الأسئلة الحديثية

تعريف ابن الصلاح للحديث الحسن وشرح كلامه وما عليه من ايرادات

تعريف ابن الصلاح للحديث الحسن وشرح كلامه وما عليه من ايرادات

قال –رحمه الله – بعد ذكره لتعريف الخطابي والترمذي : ” وكل ذلك مستبهم لا يشفي العليل ، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن عن الصحيح ، وقد أمعنت النظر في ذلك والبحث ، جامعًا بين أطراف كلامهم ، ملاحظًا مواقع استعمالهم ، واتضح أن الحديث الحسن قسمان:
أحدهما :” الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور،لم تتحقق أهليته ، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه ، ولا هو متهم بالكذب في الحديث ، أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث، ولا سبب آخر مفسِّق، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عُرف بأنه روى مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر ، حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله ، أو بماله من شاهد ، وهو ورود حديث آخر بنحوه ، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذًّا ومنكرًا ” قال:” وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل ” .
القسم الثاني :” أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح؛ لكونه يَقْصُر عنهم في الحفظ والإتقان ، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يُعَدُّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا، ويعتبر في كل هذا – مع سلامة الحديث من أن يكون شاذًّا ومنكرًا – سلامته من أن يكون معللاً ” قال: ” وعلى هذا القسم يتنزل كلام الخطابي ” .
قال : ” فهذا الذي ذكرناه جامع لما تفرق من كلام من بلغنا كلامه في ذلك ، وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن ، وذكر الخطابي النوع الآخر “(1)اهـ .
وبهذا الكلام السابق يتضح للناظر أن ابن الصلاح –رحمه الله – عرَّف نوعي الحديث الحسن ، فتعريفه الأول خاص بالحديث الحسن لغيره ، وعليه نَزَّل كلام الإمام الترمذي .
وأما تعريفه الثاني فخاص بالحسن لذاته ، وعليه نَزَّل كلام الإمام الخطابي.

وقوله في تعريف الحسن لغيره : ” لم تتحقق أهليته ” أي من جهة الضبط ، أما من جهة العدالة فقد نص على أن الراوي مستور ، ولما كان عدم تحقق أهلية الضبط يدخل فيه من كان ضعفه شديدًا – وهو ليس مرادًا هنا – أخرجه بقوله ” غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ … ” الخ .
هذا، وقد يقال : قوله: ” لم تتحقق أهليته ” تفسير لقوله : ” مستور” لأنه تكلم بعد ذلك عن العدالة بقوله ” ولاهو متهم بالكذب في الحديث….” الخ
واعلم أن ما سبق من كلام ابن الصلاح عليه بعض الإيرادات، وهي قسمان :
أ-ما يَرِدُ عليه في تعريفه الحسن لذاته : وإن كان ابن الصلاح قد بدأ بتعريف الحسن لغيره، فإن الحسن لذاته أعلى رتبة ،والإيرادات الواردة عليه في هذا القسم كالتالي :
1- قوله : ” أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة ” صريح في اشتراطه الشهرة في العدالة ، وليس ذلك شرطًا في راوي الحديث الصحيح فضلاً عن الحسن ، وإنما يُشْتَرط فيهما أن يكون عدلاً ، وليس كل من كان عدلاً عند أحد من الأئمة؛ كان عدلاً عند غيره ، فضلاً عن أن يكون كذلك عند الكل أو الجل ، ويستبعد أن ابن الصلاح يريد هذا الشرط؛ فإنَّ واقعه وواقع غيره من العلماء ليس كذلك ،وإنما مراده مطلق العدل ، وليس العدل المطلق، وإلا فعبارة ابن الصلاح دالة على هذا الشرط ولذا لزم التنبيه، والله أعلم .
2- قوله: ” وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يُعَدَّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا “
والمنكر عند ابن الصلاح نوعان :
1 – مخالفة الراوي – فيدخل الثقة والضعيف – لمن هو أولى منه .
2- تفرد الضعيف ، وكلاهما بمعنى الشاذ – أيضًا – عنده .
فقوله : ” يرتفع عن حال من يُعَدِّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا ” احتراز من الضعيف ، الذي تفرده يُعدُّ منكرًا ، ثم اشترط بعد ذلك السلامة من الشذوذ والنكارة ، وهو احتراز من النوع الثاني من الشاذ والمنكر ، والناتج عن المخالفة .

