الأسئلة الحديثية

كيف يعرف أنّ فلاناً متساهل، أو متشدد في الجرح والتعديل؟

كيف يعرف أنّ فلاناً متساهل، أو متشدد في الجرح والتعديل؟

الناقد من النقاد يُعرف هل هو متشدد أو متساهل أو معتدل إما بنص العلماء الحفاظ المتأخرين عنه، أو المعاصرين له، بأنّه متشدد، أو متساهل، أو معتدل، وإما بالاستقراء، والاستقراء: عبارة عن جمع أقوال هذا الإمام في الرواة، وتقارن هذه الأقوال بأقوال غيره من الأئمة الذين ثبتت شهرتهم وعدالتهم في هذا الشأن، وثبت اعتدالهم في الأحكام، ويُنظر هل يوافقهم، أو يخالفهم، فإما أن تكثر منه الموافقة، وإما أن تكثر منه المخالفة.

فإذا كان يكثر من الموافقة للحفّاظ المعتدلين، حكموا فيما انفرد به بأنّه معتدل فيه، وإن كان يكثر من المخالفة، سواء كانت المخالفة بالتساهل، أو بالتشدد، حكموا على ما انفرد فيه بأنه متشدد، أو بأنه متساهل، حسب نوع المخالفة، وأيضاً يُعرف هذا من تصريح الإمام منهم بالتزامه قاعدة معينة، فإذا نظرنا في القاعدة بميزان النقد العلمي، علمنا أنّ فيها تساهلاً، كقاعدة ابن حبان في التوثيق، أو علمنا أنّ فيها تشدداً، كتصريح الإمام مالك – رحمه الله – بأن العلم لا يؤخذ الإ عمن اشتهر بطلب الحديث، وطال اشتغاله به، وقد رد ذلك الحافظ في «لسان الميزان», ونسب القائلين بهذه القاعدة إلى التعنت([1])، على أن هذه الطرق قد كفيناها بكلام الحفّاظ في الرواة، بقولهم: فلان معتدل، أو متساهل، أو متشدد، إلا أنّه لا يمنع أيضاً أن يكون هناك اجتهاد في هذه المسألة، حول الأئمة الذين لم نقف على كلام فيهم، أو عند اختلاف الأئمة فيهم.

وقد يكون للإمام نفسه في الراوي الواحد عدة أقوال، فلا بد من معرفة ما السبب في ذلك؟ هل هو تغيير اجتهاد، أم هو تغيير في كيفية السؤال؟ فقد يُسأل بهيئة، فيجيب بجواب، ويسأل بهيئة أخرى، فيجيب بجوابٍ آخر، والراوي المسؤول عنه واحد.

فأحيانا يسأله السائل، ويقول: ماذا تقول في فلان وفلان؟ ويقرنه برجل ثقة، فيقول: هذا ضعيف أي: بالنسبة إلى ذلك الثقة، فإنّه يعتبر ضعيفاً، فيسأله عنه مرة ثانية، ويقرنه برجل ضعيف، فيقول: ماذا تقول في فلان وفلان؟ فيقول: هذا ثقة، أي: هو أحسن حالاً من هذا الضعيف، فالتوثيق أو التجريح هنا أمر نسبي في تلك الحالتين، فهذا لا يكون كافياً في الحكم على الرجل كحكم عام، فلا بد من معرفة كيفية السؤال الذي وجه إلى المسؤول، ومعرفة جوابه على من سئل عنه، هل أجاب عليه جواباً واحداً، أو اختلفت أقواله، وما السبب في تغير أقواله، هل هو تغير الاجتهاد، وهل كان يضعفه، ثم بان له أنّه ثقة، أم العكس؟ أم أنّ الرجل سئل سؤالاً محتفياً بقرائن معينة، ولما سئل بموضع آخر خالٍ من هذه القرائن خالف حكمه الأول؟

كما بيّن ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – في مقدمة «لسان الميزان» فقد ذكر طرفاً من ذلك([2])، وقد ذكر الشيخ المعلمي – رحمه الله – شيئاً من ذلك، والشاهد من ذكر ما قاله الحافظ والمعلمي: أن الاجتهاد المطلق لأحد الأئمة هو المعتبر عنه، وهو الذي يعرف به كون قائله متساهلاً أو متشدداً أو معتدلاً، بخلاف الاجتهاد المقيّد بحديث معين، أو مقيد بحال الراوي بالنسبة لمن هو دونه أو فوقه، والله أعلم([3]).



