الأسئلة الحديثية

ما هي الأسباب التي تجعل الرواة يدلسون، أو ما هي الأسباب التي تحمل المدلسين على التدليس؟

ما هي الأسباب التي تجعل الرواة يدلسون، أو ما هي الأسباب التي تحمل المدلسين على التدليس؟

قد رأينا بعض العلماء المشاهير والأئمة الجهابذة قد وصِمُوا بهذه التهمة، تهمة التدليس، مثل سفيان الثوري، وقتادة، وابن جريح والحسن البصري والأعمش، ومثل هؤلاء الذين تدور عليهم أحاديث سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فالعلماء لهم اعتذارات عن الأئمة، وهذا الأمر الذي أريد أن أوصي به إخواني جميعا، أننا إذا رأينا أحد الأئمة قد أخطأ في مسألة، فلا نتسرع في توهيمه وتخطئته؛ بل الواجب علينا أن نلتمس له ما استطعنا من الأعذار والمخارج، وليس معنى ذلك أن نتكلّف تكلُّفاً يخرج عن حد العقل والإنصاف، لا، ولكن قبل أن نُوهِّم هذا الإمام ينبغي علينا أن نبحث عن سبب، وفي «العلل» للإمام الدّارقطني، مسألة تؤيد هذا الكلام في الاعتذار عن الأئمة، فالإمام الدّارقطني في (ج5) من «العلل» ذكر حديثاً، وقد تكلّم بسبب هذا الحديث في الإمام سفيان الثوري، فهذا الحديث رواه الثوري، عن الأعمش، وخالف جمهور الأصحاب من أصحاب الأعمش، فقد رووه عن رجل، ورواه هو عن رجل آخر، فقال يحيى بن سعيد القطان: وقع في نفسي على الثوري.

انظروا، فليس من السهل تخطئة الأئمة، والتهجّم على العلماء الكبار، وليس من السهل أن أقول: أخطأ الثوري، أخطأ أحمد بن حنبل، أخطأ علي بن المديني.

ينبغي التريث في إطلاق هذه الكلمة، قال: فوقع في نفسي أنّ الثوري قد وهم إلى أن جاء مؤمل بن إسماعيل، وهو صدوق سيء الحفظ، وحدّثني أنَّ الثوري رواه عن الأعمش

بوجه آخر يوافق فيه جمهور أصحاب الأعمش، قال فسُرَّ يحيى بذلك([1])، أي: لمّا وجد المخرج للإمام الثوري، ووجد العُذر الذي يدافع به عنه.

فالشاهد من هذا: أنَّه ليس من الهيِّن أن نقول: الإمام الفلاني أخطأ، وإنَّما ينبغي بقدر الإمكان أن يبحث الطالب، وأن يلتمس المخارج، وأن يجمع الطرق، وأن ينظر مَن مِن العلماء قد تجرأ بتخطئة هذا الإمام الكبير؟

فليس من المقبول أن يكون طالب العلم في حالة ابتداء الطلب، وعدم الأهلية الكاملة، وتراه يطلق لسانه على الأئمة الكبار، فيحيى بن سعيد القطان قد ذُكر أنّه من المتشددين في الجرح، ومع ذلك قال: وقع في نفسي على الثوري، فلما علم الطريق الأخرى التي تبرئ الثوري قيل: فسُرَّ يحيى بذلك، مع أن هناك مواضع وهموا فيها بعض الأئمة.

أرجع إلى الكلام عن الأسباب التي تحمل الرواة على التدليس، فمن ناحية الأئمة الكبار مثل سفيان الثوري، وغيره من الأئمة، ذكروا: أنّه كان يرى نشر الأخبار في الأمصار، وقد يدلس لسبب من الأسباب الآتية بعد، وهو مع ذلك مُقِلّ في التدليس.

ومثل الحسن البصري: قد يكون عنده الحديث مثلاً عن رجل من أهل البيت في زمن بني أمية، فيخاف أن يحدث به؛ لأنَّه عن رجل من أهل البيت، أو عن رجل يحاربه السلطان في ذلك الزمان، فيخاف أن يصرح باسمه، فيُؤذي بسبب ذلك، أو تُردَّ الراوية، فيُسقطه، فلو أننا التمسنا مثل هذه الأشياء للأئمة الكبار لكان مخرجاً حسناً([2])، وليس معنى ذلك أن نحتجّ بما دلّسوه، بل نقف في تدليسهم، أو فيما ظهر لنا أنّهم دلّسوه – على تفاصيل في ذلك -.

