الأسئلة الحديثية

كم عدد طرق الحديث المتواتر التي أتّفق عليها علماء هذا الشأن؟ وما هي شروط الحديث المتواتر؟ وهل يفيد العلم الضروري أو النظري ؟

س 1: كم عدد طرق الحديث المتواتر التي أتّفق عليها علماء هذا الشأن؟ وما هي شروط الحديث المتواتر؟ وهل يفيد العلم الضروري أو النظري ؟

ج 1: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإنَّ الحديث باعتبار وصوله إلينا – أي: باعتبار عدد رواته ونقلته إلينا – ينقسم إلى متواتر وآحاد.(1)

والتواتر لغة: هو التتابع مع فترات فاصلة، وإلا فهو تواصل وتدارك، وقال السخاوى – يرحمه الله – في «فتح المغيث» (3/37):

هو – لغة -: ترادف الأشياء المتعاقبة واحداً بعد واحدٍ بينهما فترة، ومنه قوله  تعالى :﴿ثُمَّ أَرسَلنَا رُسُلَنَا تَتراَ﴾ أي: رسولاً بعد رسول بينهما فترة.(2)

والمتواتر اصطلاحاً: هو ما يخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حدّاً؛ يُعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أنّ اتفاق الكذب منهم محال، وأنَّ التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر، وأنّ ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع على صدقة، وأوجب وقوع العلم ضرورة. اهـ. من كلام الخطيب يرحمه الله في «الكفاية» (ص: 50) وعرفه الحافظ في «النزهة» (ص:21): بأنه المفيد للعلم اليقيني الضروري – اهـ ملخصاً – وعرفه الشنقيطي – يرحمه الله – في «المذكرة» (ص:100): بأنّه إخبار جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة عن أمر محسوب. ا هـ.

والمتأمل في هذه التعريفات، يجد أنَّ بعض العلماء عندما عرفوا الخبر المتواتر؛ عرفوه بشروطه وبثمرته المستفادة منه، وللخبر المتواتر شروط؛ منها ما هو متّفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه:

أولاً: الشروط المتّفق عليها:

1 – أن يرويه عدد كثير بلا حصر عدد معين(3) ؛ لأنَّ العدد المفيد للعلم الضروري يختلف باختلاف الخبر والمُخبرِ والمخْبَر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله – في «الفتاوى» (18/48 وما بعدها):

والصحيح ما عليه الأكثرون: أنَّ العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة – وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم -، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر، فيحصل العلم بمجموع ذلك، وقد يحصل العلم بطائفة دون طائفة…  إلى أن قال –يرحمه الله: وأمّا عدد ما يحصل به التواتر؛ فمن الناس من جعل له عدداً محصوراً؛ فقيل: أكثر من أربعة، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعون، وقيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل غير ذلك، وكل هذه الأقوال باطلة لتكافئها في الدعوى.

والصحيح الذي عليه الجمهور: أن التواتر ليس له عدد محصور، والعلم الحاصل بخبر من الأخبار يحصل في القلب ضرورة، كما يحصل الشِّبَع عقيب الأكل، والريُّ عند الشرب، وليس لما يُشبع كل واحد ويرويه قدر معين، بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام، وقد يكون لجودته كاللحم، وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله، وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح أو غضب أو حزن أو نحو ذلك – إلى أن قال – يرحمه الله -: وإذا عُرف أنَّ العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد؛ عُلم أنَّ من قيّد العلم بعدد معين وسوّى بين جميع الأخبار في ذلك؛ فقد غلط غلطاً عظيماً؛ ولهذا كان التواتر ينقسم إلى عام وخاص، فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السُّنَّة ما لم يتواتر عند العامّة: كسجود السهو ووجوب الشفعة وحمل العاقلة العقل، ورجم الزّاني المحصن، وأحاديث الرؤية، وعذاب القبر، والحوض والشفاعة، وأمثال ذلك… إلخ ما قال – يرحمه الله -.

وذكر الصنعاني – يرحمه الله – في «التوضيح» (2/411): أن التواتر قد يحصل لباحث دون باحث، لأنَّ المدار على كثرة الاطلاع، وليس الناس فيه سواء.(4)

وقال الشنقيطي – يرحمه الله – وبطلان القول بالأربعة فما دونها واضح؛ لوجوب تزكية الأربعة في شهادتهم على الزنا… ا هـ (ص:100) من «المذكرة».(5)

واختار السيوطي – تبعاً للإصطخري – أنَّ أقل عدد التواتر عشرة، وقال: لأنّه أوّل جموع الكثرة. ا هـ من «التدريب» (2/177).(6)

واختار ابن حزم – يرحمه الله – في «الأحكام» أن التواتر يثبت باثنين تحيل العادة تواطؤهما على الكذب.(7)

والذي تميل إليه نفسي – في الجملة – أنَّ من الأربعة فما دون لا يفيد العلم الضروري الذي يهجم على السامع ويضطرُّه للتصديق به، لما سبق عن الشنقيطي – يرحمه الله -، وما فوق الأربعة فالخلاف فيه، وكون العدد غير محصور بعدد معين هو الصواب. والله أعلم.(8)

2 – أن يكون هذا العدد مستوياً في الطرفين والوسط، في عدد يقع العلم بخبره، كما قاله والد شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر «المسودة» (ص:235).

أو بتعبير آخر:

ألا يقلَّ العدد في جميع طبقات السند عن العدد الكثير؛ الذي هو بدون حصر عدد معين.

والمقصود بالاستواء: ألا يقل العدد عن المعتبر في هذا الخبر بعينه؛ لا ألا يزيد، فإنَّ ذلك من باب أولى، كما قال الحافظ في «النزهة»: فإذا قلّ العدد في طبقة من طبقات السند عن العدد المشار إليه آنفاً لا يكون متواتراً.(9)

3 – أن تحيل العادة تواطؤ أو اتفاق هذا العدد على الكذب؛ فالتواطؤ ما كان عن مشورة وقصد، والاتفاق ما كان بدون قصد(10 )وبهذه الشروط سقط تواتر اليهود في قولهم: «عزيز ابن الله»، وتواتر النصارى في قولهم: «المسيح ابن الله»، وتواتر المجوس على باطلهم، وتواتر الرافضة على قولهم بالوصيّة لعلي – رضي الله عنه -، وتواتر أهل البدع والأهواء على باطلهم؛ لأنَّ أصل هذا الباطل كلّه أنَّ عدداً يسيراً تكلّم به، ثم تلقاه عنهم مقلدوهم وأتباعهم، ثم كثر الناقلون لذلك فذاع واشتهر، وهو باطل من أساسه.

4 – أن يكون مستند هؤلاء النقلة أمراً محسوساً، كقولهم: سمعنا، ورأينا وشاهدنا… إلخ.

ولا يكون مستندهم الأمر الاجتهادي القائم على العقل، فمن الممكن أن يجتمع عدد كثير على باطل مستنده العقل، كما هو الحال في أهل الأهواء والمقالات الخبيثة.(11)

5 – أن يكون خبرهم عن علم ويقين لا عن ظن، ويمثلون لذلك بأن أهل قرية لو قالوا: رأينا طائراً نظن أنَّه غراب، دون أن يجزموا بكونه غراباً؛ لما كان خبرهم مفيداً للعلم بأن الطائر غراب.(12)

ثانياً: الشروط المختلف فيها:

منهم من شرط أن العدد الذي ينقل الخبر؛ لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، وهذا باطل، وقد ردّه ابن حزم – يرحمه الله -، لأنَّ سكان العالم يمكن حصرهم، فكيف يقال: لا تواتر إلا بعدد غير محصور(13) ؟!

فالصواب أنَّ العدد يكون غير محصور بعدد معين، لكن يمكن حصره لو أراد العادُّ أن يعدَّه، ومنهم من قال: يجب ألا يكونوا على دين واحد، وأن تختلف أنسابهم وأوطانهم (14)، ويًغني عن ذلك: اشتراط أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.

