إذا خالف الثقة من هو أوثق منه، فروى الحديث مرفوعاً – مثلاً – وأوقفهُ الثقة الحافظ أو ثقات فأكثر، فهل ترد رواية الثقة مطلقاً، أم تقبل مطلقاً؟
من المعلوم أنَّ الحديث الشاذ: هو الحديث الذي يخالفُ فيه المقبول من هو أوثق منه، والمقبول يشمل راوي الصحيح وراوي الحسن، وقولهم: «من هو أوثق منه» أي: لمزيد ضبط وإتقان، أو لكثرة عدد في الرواة.
فإذا خالف المقبول من هو أوثق منه، يُرَدُّ حديثه – في غالب الأحيان -؛ لأنَّ قول الأحفظ أو الأكثر؛ مقدم على من هو دونه في الحفظ أو العدد.
لكن بالاستقراء ظهرت ليّ حالات يَقْبل فيها العلماءُ قول الثقة، وقولمنهو أوثق منه حفظاً أو عدداً، ويحملون الحديث فيها على الوجهين، ومعرفة هذه الحالات ما لا يخفى نفعه، والأصل في ذلك أنَّ العلماء لا يحكمون بحكم واحد على كل الأحاديث، بل كل حديث له دراسة تليق به، فهم يعلُّون رواية الضعيف إذا زاد رجلاً – مثلاً – ويُحمل ذلك على أنَّه وَهِمَ؛ فأسند ما أرسله غيره، ومع ذلك فقد يقبلون الزيادة من الضعيف، ويستدلون بوجود الزيادة على أنّه حفظ وأتقن؛ لأنَّ النقص كان أسهل عليه، كما جاء في «العلل» للرازي (1/171/488): سألت أبي عن حديث رواه النعمان بن المنذر، عن مكحول، عن عنبسة عن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من حافظ على ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بُني له بيت في الجنة»؛ فقال أبي: لهذا الحديث علة: رواه ابن لهيعة عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن مولى لعنبسة بن أبي سفيان، عن عنبسة، عن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, قال أبي: هذا دليل (على أن مكحولاً) لم يلْق عنبسة، وقد أفسده رواية ابن لهيعة، قلت لأبي، لمَ حكمت برواية ابن لهيعة؟ فقال: لأنَّ في رواية ابن لهيعة زيادة رجل، ولو كان نقصان رجل كان أسهل على ابن لهيعة حفظه، اهـ.
فالعلماء لهم في كل حديث قرائن، تحملهم على القول بقبوله أو إعلاله، ومن الخطأ الجسيم أن يُفْهَم أن هذا تناقض واضطراب، أو اتباع لهوى، ومن ظن بالعلماء كذلك فهو أعمى، وقد ضلّ من كانت العميان تهديه.
وهذه الحالات التي يُقبل فيها قول المقبول مع قول من هو أوثق منه:
1 – إذا كان المخالِفُ أحد الأئمة المشاهير، فلا يردُّون قوله – في مواضع كثيرة – مثال ذلك: ما جاء في «العلل» للدارقطني (5/251-252/861): وسئل عن حديث مسروق عن عبدالله: سأل قوممناليهود رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الروح، فسكت، فظننا أنّه يُوحى إليه، ثم قال: (وَيَسئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ من أمرِ رَبِي) الآية.
فقال: يرويه عبدالله بن إدريس عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله، وخالفه وكيع وعيسى بن يونس وعلي بن مسهر، فرووه عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله، وهو المشهور، ولعلهما صحيحا، وابن إدريس من الأثبات، ولم يتابَع على هذا القول، اهـ.
وقد يقفون في الجميع، فلا يرجحون شيئاً كما في «العلل» للدارقطني (4/393-394/652).
2 – إذا كان المخالف له مزية في الشيخ المختلف عليه، قُبل قولُهُ أيضاً، كما في «العلل» للدارقطني (7/206-211/1295) ذكر حديث أبي موسى: «لا نكاح إلا بولي» وذكر أنَّ شعبة والشوري أرسلاه، عن أبي إسحاق السَّبيعي، وأسنده إسرائيل عن أبي إسحاق، ثم قال: وإسرائيل من الحفاظ عن أبي إسحاق، قال عبدالرحمن بن مهدي: كان إسرائيل يحفظ حديث أبي إسحاق، كما يحفظ سورة الحمد، قال: ويشبه أن يكون القولُ قوله، وأنَّ أبا إسحاق كان رسما أرسله، فإذا سئل عنه وصله، اهـ.
