شبهات والرد عليها

نحن لا نقبل الفتاوى من العلماء الآمنين، المطمئنين، الذين هم خارج السجون!! ولا نقبل الفتاوى من العلماء الذين يأخذون الرواتب والمعاشات من الدولة، فلا زعامة للقاعدين!! ولا تُقْبَل فتواهم في أمر الجهاد

وقد ناظرتُ بعض الذين ابْتُلوا بهذا الفكر المائل، وذكرتُ له مكانة العلماء الكبار في هذا الدين، وشرحتُ له الواجب علينا تُجاههم، ونقلتُ له من الأدلة والآثار الدالة على ذلك حسب ما يسَّر الله به في ذلك المجلس، وختمتُ له ذلك ببيان أن منهج العلماء على خلاف طريقتهم!!

فقال: نحن لا نقبل الفتاوى من العلماء الآمنين، المطمئنين، الذين هم خارج السجون!! ولا نقبل الفتاوى من العلماء الذين يأخذون الرواتب والمعاشات من الدولة، فلا زعامة للقاعدين!! ولا تُقْبَل فتواهم في أمر الجهاد، وذكر أنه وإخوانه لم يتعلموا علمهم في حلقات المساجد، ولا فوق مقاعد المدارس والجامعات، وإنما أخذوه في بطون الزنازين، وغياهب السجون، وأنهم تلقَّوْا العلم والقيودُ ترسف في أرجلهم… إلخ.

والجواب: أن هذا كلام ثوري حماسي، ليس فيه أثارة من علم، وهو قائم على جهل مُرَكَّب، وظن فاسد، وبيان ذلك من وجوه إن شاء الله تعالى :

الأول: لا يلزم من كون العالم آمنًا مطمئنًا بين أهله وطلابه، وكونه خارج السجن؛ أنه ليس بعالم رباني!!

والناظر في تاريخ المسلمين: يجد كثيرًا من علماء الأمة، قد جعل الله لهم مكانة ومهابة في نفوس بعض السلاطين، وكانوا يجلُّونهم، ويقبلون مشورتهم، فكم كان لمالك من هيبة ووقار في نفس بعض أمراء بني العباس على ما فيهم حتى ذكروا أن المنصور أو الرشيد طلب من مالك أن يجمع الناس على ((الموطأ ((؛ فأبى مالك رحمه الله تعالى – وهذا من كمال عقله، فهل أنزل هذا من مكانته شيئًا ؟!

وهذا الزهري الذي يدور عليه الإسناد، وهو الإمام الثبت، كان يدخل على أمراء بني أمية، ويجالسهم، فهل أنزل هذا من مكانته  ورتبته ؟

وهذا ابن المبارك، والأوزاعي، والليث، وغيرهم وغيرهم، كانوا أئمة الأمصار، وفقهاء الديار، وقد عايشوا زمن انحراف في الملك؛ ومع ذلك فقد كانوا مطمئنين بين أهليهم وطلابهم، خارج السجون، يُعَلِّمون الناس ما أمرهم الله به، وما عهدوا عليه أسلافهم، وهناك آلاف المحدثين والعلماء، كانوا آمنين في المدن والأمصار والبوادي، وترحل الألوف المؤلفة من طلاب العلم إليهم، ليأخذوا العلم عنهم، مع ما كان عليه حكام زمانهم من الانحراف والظلم؛ فهل طعن فيهم أحد بهذا الطعن السامج البارد ؟! فإلى الله المشتكى من هذه العقول التي تصادر تاريخ الأمة بهذه الشبهة الساقطة!!