وذهبت الشيعة إلى اشتراط أن يكون بينهم الإمام المعصوم، وتعقبه الرازي بأنَّه باطل، لأنَّ المفيد – حينئذٍ – للعلم هو قول المعصوم، لا خبر التواتر16، هذا ومن المعلوم أنَّ دعوى الإمام المعصوم من ضلالات الشيعة، واشترط اليهود أن يكون في المخبرين أصحاب ذلة وصغار ومسكنة، وإلا فلا يؤمن تواطؤهم على الكذب، وعدَّه إمام الحرمين ساقطاً15 والأمر كما قال؛ لأن أهل الذلّة والمسكنة لا يؤمن عليهم الكذب رغبة أو رهبةً، والله أعلم.

(تنبيه):

التواتر يكون في الأخبار العامّة الدنيوية، ويكون في الأحاديث النبوية، فمطلق الخبر كموت ملك وقيام آخر، وكسقوط خلافة وقيام أخرى، ووجود مدن وهدم أخرى، وهكذا لا يشترط في هذه الأخبار أن يكون رواتها مسلمين، بخلاف الحديث النبوي على صاحبه – الصلاة والسلام -، فإنَّ الراوية شرف ولا تكون إلا لمسلم، انظر «التبصرة» للشيرازي (ص: 297) و«الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله – (18/51).

· ومن المفيد أن أشير إلى أقسام التواتر:

1 – فباعتبار شيوعه واشتهاره ينقسم إلى: عام وخاص، الأوّل يحصل للجميع والثاني لا يحصل إلا لعلماء الفن.17

2 – وباعتبار أسانيده: فمنه ما ينقله عدد كثير غير منحصر بلا عددٍ معين ومنه ما ينقله طبقة عن طبقة أو كافة عن كافة – كما هو الحال في نقل القرآن الكريم -.

3 – وباعتبار لفظه: فهو ينقسم إلى متواتر لفظاً ومعنى18 مثل حديث: «من كذب عليّ متعمداً؛ فليتبوأ مقعده من النار» فقد جمعت طرقه في تحقيقي لـ «فتح الباري) والمسمى: «تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري» فبلغ عدد رواته من الصحابة ثلاثة ومائة، انظر ك/ العلم برقم (64) من الكتاب المذكور – يسر الله إتمامه وطبعه والنفع به في الدّارين.

والقسم الثاني: التواتر المعنوي، ومثَّل له السيوطي – يرحمه الله – بحديث رفع اليدين في الدّعاء، وذكر أنَّه قد جمع طرقه في جزء، فبلغت مائة حديث في وقائع مختلفة، لكن رفع اليدين في الدعاء هو القدر المشترك في هذه الأحاديث، انظر «التدريب» (2/180).

4 – وهناك نوع ثالث: سمّاه الشاطبي – يرحمه الله – في «الموافقات» (1/36) بالشّبيه بالمعنوي مثل اليقين بوجوب الصلاة، وبيَّن المحقق للكتاب الفرق بين المعنوي والشبيه بالمعنوي فارجع إليه.19

وقد ورد في السؤال: ما هو العلم المستفاد من التواتر؟ هل هو ضروري أو نظري؟

وقبل ذلك أريد أن أشير إلى أن أهل العلم متفقون على أنَّ التواتر يفيد العلم، وقد نقل هذا الاتفاق جمع من العلماء، وخالف في ذلك طائفتان: (البراهمة) و(السُّمّنية)20وقد تكلّم على الطائفتين غير واحد، انظر تحقيق «التبصرة» و«المذكرة» للشنقيطي (ص:98) وهما طائفتان كافرتان، الأولى نسبة إلى رجل منهم يقال له: (براهم) وهم يقولون بنفي النبوات وهم قوم من اليهود، والأخرى فرقة هندية من عبدة الأصنام، وهم دهريون يقولون بالتناسخ، وينكرون وقوع العلم بغير المحسوس، ويُنسبون لصنم اسمه (سُمَن) – وانظر المرجعين السابقين -.

واحتجّوا بأنَّ كل واحد من نقلة التواتر يجوز عليه بمفرده الخطأ والوهم، فكذلك يجوز عليه إذا كان في الجمع، وحيث إن الجمع عبارة عن مجموع الأفراد، فيجوز على الجمع الوهم، ورد ذلك الشيرازي بأن ذلك غير مسلَّم، ألا ترى أن كل واحد من الجماعة إذا انفرد يجوز أن يعجز عن حمل الشيء الثقيل، ثم لا يجوز أن يعجزوا عن ذلك عند الاجتماع.

وبعد ذلك أعود للجواب على السؤال: فأقول:

إنَّ العلم المستفاد من التواتر، علم ضروري، فإنه يهجم على السامع، سواء كان عالماً أم عاميَّاً كبيراً أم صغيراً مميزاً، ويضطر السامع إلى التصديق بالخبر، وقيل: إنَّه يفيد العلم النظري، والصواب الأول21، والفرق بين العلم الضروري والنظري، قد ذكره الحافظ – يرحمه الله – في «النزهة» (ص:21-22) وعد بينهما فرقين:

1 – أنَّ الضروري يضطر السامع للتصديق به، والنظري – أو الاستدلالي – لا يكون إلا عن نظر واستدلال، بمعنى: أنَّ السامع يقول: بما أن الخبر قد رواه عدد كثير، وبما أنَّ العادة تمنع تواطؤهم على الكذب، إذاً فالخبر يجب تصديقه.

2 – أن الضروري يحصل لكل أحد، فكل العقلاء الآن يؤمنون بوجود مكة، وإن لم يرها كثير منهم.

وأمّا النظري فلا يحصل إلا لمن له أهلية النظر والاستدلال، هذا ما ذكره الحافظ، لكنَّه ذكر أيضاً في «النزهة» (ص:26) ما يشير إلى فرق ثالث، ألا وهو أنَّ الضروري يفيد اليقين، وأنَّ النظري يفيد الظن، ومن تأمّل عبارة الحافظ استنبط منها هذا الفرق الثالث، والله أعلم.23

وبعد ظهور هذه الفروق بين الضروري والنظري، فالعلم المستفاد من المتواتر ضروري؛ لأنَّه يحصل لكل أحد: لمن له أهلية النظر وللصبي والعامي اللذين ليس لهما أهلية النظر22، وإذا كان الحديث المتواتر يفيد العلم الضروري، ويقطع من وقف عليه بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلخ، علمنا أنَّه ليس من مباحث علوم الحديث، تلك العلوم التي يُعْرف بها أحوال الراوي والمروي من حيث القبول أو الرد، لأنَّ المتواتر صحيح بدون بحث فيه حسب قواعد هذا الشأن، إنَّما هذه القواعد تجري على أخبار الآحاد.24

وتتمة للفائدة: ومن باب قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح وقد سئل عن ماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أخرجه أبو داود (83) والنسائي (59) وغيرهما، أتكلّم على خبر الواحد أو خبر الآحاد.

فخبر الآحاد هو ما عدا التواتر، أو هو ما لم يدخل في حد التواتر25، لأنَّ القسمة ثنائية عند الجمهور، خلافاً لمن جعل القسمة ثلاثية، فجعل المستفيض واسطة بين المتواتر والآحاد. ا هـ من «المذكرة» للشنقيطي (ص:102).

وخبر الواحد إنّما يفيد غلبة الظن – في الجملة -، ولا نستطيع أن نقطع بصحة نسبته إلى قائلة، إنما نرجح ذلك، وليس ذلك من باب العمل بالظن المذموم كما في حديث: «إيَّاكم والظن…» الحديث أخرجه البخاري (5143، 6064)، ومسلم (563)، أو الشك، أو القول على الله – عزّ وجلّ – بغير علم كما في قوله تعالى: ﴿وَلا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمُ﴾26.