ومع ذلك : ففي كلامه شيء من الإيهام والغموض الذي يجعل الواقف على كلامه غير مُدرك لمراده بجلاء ؛ فإن مراده : أن يكون رجال الحسن دون رجال الصحيح في الضبط ، وفوق درجة الضعف في الحفظ ، فلو عبر بذلك ، أو قال: من خف ضبطه ؛لكان أولى ، وأوضح ، و أخْصَر، والله أعلم .
3-أنه لم يشترط الاتصال، وهو شرط لابد منه في الحسن لذاته .
4- اشتراطه سلامة الحديث من النكارة – في قوله : ” ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذًّا ، أو منكرًا – حَشْو لا حاجة له ، فيغني عنه اشتراطه سلامته من الشذوذ، لاسيما على مذهبه في عدم التفريق بين المنكر والشاذ، وعلى مذهب من يفرق بين الشاذ والمنكر ؛فقد خرج المنكر بقيد ألا يكون راويه ضعيفًا ، وأيضًا فنفي الشذوذ يستلزم نفي النكارة من باب أولى(2).
ب- ما يرد عليه في تعريفه الحديث الحسن لغيره:
يرد عليه ما أُورِد على تعريف الترمذي فيما سبق، إلا أنه يستثني من ذلك ما أُورِد على الترمذي في قوله: ” وألا يكون فيه من يتهم بالكذب” ففي كلام ابن الصلاح ما يدل على السلامة – في الجملة – من الإيراد عليه في هذا الموضع ،ومع هذا ؛ فإن ابن الصلاح ترد عليه أمور لم ترد على الترمذي، وهي :
1-أنه لم يشترط نفي الشذوذ الناتج عن المخالفة للأوْلى لامجرد تفرد الضعيف، وهو شرط قد نَصَّ عليه الترمذي، إلا أن ابن الصلاح قد جعل السلامة من الشذوذ ثمرة رواية الحديث من وجهين فأكثر ، ولا يلزم من ذلك نفي الشذوذ فقد يروي الحديث ضعيفان ، مخالفيْن للثقة الحافظ أو أكثر، فيكون القول قول الثقة الحافظ ، وتكون رواية الضعيف – مع المتابعة – منكرة ، وظاهر كلام ابن الصلاح أن مطلق المتابعة يدفع الشذوذ و النكارة بقسيمها،وليس كذلك.
فالترمذي جعل انتفاء الشذوذ في التعريف شرطًا مستقلاًّ مع اشتراطه أيضًا رواية الحديث من غير وجه .
علما بأن ابن الصلاح يرى أن الشذوذ الذي بمعنى المخالفة ضعف لا ينجبر(3).
2-قوله: ” لا يخلو رجال إسناده من مستور ” يقال : لايُشْتَرط في الحديث الحسن لغيره أن يكون كذلك ، فقد لايكون في الإسناد مستور أصلاً ، ومع ذلك يكون حسنًا لغيره، فعلى سبيل المثال كون أحد رجاله مشهورًا من جهة العدالة ، لكنه ضعيف من جهة الضبط – ومن كان كذلك فلا يسمى مستورًا- فإذا جاء له عاضد مثله صار به حسنًا ، هذا إذا فسرنا قوله : ” مستور ” من جهة العدالة لا الضبط(4).
3-الإسهاب في التعريف ، مع أن الاختصار كان أليق بالمقام.
وعلى كل حال: فيمكن الاعتذار عن ابن الصلاح –رحمه الله – بأنه أراد أن يضع للحديث الحسن لغيره قاعدة تجمع جميع أفراده ، ولما كان ذلك فيه عسر ومشقة؛(5) لم يكن تعريفه دقيقًا ، ولذلك قال الإمام الذهبي –رحمه الله – في ” الموقظة”(6) ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها ، فأنا على إياس من ذلك ” اهـ.

__________
(1) ” علوم الحديث ” مع ” التقييد ” ( ص 46 – 47 ) .

(2) وانظر ” النكت ” للحافظ ( 1 / 237 ) و ” شرح النزهة ” لملا علي القاري ( ص 244 ) .

(3) انظر ” علوم الحديث مع التثييد ” ( ص 50 ) .
(4) وانظر نحو هذا الإيراد من الحافظ على ابن جماعة في ” النكت ” ( 1 / 407 ) .
(5) انظر ” مختصر علوم الحديث ” للحافظ ابن كثير ( 1 / 129 ) مع ” الباعث ” .
(6) انظر ( ص 28 )

للتواصل معنا