الثاني: أن العالم المتمسك بدينه وعلمه إذا عافاه الله من السجون والمحن؛ فإن ذلك مما يعينه على زيادة الحصيلة العلمية، التي تظهر آثارها على فتواه ومنهجه، بخلاف الشباب الذين سلكوا مسلكًا غير مسلك كبار العلماء، وزُجَّ بهم في السجون وهم لم يرسخوا بعد في العلم ولا شك أن هذا يُفضي إلى تخبط في فتواهم، وتخليط في منهجهم الذي يُرَبُّون عليه أتباعهم، متأثِّرين في ذلك بأمور نفسية، وانتقامات شخصية، فأي الفريقين أحق بالاتباع والثقة في علمه ونهجه إن كنتم تعلمون ؟!

الثالث: أن الواقع خير شاهد على آثار الفريقين على الأمة: فالعلماء نشروا العلم والدعوة في المشارق والمغارب، بل إن هؤلاء المنحرفين على العلماء ثمرة من ثمراتهم قبل أن يُبْتَلَوْا بهذا الفكر، ويستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير!! وبالعلماء دخل من دخل في الإسلام أو السنة، وبهم عُرف التوحيد، ودخلت الدعوة في عقر ديار الكفار، أما آثار هؤلاء الشباب: فقد أزكمت الأنوف، وضيَّعتْ المئات والألوف، وحَسْبُ الواحد منهم إذا أحدث فتنة: أن ينجو بنفسه وأهله، وكثير منهم ما استقر له قرار، إلا في دول المشركين والكفار!!

الرابع: قول القائل: ((لا نقبل الفتاوى ممن لهم معاشات ورواتب في الدولة)) قول ساقط؛ لأنه لا يلزم من ذلك أن يكون العالم ممن يبيع دينه بيعًا رخيصًا.

ثم هل ثبت أن هؤلاء العلماء الكبار خالفوا الحق الجلي طمعًا في رضى السلطان ؟! ) سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ().

وأما أنهم خالفوا فَهْمَ  هؤلاء الشباب؛ فلا يلزم من ذلك أنهم خالفوا الحق، فإن الأدلة النقلية، والعقلية، والتاريخية تدل على صحة مذهب هؤلاء العلماء، وصدق من قال:

فلا تَطَلَّبْ ليَ الأعواض بعدهمُ       فإن قلبي لا يرضى  بغيرهـمُ

هذا، مع  أن كثيرًا من علماء السلف رحمهم الله تعالى –كانت لهم أرزاق من بيت مال المسلمين، وذلك في أزمنة شاع فيها الظلم من كثير من الحكام وعُمّالهم، وعظمت فيها البلية باتباع الهوى، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، واختلط الحلال بالحرام في بيوت الأموال، ومن تنـزه من العلماء عن أخذ شيء من بيت المال آنذاك؛ لم يطعن فيمن  أخذ، أو يُزَهِّد الناس فيه بسبب ذلك، ولو كان ماقاله هذا القائل معتبرًا؛ لشاع تحذير الأئمة من ذلك، ولذاع اختلافهم وتفرقهم بسبب ذلك!!

وأيضًا: فهؤلاء المنحرفون عن العلماءلم يقبلوا فتاوى بعض كبار العلماء الذين لم يأخذوا معاشًا ولا راتبًا من الدولة، بل ما سَلِموا من أذى وطَرْد بعض الحكام لهم!! كما هو حال محدث العصر، وريحانة الزمان، صاحب الفضيلة شيخنا محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله  تعالى – فلم يكن له معاشٌ ولا وظيفة في الدولة، فهل شفع ذلك له عند هؤلاء الشباب الثوريين ؟! هل قالوا: إنه عالم مطرود من بلده، ومضيَّق عليه في الخطب والمحاضرات، وقد سُجن حيثُ سُجن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – وليس له معاش من حكام زمانه، فكل هذا يُسَوِّغ لنا الأخذ عنه ؟! هل راجعوا أنفسهم بهذه الأمور، أم أنهم لا يبالون بمن خالف فهمهم الفاسد، ولن يعجزوا عن إظهار علة في نظرهم ونظر أتباعهم تنفر الناس عن الأخذ من هذا الإمام وإخوانه أئمة الزمان ؟!

