الأسئلة الحديثية

كيف قُبِلَت رواية المبتدعة، مع أن هذا ينافي العدالة التي هي شرط في صحة الحديث؟

كيف قُبِلَت رواية المبتدعة، مع أن هذا ينافي العدالة التي هي شرط في صحة الحديث؟

العلماء قد اشترطوا في قبول الراوية، أن يكون الراوي عدلاً، والمتأمل في كلامهم وفي صنيعهم في قبول رواية أهل البدع والأهواء على تفاصيل في ذلك المتأمل في هذا كله يرى أنَّ العدالة عندهم أن يكون الرجل مسلماً لا يجاهر بكبيرة من جهة الشهوات، ولا يصر على صغيرة([1])؛ لأنَّ المعاصي قسمان: معاص من جهة الشهوة، ومعاص من جهة الشبهة، مثل المقالات التي اعتنقها أهل الأهواء المخالفون لأهل السنة والجماعة، وهؤلاء ما تعمدوا المعصية، إنّما هم فساق التأويل، فلو رُدَّ حديث أهل البدع لرددنا حديث كثير من الرواة([2])

وقد سبق إلى هذا الاعتراض الصنعاني رحمه الله في «توضيح الأفكار» وقال: إما أن يتنازلوا عن شرط العدالة لقبولهم رواية المبتدعة([3])، وإمَّا أن يردوا رواية المبتدعة، ولكن الحقيقة أن المتأمل في صنيع العلماء في صنيع العلماء وكلامهم يستطيع أن يقول: العدل هنا هو الذي لا يجاهر بكبيرة من جهة الشهوة لا من جهة الشبهة، ولا يصر على صغيرة، وتجد أن هذا التقسيم له وجه: فالراوي إذا كان عنده بدعة وهذه البدعة ناتجة عن تأويل، ويظن أنَّ هذا هو الأتقى لله عزّ وجلّ، وأنه الأقرب إليه سبحانه، وأنّه يتعبد بهذه المقالة، أو بهذه العقيدة، وقد يكون من جملة بدعته؛ أنَّ الذي يكذب يكون كافراً، كالخوارج مثلاً، فمثل هؤلاء نأمن من تعمدهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي نفس الوقت فهم أهل ضبط، فَرَدُّ روايات هؤلاء في الحقيقة، يكون رداً لبعض السنة، وإن رددنا روايات المبتدعة، رددنا كثيراً من السنة، لكن لا نغفل عن أنَّ بعض أهل البدع يستجيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونصرة لباطلهم، أو لأسباب أخرى، فهؤلاء لا يقبل حديثهم ولا كرامة، وللعلماء تفصيل في رواية المبتدعة فيرجع إليه([4])،

ومن تعريف العلماء للعدالة أن يكون سالماً من اسباب الفسق، وخوارم المروءة([5])، وقد بان لنا أنَّ المقصود بالفسق الراجع للشهوة وكذا خوارم المروءة التي يكون مآلها إلى الاستهانة بالراوية، واستجازة الكذب في الراوية، لأي سبب من الأسباب، أمَّا إذا كنّا في بلد نعد شيئاً ما خارماً للمروءة، وهذا عند أجل بلد أخرى ليس كذلك، فلا تخرم مروءة ذاك الآخر، بفعل ذلك الشيء، والمتأمل في هذا يجد أنَّ العلماء يدورون مع وجود الثقة والاطمئنان وغلبة الظن؛ على أنَّ الراوي لم يستهن بالراوية، ولم يتعمد القول على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما لم يقل، فإن جمع مع ذلك الضبط، فالنفس تطمئن إلى روايته، والله أعلم.



([1]) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «النزهة» (ص:83): والمراد بالعدل، من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة. وانظر الكفاية (ص:136) باب «الكلام في العدالة وأحكامَها». اهـ.

([2]) يدل على ذلك قول الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في «الميزان» (1/118) ترجمة أبان بن تغلب الكوفي، قال فيه الذهبي: شيعي جلد، لكنّه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته، وقد وثّقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي، وقال السعدي، زائغ مجاهر، فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟.

وجوابه: أنَّ البدعة على ضربين: فبدعة صغى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو، ولا تحرف فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو ردَّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيِّنة.

ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضاً فما استحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم فكيف يُقبل نقل من هذا حاله! حاشا وكلا.

فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلّم في عثمان، والزبير، وطلحة، ومعاوية، وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه -، وتعرّض لسبهم، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضاً فهذا ضال مغتر، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً بل قد يعتقد علياً أفضل منهما. اهـ.

([3]) انظر «توضيح الأفكار» (2/233-234).

([4]) في «شرح علل الترمذي» للحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى (ص:64) قال:

وهذه المسألة قد اختلف فيها قديماً وحديثاً وهي الراوية عن أهل الأهواء والبدع، فمنعت طائفة من الراوية عنهم، كما ذكره ابن سيرين، وحكى نحوه عن مالك وابن عيينة والحميدي، ويونس بن إسحاق، وعلي بن حرب، ورخصت طائفة في الراوية عنهم إذا لم يتهموا بالكذب منهم أبو حنيفة والشافعي ويحيى بن سعيد، وعلي بن المديني.

