شبهات والرد عليها

لقد رأينا تناقض هؤلاء العلماء الذين تَدْعُون الناس إلى لزوم غرزهم، فوجدناهم يفتون بالجهاد في أفغانستان ضد الروس، لما أَذِنت لهم أمريكا، ولم نرهم يفتون بذلك في العراق ضد التحالف الذي اجتاح العراق، لأن أمريكا هي الخصم الآن، ومن كان كذلك؛ فلا نأخذ بفتواه!!

قال كثير منهم: لقد رأينا تناقض هؤلاء العلماء الذين تَدْعُون الناس إلى لزوم غرزهم، فوجدناهم يفتون بالجهاد في أفغانستان ضد الروس، لما أَذِنت لهم أمريكا، ولم نرهم يفتون بذلك في العراق ضد التحالف الذي اجتاح العراق، لأن أمريكا هي الخصم الآن، ومن كان كذلك؛ فلا نأخذ بفتواه!!

والجواب على قسمين:

أ ـــ جواب مجمل: لو سلمنا جدلًا بخطأ العلماء في هذا؛ فمعلوم أن العلماء سلفًا وخلفًا جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا ليسوا بمعصومين إلا إذا أجمعوا، فهم بشر يجتهدون حسبما آتاهم الله من علم وفهم، وقد يخطئون، لكنهم في الغالب يصيبون، وإلا فلو كانت أغلب الفتاوى من نوع الخطأ؛ لزعزع ذلك في مكانة العالم من الناحية العلمية، بل لا يُعَدُّ عندئذٍ من العلماء الذين يُرْجَع إليهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في وصف العلماء الربانيين: (( ومن له في الأمة لسان صدق عام، بحيث يُثْنَى عليه، ويُحمَد عليه في جماهير أجناس الأمة؛ فهولاء أئمة الهدى، ومصابيح الدُّجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامَّته في موارد الاجتهاد التي يُعذَرون فيها …))([1]).

وإذا كان العالم يصيب ويخطئ وهذا مقتضى البشرية فلا بد أن نتعامل معه بالشرع لا بالهوى، ويتلخص الموقف الشرعي هنا في مواضع:

1 ـــ أن نُقِرَّ له في الجملة بالثواب الذي ورد في قول الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا حَكمَ الحاكم، فأصاب؛ فله أجران، وإذا أخطأ؛ فله أجر))([2]) وهذا في علمائنا الصادقين الذين يهمهم أمر التوحيد والسنة، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خيرًا.

2 ـــ لا نتابعه على خطئه، ونستغفر له، ونناصحه بالتي هي أحسن بما يليق بمقامه، ولا يُضَيَّع حق الشريعة أيضًا بمجاملته وعدم نصحه، وبهذا نكون قد حافظنا على كرامة الشريعة وكرامة حملتها.

3 ـــ أن نجلّه ونكرمه، ولا نهدر حسناته لاجتهادٍ أخطأ فيه، ولا نُعْرِض عنه لاجتهادٍ جانَبَ فيه الصواب، وهذا مقتضى العدل الذي أمرنا الله عز  وجل   – به خلافًا لأهل البدع: أهل الإفراط والتفريط.

فقال سبحانه: ) وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا (([3])، وقال تبارك وتعالى: ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ (([4])، وقال عز  وجل   – : ) وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( ([5]) ويقول سبحانه وتعالى: ) وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ( ([6]).

وقد صرح السلف رحمهم الله تعالى – بعدم إهدار حسنة من أخطأ من العلماء؛ لأن في ذلك فسادًا عظيمًا، فقال الإمام ابن القيم رحمة الله   عليه  – ([7]): ((…..فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرك جملة، وأُهدرت   محاسنه؛ لفسدت العلوم والصناعات والحِكَم، وتعطلت  معالمها...)).اهـ.

وقال الذهبي في ((النبلاء  ([8]): ((… ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه، وتَوَخِّيه لاتباع السنة أهدرناه، وَبَدَّعْناه؛ لقلَّ مَنْ يَسْلَم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنِّه وكرمه )).اهـ.

وقال في ((النبلاء)) أيضًا ([9]): ((ولو أن كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطًا مغفورًا له، قُمنا عليه، وبدَّعناه، وهجرناه؛ لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة )).اهـ.

وقال في ((النبلاء)) أيضًا ([10]): ((ثم إن الكبير من أئمة العلم، إذا كثر صوابه، وعُلِمَ تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه؛ يُغْفر له زلَلُهُ، ولا نضَلِّله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم: ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجوا له التوبة من ذلك)).اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – ([11]) : ((ثم الناس في الحب والبغض، والمولاة والمعاداة: هم أيضًا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة، وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه؛ أحب الرجل مطلقًا، وأعرض عن سيئاته، وإذا عَلِمَ منه ما يبغضه؛ أبغضه مطلقًا، وأعرض عن حسناته، وهذا من أقوال أهل البدع،  والخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، وأهلُ السنة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع…)).اهـ.