ومن الأدلّة على أنَّ الأصل في خبر الواحد لا يفيد اليقين: حديث أم سلمة مرفوعاً في «الصحيحين»: «إنّكم تختصمون لدي، وإنَّما أنا بشر، ولعل أحدكم ألحن بالحجة من أخيه، فأقضي له، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، إنما أقطع له قطعة من نار» وفي خبر المتلاعنين: «الله يعلم أنَّ أحدكما لكاذب، فهل فيكما من تائب» متّفق عليه27، واللفظ للبخاري، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى بما ظهر له من أدلة وبينات، ومع ذلك فلم يقطع بأنّه قد أعطى صاحب الحق حقه، وهذا دليل على وجوب العمل بالبينة أو خبر العدل دون قطع بصدق المخبر، لكن بغلبة الظن، كما نعمل بفتوى المفتي وبشهادة الشاهد مع احتمال أن يكون الأمر على خلاف ذلك، لكنّه احتمال مرجوح، لأنَّ الأصل صدق الثقة وعدالة الشاهد، والعمل بالظن الراجح ليس مذموماً، فإن الممارس لهذه العلوم الشرعية يعلم صدق ذلك، ألا ترى الناقد يصحح حديثاً اليوم، ثم يظهر له بعد ذلك أن فيه علة فيتراجع عن ذلك؟ فهل يقال: إنَّه قد تراجع عن اليقين الذي استمر عليه فترة من الزمن؟!! وهل يصحُّ أن يتراجع السامع عن أمر قد اعتقده يقيناً، كوجود مكة والمذاهب الأربعة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوجد قبره الشريف بالمدينة، هل هذه القطعيات وما شاكلها تقبل التراجع عنها يومياً من الدهر؟!! كلا، إنَّما التراجع شأن الظنيات، فيترجح عندي اليوم قول، وأتراجع عنه بعد ذلك لدليل أرجح منه وقفت عليه بعده، والعلماء الذين يفرقون بين قول أحدهم: «صحيح الإسناد» و«حديث صحيح» يدل على أنَّهم لم يجزموا بصحة الحديث – فضلاً عن القطع بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بمجرد أنَّ السند الذي جاء به الحديث ظاهره الصحة، بل اشترطوا جمع طرق الحديث، لمعرفة هل هو سالم من الشذوذ والعلة أم لا؟

ومن المعلوم أنَّ الثقة قد يهم، كما أنَّ الكذوب قد يصدق كما في حديث: «صدقك وهو كذوب) أخرجه البخاري معلقاً والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (959) وهو صحيح. وهذا أمر نلمسه في حياتنا، فلا التفات إلى ما قاله أبو محمد بن حزم – يرحمه الله تعالى – بأنَّ راوي الحديث معصوم عن الخطأ، لأنَّ الله قد حفظ لنا الدين إلى آخر ما قال يرحمه الله. وللمخالف لابن حزم أن يقول: نعم، إنَّ الله قد حفظ الدين28، لكن ذلك ليس باعتبار أفراد المسلمين فرداً فرداً، إنما هو باعتبار الأمّة جميعاً، فالأمة جميعها لا يلتبس عليها باطل بحق، ولا يغيب عنها حق؛ لأنَّها لا تجتمع على ضلالة، كما في الحديث الصحيح وقد تكلمت عليه بتوسع في كتابي «كشف الغمة ببيان خصائص رسول الله صلى عليه وعلى آله وسلم والأمة». إنَّما يقع هذا لبعض أفرادها، فمن الممكن أن أقف على خبر الثقة، ويكون عند بقية أفراد الأمة ما يدل على خطأ هذا الثقة فيما نقله، فالقطع في حقي بصدق ما قاله الثقة، لا يتجه، لوجود ما يدل على خطئه عند غيري – وإن لم يبلغني – لكن الأمّة كلها لم يلتبس عليها هذا الخطأ، بدليل وجوده عند غيري، ولذلك فابن حزم – يرحمه الله – لا يقول بالشذوذ إذا خالف الثقة أو الصدوق من هو أوثق منه؛ لأنه يرى أنَّ خبر العدل يفيد اليقين29، فكيف يترك يقيناً ليقين آخر؟! وإذا كان خبر الآحاد يفيد العلم اليقيني فما معنى التفرقة بين التواتر والآحاد من حيث الفارق العملي؟ ومعنى كلام ابن حزم: أن الآحاد إذا عارض التواتر، ولم يمكن الجمع فلا ترجيح للمتواتر على الآحاد، وهذا مخالف للصواب.

وإذا كان خبر الثقة الواحد – أعني به: ما دون التواتر – يفيد اليقين، فلماذا رجّح العلماء الأسانيد العالية على الأسانيد النازلة؟ فمن المعلوم أنَّهم رجّحوا السند العالي لقلة رجاله؛ لأنَّه كلما قلَّ عدد النقلة، كلما قل احتمال الوهم، وعكسه عكسه، فلو كان كل واحد يفيد خبره اليقين، فلا وجه لما قالوه – وإن نزل الإسناد – لا شك أن في الأسانيد العالية مزايا أخرى، فإنَّها تدل على الرحلة والاجتهاد في الطلب، لكن المقصود من الرحلة والاجتهاد تقليل احتمال الوهم والخطأ30 وأيضاً: فأنا أسأل من يقول: بأنَّ خبر الواحد يفيد اليقين: هل سماعك الحديث الذي صح سنده المكون من خمسة رواة في «سنن أبي داود» – مثلاً – يستوي في اليقين مع سماع الصحابي لهذا الحديث من فِيّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ إن قلت: نعم، فقد كابرت، وإن قلت: لا، فقد رجعت عن قولك، لأنَّ الترجيح في باب الظنيّات لا القطعيّات، وأيضاً فمن المعلوم أنَّ التصحيح للحديث فرع التوثيق للرواة نقلة هذا الحديث، فأسأل: كيف يوثق علماء هذا الفن رواة الأحاديث؟.

الجواب: إمّا أن يكون المعدَّل معاصراً للمعدَّل، أو متأخراً عنه ولم يره، إنما اطّلع على حديثه، فإن كان معاصراً فإمّا أن يكون قد حضر له مجلساً، ورآه يحدِّث بأحاديث مستقيمة، فوثّقه، وقد يكون الأمر بخلاف ذلك – وإن كان خلاف الظاهر مرجوحاً -، وإمّا أن يكون قد اختبره في أحاديث – قلّت أو كثرت – فمرَّ فيها فوثقه، وقد يكون حديث عهد بما سئل عنه، ولو سأله عن غير هذه الأحاديث لاشتبهت عليه – وإن كان هذا الاحتمال مرجوحاً -، وإن كان المعدِّل متأخراً، فتوثيقه راجع إلى سبر روايات المحدّث ومقارنتها بحديث غيره، وقد يتوسع الناقد فيسبر كل حديث المحدّث، وقد لا يفعل، فالتوثيق اجتهادي لا قطعي، ونحن نرى كثيراً من التراجم قد اختلف فيها الأئمة بين معدِّل ومجرِّح، ثم نجتهد في الجمع بين هذه الأقوال، ونستخرج حكماً نهائياً في الرجل بالتعديل أو بالتجريح31 فحُكمنا اجتهاد ظنّي مَبْنِيٌّ على اجتهاد ظنّي، فكيف يصير بعد ذلك يقينيَّاً قطعيّاً؟.

