الأسئلة الحديثية

ما الفرق بين الإرسال الخفي والجلي والتدليس؟

ما الفرق بين الإرسال الخفي والجلي والتدليس؟

الإرسال الجلي: رواية الراوي عن من لم يلقه، والتعبير بهذه العبارة «عن من لم يلقه» أدق لشموله حال الراوي سواء أدرك شيخه، أو لم يدركه، عاصره أو لم يعاصره، أمّا قوله: «روايته عن مَنْ لم يُعاصره» كلام غير دقيق؛ لأنَّه قد يعاصره، ولا يلقاه، فلا زال الإرسال موجوداً.([1])

فالصواب أن نقول: رواية الراوي عن من لم يلقه، سواء عاصره، أو أدركه، وسواء لم يعاصره، أو لم يدركه.

وأمّا الإرسال الخفي: فهو رواية الراوي عن الشيخ الذي لقيه، ولكنه لم يسمع منه شيئاً([2])، فمن الممكن أن يلقي الراوي شيخه، لكن شيخه ليس مستعداً لتحديثه، أو به شُغل يحول دون عقدِه لمجلس من مجالس الحديث كالإملاء أو العرض، أو غير ذلك، فهذا اللقاء لا يفيد شيئاً، وهذا الإرسال مع اللقاء يكون خفيّاً([3])، واعلم أن من العلماء من يعبر باللقاء على السماع فيقولون: «فلان لقي فلاناً» أي: سمعه([4]).

وإذا قرأت في كتاب «تهذيب التهذيب» – مثلاً – فإنَّه يأتي للمترجَم له، ويقول: روى عن فلان، وفلان، وروى عنه فلان وفلان، ويذكر تلامذته وشيوخه، والأصل في ذلك أنّه إذا لم ينص الحافظ ابن حجر – رحمه الله – أو أحد الأئمة على أنَّ الراوي المترجم له لم يسمع من الشيخ الفلاني، أو تلميذه الفلاني لم يسمع منه. فالأصل في الراوية اللقاء، والسماع، والاتّصال.

الشاهد من هذا: أنَّ الإرسال الخفي هو رواية الراوي عن الشيخ الذي لقيه ولكنّه لم يسمع منه شيئاً.

وبهذا نأتي إلى تعريف التدليس: وهو رواية الراوي عمن سمع منه بعض الأحاديث سماعاً صحيحاً، لكنّه سمع بعض الأحاديث الأخرى عنه بواسطة، وروى الحديث مسِقطاً للواسطة بصيغة توهم السماع([5])، ولذلك نجد كثيراً من العلماء قد عابوا التدليس، ولم يعيبوا الإرسال، فبينما نجد شعبة يقول: «لأن أزني أحبُّ إليَّ من أن أدلس»([6]).

ونجد عبدالرزّاق يأتي عند أستار الكعبة، لما وجد أن المحدثين لا يأتون إليه، ثم يتضرّع إلى الله – عزّ وجلّ – فيقول: يارب! لماذا هذا؟ هل أنا مُدَلِّس، هل أنا كذا، هل أنا كذا؟([7]).

ووكيع الذي روى حديثاً فقيل له: من الذي حدّثك به؟ قال: يا هذا إنّا لا نستجيز التدليس في الثوب، فكيف نستجيزه في الدين؟([8]) وغير ذلك من النصوص التي جاءت عن علماء الحديث في التشنيع على المدلسين، فوجدناهم يشنعون على المدلسين، ولم نجدهم يشنعون على الذين أرسلوا، بل يقولون: فلان عن فلان روايته مرسلة، وفلان مراسيله من مراسيل الصحابة، إلى غير ذلك.

فما وجدناهم يذمون الذين يرسلون، نعم، لأنَّ الذين يدلسون يُلبِّسون على غيرهم، والتدليس ضرْبٌ من الإيهام، أي فيه إيهام للسامع، فلمّا كان المستمع يعلم أنَّ هذا الشيخ قد لقي الذي يروي عنه، وسمع منه، فإنّه يحمل هذه العنعنة أو ما في معناها على السماع، أمَّا التلميذ إذا كان يعلم أنَّ هذا الشيخ لم يدرك أو لم يلق الشيخ الذي يروي عنه؛ فلا إيهام ولا تضليل عليه.

فمن قال الآن: قال ابن عباس – رضي الله عنهما – قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كذا وكذا، هل يدخل في خاطر أحد أنه يدلس عن ابن عباس؟! فمن المؤكد أنه لم يلق ابن عباس، ولا سمع، فالإيهام والتضليل والغش منفي هنا، فلا يستحق في هذه الحالة الذم، أمّا إذا أتي إلى شيخ قد عُلِم سماعه منه، ورحلته إليه، ثم يقول: قال الشيخ كذا، وكذا، فيستنكر أحد من الجالسين، ويقول: هل أنت سمعت منه؟ ونظراً للعدالة والأمانة، فإنه يقول: لا، لكن حدّثني فلان، فمن هنا يبدأ الطالب، فيخاف من الكلمة التي فيها إيهام، وليس فيها تصريح بالسماع.