الخامس: ولو سألتَ كثيرًا من هؤلاء: من شيوخكم الذين أخذتم هذا الفكر عنهم ؟ لسَمَّوْا لك طبيبًا، أو مهندسًا، أو مدرسًا، ونحو ذلك، ولا شك أن هؤلاء موظفون في الدولة، أو لهم مشاريع خاضعة لنظام الدولة التي يعيشون فيها، تستلزم هذه المشاريع منهم عدم مقاومة الحاكم، وإلا ألغاها، أو ضيَّق عليها، فهل أَخْذُ مشايخهم الرواتب من الدولة جائز عندهم، ويكون وسيلة صالحة للاستعانة بها على الجهاد في سبيل الله في نظرهم أما غيرهم فرواتبهم عمالة وبيع للدين بالدنيا الفانية ؟! أليس هذا التناقض دليلًا على الخلط الذي وقع فيه هؤلاء ؟!

السادس: وكونهم لم يتعلموا علمهم في حلقات المساجد، ومقاعد المدارس والجامعات الإسلامية الموثوق بها!! فليس هذا مما يُحْمَدون به على الإطلاق، بل هذا إلى ذمهم أقرب منه إلى مدحهم!!

ولو سألت هؤلاء عن مشايخهم؛ لرأيتهم يُسَمُّون من درس في المساجد، والجامعات، والمعاهد، فيلزمهم بناء على شبهتهم هذه أن علم شيوخهم لا يوثق به!! وإذا كان علم شيوخهم لذلك ليس حجة، فما ظنك بطلابهم ؟!

هذا، مع ما سبق من بيان أن المكث في السجون لغير المتأهلين يكون سببًا في كثير من الأحيان إلى قلة الحصيلة العلمية، وتداخُل السبل، واشتباه الأمور على صاحبها، وتأثُّر الأحكام والفتاوى بما يحمله القلب من غيظ وبغض للمجتمعات… الخ، ولا شك أن لهذا كله أثره السيئ في التلاميذ والأتباع كما لا يخفى وقد ظهر أثر ذلك في كلمات صاحب هذه الشبهة، حيث عَدَّ ما ليس بمدح مدحًا، وما ليس بذم ذمًا، وهذا هو الجهل المركب!! وصدق من قال:

ذو العقل يَشْقَى في النعيم بعقله      وأخو الجهالة في الشقاوة  يَنْعَمُ

ومن البلية عذْلُ من لا يرعوي       عن غيّه  وخطابُ من لا يفهم

السابع: ومنشأ هذه الشبهة: سوء الظن من هؤلاء الشباب بعلماء الأمة الأجلاء، وقد سبق أن العلماء هم  المجددون لما اندرس من هذا الدين، فماذا بقي من خير إذا كان هؤلاء المجددون لا قيمة لفتواهم ؟ وفي أي شيء عُدَّ هؤلاء مجددين ؟ وأي خير يُرجى فيمن يلتمس التأويلات، ويتعسف ويتكلف في الاعتذار عن أخطاء الصغار، ولكنه يتهور ويسيء الظن بالشيوخ الكبار ؟! فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

الثامن: ثم ألا يعتبر هؤلاء المتهورون بتراجع من سبقهم في هذا المضمار بعد إصرارهم على هذا المنهج نحو عشرين عامًا أو أكثر، ثم أدركوا أن السلامة والنفع للأمة في منهج كبار الأئمة ؟! ألم يسمعوا تراجع حملة هذه الشبهات من قبل في مصر وغيرها من بلاد  المسلمين ؟! ألا يكفي المؤمن أن يُلدغ مرة واحدة – بل مرات – من جحر واحد ؟ ألا نستفيد من أخطاء غيرنا، ونعتبر بمن سبقنا ؟ ونبدأ من حيث انتهوا، لا من حيث بدؤوا ؟! إن هذا لشيء عجاب!!