وكذلك استشهادنا بالأحاديث الضعيفة ضعفاً خفيفاً، وحكمنا لها بالقوة إذا تعددت طرقها – على تفاصيل في ذلك يعرفها أهل الشأن – هذا الصنيع من أهل العلم قديماً وحديثاً يدل على أنّ الحديث إذا حُكم عليه بالضعف، فمعنى ذلك أنَّ الراجح ضعفه، وإن كان هناك احتمال بصحته، فلما تعددت الطرق، كثرت احتمالات القوة، فاشتد الحديث وارتقى إلى الثبوت صحة أو حسناً، وقد اختلفت أقوال أهل العلم في هذا الباب، فقد تستشهد بطريق بناءً على قاعدة لا يراها غيرك فيرد الحديث. وهذا يدل على ما قلته في الحديث الذي تترجّح صحته، ولذلك فابن حزم – يرحمه الله – نظراً لأنّه لا يقول بقول الجماهير في هذا الأمر، فلا تراه يقول بالحديث الحسن لغيره، ولا يعمل بالشواهد والمتابعات، فيكاد يكون الضعيف عنده مقطوعاً بعدم نسبته إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيستوي عنده الضعف والموضوع والباطل، وهذا خلاف صنيع علماء وفرسان هذا الفن، فالعجب من طلبة العلم الذين يرددون كلام ابن حزم – يرحمه الله -، ولا يلتزمون به، فهم ظاهريون نظريّاً، وقائلون بقول جماهير الحديث والأصول والفقه عمليّاً – من حيث لا يشعرون -.

أرجع فأقول: إنّ العمل بغلبة الظن – للأدلّة السابقة – ليس عملاً بالشك، فإنَّ الظن المذموم والشك يستوي فيهما جانب القبول والرد، أو يترجح جانب الرد، وهذا بخلاف ترجيح جانب القبول والعمل بالقطع، أو الظاهر عمل بالعلم، ومن تأمل في المسائل الفقهية المختلف فيها، أو في الأحاديث المختلف في صحتها وضعفها – وإن ترجح للباحث وجه من الوجوه – علم أنّ العمل بالراجح والظاهر وبما تطمئن إليه النفس أو تميل إليه، ليس من باب العمل بالشك، ولا من باب القول على الله بغير علم، لأنّ العلم منه قطعي وظاهر، بالعمل بهما أو بأحدهما عمل بالعلم 32، بقي أن يقال: وخبر الآحاد الذي تحفه قرينة 33، هل يفيد اليقين؟ وقد مثّلوا لذلك بآحاد «الصحيحين» التي حفتها قرائن كثيرة: مثل علو قدر الشيخين، ورسوخ قدمهما في هذا الفن، وتلقي الأمة للكتابين بالقبول… إلخ ما ذكره العلماء في ذلك، فمنهم من جزم بإفادتها العلم اليقيني النظري فقال: بما أنَّ الأمة تلقت الكتابين بالقبول، وبما أنَّ الأمة لا تجتمع على باطل، إذا فالكتابان بما فيهما من متواتر وآحاد قطعيّاً الثبوت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومنهم من خالف ولم يسلم بالمقدمتين أو بإحداهما، وعلى إثر ذلك فلم يسلم بالنتيجة، وعندي أنَّ في الأمر تفصيلاً – بخلاف الأحرف المنتقدة عليهما – فمن أحاديث الشيخين – وإن كان آحاداً – ما يقطع السامع له بصحته إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومنها ما لا يبلغ هذه المنزلة، وذلك راجع إلى قرائن أخرى تَحُف بعض آحاد «الصحيحين» خلاف ما سبق ذكره من قرائن، فإنّ ما ذكروه من القرائن المشار إليها آنفاً، لا يلزم منه القطع بخبر الآحاد، وليس هناك ما يمنع من إفادة الخبر الواحدة اليقين إذا حفته قرائن34، ومثَّلوا لذلك بما لو أخبر رجل بموت رجل، ثم رأينا ابنه يجري في الطريق على هيئة غير عادته أشعث أغبر، وسمعنا صياحاً من بيت الذي ذُكر لنا أنّه قد مات، ورأينا بعض الناس يضع خشبة النعش أمام داره، ورأينا آخرين يحفرون قبرا، مع علمنا السابق بأن المذكور كان في حالة مرض شديدة، فلا شك أنَّ هذه القرائن تفيد اليقين، والله أعلم.

ومما ينبغي التنبيه عليه: أنَّ أحاديث الآحاد وإن كانت – في الأصل – لا تفيد اليقين إلا أنَّه يجب العمل بها، ولم يخالف في ذلك إلا الروافض ومن جرى مجراهم، واستدلوا على عدم العمل بخبر آحاد، بأخبار آحاد، وهذا من تناقضهم، وقد ذكر ابن حزم – يرحمه الله – فصلاً ممتعاً في أدلة العمل بخبر الآحاد في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» فراجعه (1/121-132) فقد أفاد فيه وأجاد، وذكر بعضه الشيرازي في «التبصرة» (ص301-311)(35) وكما أنَّه يجب العمل بخبر الآحاد وإن لم يتابع، خلافاً لأبي علي الجُبائي36، وكذا يجب العمل به وإن كان في أمر تعم به البلوى، وقد فرّق بعض الأصوليين بين الخبر الذي تعم به البلوى، فيقبل فيه خبر الواحد، وبين الخبر الذي تتوفر الدواعي على نقله37، كقتل خطيب على منبر أو ملك في سوق، فلا يقبل فيه خبر الواحد، هذا وخبر الآحاد ينقسم إلى مستفيض أو مشهور وعزيز وغريب38، هذا ما يسر الله به من الجوانب على هذا السؤال، وإن كنت قد استطردت في الجواب، وتكلّمت على مسائل لم ترد في السؤال، وما ذلك إلا لمسيس الحاجة إليها، ولكثرة الاختلاف بين بعض طلبة العلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله المستعان.

الحواشي


1- انظر «الكفاية» للخطيب (ص:50).

2-  انظر «اللسان» (5/275)، و«ترتيب القاموس» (4/569) مادة وتر، وقال الجوهري في «الصحاح» (2/843): والمواترة: المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينهما فترة وإلا فهي مداركة ومواصلة.

ومواترة الصوم: أن تصوم يوما وتفطر يوماً – أو يومين -، وتأتي به وتراً وتراً، ولا يراد به المواصلة؛ لأن أصله من الوتر، وكذلك واترت الكتب فتواترت؛ أي: جاءت بعضها في إثر بعض وتراً وتراً من غير أن تنقطع. اهـ.

قال الطوفي في «شرح مختصر الروضة» (2/73): والذي يظهر أنَّ التواتر: التتابع المتدارك بغير فصل، فأمّا فهم الفصل بين الرسل من قوله – تعالى -: (ثم أرسلنا رسلنا تتراً) – الآية -؛ أي: واحداً بعد واحد؛ فليس من اللفظ بل مما ثبت من الفترات بينهم والذي أجده يبادر إلى الذهن من التواتر أنّه التتابع المتدارك، والله – سبحانه وتعالى – أعلم.

3 – قوله: أن «يرويه عدد كثير»، قال الزركشي في «البحر المحيط» (4/331): ليحترز به عن خير قوم يستحيل كذبهم لسبب آخر خارج عن الكثرة. أهـ. وفصل الطوفي في «شرح مختصر الروضة» (2/74) فقال احترز من خير الواحد المعصوم كآحاد الملائكة والرسل فإنه خير قوم يمتنع تواطؤهم على الكذب بل امتنع عليهم أصلاً لعدم الكثرة. أهـ.

4 –قال الصنعاني – يرحمه الله – في «إجابة السائل شرح بغية الآمل» (ص:94-95): «إنَّما ضابطه حصول العلم، إلا أن إفادته العلم تختلف باختلاف المخبرين؛ في التدين والجزم، والتنزه عن الكذب، وتباعد الأقطار وارتفاع تهم الأغراض، والاطلاع من المخبرين على المخبر به عادة كدخاليل الملك؛ إذا أخبروا عن أحواله الباطنة، وتختلف باختلاف السامع، فكم من سامع يحصل له العلم بخبر جماعة لا يحصل لآخر بذلك الخبر؛ لاختلافهم في تفرس أخبار الصدق وانتفائها والإدراك والفطنة؟! وتختلف باختلاف المخبر عنه كأن يكون خبراً خفيّاً أو غريباً، أو ظاهراً، أو مبتدلاً، إذ لا يخفى «العضد وحواشيه».

