعمالة والخيانة قد يكون فيه تجوّز، أو اندفاع، أو قلة حكمة في طريق العلاج؛ فكيف بمن يرمي العلماء بذلك؟!

7- كما أنصح بعض طلبة العلم الذين يشككون في وصول المساعدات إلى إخوانهم بغزة بأن يكفّوا عن ذلك؛ فإنهم بذلك ينصرون اليهود شعروا أم لم يشعروا، ولم يكلفهم الله بذلك، ولو سئل أحدهم: هل تسمي لنا حالة واحدة تدل على صحة ما تقول؟ لعجز عن ذلك، ولو استطاع ذلك؛ فأين حالة من آلاف الحالات التي وصلت فيها المساعدات ؟ فنعوذ بالله أن نكون من المُتَكَلِّفين، وقد سبق الجواب على الاعتذار على ترك مساعدة أهل غزّة بكون حماس فصيلاً من جماعة الإخوان، أو كونهم تسببوا فيما نزل بهم، فليُرجع إليه في نصائح الحكام برقم (6).

وكذلك بعض طلبة العلم الذين ينشرون عيوب حماس، وأخطاءهم العقدية أو السلوكية ـ إن وجد ذلك ـ فالواجب عليهم أن يتقوا الله في إخوانهم، ولكل مقام مقال، ولا ينصروا عليهم عدوًا لا خلاف في كفره بسبب هذه الاختلافات إن وجدت، وليعلموا أن الجهاد هذا أصفى أنواع الجهاد الموجود اليوم، حيث أن العدو لا خلاف فيه، ويقف أمامه قوم أصحاب حق، وتوجّه ديني، بخلاف الحال في بلدان أخرى، فكل طائفة من المسلمين مع جهة، أو وراءها من يحركها للقتال مع الأخرى، وإن كانت إحدى الطوائف أصدق من غيرها، وأصفى راية منها، لكن قد تنقدح الشبهة لقتال المسلم أخاه، وكل منهم يلفظ أنفاسه ويتشهّد قبل موته، بخلاف الجهاد في غزة، ومع ذلك فلا أقلل من شأن الجهود المبذولة ضد المحتلين في بلدان كثيرة ـ فالواجب مناصرتهم في الحق ـ لكن المقام مقام مقارنة بينها وبين الحال في غزة، ومع أنني أرى ضرورة إصلاح الأخطاء العقدية ـ إن وجدت ـ إلا أن التشهير بها ـ لا مجرد النصح الشرعي ـ في وقت قعقعة السلاح، ودوي المتفجرات، وامتلاء السماء بسحب القنابل المحرمة دوليًّا …الخ؛ فإن ذلك فيه خذلان للمجاهدين لا تصحيح لأخطائهم، والله أعلم.

8- نصيحتي لبعض أهل العلم أن يحذروا من أساليب الروافض الماكرة، وأن لا يتجاهلوا تاريخهم السابق واللاحق، وأن يستفيدوا من أعمالهم في العراق وأفغانستان مع الأمريكان وغيرهم ضد السنة وأهلها، والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، وقد لُدغ أهل السنة كثيرًا من هذه الجهة، فلا حاجة للتفاؤل الزائد، والمخاطرة بمصير دول السنة لتصريح صحفي لمسؤول منهم، أو غير ذلك، فالأمة في مفرق طرق، والتعجل في اتخاذ قرار مصادم للعقائد والتاريخ وخيم العاقبة، والله المستعان.