وأيضاً من الأسباب التي تحمل الأئمة أو العلماء على ذلك: ضعف الشيخ، فإذا كان الشيخ ضعيفاً أسقطه المدلس، ويروي الحديث عن الشيخ الثقة؛ من أجل ألا يُرَدَّ الحديث؛ لأنَّه يعلم أن المتن جاء من طرق أخرى صحيحة، وقد يفعله بعضهم، وإن لم يعلم صحة المتن من طرق أخرى([3]).

وأيضاً قد يكون الشيخ صغيراً، والراوي عنه كبير، فالراوي إذا كان كبيراً لكن شيخه صغير، فهو يستحيي ويستنكف أن يقول: حدّثني فلان، فيكون هذا الكبير تلميذاً لهذا الشاب الصغير، فهذا معناه أنّه لم يرحل، ويقال: ما الذي جعلك وأنت كبير، لا ترحل حتى تلقى الشيخ الذي حدّث عنه هذا الشاب، ما الذي جعلك تجلس ولا ترحل إليه([4])؟.

أيضاً قد يكون الراوي مكثرا عن هذا الشيخ، وكلما تكلّم يقول: «حدّثني فلان، حدّثني فلان، حدّثني فلان» فيقع في نفسه أنّه لا يريد أن يصرح باسمه كثيراً أمام المحدّثين، كي لا يقولوا في أنفسهم: إنّ هذا الشيخ ليس له إلا شيخ واحد، أو ليس له من المشايخ إلا القليل فحينئذٍ يسقطه([5]).

فلا تظن أنَّ كل من دلَّس فلا يدلَّس إلا إذا كان شيخه ضعيفاً، لا، هناك أسباب كثيرة تحمل المدلسين على التدليس غير ضعف الشيخ، فقد يكون التدليس لضعف الشيخ، وقد يكون لصِغَره، وقد يكون لكثرة الراوية عن هذا الشيخ، وقد يكون هذا الشيخ لو صرَّح به لأوذي بسببه، وقصْدُ العلماء الكبار نَشرُ الأخبار في الأمصار وانتشار الراويات عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يصرِّح باسم هذا الرجل من أجل أن لا يُرَدَّ الحديث([6])، هذا أحسن ما نعتذر به عنهم، ولذلك تجد كثيراً من الأئمة الكبار الذين دلسوا إذا جمعنا الطرق؛ بان لنا كثيراً أنَّهم دلّسوا عن رجل ثقة، وأنت عند جمعك لطرق الحديث تستطيع أن تعرف الرجل المدلس، إذا روى حديثاً بالعنعنة، وجاء من طرق أخرى، فصرّح بالسماع، وأظهر شيخاً آخر بينه وبين شيخه الأول، فنحن نتأكد أو على الأقل نرجح أنّه دلَّس في الأول، لا سيَّما إذا كان مَنْ أظهره ضعيفاً.

الشاهد من هذا: بيان الفرق بين الإرسال الجلي، والإرسال الخفي، وبين التدليس، ومعرفة الأسباب التي تحمل بعض العلماء، أو بعض الرواة على التدليس، وكتاب الحافظ ابن حجر – رحمه الله – «طبقات المدلسين»، كتاب حافل بالمعلومات الوافية في هذا الباب، وفيه الجواب على بعض هذه الأسئلة، وأنصح بمطالعته، وبالاطلاع على «جامع التحصيل» للعلائي، ففيه قسط وافر عن مسألة التدليس، وفيه فوائد في الفرق بين الإرسال الجلي، والإرسال الخفي.

ومقدمة «طبقات المدلسين» فيها التفرقة الواضحة بين الإرسال الخفي، والتدليس، وذكر الحافظ ابن حجر الفروق التي ذكرتها، وبيَّن أنَّ هذا لا بدّ منه، من أجل أن لا تتداخل الأنواع، أو من أجل تمييزها([7]).

فعرَّف الإرسال الخفي: برواية الراوي عن مَنْ لقيه، ولم يسمع منه شيئاً وعرف التدليس: برواية الراوي عن منْ لقيه، وسمع منه بعض الأحاديث، لكن البعض الآخر سمعه بواسطة، ولم يظهرها، وأتى بصيغة محتملة.