5-  جزم بهذا القول القاضي أبوبكر فقال: إنَّهم يحتاجون إلى التزكية إجماعاً، فلا يفيد خبرهم العلم، اهـ من «شرح مختصر الروضة» للطوفي (2/59) وإليه ذهب الشوكاني في «الإرشاد» من (42).

6-  الإصطخري: هو الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى أبو سعيد قاضي قم، سمع أحمد بن منصور الرمادي وعباس الدوري وغيرهما، وروى عنه الدّارقطني وبن شاهين وغيرهما، قال الخطيب في «تاريخه»: وكان الإصطخري أحد الأئمة المذكورين، ومن شيوخ الفقهاء الشافعيين، وكان ورعاً، زاهداً، متقللاً… إلخ، اهـ من «تاريخ بغداد» (7/268-270).

وقال الزركشي في «البحر المحيط» (4/232): ونسب للإصطخري: والذي في القواطع لا يجوز أن يتواتر بأقلَّ من عشرة، وإن جاز أن يتواتر العشرة فما زاد؛ لأنَّ ما دونها جمع آحاد فاختص بأخبار الآحاد والعشرة، فما زاد من جمع الكثرة. أهـ وقد ضعّفه الشوكاني كما في «الإرشاد» (ص:42).

7-   «الإحكام في أصول الأحكام» (1/120) تحقيق الشيخ أحمد شاكر يرحمه الله.

قال أبو محمد – يرحمه الله -: «… ولكنّا نقول: إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك – وقد تيقنّا أنّهم لم يلتقيا ولا دسسا، ولا كانت لهما رغبة فيما أخبرا به ولا رهبة منه ولم يعلم أحدهما بالآخر – فحدّث كل واحد منهما مفترقاً عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله، أو ذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء «الجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنَّها شاهدت» فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه… إلخ، اهـ.

وفي «الملل والنحل» (1/7): فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعداً مفترقان قد أيقنا أنَّهما لم يجتمعان ولا تشاعرا فلم يختلفا فيه بالضرورة يعلم أنَّه حق متيقن مقطوع به على غيبه… إلخ.

8- قال الشوكاني في «الإرشاد» من (42): «الشرط الثالث» أن يبلغ عددهم إلى مبلغ يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب، ولا يفيد ذلك بعدد معين، بل ضابطه حصول العلم الضروري به، فإذا حصل ذلك علمنا أنَّه متواتر، وإلا فلا، وهذا قول الجمهور. اهـ.

9«نزهة النظر» (ص:55) بتحقيق الحلبي، وانظر «إجابة السائل» (ص:95) للصنعاني، و«إرشاد الفحول» (ص:42) للشوكاني.

10- فرق الحافظ ابن حجر – يرحمه الله – بين التواطؤ والتوافق، فقال: إنَّ التواطؤ هو أن يتّفق قوم على اختراع معين بعد المشاورة والتقرير؛ بأن لا يقول أحد خلاف صاحبه، والتوافق حصول هذا الاختراع من غير مشاورة بينهم ولا اتفاق – يعني: سواء كان سهواً أو غلطاً -.

انظر حاشية الشيخ علي بن حسن الحلبي على «نزهة النظر» (ص:56) وقد أشار إلى ذلك الحافظ نفسُه في «النزهة» (ص:53)، وانظر «اللسان» (1/198-199) مادّة وطأ، و(10/382-383) مادة وافق.

11- قال الصنعاني في «إجابة السائل» (ص:95): وتُعُقِّبَ بأن الحس قد يقع الغلط فيه، وأجيب بأنّه يمتنع وقوعه عادة من الجمع المعتبر هنا. اهـ.

وقال الشوكاني في «الإرشاد» (ص:42): ومن تمام هذا الشرط أن لا تكون المشاهدة والسماع على سبيل غلط الحس – كما في أخبار النصارى بصلب المسيح – عليه السلام – وأيضاً لا بد أن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم، فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك؛ لم يوثَقْ بخبرهم، ولا يلتفت إليه. اهـ.

12 – وقيل: هذا الشرط داخل ضمن الشرط الذي قبله؛ أي: داخل ضمن قوله: «أن يكون مستند هؤلاء النقلة الحس» فالمحسوس هو المعلوم به – قطعاً -.

انظر «الإرشاد» للشوكاني (ص:41)، و«إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر» (3/96-97).

13-   انظر «الإحكام» لابن حزم (1/119)، ورده كذلك ابن قدامة – يرحمه الله – حيث قال في «روضة الناظر» (1/200): ولا يشترط أيضاً أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد؛ فإنَّ الحجيج إذا أخبروا بواقعة صدّتهم عن الحج، وأهل الجمعة إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت من الصلاة، علم صدقهم، مع دخولهم تحت الحصر، وقد حواهم مسجد فضلاً عن البلد. اهـ.

14 – قال الطوفي في «شرحه» (1/960): وإنَّما اشترط هذا الشرطَ اليهودُ – لعنهم الله -؛ ليقدحوا في أخبار النصارى بمعجزات المسيح وفي أخبار المسلمين بمعجزات محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنَّ كل واحدةٍ من الطائفتين منحصرة في دين؛ واحد.

أمّا اليهود، فقد أمنوا ذلك؛ لأنَّ الطائفتين الأخريين يوافقونهم على معجزات موسى عليه السلام ونبوّته… إلخ، اهـ.

15- وهذا الشرط ليس بصحيح؛ لأنَّه لو اتفق أهل بلد من بلاد الكفار على الإخبار عن قتل سلطانهم أو حصول فتنة، فإنَّ العلم يحصل بخبرهم مع كونهم كفاراً، فضلاً عن كون الإمام المعصوم ليس فيهم، ثم إنَّه لو كان هذا الشرط صحيحاً فإن العلم يحصل بخبر الإمام المعصوم بالنسبة لمن سمعه لا بخبر المتواتر كما نقل المؤلف عن الرازي. «وانظر إتحاف ذوي البصائر» للدكتور عبدالكريم النملة (3/116).

16-   انظر «البرهان» لإمام الحرمين (1/581-582).

هذا وقد ذكر الإمام الشوكاني هذه الشروط في «إرشاده» (ص:42) ثم قال: ولا وجه لشيء من هذه الشروط وأما الشروط التي ترجع إلى السامعين فلا بدّ أن يكونوا عقلاء إذا يستحيل حصول العلم لمن لا عقل له، والثاني أن يكونوا عالمين بمدلول الخبر، والثالث أن يكونوا خالين عن اعتقاد ما يخالف ذلك الخبر لشبهة أو تقليد أو نحوه، اهـ.

17- انظر «مجموع الفتاوى» (18/51)، وقال ابن القيم يرحمه الله في «مختصر الصواعق» (465، 466): فإنَّ ما تلقاه أهل الحديث بالقبول، والتصديق فهو مُحصِّل العلم مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإنَّ الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم دون غيرهم، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلّمين، والنحاة، والأطباء، وكذلك لا يعتبر في الإجماع على صحة الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله وهم علماء الحديث العالمون بأحوال نبيِّهم، الضابطون لأقواله وأفعاله» اهـ.

وعلى هذا فيشترط في المتواتر الخاص كنقل القرآن والأحاديث النبوية الإسلام والعدالة أمّا في عموم الأخبار فلا يشترط في الراوي الإسلام ولا العدالة، وكلام الأصوليين إنّما هو في الخبر المتواتر على وجه العموم والله أعلم، انظر «معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة» (ص:144) للجيزاني.