وقال الإمام المجدِّد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله – ([12]) في رسالة  له: ((… ومتى لم تتبين لكم المسألة؛ لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل، حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ؛ بينتموه، ولم تُهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة، أو مائة، أو مائتين أخطأتُ فيهن، فإني لا أدعي العصمة )).اهـ.  

والكلام في ذلك يطول، ولقد صنفت في هذا كتابًا لطيفًا ردًّا على بعض دعاة الغلو في هذا العصر وسميته ((القول المفْحِم لمن أنكر مقالة نصحح ولا نهدم)) فارجع إليه إن شئت.

ب ـــ الجواب المفصل:

هذا كله لو سلمنا بأن العلماء قد أخطؤوا، ويجب أن تعرف أخي الكريم : أن نظرة العلماء جزاهم الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين للنوازل التي تنـزل بالأمة، والأمور المدلهمة؛ تختلف عن نظرة الحزْبي المتحرِّق، أو العامي صاحب الحماس المتدفق، أو الشاب الغيور مع قلة البصيرة في هذه الأمور.

وذلك: أن العلماء ينظرون للحال والمآل، ويرون ما يراه الناس من ظلم وبطش وغطرسة، لكنهم لا يَنْجَرُّون وراء عواطفهم، ولا عواطف العوام؛ لأنهم يعرفون ما لا يعرف الناس من عواقب الأمور، فيرجعون إلى فهم السلف، وقواعدهم، وتجاربهم، ونصائحهم، فيرون أن المواجهة المسلحة في كثير من الحالات تفضي إلى فساد عظيم، فيتسع الخرق على الراقع، ولا يُغيِّر ذلك مما هو واقع، إلا بما يزيل ما بقي من خير ومنافع!!

فعند ذلك يُوصُون الناس بالصبر الأذى، والاستكانة إلى الله عز  وجل  – والتضرع والابتهال إليه، وإصلاح ما فسد من الأمة في عقيدتها وعباداتها ومعاملاتها، لأن ذلك هو سبب هذه الفتنة، لقوله  تعالى: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (([13])ولقوله تعالى: )وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً  ضَنْكًا(([14])وقوله تعالى )وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ !وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (([15]) وقوله عز  وجل   –: ) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ! كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( ([16]) إلى غير ذلك من الآيات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى –: ((وحيث ظَهَر الكفار؛ فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم؛ نصرهم الله، كما قال تعالى: ) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (([17]).

وقال: ) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ( ([18]). اهـ([19]).

وقال أيضًا: ((وإذا كان في المسلمين ضعف، وكان عدوهم مستظهرًا عليهم؛ كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم: إما لتفريط في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرًا، قال تعالى: ) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا (([20]) وقال تعالى: ) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (([21])وقال تعالى: ) وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ! الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ       الأُمُورِ ( ([22]).اهـ. ([23])

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى –: ((فلو رجع العبد إلى السبب والموجِب؛ لكان اشتغاله بدفعه أجدى عليه، وأنفع له من خصومة من جرى على يديه، فإنه وإن كان ظالمًا فهو الذي سلطه على نفسه بظلمه، قال الله تعالى: ) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (([24])، فأخبر أن أذى عدوهم لهم، إنما هو بسبب ظلمهم، وقال تعالى: ) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (([25]) )).اهـ. 

وقال الإمام ابن القيم أيضًا: ((وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) ([26]) وقال: ) فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (([27]) فَمَنْ نَقَصَ إيمانه؛ نَقَصَ نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عَدُوٍّ عليه؛ فإنما هي بذنوبه: إما بترك واجب، أو فِعل محرم، وهو مِنْ نَقْص إيمانه )).

قال: ((وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: ) وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ( ([28]) ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلًا في الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلًا في الحجة.

والتحقيق:… أن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضَعُف الإيمان؛ صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بحسب ما تركوا من طاعة الله تعالى، فالمؤمن عزيز، غالب، مؤيَّد، منصور، مَكْفِيٌّ، مدفوع عنه بالذات أين كان ولو اجتمع عليه مَنْ بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان  وواجباته، ظاهرًا وباطنًا، وقد قال تعالى: ) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (([29]) وقال تعالى: ) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (([30]) فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التي هي جُنْدٌ من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها  عنهم، ويقتطعها عنهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم، إذا كانت لغيره، ولم تكن موافقة لأمره))([31]).اهـ.  