وينبغي أن يراعي أيضاً؛ أنَّ من العلماء مَنْ استثنى سفيان بن عيينة، وقالوا: إنَّه لا يدلِّس إلا عن ثقة([8])، وأمّا غيره فالمدلِّسون غالباً لا ينتقون في الراوية بل يروون عن كل أحد.



([1]) جاء ذلك في السؤال رقم (825) (ص:210-211): سئل الدّارقطني فيه عن حديث ابن مسعود قال: «أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك ثم إنَّ الله عزّ وجلّ قدر أ، بلغنا من الأمر ما ترون…» الحديث.

فقال: يرويه الأعمش واختلف عنه فرواه أبو معاوية، وحفص بن غياث وأصحاب الأعمش عن الأعمش عن عمارة عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله.

وخالفهم الثوري فرواه عن الأعمش، عن عمارة، عن حريث بن ظهير، عن عبدالله، قال يحيى القطان: كنّا نرى أن سفيان وهم فيه ورواية أخرى عنه فكنّا نظن أنَّ الثوري وهم فيه لكثرة من خالفه ثم قال يحيى: سمعت مؤملاً يحدّث في هذا بشيء لست أحفظه، قال عباس أي: ابن يزيد فقلت: ثنا مؤمل: عن سفيان، عن الأعمش، عن عمارة، عن حريث بن ظهير وعبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله فسر بذلك يحيى. اهـ.

([2]) قال ابن الوزير في «تنقيحه» إذا كان يعتقد أن ضعف من دلّسه ضعف يسير يحتمل وعرفه بالصدق والأمانة، واعتقد وجوب العمل بخبره لما له من التوابع والشواهد وخالف من إظهار الراوية عنه وقوع فتنة من غال مقبول عنهد الناس (ينهي عن حديث هذا المدلس، ويترتب على ذلك سقوط جملة من السنن النبوية، قلة أن يفعل مثل هذا، ولا حرج عليه)؛ لأنّه إنّما قصد بتدليسه نصح المسلمين في الحقيقة وإيثار المصلحة على المفسدة (وقد دلَّس عن الضعفاء إمام أهل الراوية والدراية ومن لا يتهم في نصحه للأئمة، سفيان بن سعيد الثوري فمن مثل سفيان في منقبة واحدة من مناقبه، أو من يبلغ من الرواة إلى أدنى) مرتبة من (مراتبه؟ ولولا هذا العذر ونحوه من) الأعذار الضروريّات، ما دلّس الحديث أكابر الثقات من أهل الديانة والأمانة، والنصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولجميع أهل الإسلام، وقد روي أنَّ رواة الحديث وأهل العلم في بعض أيّام بني أمية، وهي أيام عبدالملك وولاته الحجّاج (وبعض بلدانهم كانوا لا يقدرون على إظهار الراوية عن علي عليه السلام -) لشدة عداوتهم له، ولمن ذكره. اهـ.

قلت: وكلام ابن الوزير رحمه الله هو المشار إليه بالأقواس، وما خرج من الأقواس من كلام الصنعاني رحمه الله انظر التوضيح (1/368-369).

([3]) انظر «الكفاية» (511) «التوضيح» (1/369).

([4]) قال الخطيب رحمه الله تعالى في «كفايته»: وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة من التواضع في طلب العلم، وترك الحمية في الإخبار بأخذ العلم عمن أخذه، والمرسل المبين بريء من جميع ذلك. اهـ (ص:511).

وكما قال الخطيب رحمه الله تعالى -: فإن ذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة، وفي «النبلاء» (9/159) قال علي بن خشرم: سمعت وكيعاً يقول: «لا يكمل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه» والله أعلم.

([5]) قال ابن الوزير رحمه الله -: (وهذا مفصلاً يلوح على صاحبه بمحبته الثناء وشوب الإخلاص) إذ إيهام كثرة الشيوخ دال على محبته لمدحه بكثرة ملاقاة من أخذ عنه وهمته، ورغبته (مع أنَّ له محملاً صالحاً إذا تؤمل، وهو أن يكون كثير الشيوخ أجل قدراً مع من لا يميز وهم الأكثرون فيكون ذلك داعياً لهم إلى الأخذ عن الراوي وذلك) أي: الإيهام بكثرة الشيوخ ليأخذ عنه الناس: (يشمل على قرية عظيمة، وهي إشاعة الأخبار النبوية). اهـ «التوضيح» (ص:369).