وفرقت طائفة أخرى بين الدّاعية وغيره فمنعوا الراوية عن الدّاعية إلى البدعة دون غيره، منهم ابن المبارك، وابن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وروى أيضاً عن مالك… إلخ، وهناك أقوال أخرى.

وقد رجح المؤلف حفظه الله -: من ذلك قول من قال بجواز الراوية عن المبتدع إذا كان ممن لا يستجيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن داعية إليها على تفاصيل في ذلك، وهناك أدلة كثيرة تدل على ذلك منها:

قول الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في «الميزان» (1/5) ترجمة أبان بن تغلب الكوفي: شيعي جلد لكنّه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته، وقد وثّقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم وأورده ابن عدي، وقال: كان غالباً في التشيع، وقال السعدي: زائغ مجاهر، فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان، فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟.

وجوابه: أنَّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو، ولا تحرق، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيِّنة. اهـ، وقد سبق ذلك بكامله.

وقد دلَّ على ذلك أيضاً كلام كثير من السلف ففي «السير» (5/278)، (6/387)، قال علي بن المديني: قلت ليحيى القطان: أنَّ عبدالرحمن قال: أنا أترك من أهل الحديث كل رأسٍ في بدعة فضحك يحيى وقال: كيف تصنع بقتادة؟ كيف تصنع بعمر بن ذرّ؟ كيف تصنع بابن أبي رواد؟! وعد يحيى قوماً أمسكت عن ذكرهم ثم قال يحيى: إن ترك هذا الضرب ترك حديثاً كثيراً».

وفي المصدر نفسه (4/186) قال الجوزجاني:

كان قوم يتكلمون في القدر، احتمل الناس حديثهم لما عرفوا من اجتهادهم في الدين والصدق، والأمانة، ولم يتوهم عليهم الكذب، وإن بلوا بسوء رأيهم، منهم معبد الجهني، وقتادة، ومعبد رأسهم.

وفي «الكفاية» (ص:206-209) قال ابن المديني: لو تركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة، لذلك الرأي، يعني: التشيع، خربت الكتب.

قال الخطيب قوله: خربت الكتب، يعني: لذهب الحديث، وفيها كذلك عن الحسين بن إدريس قال: سألت محمد بن عبدالله الموصلي عن علي بن غراب، فقال: كان صاحب حديث بصيراً به، قلت: أليس هو ضعيف؟!! قال: إنّه كان يتشيع، ولست أنا بتارك الراوية عن رجل صاحب حديث ويبصر الحديث بعد ألا يكون كذوباً للتشيع، أو القدر ولست براوٍ عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله، ولو كان أفضل من فتح، يعني: الموصل، وذكره كذلك ابن رجب في «شرح العلل» (ص:206).

وفي «الكفاية» عن يحيى بن معين قيل له: إن أحمد بن حنبل قال: إنَّ عبيدالله بن موسى يرد حديثه للتشيع، قال: كان والله الذي لا إله إلا هو عبدالرزاق أغلى في ذلك منه مائة ضعف، ولقد صمعت من عبدالرزاق أضعاف أضعاف ما سمعت من عبيدالله… إلخ ما أورد الخطيب رحمه الله -.

وأمَّا مذهب من ردها على الإطلاق فقد رده كثير من المحققين، قال ابن الصلاح رحمه الله والقول بالمنع مطلقاً بعيد، مباعد للشائع عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة، ففي «الصحيحين» من حديثهم في الشواهد والأصول كثير والله أعلم.

وما ذهب إليه رحمه الله في التفرقة بين الداعية وغير الداعية معترض عليه كذلك فقد تعقبه الحافظ ابن كثير كما في «علوم الحديث» (ص:75) فقال:

قلت: وقد قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنّهم يرون الشهادة، بالزور لموافقيهم.

فلم يفرق الشافعي في هذا النص بين الداعية وغيره، ثم ما الفرق في المعنى بينهما؟ وهذا البخاري قد خرج لعمران بن حطان الخارجي مادح عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي، وهذا من الدعاة إلى البدعة، والله أعلم.

وقد علق على ذلك العلامة أحمد شاكر في الحاشية بتعليق ماتع ثم قال: والعبرة في الراوية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه، والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيراً من أهل البدع موضعاً للثقة والاطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم، ثم نقل رحمه الله كلام الذهبي في أبان بن تغلب وقد سبق ذكره.

أقول: وقول العلامة أحمد شاكر: «وإن رووا ما يوافق رأيهم» يرد به على قول من فرق بين رواية المبتدع فيما وافق المذهب أي في الظاهر أو لم يوافقه.

