الحافظ ابن حجر يقول : إن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها ، دل ذلك أن للحديث أصل ، فهل هذه العبارة على إطلاقها حتى لو كانت الطرق كلها لا تسلم من كذاب أو ساقط أو متروك أو نحو ذلك ممن أشتد ضعفهم ؟
لا شك؛ أننا نحمل كلام الحافظ – رحمه الله – على ما إذا كانت الطرق ليست شديدة الضعف، لأنّها لو كانت شديدة الضعف، فلا يمكن أن يقال: إنَّ كثرة الطرق تدل على أنَّ للحديث أصلا، ويحتج به، بل قد يقال: إذا انفرد الكذابون والمتروكون بحديث، أو تداوله الكذابون، هذا يرجح عندنا أنّه موضوع([2])؛ لأنَّه قد يقال: لماذا لم يروه أحد من الثقات، إنّما هو مشهور بين الكذابين فقط؟ هذا مما يؤكد لنا أنّه موضوع ومفترى على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعلى هذا يُحمل كلام الحافظ – رحمه الله -، لكن هنا مسألة لا بدّ أن نتنبه لها: فمن المحتمل؛ أنّنا نحكم على الرجل بأنّه «متروك»، لكن الحافظ – رحمه الله – لا يرى أنّه «متروك»، فيرى أنَّ كثرة الطرق حينئذٍ تنفع؛ لأنَّه يرى أنَّ الرجل ضعيف، وكذلك الاختلاف في مسألة الاستشهاد بالمنقطع، والمعضل، والمرسل، ومجهول العين له أثر في ذلك، فقد يكون المخالف ممن يقول: «لا يستشهد بمثل هذه الأشياء»، ولكن الحافظ يستشهد بها إذا كثرت الطرق وتباينت مخارجها، فينبغي أن تقيد هذه الكلمة المسؤول عنها بالحديث الذي كان الحافظ بصدده، ويجب أن ننظر هل سلّم الحافظ بأنّ مفردات هذه الأسانيد شديدة الجرح؟ إن كان كذلك – ولا أراه يكون – ففي هذه الحالة لنا أن ننتقد أو نعترض على الحافظ([3])، أمَّا أنا فأحسن الظن بالحافظ ابن حجر – رحمه الله – كيف لا؟ وهو إمام وفارس هذا الشأن، ومنه استفادت المكتبة الإسلامية والعلماء وطلاب العلم في هذا العصر وقبله، فمثل هذا لا يفوته ولا يغيب على ذهنه أنَّ الطرق شديدة الضعف لا تنجبر بكثرتها، بل وهو ممن يصرح بذلك([4]).
([1]) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في «الفتح» (8/429) تفسير سورة الحج.
([2]) قال الزيلعي في «نصب الراية» (1/359-360): وأحاديث الجهر بالبسملة وإن كثرت رواتها لكنها ضعيفة، وكم من حديث كثرت رواته، وتعددت طرقه، وهو حديث ضعيف كحديث «الطير»، وحديث «الحاجم والمحجوم»، وحديث: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً. اهـ. وانظر نحو هذا لاكلام في «الباعث الحثيث» (ص:38) للشيخ أحمد شاكر – رحمه الله تعالى -.
([3]) ومن الأمثلة على ذلك: ما ذكره الحافظ – رحمه الله تعالى – في «الفتح» (8/429) تفسير سورة الحج في الكلام على قصة الغرانيق، فقد ذكر – رحمه الله – طرق هذه القصة.
ثم قال: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إمّا ضعيف أو منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أنَّ للقصة أصلاً مع أنَّ لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه والثاني ما أخرجه أيضاً من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، وقد تجرأ أبوبكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة، باطلة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه وكذا قول عياض هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية.
ثم قال الحافظ: وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد فإنَّ الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذلك على أنَّ لها أصلاً، وقد ذكرت أنَّ ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، ثم ذهب – رحمه الله – إلى تأويل هذه القصة.
وكما قال المؤلف – حفظه الله تعالى -: فإن الحافظ لم يسلم بأن مفردات هذه الأسانيد شديدة الجرح كما صرح – رحمه الله -.
(تنبيه):
قال الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – في تعليقه على «سنن الترمذي» (2/464-465) منبهاً على ضعف قصة الغرانيق – وهي قصة باطلة مردودة، كما قال القاضي عياض، والنووي – رحمهما الله – وقد جاءت بأسانيد باطلة ضعيفة أو مرسلة، ليس لها إسناد متصل صحيح، وقد أشار الحافظ في الفتح إلى أسانيدها ولكنّه حاول أن يدّعي أنَّ للقصة أصلاً لتعدد طرقها، وإن كانت مرسلة أو واهية!! وقد أخطأ في ذلك خطأ لا نرضاه له، ولكل عالم زلّة – عفا الله عنه -.
أقول: وقد ألف فضيلة الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى – رسالة موجزة جامعة في إبطال هذه القصة وسماها «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» وألف كذلك الشيخ علي بن حسن الحلبي رسالة أخرى اسمها «دلائل التحقيق لإبطال قصة الغرانيق رواية ودراية» والله أعلم.
([4]) في «التدريب» (1/177) قال السيوطي: وأما الضعيف لفسق الراوي أو كذبه فلا يؤثر فيه موافقة غيره له إذا كان الآخر مثله، لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر، نعم يرتقي بمجموع طرقه عن كونه منكراً أو لا أصل له، صرّح به شيخ الإسلام – أي الحافظ ابن حجر – قال بل ربّما كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجة المستور السيء الحفظ، بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن. اهـ.
وفي «النزهة» (ص:68) ذكر الحافظ – رحمه الله – حديث عمر بن الخطاب: «إنّما الأعمال بالنيات…» الحديث، فقال: تفرد به علقمة عن عمر، ثم تفرد به محمد بن إبراهيم، به عن علقمة، ثم تفرد يحيى بن سعيد به عن محمد، على ما هو الصحيح المعروف عند المحدثين، وقد وردت لهم متابعات لا يعتبر بها لضعفها. اهـ.