رابًعا: نصيحتي لإخواننا في فلسطين ـ دفع الله عنهم كل سوء وبلاء ـ :

اعلموا ـ سلّمكم الله ـ أنكم بجهادكم الطويل عبر أكثر من نصف قرن قد أثبتم للعالم أجمع ـ وإن جحده الجاحدون ـ أن صاحب الحق الذي لا يقبل الضيْم لا يمكن أن يترك حقه، وأن حالكم كما قيل:

أمّا العدوُّ فإنّا لا نلين له *** حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

 لقد مرت عليكم السنين الكثيرة وجهادكم يرفع الرأس، فأسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمه الظاهرة والباطنة، واعلموا أن جهادكم قد حقق مصالح كثيرة ـ وإن دفعتم ضريبة شاقة بسبب نذالة وحقد خصمكم، وقلّة مساندة إخوانكم لكم ـ وقد عدّد بعض العلماء بعض هذه المصالح، ومنها:

 أ- تحطيم أسطورة جيش إسرائيل الذي لا يُهزم، فلليهود أيام منذ بدء القصف الجوي والبري، ولم يستطيعوا أن يحققوا أهدافهم، وكان هناك من يظن أن ذلك سيتحقق بين عشية وضحاها، فلما ثبّتكم الله قويتْ نفوس كثير من القادة وغيرهم، وهذه مصلحة عظمى.

 ب_ أثبتم أن الجهاد إذا كان عن رؤية إسلامية ـ وإن كان بطائفة قليلة العدد والعدّة ـ فليس كالحروب القومية والوطنية التي لا ترفع بأمر الدين رأسًا، وقد قال الله تعالى: [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] {البقرة:249}  فقد خسرت البلاد الإسلامية خسارة فادحة معنوية في حروبٍ كثيرة لعدم صفاء الراية.

جـ- أن الدعاة على اختلاف مشاربهم اجتمعت كلمتهم على مناصرتكم، فتألفت بذلك قلوبهم، وعسى أن يكون ذلك بادرة خير لا ينقطع.

د- أن كراهية المسلمين لليهود الغاشمين قد استقرّت في قلوبهم، ففشلت سياسات طويلة المدى منذ سنوات تدعو إلى ترك مبدأ الولاء والبراء، وتحمل الناس على تناسي تاريخ اليهود السابق والحاضر، حتى اغتر بعض الناس بذلك، بل كثير من غير المسلمين قد صرّحوا برمْي قادة إسرائيل بأنه يجب أن يُحاكَموا كما يُحاكمُ مجرمو الحروب.

 ومع ذلك فأوصي بأمور:

1- اعلموا أن أعظم سلاح معكم في محنتكم الصدقُ مع الله، فبذلك يدفع الله عنكم، فحذار من التعلق بغير الله، أو العُجْب أو الفخر، وقد قال تعالى: [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ] {النحل:53} وقال سبحانه: [وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] {آل عمران:126}  وإلا فبالمقياس المادي الذي لا يؤمن بغيره الكافرون، فالنتائج محسومة ضدكم، لكن الله على كل شيء قدير، وسواء تم لكم ما تريدون ـ وهذا ما نرجوه من الله عز وجل ـ أو لم يتم؛ فأرجو أن يكون قد وقع أجركم على الله، وأنتم قد قمتم بما عليكم وزيادة، فلله درُّكم، وعلى الله أجركم.

2- يجب أن تجتمع كلمتكم، وتُتَناسى خلافاتكم، وأن توحدوا صفكم، وفاء لقضيتكم وشهدائكم الذين سبقوكم عبر هذا الكفاح الطويل، وأي خزي وعار أكثر من اختلافكم والسماء تمطر عليكم القنابل الفوسفورية، والأرض تتفجر من تحتكم ألسنة نارية؟! وإني لأعلم أن الاختلاف هو داء هذه الأمة، لكن عظماء التاريخ يرشِّدونه، أو يجمدونه، أو يرحّلونه حتى حين، أو يتنازل بعضهم عن حقه لما هو أهم، وخيركم الذي يبدأ بالسلام والوئام، ويزيل العقبات التي أمام تحقيق ذلك، فمن تنازل لأخيه ـ شريطة أن يكون أخوه مخلصًا للقضية لا مجرد آلة للعدو ـ جمعًا للكلمة ودرءًا للفشل؛ فهو على صراط مستقيم، وقد تنازل أمير المؤمنين الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ عن مُلْكٍ عظيم جمعًا للكلمة، وحفاظًا على دماء المسلمين وقوتهم، وقد تحققت البشارة النبوية في الحسن رضي الله عنه بالصلح بين المسلمين، بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين” رواه البخاري من حديث أبي بكرة، وأوصيكم إذا دُعِيتم إلى أي خطّة رُشْد، فيها جمع كلمتكم، وسلامة شعبكم، والوفاء لقضيتكم أن تقبلوا ولو كانت الوجاهة فيها لغيركم، فإن[مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ] {النحل:96} والله تعالى يقول: [قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] {يونس:58} ، ولأن يكون المرء شعرة في ذيل اجتماع الكلمة ـ بالحفاظ على مكاسب قضيتكم ـ خير له من أن يكون رأسًا في الفُرْقة وتبديد القضية، وإهدار كفاح ستين عامًا.