18 —   قال الصنعاني يرحمه الله في «إجابة السائل» (96-98):

التواتر ينقسم إلى: لفظي: وهو اتفاق الرواة على لفظ واحد عمن يروونه عنه…

وأمّا التواتر المعنوي وهو اختلاف ألفاظ المخبرين عن خبر رووه واتفقت ألفاظهم على معناه -؛ فإنَّ كثير واسع وعليه مدار غالب التواتر، ويفيد تواتر القدر المشترك، ومثاله تواترُ شجاعة علي عليه السلام -، فإن الأخبار تواترت عن وقائعه في حروبه من أنَّه فعل في بدر كذا وكذا، وفي أُحد كذا وهزم يوم خيبر كذا ونحو ذلك؛ فإنَّها تدل بالالتزام على تواتر شجاعته… إلخ.

19- ذكر ذلك الشيخ محمد بن عبدالله دراز في حاشيته على «الموافقات» (1/36)، فقال: وليس تواتراً معنوياً لأنَّ ذاك يأتي كله على نسق واحد كالوقائع الكثيرة المختلفة التي تأتي جميعها دالّة على شجاعة علي مثلاً بطريق مباشر، أمّا هذا فيأتي بعضه دالاً مباشرة على وجوب الصلاة، وبعضه بطريق غير مباشر، لكن يستفاد منه الوجوب كمدح الفاعل لها، وذم التارك والتوعد الشديد على إضاعتها، وإلزام المكلف بإقامتها ولو على جنبه إن لم يقدر على القيام، وقتال من تركها… إلخ، ولذلك عده شبيهاً بالمعنوي ولم يجعله معنوياً، اهـ.

20 – قال الطوفي في «شرح مختصر الروضة» (2/75): وذلك؛ لأنَّهم حصروا مدارك العلم في الحواس الخمس فقالوا: لا سبيل إلى إدراك علم من العلوم إلا بإحدى هذه الحواس، وزيَّف الطوفي يرحمه الله قولهم هذا فقال: إنَّ القطع حاصل بوجود البلدان والأقاليم النائية كمكة ومصر وبغداد والهند والصين وبوجود الأمم الخالية كأمة نوح وإبراهيم، وغير ذلك مما يكثر، وحصول العلم بذلك لا من جهة الحس ولا العقل إنّما هو بالتواتر فدل على أنّه يفيد العلم.

وقال «محقق الروضة» (1/190): فإن قال قائل: لا فائدة في البحث مع هؤلاء؛ لأنَّهم قوم خارجون عن أهل الشرائع، وهذا البحث من مباحث أصول الفقه الإسلامي!! فنقول: نعم، نقول بقولك؛ لو كان هذا القول محصوراً بهم ولكنّنا نشاهد الكثير من قومنا وأهل زماننا ممن يشتغل بالفلسفة لا يصدق إلا بما يراه بإحدى حواسه الخمس وينكر كل ما غاب عن المشاهدة، ويجر ذلك إلى إنكار الجن والتباسه في الإنسان وإنكار الملائكة… إلخ.

فالكلام مع هؤلاء كالكلام مع السمانية وإن خالفوهم في الاسم. اهـ «بتصرف يسير».

21- قال في «المسودة في أصول الفقه» (ص:233): والخبر المتواتر يفيد العلم القطعي وهو قول كافة أهل العلم، وانظر شرح «الكوكب المنير» (2/326-327).

22 – قال الحافظ في «النزهة» (ص:58-59): (… وقيل لا يفيدُ العلم إلا نظرياً! وليس بشيء لأنَّ العلم بالتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر كالعامي إذ النظر: ترتيب أمور معلومةٍ أو مظنونةٍ يتوصل بها إلى علوم أو ظنونٍ، وليس في العامي أهلية ذلك فلو كان نظرياً لما حصل لهم، ولاح بهذا التقرير الفرق بين العلم الضروري، والعلم النظري إذ الضروري يفيد العلم بلا استدلالٍ، والنظري يفيده لكن مع الاستدلال على الإفادة، وأنَّ الضروري يحصل لكل سامعٍ، والنظري لا يحصل إلا لمن فيه أهلية النظر. اهـ.

وعبارة الحافظ يرحمه الله تفيد أنَّ النظري ينقسم إلى: معلوم ومظنون، بحسب قوة مقدماته، وعندما راجعت ذلك مع المؤلف أفاد أنَّ عبارة الحافظ قسمت العلم النظري إلى يقيني وظنَّي وليس في عبارته ما يدل على أنَّ النظري مختص بالظن. والله أعلم.

23 – وقد ذكر الطوفي يرحمه الله الخلاف في ذلك تبعاً لابن قدامة فقال في «شرحه على الروضة» (1/80-81): العلم التواتري ضروري عند القاضي أبي يعلى ووافقه على ذلك الجمهور.

ونظري؛ أي: يحصل بالنظر ويتوقف عليه عند أبي الخطاب ووافقه على ذلك إمام الحرمين والغزالي وغيرهم..إلخ.

وهذا الخلاف إذا تأملناه خلاف لفظي إذ الجميع متّفق على أنَّ المتواتر يفيد العلم واليقين، وإنّما اختلفوا في نوع هذا العلم، وقد رجّح ذلك الطوفي، فقال: «والخلاف لفظي، إذ مراد الأول بالضروري: ما اضطر العقل إلى تصديقه».

والثاني: البديهي الكافي في حصول الجزم به تصور طرفيه، والضروري ينقسم إليهما، فدعوى كلِّ غير دعوى الآخر، والجزم حاصل على القولين. اهـ، وهذا القول هو ما أيده الشيخ زكريا الأنصاري وابن بدران والمحلي، انظر «حاشية شرح الكوكب المنير» (2/327).

24- قال الحافظ ابن حجر في «النزهة» (ص:60): وإنَّما أبهمت شروط التواتر في الأصل؛ لأنّه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد إذ علمُ الإسناد يبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه ليعمل به أو يترك من حيث صفات الرجال، وصيغ الأداء، والمتواتر لا يبحث عن رجاله، بل يجب العمل به من غير بحثٍ. اهـ.

25 – الخبر لغةً: النبأ، والجمع: أخبار، وهو مشتق من الخبار وهي الأرض الرخوة لأنَّ الخبر يشير الفائدة كما أنَّ الأرض الخبار تشير الغبار إذا قرعها الحافر.

والآحاد: جمع أحدٍ، كأبطالٍ جمع بطل، وهمزةُ أحدٍ مبدلة من الواو، وأصل آحادٍ أأحاد بهمزتين، أبدلت الثانية ألفاً كآدم، وإنَّما قيل للخبر آحاد؛ لأنَّه يرويه الآحاد، فهو من باب حذف المضاف أو من باب تسمية الأثر باسم المؤثر، ولأنَّ الراوية أثر الراوي انظر: «شرح الكوكب المنير» (2/345)، و«شرح مختصر الروضة» (2/68)، و«اللسان» (4/226)، و«القاموس المحيط» (1/283)، واصطلاحاً قال الخطيب في «الكفاية» (ص:50) وأمّا خبر الآحاد فهو ما قصر عن صفة التواتر، ولم يقطع به العلم وإن روته الجماعة.

وقال الحافظ ابن حجر في «النزهة» (70-71): ما لم يجمع شروط المتواتر، وهناك تعريفات أخرى انظرها في «شرح الكوكب المنير» (2/345-347) وما ذكره الحافظ ابن حجر هو الأشهر والله أعلم.

26 – سورة الإسراء، الآية: 36.

27 – أخرجه البخاري (6967) ومسلم (1713).

28 – انظر «الإحكام» (1/119-137)، و«النبذة في أصول الفقه الظاهري» (48-58).

29  – «الإحكام» (1/108) قال يرحمه الله -: «والقسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إن اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضاً».