( تتمة مهمة ): بعد تحرير هذا الجواب؛ وقفتُ على كلام للقاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني –  رحمه الله – في رسالة: ((رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين)) ضمن مجموع ((الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني))() فوجدته رحمه الله تعالى – قد أتى على هذه الشبهة من أساسها، فاجتثها من جذورها، ورمى بلُبابها وقشورها، وكشف اللثام عن جهل، أو حسد، أو سوء ظن أصحاب هذه الشبهة بأهل العلم العاملين المصلحين، وها أنذا أقتطف من جنى هذه الشجرة المباركة، ما يكون زادًا لأهل  الحق، ودعاة الصدق، وبالله التوفيق:

قال رحمه الله تعالى –: ((وما زال عَمَلُ المسلمين على هذا، منذ قامت الملة الإسلامية إلى الآن، مع كل ملك من الملوك: فجماعة يلُون لهم القضاء، وجماعة يلُون لهم الإفتاء، وجماعة يلُون لهم على البلاد التي إليهم، وجماعة يلُون لهم إمارة الجيش، وجماعة يُدرِّسون في المدارس الموضوعة لذلك، وغالب جراياتهم من بيت المال )).

قال: ((فإن قلت: قد يكون من الملوك من هو ظالم جائر!!

قلت: نعم، ولكن هذا المتَّصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم، بل ليقضي بين الناس بحكم الله، أو يفتي بحكم الله، أو يقبض من الدعاوَى ما أوجبه الله، أو يجاهد من يحق جهاده، ويعادي من تحق عداوته، فإن كان الأمر هكذا؛ فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته؛ لم يكن على هؤلاء مِنْ ظلمه شيء، بل إذا كان لأحدهم مدخل في تخفيف الظلم ولو أقل قليل، أو أحقر حقير كان مع ما هو فيه من المنصب مأجورًا أبلغ أجر؛ لأنه قد صار مع منصبه في حكم من يطلب الحق، ويكره الباطل، ويسعى بما تبلغ إليه طاقاته في دفعه، ولم يُعِنْه على ظلمه، ولا سعى في تقرير ما هو عليه، أو تحسينه، أو إيراد الشبهة في تجويزه، فإذا أدخل نفسه في شيء من هذه الأمور؛ فهو في عداد الظلمة، وفريق الجَوَرة، ومن جملة الخونة، وليس كلامنا فيمن كان هكذا، إنما كلامنا فيمن قام بما وُكل إليه من الأمر الديني، غير مشتغل بما هم فيه، إلا ما كان من أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو تخفيف ظلم، أو تخويف من عاقبة، أو وعظ فاعله بما يندفع فيه بعض شره.

وكيف يُظن بحامل العلم، أو بذي دين: أن يداخل الظلمة فيما هو ظلم، وقد تبرأ الله سبحانه إلى عباده من الظلم…)).اهـ.  ثم ذكر رحمه الله تعالى – آيات وأحاديث في التحذير من عاقبة الظلم.

ويا ليت شعري أين صاحب هذه الشبهة العليلة أمام صنيع جمهور الأعيان من الأولين والآخرين ؟! وعلى هذا فيلزم صاحب هذه الشبهة أن يطعن في أئمة المسلمين منذ قامت الملة الإسلامية إلى الآن!!

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى -: ((لكن نقول: وجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين، وولاة أمورهم، وعامتهم؛ لا يمنع أن يُشارَك فيما يعمله من طاعة الله، وأهل السنة لا يأمرون بموافقة ولاة الأمور إلا في طاعة الله، لا في معصيته، ولا ضرر على من وافق رجلًا في طاعة الله، إذا انفرد ذلك عنه بمعصيته لم يَشْرُكْه فيها، كما أن الرجل إذا حج مع الناس، فوقف معهم، وطاف؛ لم يضره كونُ بعض الحجاج له مظالم وذنوب ينفرد بها، وكذلك إذا شهد مع الناس الجمعة، والجماعة، ومجالس العلم، وغزا معهم؛ لم يضره أن يكون بعض المشاركين له في ذلك ذنوب يختص بها .