هذه هي الخطوة الأولى لإصلاح الراعي والرعية، ويسلك العلماء لتحقيق هذه الغاية: طريق الدعوة إلى الله تعالى، وهكذا يسعون لتحقيق كل ما أوجبه الله عز  وجل   – على الأمة من إعداد القوة الإيمانية والمادية، وتلاحم الصفوف كل ذلك حسب الاستطاعة أما غيرهم من الشباب المتحمس بدون ضوابط شرعية فيصرخ في الناس: أن هُبُّوا لإنقاذ إخوانكم، واحملوا السلاح، واجتازوا الحدود!! علمًا بأنه لو كان المسلمون قادرين على ذلك؛ لسبقه العلماء إلى هذه الفتوى، أو أن العلماء يرون أنهم صرَّحوا بذلك، جرُّوا على البلاد شرًّا أعظم، وعجزوا عن نصرة إخوانهم، فلا إخوانهم نصروا، ولا باستمرار الخير ظفروا، والله المستعان.

أقول هذا، وإن أحوال المسلمين وما يحل بهم ليعصر قلبي أسىً وحسرةً، لكن الأمر إذا لم يرجع إلى كبار أهل العلم؛ ازداد الطين بِلة، والله المستعان.

إن كثيرًا من الناس  يُكثرون من وصف واقع المسلمين، وما فيه من ذلةٍ وضعف، ويذكرون ما يفعله الكفار بالمسلمين في مشارق الدنيا ومغاربها، وكل هذا معلوم للراسخين في العلم من علمائنا، ولكن كيف يكون العلاج ؟

هل يكون العلاج باقتحام الأهوال، وإن أدى ذلك إلى زيادة ضعف المسلمين، وشدة تسلط الكافرين ؟!

إن العلماء يرون أن الأمر إذا أدى إلى ذلك؛ فلايكون العلاج إلا بالصبر على الأذى، والابتهال إلى الله عز  وجل   – مع التوبة النصوح، ونصح ولاة الأمور بالتي هي أحسن، وتذكيرهم بحق الله وحق العباد عليهم، مع الاشتغال بالدعوة إلى الله تعالى، ونشْر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة ما أمكن، هذا الذي علينا، والأمور كلها بيد الله عز وجل، والعلماء متبعون في ذلك لنصوص الشريعة وقواعدها، وتجارب السلف والخلف.

أما الشباب فيرون إعلان الحرب على غير المسلمين، وإذا وقف حكام المسلمين بينهم وبين ذلك؛ بدؤوا بقتالهم!! وهكذا يتسع الخَرْق على الراقع، وهذا حال المنْبَتِّ: لا أرْضًا قَطَعَ، ولا ظَهْرًا أبقى!!

إذًا، فالعلماء ينطلقون من قواعد محكمة، لا عواطف مدمِّرة، والواقع يشهد بصحة اجتهادهم: فعندما كان المسلمون قادرين على إخراج الروس من أفغانستان؛ استعانوا بالله عز  وجل   – أولًا، ثم استفادوا من وجود ظروف أخرى مساعدة على ذلك: كالتنافس الموجود بين الدولتين المتصارعتين آنذاكوكون الوهن قد دبّ دبيبه في صفوف الروس، ووجود شِبْه إجماع من الطوائف في داخل أفغانستان وخارجها على قتال الروس، وموافقة ولاة الأمور في عدة دول على  ذلك، سواء كان ذلك منهم مباشرة أو بإيعاز من أمريكا.

المهم لقد تهيأت ظروف صالحة للفتوى بالجهاد ضد الروس، والعلماء ينطلقون من قوله تعالى: ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (([32])وقوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم)) وينطلقون أيضًا من القاعدة الشرعية: ((ما لا يُدْرَك كله؛ لا يُتْرَك جُلُّه)) فمن أجل هذا وذاك وذلك؛ أفتى العلماء بالجهاد في أفغانستان، وأجرى الله بذلك خيرًا، وطُرِد الروس، ولولا أن قَدَّر الله أمورًا أخرى داخل الصفوف هناك فكان من أمر الله ما كان لكان لتلكلم الجهود شأن آخر ) وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ( ([33]).

ولما لم تتهيأ الظروف السابقة فيما حدث بَعْدُ مِنْ فتن، بل اجتمع الأعداء جميعًا على الأمة بصور مختلفة، ورفعت الفتنة والاضطرابات عقيرتها بين الشعوب والحكام؛ رأى العلماء الإمساك عن الفتوى بذلك؛ خشية أن تجر هذه الفتوى على الأمة مالا طاقة لها به، وحذرًا من أن تكون الفتوى سببًا في اجتياح ما بقي من بقايا الخير في الأمة، فرأوا أن ارتكاب المفسدة الصغرى بالسكوت؛ أهون من ارتكاب المفسدة العظمى، وهذا موافق لقواعد السلف.