30 – قال الحافظ ابن حجر في «النزهة» (ص:156): وإنّما كان العلو مرغوباً فيه لكونه أقرب إلى الصحة، وقلّة الخطأ؛ لأنّه ما من راوٍ من رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه، فكلّما كثُرت الوسائط وطالَ السند كثرتْ مظانَّ التجويز وكلّما قلت؛ قلت. اهـ.

31 – سيأتي الكلام على ذلك مفصلاً إن شاء الله تعالى في أثناء الكتاب.

32 – هذا وقد ذهب أبو محمد بن حزم يرحمه الله إلى عدم العمل بالظن فقال في «المحلّى» (1/93): ولا يحل الحكم بالظن أصلاً لقول الله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) ولقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إيّاكم والظن فإنَّ الظن من أكذب الحديث» وبالله تعالى التوفيق. اهـ.

وقد حقق هذه لمسألة العلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير كما في حاشية «المحلي» (1/93-95) فقال معترضاً على ابن حزم:

أقول: هذا النفي في أنَّه لا يحل الحكم بالظن مشكل غاية الإشكال وقد آن أن نحقق البحث للناظرين دفعاً للاغترار بكلام هذا المحقق يرحمه الله فنقول: «الظن» لفظ مشترك بين معان:

يطلق على الشك كما صرّح أئمة اللغة، ففي القاموس: الظن التردد، والراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم انتهى فهذان إطلاقان.

ويطلق على اليقين: كما في قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم وأنهم إليه رجعون (46» مع قوله في «صفة المؤمنين»: (وهم بالآخرة هم يوقنون) لأنه لابد من اليقين في الإيمان بالآخرة.

ويطلق على التهمة كما في قوله تعالى -: (وما هو على الغيب بضنين (24» فيمن قرأه بالظاء المشالة؛ أي: بمتهم كما قال أئمة التفسير.

وإذا عرفت هذا؛ عرفت أنّ المذموم من الظن هو ما كان بمعنى الشك وهو التردد بين طرفي الأمر فطرفاه مستويان لا راجح فيهما فهذا يحرم العمل به اتفاقاً وهو الذي هو «أكذب الحديث» وهو الذي « لا يغني من الحق شيئاً» وهو بعض الإثم الذي أراد تعالى -: (إن بعض الظن إثم) وذلك لما تقرر في الفطرة وقررته الشريعة أن لا عمل إلا براجح يستفاد من علم أو ظن.

وأمّا الظن الذي بمعنى الطرف الراجح: فهو متعبد به قطعاً بل أكثر الأحكام الشرعية دائرة عليه وهو البعض الذي ليس فيه إثم، المفهوم من قوله تعالى -: (إن بعض الظن إثم) ثم تكلّم يرحمه الله على خبر الآحاد فقال: فإنّ خبر الآحاد معمول به في الأحكام، وهو لا يفيد بنفسه إلا الظن، والمصنف ابن حزم تقدم له في المسألة (103) أنَّ الجاهل يسأل العالم عن الحكم فيما يعرض له فإذا أفتاه وقال: هذا حكم الله ورسوله عمل به أبداً ومعلوم أنّ هذه رواية آحادية من العالم بالمعنى، ولا تفيد إلا الظن، وقد أوجب قبولها.

وكذلك في أمر الله بإشهاد «ذوي عدل» فإن شهدوا وجب على الحاكم الحكم بما شهدا به، وشهادتهما لا تفيد إلا الظن، بل كونهما ذوي عدل لا يكون إلا بالظن، بل قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنكم تختصمون إليّ» إلى قوله: «فإنّما أقطع له قطعة من نار» وهذا صريح أنّه صلى الله عليه وسلم حكم بالظن الحاصل عن البيّنة، إذ لو كان بالعلم لما كان المحكوم به قطعة من نار، لأنّه لا يجوز أنّ البيّنة التي حكم بها باطلة في نفس الأمر.

وفي حديث ابن مسعود في سجود السهو: «إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث أو أربع، وأكثر ظنّك على أربع» الحديث. فاعتبر الظن في أشرف العبادات.

وحديث الطبراني والحاكم: قال الله أي في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء».

وحديث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» أخرجه أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة فهذا كلّه عمل بالظن الراجح الصادر من أمارة صحيحة.

وأما ما صدر لا عن أمارة صحيحة نحو ظن الكفار أنّه «لن ينقلب الرسول والمؤمنون» فهذا ظن باطل مستند إلى أنّ الله تعالى لا ينصر رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمؤمنين، ومثل (ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون) الذي حكاه الله تعالى عنهم بقوله: (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعلمون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أردتكم فأصبحتم من الخسرين (23» فظنهم هذا مستند إلى الجهل بعلم الله وإحاطته.

ومنه في قصة الأحزاب في ظن المنافقين: (وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) فإنهم ظنّوا غلبة الأحزاب للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذا قالوا: (ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) وعكسهم أهل الإيمان فإنّهم قالوا: (ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمنا وتسليما) فهذا البحث بحمد الله تعالى لا تجده في كتاب، وإنّما هو من فتح الكريم الوهاب وبه يزول الإشكال، والاضطراب، وتعلم أنّ المصنف أوجز في محل الإطناب فأخل بما يذكره وهو في هذا الكتاب، فإنّه لا يزال يستدل فيه بأخبار الآحاد وبعموم ألفاظها وألفاظ القرآن، والكل لا يخرج عن الأدلّة الظنيّة، فاعرف قدر هذه الفائدة السنيّة اهـ من إفادة خاتمة المحققين السيد محمد بن إسماعيل الأمير جزاء الله عن الإسلام خيراً. اهـ.

وهذا وقد بوب الإمام الخطيب يرحمه الله في كتابه الكفاية (ص:65) لهذا المبحث بقوله: «ذكر شبهة من زعم أنّ خبر الواحد يوجب العلم وإبطالها».

ونقل عن القاضي أبي بكر محمد بن الطيب أنه قال: «وأمّا التعلق في أن خبر الواحد يوجب العلم، فإن الله تعالى لما أوجب العمل به، وجب العلم بصدقه وصحته، لقوله تعالى (ولا تقف ما ليس ل كبه علم) وقوله: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فإنّه أيضاً بعيد لأنّه إنّما عنى تعالى بذلك ألا تقول في دين الله ما لا تعلمون إيجابه، والقول والحكم به عليكم، ولا تقولوا: سمعنا ورأينا وشهدنا وأنتم لم تسمعوا وتروا وتشاهدوا، وقد ثبت إيجابه تعالى علينا العمل بخبر الواحد، وتحريم القطع على أنّه صدق أو كذب، فالحكم به معلوم من أمر الدين، وشهادة بما يعلم ويقطع به، ولو كان ما تعلقوا به من ذلك دليلاً على صدق خبر الواحد لدلّ على صدق الشاهدين، أو صدق يمين الطالب للحق، وأوجب القطع بإيمان الإمام، والقاضي، والمفتي إذا لزمنا المصير إلى أحكامهم وفتواهم، لأنّه لا يجوز القول في الدين بغير علم، وهذا عجز ممن تعلق به فبطل ما قالوه. اهـ.

هذا وقد ذكر العلماء أدلة أخرى تثبت أنّ خبر الواحد المجرد لا يفيد العلم منها:

1 لو كان خبر الواحد يفيد العلم لما جاز وصح أن يرد خبران متعارضان: أحدهما يثبت والآخر ينفي وذلك لأنّه يستحيل اجتماع الضدّين لكن رأينا وجود التعارض في أخبار الآحاد كثيراً، فدل هذا على أنّه لا تفيد العلم.

2 لو كان خبر الواحد يفيد العلم ويحصل به، لكان لا يحتاج في الشهادات إلى عدد من الشهود اثنين فأكثر بل كان الشاهد الواحد إذا أخبر الحاكم بشيء وقع للحاكم علم ذلك ومعرفته، ولما كان الأمر بخلاف ذلك، حيث يحتاج إلى عدد من الشهود، أو يمين إذا عدم الشاهد ليقوي ذلك خبر هذا الواحد فإنّه يثبت أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم.