فولاة الأمور بمنـزلة غيرهم: يُشارَكون فيما يفعلونه من طاعة الله، ولا يُشارَكون فيما يفعلونه من معصية الله… )). () .اهـ.

وقال أيضًا في سياق تولية الولاة لعمالهم الأمثل فالأمثل: ((… وكذلك يوسف كان نائبًا لفرعون مصر، وهو وقومه مشركون، وفَعَلَ من العدل والخير ما قَدَرَ عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان ))() .اهـ.

وقد قال صاحب الفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى – معلقًا على هذا الموضع في شرحه لرسالة الشوكاني رحمه الله تعالى –():

لا شك أن كلام الشوكاني هذا جيد، يعني مثلًا لكوننا لا نعمل ما ينفع المسلمين تحت ظل الولاة الظلمة، هذا غلط عظيم، بل الواجب أن نعمل ما يلزمنا، فيما فيه صلاح المسلمين، ونحاول نُصْح هؤلاء، وبيان الحق لهم.

لا شك أن الإنسان لو قال كلمة الحق بإخلاص؛ ستؤثِّر، ولا أدلَّ على ذلك من قول موسى عليه السلام – حينما اجتمع السحرة، فقال  لهم: )وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ( ()، فماذا أثَّرتْ هذه الكلمة ؟ ) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ (() والفاء تدل على الترتيب، والتعقيب، والسببية، أي بمجرد ما قال  هكذا؛ تنازعوا أمرهم بينهم، وإذا تنازع القوم؛ فشلوا: ) ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ( ().

فالواجب على الإنسان: أن يعمل بما فيه مصلحة المسلمين، ويسأل الله الهداية للولاة الظَّلَمة.

وبهذا نعرف خطأ من يُنفِّرون من الوظائف في البلاد التي يكون فيها ولاتها غير مستقيمين على شرع الله: إما من العلمانيين، أو من المحكِّمين للأنظمة والقوانين المخالفة لشريعة الله، يجب علينا ألا نترك ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين )).اهـ.

ولا شك أن المرء في كثير من الأحيان إذا أراد أن يفعل خيرًا قد اقترن به شر، أو يترك شرًّا قد اقترن به خير؛ فلا بد له من النظر إلى الأغلب منهما، وترجيح الإقدام أو الإحجام على ضوء ذلك.

قال شيخ الإسلام: ((فالواجب عليه: أن ينظر أغلب الأمرين: فإن كان المأمور أعظم أجرًا مِنْ تَرْكَ ذلك المحظور؛ لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة، وإن كان تَرْكُ المحظور أعظم  أجرًا؛ لم يُفوِّتِ ذلك برجاء ثوابٍ بفعلِ واجبٍ يكون دون ذلك، فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات، فهذا هذا، وتفصيل ذلك يطول ))().اهـ.

فهذا كلام أهل العلم يشد بعضه بعضًا، فلا تلتفت إلى الكلام العاطفي البعيد عن الأصول العلمية، والطريقة السلفية!!

وقد ذكر القاضي العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى – أن الاتصال بالملوك قد يكون واجبًا أو مستحبًا حسب الحال، وذكر أن امتناع أهل العلم والدين عن ذلك يؤدي إلى تعطيل الشريعة المطهرة، لعدم وجود من يقوم بها، وبَسَط رحمه الله تعالى – القول في ذلك، وذكر صنْفي الناس تجاه ملوكهم، وأن من الغلاة من ينتكس أقبح انتكاسة، ويتخلّى عما كان عليه، إذا وجد طريقًا إلى وَليّ أمره، أو من دونه!! ثم ذكر رحمه الله تعالى – مقاصد أهل العلم والدين في دخولهم على السلاطين، وذكر قصصًا وعبرًا في ذلك… ثم قال:

((ثم هذا المُزْري على من يتصل بسلاطين الإسلام من أهل العلم والفضل، قد لزمه لزومًا بيِّنًا: أن يتناول هذا الطعنُ كلَّ من اتصل بسلاطين الإسلام، منذ انقراض خلافة النبوة إلى الآن؛ فإنه لا بد في كل زمان من طَعْن طاعن، ولا بد أيضًا من صدور ما يُنكَر من أهل الولايات، وإن كثر منهم ما يُعرف…)).