بل قد جرى نحو ذلك في تاريخ بعض السلف، عندما تفرق المسلمون دولًا ودويلات، وعندما استفحل شر العدو في الخارج، وانتشر شر أهل الأهواء في الداخل، وما أمر العُبيديين وأشباههم عنا ببعيد، فكان علماء السنة الذين أدركوا تلكم الأعصار والأحوال، وأحسوا بضعف المسلمين ماديًّا، وعدم قدرتهم على المواجهة لإخراج الباطنية والحلولية الزنادقة من بلادهم؛ كانوا ينصحون بالصبر وإصلاح ما أمكن إصلاحه، والحفاظ على ما بقي من خيروإن كان شيئًا يسيرًا وكذا موقف الإمام أحمد في الإنكار على من أراد الخروج على الواثق – على ما فيه – وهذا من باب الأخذ بالأسباب التي في الإمكان والطاقة، ومن أخذ بالأسباب التي يقدر عليها؛ فهو محسن غير مسيء، ومن كان كذلك؛ نزل تأييد الله له ونصره إن شاء  الله تعالى – والله تعالى يقول: ) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ( ([34]) ويقول سبحانه: ) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ( ([35]).

فلا بد أن يُعْلم: أن النصر إنما يكون بالصبر والسكوت عن إثارة الفتن عند العجز عن المواجهة، كما أنه يكون بإعداد القوة والرمي عند القدرة بدون مفسدة مماثلة أو أكبر تعود على الإسلام وأهله، أما المخالفون فيظهر من حالهم ومقال بعضهم أن الصبر، أو التضرع، أو الابتهال: سلاح العجائز، ولابد من مواجهة من لا طاقة للمسلمين بمواجهته، وإن أدى ذلك إلى ما لا تُحمد عاقبته، المهم لا بد عندهم مِنْ رَفْع عَلَم الجهاد المسلَّح في كل الأحوال، وإن أهلك الأعداء الحرث والنسل!!

والشباب يظنون أن علماء المسلمين اليوم يقدرون على أن يقوموا مقام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – عندما غزا التتار الشام، ولكن العلماء أعرف بحالهم وقدراتهم،كما أنهم أعرف بقدرات أمة الإسلام وأحوالها من هؤلاء الشباب الذين يتسرعون في اتهام العلماء بما لا يجوز، والله المستعان.

فإذا تقرر هذا؛ فما هو الفرق بين صنيع علمائنا المعاصرين، وصنيع أئمتنا السابقين ؟! إلا أن المخالفين للعلماء لا يعرفون تفسيرًا لحكمة العلماء إلا رميهم بالتناقض، والخنوع، والخضوع للملوك والرؤساء والشيوخ في حق أو في باطل، وبيْع الدين بالدنيا، وعبادة العباد من دون رب العباد… إلى غير ذلك مما طفحت به صفحات الكتب، وبطون الأشرطة، وشاشات ((الإنترنت)) والفضائيات!!

إن هذا الأسلوب في ازدراء العلماء، وتنقُّصهم، وحمل مواقفهم على التي هي أسوأ: هو أسلوب الصحفيين العلمانيين، والمحَلِّليين السياسيين المفتونين ونحوهم، وليس من هَدْى العلماء، ولا وقار طلاب العلم مع علماء الأمة في شيء، حتى وإن سلمنا بخطأ العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون!!

(تنبيه): لقد أمسك أبو هريرة رضي الله عنه  – عن ذكر أحاديث الفتن خشية على نفسه، ولأن كثيرًا من الناس لا يحسنون فهمها، وقد يؤول أمر بثِّها ونشرها في الناس إلى ما هو أعظم، فقد جاء في ((صحيح البخاري))([36]) قال أبو هريرة رضي الله عنه  –: ((حَفِظْتُ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وعائين؛ فأما أحدهما فبثَثْتُه، وأما الآخر فلو بثثْتُه؛ قُطع هذا البلعوم)) فهل رماه أحد من علماء الأمة سلفًا وخلفًا بما يرمي به هؤلاء علماءنا من جبن وضعف وعمالة ؟!

وعلى مذهب هؤلاء لا يَسْلَم أبو هريرة من أن يقال له: لم كتمت العلم الذي فيه مصلحة البيان، وإنهاء الفتن في أقرب وقت، وذلك إذا عُلم المصيب من المخطئ من خلال هذه الأحاديث ؟… الخ، لكن أبا هريرة رضي الله عنه  – يعلم أن تأويل المخالف للأدلة بَحْر لا ساحل له لاسيما في زمن الفتنة ولا يكون من وراء بثها خيرٌ يُذْكَر بجانب الشر الذي سيقع والله أعلم .

وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمعاذ في نحو ذلك بقوله: ((لا تبشرهم فيتكلوا))([37])وانظر ما نقله الحافظ في ((الفتح))([38]) عن بعض أئمة السنة من كراهية التحدث بما يُثير الفتنة، وهذا الذي عليه علماؤنا، فكان ماذا ؟!

وهذا الحديث وغيره فيه جواز كتمان العلم للمصلحة، أما المخالفون: فكتمان العلم الذي يتصل بالأمراء والفتن عندهم لا يكون إلا عمالة وركونًا إلى الدنيا!! مع أن أبا هريرة كتم ذلك  للمصلحة.

والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يُشْهِر وصْفَ الأغيلمة الذين يكون هلاك الأمة على أيديهم، فلم يجعل وصفهم عامًا للناس جميعًا، إنما خصَّ به أبا هريرة دون الصحابة، وهذا كله يدل على أن الهدْي النبوي عدم إشهار الكلام على الحكام، وأما اليوم فإنك تجد الجدل والنـزاع وارتفاع الأصوات في المساجد، والمجالس، وناقلات الركاب، وفي الأسواق، والشوارع، وغير ذلك بين الكبير والصغير، والذكر والأنثى في هذه الأمور!! فأين هؤلاء من خير الهدْى ؟!

هذا، وقد رأينا بعض الطاعنين في علمائنا عندما يقترب من الحكام ويدنو منهم؛ يفعل من المخالفات ما لا يُتصور من مثله، بدعوى: أن مصلحة الدعوة تقتضي هذا!! مع أن علماءنا لم يفعلوا ذلك، ولهم قدم صدْق، ويد بيضاء، ومواقف لا يجحدها إلا جاهل أو متحامل، لكن أعذارهم الشرعية مرفوضة عند القوم!! وتَعَلُّلات أصحابهم الحزبية،وتأويلاتهم الحركية مقبولة عندهم، وتشهد لها الأدلة والقواعد- في نظرهم !!، وصدق من قال:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة       ولكن عين السخط تبدي المساويا

ومن قال:

نظـروا بـعين  عـداوة لـو أنها    عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا

وإذا كان علماؤنا يتبعون منهج السلف، وعُدَّ ذلك من معايبهم؛ فماذا يقولون إذًا ؟!، وصدق من قال:

إذا محاسـنيَ الـلاتي أُدِلُّ بهـا     عُدَّتْ ذنوبًا فقُل لي كيف أعتذر ؟!

خلاصة الجواب على هذه الشبهة مع زيادات مهمة :

1ـــ أن علماءنا يسيرون على منهج السلف في فتاواهم لا سيما في فتاوى النوازل ولا أَدَّعِي عصمتهم، ولا ادَّعَوْا هذا لأنفسهم، وكفى المرء نُبْلا أن تُعدَّ معايـبه، والأصل في الفتن قلة الكلام والخوض فيها، مع الإقبال على الطاعات، بخلاف حال كثير من الناس، والله المستعان.

2ـــ أن علماءنا لا تستفزُّهم عواطف العامة والمتحمسين، فيفتون بما يرضيهم، وإن أفضى إلى ما هو أسوأ، إنما يلزمون منهج السلف، رضى من رضى، وسخط من سخط!!

3ـــ أن العامة وأشباههم لا يدركون صحة مذهب العلماء؛ إلا بعد مرور فترة من الزمن، وقد قيل: الفتن إذا أقبلت؛ عرفها العلماء، وإذا أدبرت؛ عرفها الناس كلهم أو جلهم، فيدرك عند ذاك كثير منهم أن العلماء لو اتبعوهم على حماسهم؛ لَحَدَثَتْ أمور لا تُحْمَد عقباها: )وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ  فِيهِنَّ (([39]) ومع ذلك يا ليت هؤلاء يتعظون من هذه المواقف، فيتركوا رأيهم لاجتهاد العلماء في مسائل أخرى مشابهة لهذه الحوادث، لكنهم وللأسف يعودون لذلك مرات عديدة !!