قلت: وهذه قرية عظيمة إذا لم يترتب عليها من المفاسد ما هو أعظم: فمن مفسدته كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى -: أن يوافق ما يدلس به شهرة راوٍ ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفاً وهو في نفس الأمر صحيح، وعكس هذا في حق من يدلس الضعيف ليخفي أمره، فينتقل عن رتبه من يرد خبره مطلقاً إلى رتبة من يتوقف فيه؛ فإن صادف شهرة راوٍ ثقة يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فمفسدته أشد، كما وقع لعطية العوفي تكنيته: محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد -، فكان إذا حدّث عنه يقول: حدّثني أبو سعيد فيوهم أنّه أبو سعيد الخدري الصحابي رضي الله عنه؛ لأنَّ عطية كان لقيه وروى عنه، وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدليس الشيوخ اهـ (2/628) وسيأتي في الجزء الثاني الكلام عن هذه القصة إن شاء الله تعالى والله أعلم.

([6]) قلت: ويلحق بهذه الأسباب أيضاً ما إذا دلّس الراوي اسم الشيخ تفنناً في الراوية.

ومن ذلك فعل الخطيب رحمه الله تعالى في بعض شيوخه كما صرّح بذلك ابن الصلاح في «مقدمته» (ص:172) وقد اعتذر له الصنعاني رحمه الله -: «بأنّه إنّما يفعل ذلك تفنناً في العبارة»، قال في «توضيحه» (1/369) ولم يكن الخطيب يفعل ذلك إيهاماً للكثرة؛ فإنَّه مكثر من الشيوخ والمرويات، والناس بعده عيال عليه، وإنّما يفعل ذلك تفنناً في العبارة. اهـ.

ويلحق بها أيضاً تدليس اسم الراوي بقصد امتحان أذهان الطلاب في استخراج التدليسات، قال الحافظ في «نكته» (2/627) وقد بلغنا أن كثيراً من الأئمة الحفّاظ امتحنوا طلبتهم المهرة بمثل ذلك فشهد لهم بالحفظ لما يسرعوا بالجواب عن ذلك. اهـ.

قلت: ومثال ذلك سؤال ابن دقيق العيد للذهبي من أبو محمد الهلالي؟ فقال سفيان بن عيينة فأعجبه استحضاره «طبقات المدلسين» (ص:65).

([7]) في «تعريف أهل التقديس» (ص:69): قال الحافظ ابن حجر رحمه الله وإذا روى عمن عاصره، ولم يثبت لقيه له شيئاً بصيغة محتملة، فهو كالإرسال الخفي، ومنهم من ألحقه بالتدليس، والأولى التفرقة، لتتميز الأنواع. اهـ.

([8]) قال ابن حبان في «صحيحه» (1/161): وأمّا المدلسون الذين هم ثقات وعدول، فإنّا لا نحتجُّ بأخبارهم إلا ما بيَّنوا السماع فيما رووا مثل الثوري والأعمش، وأبي إسحاق، وأضرابهم من الأئمة المتقِّين وأهل الورع في الدين، لأنا متى قبلنا خبر مدلّس لم يبيّن السماع فيه، وإن كان ثقة لزمنا قبول المقاطيع والمراسيل كلّها؛ لأنَّه لا يدرى لعل هذا المدلس دلَّس هذا الخبر عن ضعيف يهي الخبر بذكره إذا عرف، اللهم إلا أن يكون المدلس يعلم أنّه ما دلّس قط إلا عن ثقة، فإذا كان كذلك قبلت روايته وإن لم يبيَّن السماع، وهذا ليس في الدنيا إلا لسفيان بن عيينة وحده، فإنه كان يدلّس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن، ولا يكار يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلَّس فيه إلا وجد ذلك الخبر بعينه قد بيَّن سماعه عن ثقة مثل نفسه، والحكم في قبول روايته لهذه العلّة، وإن لم يبين السماع فيها كالحكم في رواية ابن عباس إذا روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لم يسمع منه. اهـ.

للتواصل معنا