([1]) قال الحافظ في «لسانه» (1/86) ترجمة إبراهيم بن عمر القصار: حدث عن ابن أبي نصر قال الكتاني لم يكن الحديث من صنعته، وقال أبوبكر بن موسى الحداد ثقة. انتهى.

قال الحافظ: والقدح بهذا إنّما يجيء على مذهب أهل التشديد ممن يشترط فيمن يقبل حديثه أن يكون من أهل الفن وقد جاء ذلك عن الإمام مالك وعن قليل ولم يشترط ذلك الجمهور فإن كان الراوي ضابطاً لما سمعه، ولا سيما إن كان قديماً لم يقدح ذلك في مرويه، ثم إن تعاطى ما لا يعرفه في الكلام على الحديث لم يقبل منه، وبالله التوفيق اهـ.

وانظر في ذلك أيضاً «تدريب الراوي» (ج1/69-70).

[2])) قال الحافظ ابن حجر: وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها فقد يقول العدل فلان ثقة ولا يريد به أنّه ممن يحتج بحديثه وإنما ذلك على حسب ما هو فيه ووجه السؤال له فقد يسأل عن الرجل الفاضل المتوسط في حديثه فيقرن بالضعفاء فيقال: ما تقول في فلان وفلان وفلان، فيقول: فلان ثقة، يريد: أنّه ليس من نمط من قرن به، فإذا سئل عنه بمفرده بين حاله في التوسط فمن ذلك أن الدوري قال عن ابن معين: أنّه سئل عن محمد بن إسحاق، فقال: ثقة، فحكى غيره عن ابن معين أنّه سئل عن ابن إسحاق، وموسى بن عبيدة الربذي، إيُّهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده، فقال: صدوق وليس بحجة، ومثله أن أبا حاتم قيل له: أيّهما أحب إليك يونس أو عقيل؟ فقال: عقيل لا بأس به، وهو يريد تفضيله على يونس، وسئل عن عُقيل، وزمعة بن صالح، فقال: عقيل ثقة متقن، وهذا حكم على اختلاف السؤال، وعلى هذا يحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة أهل الجرح والتعديل ممن وثق رجلاً في وقت وجرحه في وقت آخر، وقد يحكمون على الرجل الكبير في الجرح، يعني لو وجد فيمن هو دونه لم يجرح به، فيتعين لهذا حكاية أقوال أهل الجرح والتعديل بنصها ليتبين منها، فالعلّة تخفى على كثير من الناس إذا عرض على ما أصلناه، والله الموفق. اهـ (1/17).

([3]) قال رحمه الله في «التنكيل» (ص:254-255): ومما يدخل في هذا أنّهم قد يضعفون الرجل بالنسبة إلى بعض شيوخه أو إلى بعض الرواة عنه أو بالنسبة إلى ما رواه من حفظه أو بالنسبة إلى ما رواه بعد اختلاطه، وهو عندهم ثقة فيما عدا ذلك، فإسماعيل بن عياش ضعفوهم فيما روى عن غير الشاميين، وزهير بن محمد ضعفوه فيما رواه عنه الشاميون، وجماعة آخرون ضعفوهم في بعض شيوخهم أو فيما رووه بعد الاختلاط ثم قد يُحكى التضعيف مطلقاً فيتوهم أنّهم ضعفوا ذلك الرجل في كل شيء، ويقع نحو هذا في لتوثيق راجع ترجمة عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة بن عبدالله بن مسعود، قال أحمد: مرة ثقة، وكذا قال ابن معين، ثم بين كل منهما مرة أنّه اختلط، وزاد ابن معين فبين أنّه كان كثير الغلط عن بعض شيوخه غير صحيح الحديث عنهم.