فما على العلماء إلا التشبث بالحق الذي تشهد له الأدلة، وإرضاء الناس غاية لا تُدْرَك، ومن أصلح مابينه وبين الله؛ أصلح الله مابينه وبين الناس، وصدق الله عز  وجل   – القائل: ) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ( ([40])والقائل سبحانه وتعالى: ) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ( ([41])والقائل عز  وجل   –: ) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( ([42])والقائل: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ َ (([43]) فالقسمة ثُنَاِئيَّة: إما حق؛ وإما باطل، إما استجابة لمنهج السلف؛ وإما اتباع الأهواء: ) وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (([44]) وقد قيل فيمن يغتر ببضاعته المزجاة:

سوف يُرى إذا انجلى الغبارُ      أفـرس تحتـك أم حمـارُ

4ـــ هناك من تخدعه جمهرة كثيرٍ من العوام وأشباههم، ويغتر بجحافلهم واجتماعاتهم مع ما هم فيه من اتباع الأهواء، والولاء والبراء من أجل الدنيا، إلا من رحم الله فيفتي بما يرضي العوام، وبما يمتص غضبهم وعاطفتهم، ويدعو إلى المواجهة المسلحة، ويتهم علماء الأمة وهم المرجع منذ عقود من الزمان بالضلالة والجبن، إن هذا الصنف لا يدرك سنة الله عز وجل في الفتن، ولا يعي طبيعة العوام وأشباههم، ولا الفرق بين حالهم في اليسر، وحالهم في العسر، والله المستعان.

5ــ لسان حال المدّعين تناقضَ العلماء في الفتوى: أنهم يُلْزِمون علماءنا بأن تكون فتواهم في القوة والضعف سواء، فإما أن يفتوا بالجهاد في كل الحالات ضد جميع الكفار، أو بالقعود في كل الحالات، وإلا فهم متناقضون!! ومعلوم أن هذا قياس فاسد، وفهم كاسد، والله المستعان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى –: ((… وما جاءت به الشريعة من المأمورات، والعقوبات، والكفارات، وغير ذلك: فإنه يُفْعل منه بحسب استطاعته، فإذا لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين؛ فإنه يجاهد من يقدر على جهاده، وكذلك إذا لم يقدر على عقوبة جميع المعتدين؛ فإنه يعاقب من يقدر على عقوبته…)) إلى أن قال: ((فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فالقليل من الخير؛ خير من تركه، ودفع بعض الشر خير من تركه كله))([45]) .اهـ. 

فتأمل فهم فقهاء الشريعة حقًّا واحذر الفتاوى التي تضر ولا  تنفع!!

فالعلماء إذا وجدوا من يعينهم على تحقيق مراد الله عز وجل في باب من الأبواب وإن كان المعين لهم على ذلك مشركًا فإنهم لا يتأخرون عن الـمُضِيِّ في ذلك، طالما أن المصلحة الشرعية مـتحققة أو غالبة، وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى – في ((زاد المعاد))([46]) في سياق كلامه على فوائد يوم الحديبية: ((ومنها أن المشركين، وأهل البدع، والفجور، والبغاة، والظلمة، إذا طلبوا أمرًا يُعظِّمون فيه حُرْمَةً مِنْ حرمات الله تعالى؛ أُجيبوا إليه، وأُعْطُوه، وأُعينوا عليه وإن مُنعوا غيره فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله، لا على كُفْرهم وبغيهم، ويُمنعون ما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى، مُرْضٍ له؛ أُجيبَ إلى ذلك،كائنًا من كان،   ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوضٌ لله أعظم منه...)).اهـ.

هذا هو الفقه في الدين، فإن تَغَيَّر الحال، ولم يجد العلماء المعين لهم على الحق، بل وجدوا أعداء الإسلام قد تكالبوا وتداعوا على هذه الأمة، ورأوا ضعف الأمة ووهنها؛ فإنهم لا يزيدون الطين بِلَّة، والأمة ذلة، ويمسكون عندئذ عن الكلام في ذلك، لأن كلامهم سيترتب عليه ما الله به عليم بخلاف كلام غيرهم وهم في هذا كله منطلقون من قواعد الشرع، لا من أوامر أمريكا ولا غيرها، وحسبنا الله ونعم الوكيل من التقوُّل على عباد الله وأوليائه، بغير هدى ولا كتاب منير!!

وقد قال صاحب الفضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى – جوابًا على من ذكر أن لعلماء المملكة حرسها الله وجميع بلاد المسلمين فتاوى خاطئة بسبب الضغوطات عليهم، فقال –  حفظه الله –:

وأما قوله: ((إنهم يُفْتون بسبب ضغوطات؛ فهو قول باطل، وعلماء هذه البلاد ولله الحمد هم من أبعد الناس عن المجاملات، فهم يفتون بما يظهر لهم أنه هو الحق، وهذه فتاواهم موجودة ولله الحمد ومدونة، وأشرطتهم موجودة، فليأتنا هذا المتكلم بفتوى واحدة تعمدوا فيها الخطأ بموجب ضغط، وأنهم أُجبروا على هذا الشيء!! أما الكلام والدعاوى واتهام الناس؛ فهذا لا يعجز عنه أحد، كل يقول، لكن الكلام في الحقائق!!))([47]) .اهـ.