3- على الشعب والفصائل المخلصة والرجال الصادقين من كل فصيل أن يتفقوا على نصرة قضيتهم ـ وإن اختلف القادة لا قدر الله ـ وإن لم يجتمع الكل فالأكثر، وليس المقام مقام حملات إعلامية نارية ضد بعضكم، أو شماتة بإخوانكم، فإن ذلك يؤول إلى رد السلاح إلى صدور بعضكم، وهذا الذي يريده عدوكم، فلا يتقرب أحد إلى عدوكم ببغض أخيه، فأخوك أخوك وإن زخرف لك المزخرفون، وقد كان من سياسة الشيخ أحمد ياسين ـ تقبّله الله عنده من الشهداء الصالحين ـ في الخلاف الداخلي أن يتخذ شعارًا من قول الله عز وجل: [لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ] {المائدة:28} .

4- ومع أنني أعتصر أسى عندما لا يقوم إخوانكم أهل السنة بواجب مساعدتكم بما يكفي جميع حاجاتكم، وبما يغنيكم عن الحاجة لغيرهم ـ وإن كانت الشعوب وكثير من الحكومات قد قدمت الكثير والكثير خلال ستين عامًا ـ إلا أنني أُحذِّركم من الاغترار بأساليب إيران وأذنابها، وإن قدموا بعض المساعدات، فإنما هي أشياء لذَرّ الرماد في العيون، وإلا فما الذي يمنعهم من مساعدتكم فعليًّا في الحرب الضارية هذه؟ بل ما الذي يحمل صاحب الخطب الرنانة حسن نصر الله على التنصُّل من الصواريخ التي أُطلقت من جنوب لبنان على إسرائيل، ويحذّر من يريد أن يجر رجله إلى المعمعة مع إسرائيل، ومع ذلك ينادي شعب مصر بالتمرد على حكومته؟ أهؤلاء يظنون أنهم يخاطبون عالمًا لا يعقل ولا يربط الكلام بعضه ببعض؟ مع أنني كنت أتمنى موقفًا لحكومة مصر يكون امتدادًا لمواقفها العظيمة المخلصة ـ في الجملة ـ مع القضية عبر سنوات طويلة، إلا أنه لا يلزم من ذلك الاستجابة لدعوات السوء من حسن نصر الله أو غيره.

فاحذروا ـ يا رعاكم الله ـ فأنتم أهل سنة، ولو أنكم فقدتم أنفسكم ودياركم وأموالكم ونساءكم وأنتم على السنة غير مبدلين ولا مغيرين؛ خير لكم من أن تعتقدوا عقيدة الفرقة التي تكفِّر الصحابة، وتدّعي تحريف القرآن، وعصمة أئمتها، وأن لهم مكانة لا يبلغها ملَك مقرّب ولا نبي مرسل، ويكفِّرون جميع من لم يكن معهم من جميع طوائف المسلمين، فاحذروا ممن يزين لكم ذلك، وإن هوّن من أمره، أو رقّق من شرّه، كما حصل هذه الأيام من المرشد العام للإخوان المسلمين ـ هداني الله وإياه والمسلمين إلى سواء السبيل ـ فإنما الطاعة في المعروف.

5- يقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأنفال:45}   فاحرصوا على ذلك، واعلموا أن البلاء والنعيم لا يدومان، فما هي إلا أيام، وتنفرج الأزمة، وتخرجون منها كالذهب المصَفّى ـ إن شاء الله تعالى ـ.

 6- إياكم والحرب الإعلامية مع جيرانكم من العرب، أو مع من تخلى عنكم لسبب أو لآخر ـ وإن لم يُصِب بتخليه عنكم ـ فليس لكم إلا الله عز وجل ثم جيرانكم قادة وشعوبًا، ومن ورائهم أمتكم الإسلامية، وما أسرع الفرج[إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا] {الشرح:6} :

فَكَمْ همٍّ له من بعده فَرَجٌ *** وكُلُّ أمرٍ إذا ما ضاقَ يتّسعُ

 فلعل الله يقذف في قلب أحدهم نصرتكم، فيقوم بما تقرُّ به أعينكم، إمّا ماديًّا أو دبلوماسيًا أو غير ذلك، فالمطلوب تخفيف الاحتقان لا تفجيره، فإن ذلك لا يخدم القضية شيئًا، وإذا صبرتم على إخوانكم وجيرانكم، وتركتم غيركم هو الذي يدافع عنكم يتكلم عندهم بحقكم عليهم؛ فهو أحفظ لودكم ومكانتكم، وأنفع لقضيتكم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “أحببْ حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما” ولا فائدة من توسيع رقعة الخصوم، وتكثير الجبهات، لاسيما مع من لهم تاريخ مشكور في نصرة قضيتكم عبر ستين سنة قبل هذا الحدث الأليم، عجّل الله بتفريج أزمته، وجعل عاقبته حميدة على الأمة بأسرها.

وما بكثيرٍ ألفُ خِلٍّ وصاحبٍ *** وإنَّ عدوًّا واحدًا لكثير

هذا، وأسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجمع كلمة المسلمين على ما فيه عزهم وهيبتهم، كما أسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يُوحِّد صَفَّ إخواننا في فلسطين، ويزيل الشحناء من صدورهم، ويقوي شوكتهم، ويدفع عن إخواننا في غزة ما نزل بهم، ويتقبل موتاهم عنده من الشهداء الأبرار، ويخفف آلامهم، ويضمِّد جراحهم، ويثبِّت أقدامهم، وينزل عذابه وغضبه على اليهود الغاشمين، وأن يجعلها عليهم سنين كَسِنِيِّ يوسف، وأن يوفّق قادة العرب والمسلمين لسلوك سبيل العز والهيبة لشعوبهم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كتبه

الفقير إلى عفو ربه وستره وجوده:

أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني

20 محرم 1430هـ

    

[1] ) أخرجه البخاري برقم (2872) من حديث أنس رضي الله عنه.

[2] ) أخرجه أبو داود برقم (4297) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة برقم (958).

[3] الصحيح أن الحرمين هما حرم مكّة والمدينة، ولم يصح تسمية الأقصى بالحرم، ولا ثالث الحرمين، كل هذا على عِظَم مكانة الأقصى في تاريخ المسلمين ونفوسهم، فتأمل.

[4]) أخرجه الترمذي (2507) وابن ماجه (4032) والبخاري في الأدب (388) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

[5] ) أخرجه البخاري (2442) ومسلم (2580) من حديث ابن مر رضي الله عنهما.

[6] ) من حديث عائشة رضي الله عنها رواه ابن حبان برقم (276) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة برقم (2311).

[7] ) من حديث ابن عمر رضي الله عند البخاري (5188) ومسلم (1829).

[8] ) من حديث أنس أخرجه أبو يعلى في مسنده (3/1054) والبيهقي في السنن الكبرى وصححه الشيخ الألباني رمه الله في الصحيحة برقم (1795).

الملف على الرابط التالي :

للتواصل معنا