3 والواجب على القاضي أن يصدق المدعى على غيره من غير بينة، لأنَّ العلم يقع بقوله، فلما ثبت أنّه لا يصدق إلا بينة ثبت أن خبر الواحد لا يفيد العلم.

4 ولكان العلم حاصلاً بخبر الأنبياء إذا أخبروا ببعثهم من غير حاجة إلى إظهار المعجزات والأدلّة على صدقهم، فلما أخبروا عن نبوتهم، وأظهروا المعجزات الدالة على ذلك ثبت أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم.

انظر «روضة الناظر» (2/203-204) و«شرح مختصر الروضة» للطوفي (2/105-107) و«التبصر للشيرازي» (ص:299) و«إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر» (3/123-135) وهذا القول وهو أن خبر الواحد المجرد لا يفيد العلم بل يفيد الظن وهو مذهب جمهور العلماء من فقهاء وأصوليين، انظر «المسودة» (ص:244) و«إجابة السائل» للصنعاني (ص:102-103) هذا وقد يقول قائل: إنكم بذلك وافقتم أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم في القول بأن خبر الواحد يفيد الظن والجواب على ذلك أن أهل السنة وافقوهم على هذه الجزئية لمّا دل الدليل على ذلك وخالفوهم في جزئيات كثيرة في خبر الآحاد منها:

أنّ أهل السنة يثبتون بخبر الواحد الصحيح صفات الرب تعالى والعقائد الأخرى دون نظر إلى قضية القطع والظن قال ابن القيم يرحمه الله في «مختصر الصواعق المرسلة» (ص:509): المقام الخامس: أن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإنّ الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر… إلخ.

وقد انتصر ابن القيم يرحمه الله لمن قال بإفادته اليقين فليراجع في «مختصر الصواعق المرسلة» ومن الفوارق كذلك بين أهل السنة وأهل الكلام في هذه القضية أن أهل السنة يعملون بخبر الواحد في جميع المسائل دون النظر إلى قضية القطع والظن فخبر الآحاد الثابت حجة مطلقة يجب العمل بها دون قيد أو شرط.

وأن خبر الواحد عند أهل لسنة يحصل به العلم إذا احتفّت به القرائن كما سينبه عليه المؤلف حفظه الله اهـ بتصرف من كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (157-159)، والله أعلم.

33 – قال الزركشي في تعريف القرائن: أنَّ العلماء لم يتعرضوا لضابط القرائن ونقل عن المازري قوله: لا يمكن أن يشار إليها بعبارة تضبطها، قلت: والكلام للزركشي يمكن أن يقال هي ما لا يبقى معها احتمال وتسكن النفس عنده مثل سكونها إلى خبر المتواتر أو قريباً منها «البحر المحيط» (4/266) و«شرح الكوكب المنير» (2/349).

34 – قال الحافظ في «نزهته»: والخبر المحتف بالقرائن أنواع ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ حد التواتر، فإنّه احتفت به قرائن:

منها: جلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر إلا أنَّ هذا يختص بما لم ينقُذْه أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلولية مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته، فإن قيل: إنَّما اتّفقوا على وجوب العمل به لا على صحته منعناه وسند المنع أنَّهم متفقون على وجوب العمل بكل ما صحَّ ولو لم يخرجه الشيخان فلم يبق للصحيحين في هذا مزية والإجماع حاصل على أنّ لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة، ومما صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني ومن أئمة الحديث أبو عبدالله الحميدي، وأبو الفضل بن طاهر، وغيرهما ويحتمل أن يقال: المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح.

ومنها: المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة، والعلل، وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي والأستاذ أبوبكر بن فورك وغيرهما.

ومنها: «المسلسل» بالأئمة الحفّاظ المتقنين حيث لا يكون غريباً كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلاً ويشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنّه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال عن جمعه جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول مما يقول مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس أن مالكاً مثلاً لو شافهه بخبر أنّه صادق فيه فإنه انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة وبَعُُدَ عمّا يخشى عليه من السهو وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث، المتبحر فيه، العارف بأحوال الرواة، المطلع على العلل، وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور.

ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها:

أن الأول يختص بالصحيحين، والثاني بما له طرق متعددة، والثالث بما رواه الأئمة، ويمكن اجتماع الثلاثة في حديث واحد، فلا يبعد حينئذ القطع بصدقه والله أعلم «النزهة» (ص:74-76).

وانظر كذلك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله «في الفتاوى» (18/40-41) وفي (13/351) قال: ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطرائف على أن «خبر الواحد» إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به أنّه يوجب العلم وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه، من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيراً من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك… إلخ اهـ وانظر «مختصر الصواعق» (ص:477-483).

35 – وانظر كذلك بحثاً في ذلك للخطيب البغدادي يرحمه الله في كتابه «الكفاية» (ص:66-72) وقال في آخره: «وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك، ولا اعتراض عليه، فثبت أنَّ من دين جميعهم وجوبّه إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه»، والله أعلم.

36 – أبو علي الجبائي محمد بن عبدالوهاب بن سلام بن زيد بن أبي السكن الجبائي، رأس المعتزلة وكبيرهم ومن انتهت إليه رياستهم، كذا قال الحافظ في «لسان الميزان» (5/271)، وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/183-184)، وانظر شرطه في الصحيح في «النزهة» (65-66) والله أعلم.

37 – خبر الواحد فيما تعم به البلوى يراد به: الخبر الذي يتعلق بأمر من الأمور التي تقع كثير بين المسلمين ويحتاجون إلى الاستفسار عن حكمها أو يكون الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم كثرة وقوعه فيهم ببيانها كنقض الوضوء من لمس الذكر وعدم الإفطار من الأكل ناسياً ونحو ذلك فإذا لم ينقل الأخبار المبينة لأحكام هذه الحوادث إلا آحاد لم يقبل عند بعض الحنفية لأنّ هذه الأشياء مما يبتلى بها الناس ولا يحل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يخص بتعليمها الآحاد، فلا أن يكون قد بين حكمها الكثير من الصحابة فتشتهر وتتوفر الدواعي على نقلها، فانفراد هذا الراوي بها دليل على خطئه، والصحيح إن شاء الله تعالى قبولها كما تقبل في سائر الأحكام فإنَّ هذه الأشياء وإن كانت تقع كثيراً لكن لا يلزم أن يحتاج كل فرد إلى معرفة حكمها قبل أن تحدث عليه وقد لا يجري عليه شيء منها طوال عمره، ومن عرف حكمها فقد لا يجد مناسبة للتحديث بها وقد يعتقد معرفة الناس لمثلها وقد يكتفي للتحديث بحكمها… إلخ انتهى من رسالة الشيخ عبدالله بن جبرين «أخبار الآحاد في الحديث النبوي» (ص:137) وانظر كذلك «إجابة السائل شرح بغية الآمل» (ص:108-109).

هذا وقد نُسب هذا القول إلى أبي حنيفة وصاحبيه وكذب ذلك ابن القيم يرحمه الله حيث قال في «مختصر الصواعق» (526) وطائفة عاشرة روته فيما تعم به البلوى وقبلته فيما عداه، وحكوه عن أبي حنيفة، وهو كذب عليه، وعلى أبي يوسف ومحمد فلم يقل ذلك أحد منهم البتة، وإنّما هذا قول متأخريهم، وأقدم من قال به عيسى بن أبان وتبعه أبو الحسن الكرخي وغيره. اهـ.

38 – انظر ذلك مفصلاً في «النزهة» للحافظ ابن حجر يرحمه الله (62-70).

للتواصل معنا