فإن قيل: إننا نرى هؤلاء العلماء يتبعون ما جاءهم من قادتهم، فإذا جرى نزاع سياسي مع الروافض؛ فزع عبيد العبيد يعنون بذلك العلماء!! إلى ذِكْر الأدلة الكاشفة لستر الروافض، وإذا حصل انسجام سياسي بين قادتهم وقادة الروافض؛ سكتوا، أو غيَّروا كلامهم، وكذا وجدنا موقفهم مع غير الروافض!!

فالجواب: إن هذه نظرة من ساء ظنه في علماء الأمة، ولا خير في أمة يتهم صغارُها كبارَها، ويحتقر عوامُّها علماءَها، وقد سبق بيان الموقف الصحيح مجملًا ومفصلًا من العلماء، ومع ذلك؛ فسأجيب على هذه الشبهة إن شاء  الله تعالى – فأقول:

إذا اختلف قادة السنة السياسيون مع قادة الروافض، وبَيَّن العلماء عقيدة الروافض في هذه الحالة فالمقام لا يخلو من فائدة، ولا عيب على من كان عمله مفيدًا للإسلام والمسلمين، و((الأعمال بالنيات))، فلماذا لا تحملون ذلك الصنيع من العلماء الكبار إلا على القصد السيئ ؟!

فإذا اتفق القادة مع قادة الروافض من الناحية السياسية، فالمقام لا يخلو من حالتين:

الأولى: أن يكون القادة السياسيون من أهل السنة مصيبين في هذا الاتفاق، وأن المصلحة من ورائه راجحة للسنة وأهلها، سواء كانت جلبًا لمصلحة، أو درءًا لمفسدة.

وعلى ذلك: فسكوت العلماء إن سلمنا بذلك في هذه الحالة أمر يُساعد على الحفاظ على هذه المصلحة المرجوة من وراء هذا الصلح، ولا عيب عليهم في ذلك إلا عند من يسيئون بهم الظن!!- فإن المصلحة تقتضي ذلك.

الثانية: أن يكون ما فعله القادة السياسيون من الصلح على أسوأ الأحوال مخالفًا لشرع الله عز  وجل   – سواء كان ذلك في مسألة اجتهادية، أو أعظم من ذلك، فإذا رأى العلماء أن كلامهم سيأتي بشرٍّ أكبر، فسكتوا؛ فما العيب عليهم في ذلك ؟ أليس هذا موافقًا لقواعد الشريعة ؟!

ثم هل تراجعوا عن كلامهم الأول في الروافض وغيرهم ؟! هل مدحوا الروافض، ووصفوهم بوصفٍ يخالف ما عليه سلف الأمة ؟! هل يلزمهم أن يتكلموا في كل حال، سواء جرى بهذا الكلام خير أم شر؟! ألا يجوز كتمان العلم للمصلحة ؟ هل يلزم العلماء أن يأخذوا بتقديركم أنتم للمصالح والمفاسد ؟ وإلا كانوا متناقضين، يبيعون دينهم بيعًا  رخيصًا؟!

فصحَّ أن موقف العلماء حسب فهم من يعرف قَدْرَهم لم يخرج عن منهج السلف ولا أدعي عصمتهم في كل شيء إلا أن المخالفين تُغْلَق أمامهم أبواب المخارج الشرعية لمخالفهم، وتكون أضيق من سَمِّ الخياط، وما أكثر هذه المخارج إذا أُوقِفوا على أخطاء قادتهم ومنَظِّريهم وشيوخهم!! فيصدق عليهم في حق قادتهم لا في حق الراسخين من العلماء قول من قال:

وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ      جاءت محاسنه بألـف شفيع

(تنبيه): لو سلمت بما قال المخالفون في علمائنا؛ فهذا جوابي عن العلماء، ودفاعي عن عِرْضِهم وصِدْقهم وفهْمهم، إلا أنني لا أسلم لهؤلاء بأن علماءنالم يتكلموا في عقيدة الروافض وغيرهم إلا في الحالة التي ذكرها المخالفون، ففتاواهم وكتبهم ومجالسهم ودروسهم شاهدة بهذا كله، لكن سوء الظن يقلب الحقائق، ويجعل الحسَن قبيحًا، والله المستعان، وصدق من قال:

أتانا أن سهـلًا ذم جهلًا       علومًا ليس يدريهن سهلُ

علومًا لو دراها ما قلاها       ولكن الرضا بالجهل سهلُ

وصدق من قال:

لو كنتَ تعلم ما أقول عَذَرْتَني       أو كنتَ تعلم ما تقول عَذَلْتُكاْ

لكنْ  جَهِلْتَ مقـالتي فعذلْتني       وعلمتُ أنك جاهلٌ  فعذَرْتُكاْ

وأختم كلامي هنا بما قاله الحافظ ابن عساكر رحمه الله – في ((تبيين كذب المفترى((([48])، فقد قال: ((وقد قيل في المثل:(لن تُعدم الحسناء ذامًّا) وقلّما انفك عصر من الأعصار من غاوٍ يقدح في الدين، ويُغوي إبهامًا، وعاوٍ يُجرِّح بلسانه أئمة المسلمين، ويَعْوِي إيهامًا ،ويستـزل من العامة طوائف جهالا؛ وزعانف أغتامًا، ويحمل بجهله على سب العلماء والتشنيع عليهم سفهاء طغامًا، لكن العلماء إذا سمعوا بمكرهم؛ عَدُّوه منهم عرامًا يعني شغبًا وإذا ما مَرُّوا بِلَغْوهم في الكبار من الأئمة؛ مرُّوا كرامًا، وإذا خاطبهم الجاهلون منهم؛ قالوا سلامًا… ((إلى أن قال رحمه الله تعالى –:((واعلم أخي، وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته : أن لحوم العلماء رحمة الله     عليهم – مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء؛ أمر عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء؛ مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم؛ خُلُق ذميم، والاقتداء بما مدح الله به قول المتبعين من الاستغفار لمن سبقهم؛ وصْفٌ كريم، إذْ قال مُثْنيًا عليهم في كتابه – وهو بمكارم الأخلاق وضدها عليم : ) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاَّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( ([49])والارتكاب لنهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن الاغتياب وسب الأموات؛ جسيم) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ))([50]) .اهـ.



([1]) ((مجموع الفتاوى)) (11/43).

([2]) أخرجه البخاري برقم ( 7352) ومسلم برقم (1716).

([3]) [ الأنعام: 152 ].

([4]) [ النحل: 90 ].

([5]) [ المائدة: 8 ].

([6]) [ الشورى: 15 ].

([7]) ((مدارج السالكين)) (2/39-40).

([8]) (14/374-376)في ترجمة ابن خزيمة.

([9]) (14/39-40) في ترجمة محمد بن نصر المروزي.

([10]) (5/271) في ترجمة قتادة.

([11]) ((مجموع الفتاوى)) (11/15-16).

([12]) ((الدرر السنية))(10/57).

([13]) [ الروم: 41 ].

([14]) [ طه: 124 ].

([15]) [ الزخرف: 36 ـ 37 ].

([16]) [ المائدة: 78 ـ 79 ].

([17]) [ آل عمران: 139 ].

([18]) [ آل عمران: 165 ].

([19]) من ((الجواب الصحيح)) ( 6 / 450 ).

([20]) [ آل عمران: 155 ].

([21]) [ آل عمران: 165 ].

([22]) [ الحج: 40 – 41 ].

([23]) ((مجموع الفتاوى)) ( 11 / 645 ) نقلًا عن ((مهمات في الجهاد)) ( ص 19 – 20 ).

([24]) [ آل عمران: 165 ].

([25]) [ الشورى: 30 ].

([26]) [ غافر: 51 ].

([27]) [ الصف: 14 ].

([28]) [ النساء: 141 ].

([29]) [ آل عمران: 139 ].

([30]) [ محمد: 35 ].

([31]) ((إغاثة اللهفان)) ( 2 / 182 ) نقلًا عن ((مهمات في الجهاد)) ( ص 20 – 21 ) .

([32]) [ التغابن: 16 ].

([33]) [ البقرة: 216 ].

([34]) [الأنعام: 43 ].

([35]) [ الأعراف: 137 ].

([36]) ك/العلم , ب/ حفظ العلم برقم (120).

([37] ) أخرجه البخاري برقم (128).

([38]) (1/298).

([39]) [ المؤمنون: 71 ].

([40]) [ القصص: 50 ].

([41]) [ ق: 5 ].

([42]) [ يونس: 32 ].

([43]) [ الجاثية: 6 ].

([44]) [ الشعراء: 277 ].

([45]) ((مجموع الفتاوى)) (15/312-313).

([46]) (3/303).

([47]) نقلًا عن ((الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية)) ( ص 108 -109 ).

([48]) (ص29,27) ط/ دار الكتاب العربي.

([49]) [ الحشر: 10 ].

([50]) [ النور: 63 ].