الأسئلة الحديثية

الحديث إذا كان على شرط البخاري أو مسلم هل يكون صحيحاً؟

الحديث إذا كان على شرط البخاري أو مسلم هل يكون صحيحاً؟

هذا يذكرني بحال بعض المحققين في هذا العصر، فتراهم إذا ذكروا الحديث يقولون: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، أو على شرط البخاري ومسلم، أو رجاله رجال الصحيح، وتعريفهم لشرط البخاري بأنّه رجال البخاري، هذه مسألة فيها توسع غير مرضي، وفيها ذهول عن النقد العلمي الصحيح، فالبخاري يخرج أحاديث الثقات، ويخرج أحاديث أهل المرتبة الوسطى من التوثيق الذي هم «لا بأس بهم» وفي مرتبة «صدوق»، والذي هم أحاديثهم حسنة، ويخرج أحاديث الضعفاء الذين فيهم كلام، وإن كانت هذه نسبة قليلة في «الصحيح» كما صرّح بذلك الحافظ رحمه الله في «هدي الساري» إلا أنَّها موجودة، إذاً فالذي يقول: هذا حديث صحيح لأنَّ رجاله رجال البخاري، لا يخلو عن توسع غير مرضي.

وذلك لأنَّ المطلوب منه أن يثبت أنَّ هذا السن أخرج البخاري حديثاً في كتابه بهذا النسق، وبهذا السياق: «فلان عن فلان عن فلان» إلى منتهاه، فإن لم يكن إلا مجرد الرجال، فلا، ومن هنا دخل الوهم كما بينوا في كتب علوم الحديث على الحاكم النيسابوري رحمه الله أنَّه كان يلفق بين الأسانيد، كما في هشيم عن الزهري فهشيم والزهري لهما روايات عند البخاري وعند مسلم، فيقول الحاكم: «على شرط الشيخين» بالرغم من أنَّ البخاري ومسلماً لم يخرج أحدهما حديثاً من طريق هشيم عن الزهري، فمجرد وجود الرجل في «الصحيح» لا يكفي، بل لابد أن يكون على نسق كامل من أول السند إلى آخره في أحد «الصحيحين» أو في كتاب من يعزو إلى شرطه([1])، ومع ذلك فمع وجود هذا النسق التام، لا يلزم من ذلك الصحة، لأنّنا بعد ذلك نريد أن نعرف: كيف أخرج له البخاري مثلاً: احتجاجاً أو استشهاداً؟ ولو فرضنا أنَّه أخرج له احتجاجاً، فمع ذلك لا يلزم من ذلك الصحة، لماذا؟ لأنَّ البخاري قد ينتقي بعض أحاديث هذا الراوي، وهذا أمر موجود في النسخ التي أخرجها البخاري وأخرجها مسلم، فيتفق هو ومسلم في إخراج بعض أحاديثها، وينفرد هو بأحاديث، ومسلم بأحاديث أخرن، ثم تبقى أحاديث أخرى لا يخرجها أحدهما([2]).

نعم، هناك تفسيرات من العلماء لذلك، لكن نفهم من ذلك أنَّ صنيع صاحبي «الصحيح» ليس مجرد الوقوف على رجال السند، بل يكون بالنظر إلى المتن وشهرته، وعدم مخالفته للأصول، مع قرائن أخرى لا تخفى على العاملين في هذا الميدان، ولذلك كان علماء الحديث يحكمون على الحديث بالضعف، وإن كان سنده ظاهره الصحة، لما يرونه في المتن مما يوجب ضعفه، فالمقصود أن صاحب «الصحيح» قد يخرج عن الرجل احتجاجاً، ويخرج بعض أحاديثه، لا كل أحاديثه، فلا يلزم من وجود هذا الإسناد بكامله في «صحيح البخاري» مثلاً، في باب الاحتجاج والأصول لا في الشواهد والمتابعات أن يحتج برواته مطلقاً، كما سبق من أنَّ البخاري قد ينتقي من حديثه ما يعلم أنَّ له أصلاً، أو أنَّه توبع عليه، أو روى عنه من أصل كتابه، أو غير ذلك من القرائن، وقد تكون هذه القرائن غير متوفرة في الحديث الذي هو خارج «الصحيح»، فعلى هذا أقول: إنَّ صنيع بعض المحققين في هذا العصر، لا سيما الذين هم ليسوا متخصصين في هذا الشأن، لا تطمئن له النفس غالباً، وعلى هذا فمن يصحح الحديث لمجرد أنَّه على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، أو على شرط الشيخين، دون مراعاة لهذه الضوابط، فقد خالف أسلوب النقد العلمي، فإخراج البخاري رحمه الله لرجل في «صحيحه» ليس كقوله إذا سئل عنه فقال: «ثقة»([3])، أمَّا الحديث الذي أخرجه له، فلا شك أنَّه يحتج به في ذلك الموضع، إلا أنَّ إخراجه في «الصحيح» رافع للجهالة، فإذا لم يكن في الرجل جرح، وهو في رجال الصحيح قُبِلَ حديثه في «الصحيح»، ومن نظر في «التقريب» علم أنَّ الحافظ رحمه الله أحياناً يترجم بقوله: «مقبول» لمن أخرج له مسلم رحمه الله وأحياناً يزيد على ذلك.



([1]) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى -: ووراء ذلك كله أن يروى إسناد ملفق ممن رجالهما كسماك عن عكرمة عن ابن عباس، فسماك على شرط مسلم فقط، وعكرمة انفرد به البخاري، والحق أنّ هذا ليس على شرط واحد منهما.