ومن ذلك أنَّ المحدث قد يسأل عن رجل فيحكم عليه بحسب ما عرف من مجموع حاله ثم قد يسمع له حديثاً فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حاله  في ذاك الحديث، ثم قد يسمع له حديثاً آخر فيحكم عليه حكماً يميل فيه إلى حاله في هذا لاحديث الثاني، فيظهر بين كلامه في هذه المواضع بعض الاختلاف، وقع مثل هذا للدّارقطني في «سننه» وغيرها وترى بعض الأمثلة في ترجمة الدارقطني من قسم التراجم، وقد ينقل الحكم الثاني أو الثالث وحده فيتوهم أنّه حكم مطلق.

أقول: وفي قسم لتراجم (ص:588-589) قال رحمه الله -: ينبغي أ، تعلم أن كلام المحدث في الراوي يكون على وجهين:

الأول: أن يسأل عنه فيحيل فكره في حاله في نفسه وروايته ثم يستخلص من مجموع ذلك معنى بحكم فيه.

الثاني: أن يستقر في نفسه هذا المعنى ثم يتكلّم في ذاك الراوي في صدد النظر في حديث خاص من روايته، فالأول هو الحكم المطلق الذي لا يخالفه حكم آخر مثله إلا لتغير الاجتهاد، وأما الثاني فإنّه كثيراً ما ينحى به نحو حال الراوي في ذاك الحديث؛ فإذا كان المحدث يرى أنَّ الحكم المطلق في الراوي أنّه صدوق كثير الوهم ثم تكلّم فيه في صدد حديث من روايته ثم في صدد حديث آخر وهكذا، فإنّه كثيراً ما يتراءى اختلاف ما بين كلماته فمن هذا: أنَّ الحجاج بن أرطأة عند الدارقطني صدوق يخطئ فلا يحتج بما ينفرد به واختلفت كلماته فيه في «السنن» فذكره (ص35) في صدد حديث وافق فيهجماعة من الثقات فعده الدارقطني في جملة «الحفاظ الثقات» كما مر، وذكره (ص:531) في صدد حديث أخطأ فيه، وخالف مسعراً وشريكاً، فقال الدارقطني: «حجاج ضعيف» وذكره في مواضع أخرى فأكثر ما يقول: «لا يحتج به» وعلى هذا ينزل كلامه في ابن أبي ليلى فإنّه عنده صدوق سيء الحفظ ففي (ص:46) ذكر حديثاً رواه إسحاق الأزرق عن شريك عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس مرفوعاً في طهارة المني، وذكر أنَّ وكيعاً رواه عن ابن أبي ليلى عن عطاء، عن ابن عباس، من قوله، وقد رواه الشافعي عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، وابن جريج كلاهما عن عطاء، عن ابن عباس من قوله، فالحديث صحيح عن ابن عباس من قوله، وقد رواه وكيع وهو من الثقات الأثبات عن ابن أبي ليلى كذلك، ورواه شريك عن ابن أبي ليلى فرفعه، فحال ابن أبي ليلى في هذا لاحديث جيدة؛ لأنّه في أثبت الراويتين عنه وافق الأثبات، وفي رواية الأزرق عن شريك عنه رفعه وقد يحتمل أن يكون الخطأ من الأزرق، أو من شريك فإن الأزرق ربّما غلط وشريكاً كثير الخطأ أيضاً -، وقد رواه وكيع، عن ابن أبي ليلى على الصواب، فلهذا اقتصر الدارقطني على قوله: «لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك، محمد بن عبدالرحمن هو ابن أبي ليلى ثقة في حفظه شيء… إلخ».

وانظر كذلك (ص:586-587) من «التنكيل» والله أعلم.

للتواصل معنا