فحري بأن يُذم المدلسون، وأن لا يُعامل الذي أرسل بما يُعَامل به المدلسون، والله أعلم.



([1]) قلت: ومثال ذلك رواية المخضرمين عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم فهما وإن عاصروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فروايتهما عنه مرسلة إرسالاً جليّاً وذلك لعدم تحقق اللقاء والله أعلم.

([2]) هكذا عرفه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في «طبقات المدلسين» (ص:2) قال: وإذا روى عمن عاصره ولم يثبت لقياه له شيئاً بصيغة محتملة فهو الإرسال الخفي، ومنهم من ألحقه بالتدليس والأولى التفرقة لتتميز الأنواع.

وقلت: وإذا روى من هذه حالته عن شيخه مباشرة بصيغة محتملة فإنّا نحكم على حديثه بالإرسال وذلك لأمرين:

الأول: عدم ثبوت سماعه منه.

الثاني: عدم تحقق إيهام السماع لمن يسمعه، وقد قطع هذا الإيهام جزم الحافظ باشتراط عدم السماع في قوله: «ولم يثبت لقياه له شيئاً».

ويخرج من ذلك من رأى الشيخ وأمكن لقاءه له ولم ينقل ما ينفي سماعه منه فروايته عنه متّصلة (في قول) وذلك من الثقة غير المدلس.

ويخرج كذلك من لقي الشيخ وسمع منه، وروى عنه ما لم يسمع موهماً السماع منه فروايته مدلسة لتحقق الإيهام بالسماع والله أعلم.

وانظر «النكت» للحافظ ابن حجر (2/614-615).

([3]) مثال ذلك ما جاء في «جامع التحصيل» ترجمة سليمان بن مهران الأعمش، وقد روى عن أنس وابن أبي أوفى وقال علي بن المديني لم يسمع من أنس إنّما رآه رؤيا بمكة يصلي خلف المقام فإنما طرق الأعمش عن أنس فإنّما يرويها عن يزيد الرقاشي عن أنس، وقال ابن معين كل ما روى الأعمش عن أنس فهو مرسل… إلخ «جامع التحصيل» (188 رقم 258).

ومثله ما جاء في «العلل» لابن رجب، قال: قوال أبو حاتم الرازي الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر رآه ولم يسمع منه ورأى عبدالله بن جعفر ولم يسمع منه، وأثبت أيضاً دخول مكحول على واثلة بن الأسقع ورؤيته له ومشافهته، وأنكر سماعه منه، وقال: لم يصح له منه سماع وجعل رواياته عنه مرسلة «العلل لابن رجب» (ص:215).

([4]) انظر المصدر السابق (ص:216-217).

([5]) قال أبوبكر البزار: هو أن يرويه عمن قد سمع منه ما لم يسمع منه من غير أ، يذكر أنّه سمعه منه، انظر «التقييد والإضاح» (ص:97) وبمثله عرفه أبو الحسن أبن القطان. انظر «النكت» (2/614).

([6]) انظر «الكفاية» (508) والسؤال رقم (28) من هذا الكتاب.

[7])) القصة في «تاريخ ابن معين» (ص:363) عباس: ثنا يحيى، قال بشر بن السَّري: قال عبدالرزاق: قدمت مكة مرة فأتاني أصحاب الحديث يومين، ثم انقطوا عني يومين أو ثلاثة، فقلت: يا رب! ما شأني؟ أكذّب أنا؟ أي شيء أنا؟ قال: فجاءوني بعد ذلك. اهـ، وانظرها أيضاً في «السير» (9/567) والقصة في الموضعين بدون الشاهد.

وفي «الكفاية» للخطيب (ص:510) بإسناده إلى الدوري، قال: حدّثني بعض أصحابنا، قال: قال عبدالرزاق: قدمت مكة فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فمضيت وطفت وتعلقت بأستار الكعبة، وقلت: يا رب! ما لي أكذّابٌ أنا؟… أمدلّسٌ أنا؟… قال فرجعت إلى البيت فجاءوني. اهـ.

وفيها الشاهد على ذم التدليس فإما أن يحمل المبهم في هذه الراوية على المصرح باسمه في الراوية السابقة، وإلا فيأخذ بالراوية التي ليس فيها إبهام ويكون الشاهد ليس ثابتاً، والله أعلم.

([8]) ذكر الخطيب بسنده قال: كان وكيع ربّما قال في الحديث: حدّثنا وربَّما لم يقل، قال: فقلنا لجارٍ لنا يقال له: أبو الوفاء: كان لا يحسن شيئاً، سله لما يقول في بعض حدّثنا ولا يقول في بعض؟ قال: فتقدم إليه فسأله، قال: فقال له وكيع أما وجد القوم خطيباً غيرك، نحن لا نستحل التدليس في الثياب، فكيف في الحديث اهـ (ص:509).

للتواصل معنا