وأدق من هذا أن يرويا عن أناسٍ ثقات ضعفوا في أناس مخصوصين من غير حديث الذين ضعفوا فيهم، فيجيء عنهم حديث من طريق من ضعفوا فيه، برجال كلهم في الكتابين وأحدهما فنسبته أنَّ على شرط من خرج له غلط، كأن يقال في هشيم عن الزهري: وكل من هشيم والزهري أخرجا له، فهو على شرطهما، فيقال: بل ليس على شرط واحد منهما؛ لأنّهما إنّما أخرجا لهشيم من غير حديث الزهري، فإنّه ضعف فيه؛ لأنّه كان دخل إليه فأخذ منه عشرين حديثاً فلقيه صاحب له وهو راجع فسأله روايته وكان ثم ريح شديدة فذهبت بالأوراق من الرجل فصار هشيم يحدث بما علق منها بذهنه، ولم يكن أتقن حفظها فوهم في أشياء منها، ضعف في الزهري بسببها، وكذا همام ضعيف في ابن جريج مع أنَّ كلاً منهما أخرجا له، لكن لم يخرجا له عن ابن جريج شيئاً، فعلى من يعزو إلى شرطهما أو شرط واحد منهما أن يسوق ذلك السند بنسق رواية من نسب إلى شرطه، ولو في موضع من كتابه وكذا قال ابن الصلاح في شرح مسلم: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في «صحيحه» بأنّه من شرط الصحيح فقد غفل وأخطأ بل ذلك متوقف على النظر في كيفية رواية مسلم عنه، وعلى أي وجه اعتمد عليه… اهـ، من نقل السيوطي عنه، كما في «التدريب» (1/129).

وفي «النكت» (1/314-315) قال الحافظ رحمه الله -، وقد قسم «المستدرك» إلى أقسام:

أن يكون إسناد الحديث الذي يخرجه محتجاً برواته في «الصحيحين» أو أحدهما على صورة الاجتماع سالماً من العلل، واحترزنا بقولنا على صورة الاجتماع عما احتجا برواته على صورة الانفراد كسفيان بن حسين عن الزهري، فإنّهما احتجا بكل منهما على الانفراد، ولم يحتجا برواية سفيان بن حسين عن الزهري، لأنّ سماعه من الزهري ضعيف دون بقية مشايخه.

فإذا وجد حديث من روايته عن الزهري لا يقال على شرط الشيخين لأنّهما احتجا بكل منهما بل لا يكون على شرطهما إلا إذا احتجا بكل منهما على صورة الاجتماع، وكذا إذا كان الإسناد قد احتج كل منهما برجل منه ولم يحتج بآخر منه كالحديث الذي يروى عن طريق شعبة مثلاً عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإنَّ مسلماً احتج بحديث سماك، إذا كان من رواية الثقات عنه ولم يحتج بعكرمة واحتج البخاري بعكرمة دون سماك، فلا يكون الإسناد والحالة هذه على شرطهما حتى يجتمع فيه صورة اللاجتماع، وقد صرَّح بذلك الإمام أبو الفتح القشيري وغيره. اهـ.

([2]) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «النكت» (1/315-316): (واحترزت بقولي أن يكون سالماً من العلل بما إذا احتجا بجميع رواته على صورة الاجتماع إلا أنَّ فيهم من وصف بالتدليس أو اختلط في آخر عمره فإنّا نعلم في الجملة أن الشيخين لم يخرجا من رواية المدلسين بالعنعنة إلا ما تحققا أنّه مسموع لهم من جهة أخرى، وكذا لم يخرجا من حديث المختلطين عمن سمع منهم بعد الاختلاط إلا ما تحققا أنّه من صحيح حديثهم قبل الاختلاط فإذا كان كذلك لم يجز الحكم للحديث الذي فيه مدلس قد عنعنه أو شيخ سمع ممن اختلط بعد اختلاطه؛ بأنّه على شرطهما وإن كانا قد أخرجا ذلك الإسناد بعينه إلا إذا صرح المدلس من جهة أخرى بالسماع وصح أن الراوي سمع من شيخه قبل اختلاطه فهذا القسم يوصف بكونه على شرطهما أو على شرط أحدهما.

الثاني أي من الأقسام في «المستدرك»: أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته لا على سبيل الاحتجاج بل في الشواهد والمتابعات والتعاليق أو مقروناً بغيره، ويلتحق بذلك ما إذا أخرجا لرجل وتجنبا ما تفرد به أو ما خالف فيه كما أخرج مسلم من نسخة العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ما لم يتفرد به.

فلا يحسن أن يقال: إنَّ باقي النسخة على شرط مسلم؛ لأنَّه ما خرج بعضها إلا بعد أن تبين أنَّ ذلك مما لم ينفرد به، فما كان بهذه المثابة لا يلتحق إفراده بشرطهما. اهـ.

([3]) سبق عن ابن الصلاح رحمه الله قوله في «شرح مسلم»: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في «صحيحه» بأنّه من شرط الصحيح فقد غفل وأخطأ بل ذلك يتوقف على النظر في كيفية رواية مسلم عنه وعلى أي وجه اعتمد عليه اهـ من «التدريب» (1/129)، وفي «نصب الراية» للزيلعي (1/341-342) قال رحمه الله إن صاحبي «الصحيح» قد يخرجان لرجل عن شيخ معين؛ لضبطه حديثه، وخصوصيته به. ولم يخرجا حديثه عن غيره؛ لضعفه فيه، أو لعدم ضبطه حديثه، أو لكونه غير مشهور بالرواية عنه، أو لغير ذلك. كما أخرجا حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال، وغيره ولم يخرجا له عن عبدالله بن المثنى؛ لكونه غير معروف بالرواية عنه. إلخ. اهـ.

للتواصل معنا