وقد فصل العلامة محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في هذه المسألة بتفصيل طيب فقال: «ما دام أن الراوي ثقة فروايته صحيحة سواء كان فيما يؤيد مذهبه أو لا لأنَّ مذهبه ينقسم إلى قسمين: مذهب قد لا ينافي مذهب أهل السنة، ومذهب قد ينافي مذهب أهل السنة في الحالة الأولى ينبغي أن نأخذ روايته على القيد المشهور فيما إذا ما روى شيئاً لا يخالف مذهب أهل السنة كالمثال الذي ذكرته في حبيب بن أبي ثابت، يأتي الإشكال بالنسبة للذين يشترطون ألا يروى ما يؤيد مذهبه؛ لأنّه في هذا المثال لا يخالف ما عليه أهل السنة، وفضائل عليّ كثيرة وكثيرة جداً، فيما إذا افترضنا أنَّ هذا الثقة روى حديثاً يؤيد فيه مذهبه الذي يخالف ما عليه أهل السنة حينذاك فمجال الغمز في هذه الراوية لا ينحصر فقط في كونه مبتدعاً هناك باب النكارة، والشذوذ. اهـ.

من أسئلة شيخنا أبي الحسن حفظه الله للشيخ الألباني. اهـ.

والمثال الذي عناه الشيخ في كلامه هو ما ذكره في حاشية «التنكيل» (ص237) وهو ما رواه مسلم من طريق الأعمش عن عدي بن ثابت عن زر قال: قال علي: «والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليَّ أنَّه لا يحبّني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق»، عدي، قال فيه ابن معين: شيعي مفرط، وقال أبو حاتم: صدوق وكان إمام مسجد الشيعة وقاصهم وعن الإمام أحمد: «ثقة إلا أنّه كان بتشيع» وعن الدارقطني ثقة إلا أنّه كان غالباً في التشيع، وثّقه آخرون، ويقابل هذا رواية قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص، عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جهاراً غير سر يقول: «ألا إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنّما وليي الله وصالح المؤمنين إن لهم رحماً سأبلها ببلاها» ورواه غندر عن شعبة، بلفظ: «إن آل أبي…» ترك بياضاً، وهكذا أخرجه الشيخان وقيس ناصبي منحرف عن علي رضي الله عنه اهـ.

هذا وقد سبق أنَّ هذا القول هو قول الإمام الشافعي رحمه الله كما عزاه الخطيب إليه وحكاه كذلك عن ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، وأبي حنيفة.

بل حكاه الحاكم في «المدخل» عن أكثر أئمة الحديث، وقال الفخر الرازي في «المحصول» إنّه الحق ورجَّحه ابن دقيق العيد، انظر «توضيح الأفكار» للصنعاني (ص:145).

وغالب ما ذكرته من أدلة في هذه المسألة هو مما استفدته من شيخي الفاضل أبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني حفظه الله تعالى ورعاه وأمدَّ في عمره ونفع به الإسلام والمسلمين وجزاه الله عني وعن طلبة العلم خير الجزاء -.

وانظر في هذا المبحث «مقدمة صحيح مسلم» و«الكفاية» (194-210) و«شرح العلل» لابن رجب (1/356-358) و«الموقظة» للذهبي (ص:85-87)، و«الميزان» (1/5)، و«السير» المواضع السابقة، و«النزهة»، للحافظ ابن حجر (ص:136-138)، و«هدي الساري» (ص:385) و«تدريب الراوي» (1/324-329) و«البحر المحيط» للزركشي (4/269-272) و«توضيح الأفكار» (2/233-235) و«التنكيل» للمعلمي (ص:228-229)، والله أعلم.

([5]) قال الصنعاني رحمه الله في «توضيحه» (2/118): المروءة ضبطها ملا علي قاري في حاشيته بقوله: والمروءة بضم الميم والراء بعدها واو ساكنة ثم همزة، وقد تبدل وتدغم وهو كمال الإنسان من صدق اللسان واحتمال عثرات الإخوان، وبذل الإحسان إلى أهل الزمان، وكف الأذى عن الجيران.

وقيل: المروءة: التخلق بأخلاق أمثاله وأقرانه، في لبسه ومشيه، وحركاته وسكناته وسائر صفاته.

وفي المفاتيح: خوارم المروءة كالدباغة والحياكة والحجامة ممن لا يليق به من غير ضرورة، وكالبول في الطريق وصحبة الأرذال، واللعب بالحمام، ونحو ذلك ومجملها الاحتراز عما يذم به عرفاً. اهـ.

وفي «الكفاية» للخطيب (182) وقد قال كثير من الناس، يجب أن يكون المحدث والشاهد مجتنبين لكثير من المباحات نحو: التبذل، والجلوس للتنزه في الطرقات والأكل في الأسواق، وصحبة العامة الأرذال، والبول في قوارع الطرقات، والبول قائماً، والانبساط إلى الخرقة في المداعبة والمزاح، وكل ما قد اتفق على أنّه ناقص القدر والمروءة ورأوا أنَّ فعل هذه الأمور يسقط العدالة، ويجب رد الشهادة… إلخ اهـ

للتواصل معنا