إلى أن قال: ((ولا يمكن حَصْر عدد من يتصل من أهل العلم والفضل بسلاطين قرْن من القرون، بل بسلاطين بعض القرن في جميع الأرض…)).

وقال: ((وإذا كان الأمر هكذا؛ فكم لهذا الطاعن المشؤوم من خصوم ؟!… )).

ثم قال: ((… ومع هذا: فالمتَّصل بهم من أهل المناصب الدينية، قد يُغْضي في بعض الأحوال عن شيء من المنكرات لا لرضى به بل لكونه قد اندفع بسعيه ماهو أعظم منه، ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشدد فيما هو دونه، وهو يعلم أنه لو تشدد في ذلك الدُّون؛ لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه، وأشنع، وأفظع، كما يُحكى عن بعض أهل المناصب الدينية: أن سلطان وقته، أراد ضرب عنق رجل لم يكن قد استحق ذلك شرعًا، فما زال ذلك العالم يدافعه، ويصاوله، ويحاوره، حتى كان آخر الأمر الذي انعقد بينهما: على أن ذلك الرجل يُضْرَب بالعصا، على شريطة اشترطها السلطان: وهو أن يكون الذي يَضْرِبه ذلك العالم، فأُخْرِج الرجل إلى مجمع الناس الذين يحضرون مثل ذلك للفُرْجة، فضربه ضربات، فتفرق ذلك الجمع، وهم يشتمون أقبح شتم، وهم غير ملومين؛ لأن هذا في الظاهر منكر، فكيف يتولاه من هو المرجو لإنكار مثل ذلك، ولو انكشفت لهم الحقيقة، واطلعوا على أنه بذلك أنقذه من القتل، وتفاداه بضرب العصا عن ضرب السيف؛ لرفعوا أيديهم بالدعاء له، والترضِّي عنه:

ويظن الجهول قد فسد الأمر       وذاك الفسادُ عينُ الصـلاح )).

إلى أن قال – رحمه الله  -: ((… إذا عرفت هذا، وتبين لك أن الأفعال المخالفة للشريعة في بعض الحالات، وكذلك الأحوال التي تكون ظاهرة المخالفة؛ قد تكون على خلاف ما يقتضيه الظاهر، ( ويَتَبَيَّن ) أنها من أعظم الطاعات، وأحسن الحسنات، فكيف ما كان منها محتملًا ؟!

هل ينبغي لمسلم أن يسارع بالإنكار، ويقتحم عقبة المحَرَّم من  الغيبة أو البهت، وهو على غير ثقة من كون ما أنكره منكرًا، كون ما أمر به معروفًا، وهل هذا إلا الجهل الصراح، أو التجاهل البواح ؟!…)).اهـ.

قال: صاحب الفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى – معلِّقًا على هذا الموضع في شرحه لرسالة الشوكاني رحمه الله تعالى – (): ((هذا صحيح، وهذه مسألة مهمة: أن بعض أهل العلم والفضل يتصل بالسلطان، ويعرف أنه يفعل المنكرات والمعاصي، لكن بعضها أخف من بعض، ويعلم أنه لو أنكر عليه هذا الصغير؛ لنفر منه السلطان، وقال: هذا متشدد، متزمِّت، لاسيما إذا وقع من الحوادث ما يقتضي ذلك، لأن هناك فرقًا بين أن يكون الناس راكدين، والجو بارد ومناسب، وبين أن يكون الجو مكهربا، ربما تنصح مثلًا سلطانًا من السلاطين في حال الجو المعتدل؛ فيقبل، لكن في حال الجو المتكهرب يحصل التماس، وحينئذ تنقطع الحبال، ويُحَوَّل هذا النصح في هذه المسألة الصغيرة على أنه تزمُّت وتشدُّد، ولا يُقبل النصح في هذه المسألة الصغيرة، ولا فيما هو أكبر منها.

ولكن الإنسان الحكيم يعرف كيف يتصرف، وكثير من السُّطحاء يَحْكُمون على الأمور بظاهر الحال، ويقولون: ليش يفعل كذا ؟ ليش ما يفعل كذا ؟ وليش يتصل بالسلاطين وهم يقولون كذا، ويفعلون كذا التي هي صغيرة أو كبيرة ؟!

لكن المتصل بالسلطان لا بد أن يكون على علم بحاله، وفكره، ونفسيته؛ فيراعى الأحوال إذا كان ناصحًا لله ورسوله )).اهـ.

ثم ذكر الشوكاني رحمه الله تعالى – من يفرحون بزلة العالم، ويطيرون بها كل مطار، ويذيعونها في المدن والأمصار، أما إن كانت له حسنة؛ حرفوها، فإن عجزوا؛ كتموها، ثم قال: ((فما أحق من كان ذا عقل ودين ألا يرفع إلى مخرقتهم رأسًا، ولا يفتح لخزعبالاتهم أذُنُا، كما قلت من أبيات:

فما الشُّمُّ الشوامخ عند ريحٍ          تمـرُّ علـى جوانبها تمـود

ولا البحر الخِضَمُّ يُعابُ يومًا          إذا بالَتْ بجانبه القرود… )).

ثم قال رحمه الله تعالى –: ((وبالجملة: فإني أظن أن الظَّلمة في الأعراض أجرأ من الظَّلَمة في الأموال؛ لأن ظالم المال قد صار له وازع على الظلم، وهو المال الذي به قيام المعاش، وبقاء الحياة، ثم قد حصل له من مظلمته ما ينتفع به في دنياه، وإن كان سحتًا (يجتاحه) حرامًا، وظالم الأعراض لم يقف إلا على الخيبة والخسران، مع كونه فَعَلَ جُهْدَ من لا جُهد له، وذلك مما تنفر عنه النفوس الشريفة، وتستصغر فاعلَه الطبائعُ العليَّة، والقوى الرفيعة )). اهـ كلامه –  رحمه الله تعالى  –.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – في سياق كلامه على نوعي التعامل مع الولاة: ((الأول: تعاون على البر والتقوى: من الجهاد، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة؛ فقد ترك فرضًا على الأعيان، أو على الكفاية، متوهمًا أنه متورع، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل والورع، إذْ كلُ منهما كَفٌّ وإمساك))() .اهـ.

قلت: وليس لي بعد كلام هؤلاء الفحول تعليق، فقد قيل: لا عِطْر بعد عروس، وقطعت جهيزة قول كل خطيب، فلله دَرُّهم، وعليه أجرهم، وهو المرجو أن يهدينا وإخواننا سواء السبيل.



([1]) [ النور: 16 ].

([2]) (1) (9/4667-4684) تحقيق الشيخ أبي مصعب محمد صبحي حلاق ـ حفظه الله تعالى ـ ط / مكتبة الجيل الجديد.

([3]) ((منهاج السنة النبوية)) ( 4/113-114) وانظر ( 4/ 525-526).

([4]) ((مجموع الفتاوى)) ( 28/ 68).

([5]) الشريط (1/أ).

([6]) [ طه: 61 ].

([7]) [ طه: 62 ].

([8]) [ الأنفال: 46 ].

([9]) ((مجموع الفتاوى)) ( 28/ 168) وانظر ((منهاج السنة)) ( 4/ 527-528).

([10]) الشريط (2/أ).

([11]) ((مجموع الفتاوى)) (28/283).

أضف تعليق

انقر هنا لنشر

للتواصل معنا