وفي (5/335/929) قال: وسئل عن حديث أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»؛ فقال: يرويه سليمان التيمي عن أبي عمرو، ورفعه عنه ابنهُ معتمر، ووقفه يحيى القطان وحماد بن سلمة، ورفعه صحيح، اهـ.
ولعل ذلك لما لمعتمر من مزية في أبيه؛ لأنَّهمنأهل بيته، والله أعلم.
وبنحوه في «العلل للدارقطني» (2/187-188/209) وبنحو ذلك حكم أبو حاتم على رواية همام عن قتادة، مخالفاً لشعبة عن قتادة، وحمل الحديث على الوجهين، وقال: همام أعلم بحديث قتادةمنشعبة، انظر «العلل للرازي» (1/482-483/1445).
والراوي إذا كان له مزية في شيخ بعينه؛ فهو بمنزلة الثقة الحافظ إذا روى عن ذلك الشيخ، وإن لم يكن كذلك في غيره.
وفي «العلل» للرازي (2/54/1647) رجح أبو زرعة رواية محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، على رواية وكيع عن يزيد، فقال: حديث محمد بن يزيد أشبه عن أبيه؛ لأنّه أفهم لحديث أبيه، أن كان كتب أبيه عنده، اهـ.
فأنت تراه رجح رواية محمد على وكيع الإمام المشهور، وهذا أقوى في الدلالة من قبول القولين.
3 – إذا كان الراوي المخالف روى نفس رواية من هو أوثق منه، ثم انفرد برواية أُخرى، دل ذلك على أنه حفظ ما حفظ غيره، وزاد عليهم، فروى ما لم يروه غيره، وذلك كله بشرط أن يكون الوجهان محفوظين عنه.
مثال ذلك:
· ما جاء في «العلل» للرازي (1/133/367): سألت أبي عن حديث رواه ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عطاء بن يسار عن رجلمنالأنصار – من بني بياضة -: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مجاور في المسجد، فوعظ الناس وحذّرهم، وقال: «المصلي يناجي ربّه لا يجهر بعظكم على بعض بالقرآن» وروى ابن الهاد – أيضاً على إثر ذلك – عن محمد بن إبراهيم عن أبي حازم – مولى الغفاري -، أنَّه حدثه هذا الحديث البياضيُّ عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال أبو محمد: قال أبي: لولا أن ابن الهاد جمع الحديثين، لكنا نحكم لهؤلاء الذين يروونه، اهـ – أي: يروونه بخلاف روايته -، اهـ، وانظر (1/263/776)، وانظر «العلل» للدارقطني (6/40-43/965).
وقد قال ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (2/838) بعد أن ذكر حديث عبدالله بن إدريس في الروح؛ قال: ومما يشهد لصحة ذلك: أن ابن إدريس روى الحديث بالإسناد الأول أيضاً، وهذا مما يستدل به الأئمة كثيراً على صحة رواية من انفرد بالإسناد، إذا روى الحديث بالإسناد الذي روى به الجماعة…، اهـ وانظر (2/840)، وانظر «الموقظة» (ص:53) للذهبي تحقيق أبي غدة في الكلام على المضطرب والمعلل.
4 – إذا روى الثقة الحديث بوجه، ورواه الثقات بوجه آخر، فجاء ثقة آخر وروى الحديث بالوجهين، دلّ ذلك على صحة الوجهين، مثال ذلك:
ما جاء في «العلل» للرازي (1/165/469): سألت أبي عن حديث رواه مالك وابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه سئل عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال: «أوكلكم يجد ثوبين»، ورواه سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: كلاهما صحيح، قد روى عُقيل عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جميعهما، اهـ.
وفي «العلل» للدارقطني (6/73-79/988) ذكر حديثاً… وفيه: واختلف عن الأعمش: فرواه عبيدة بن حميد عن الأعمش عن الحكم – وحده -، عن ميمون عن معاذ، وخالفه عبدالله بن إدريس، وأبو إسحاق الفزاري، فروياه عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شيب، ورواه جرير بن عبدالحميد، عن الأعمش، عن الحكم وحبيب، عن ميمون، عن معاذ فصحّ القولان، عن الأعمش، اهـ.
وفي (6/112-114/1012) ذكر حديثاً… وفيه: حدث به شعبة، واختلف عنه: فرواه محمد بن كثير وغير واحد عن شعبة عن عثمان بن عبدالله بن موهب عن موسى بن طلحة، ورواه غندر وبدل بن المحبر وأبو الوليد وعبدالصمد، عن شعبة عن محمد بن عثمان بن عبدالله بن موهب عن موسى، ورواه بهز بن أسد عن شعبة بتصحيح الوجهين جميعاً، فقال: عن محمد بن عثمان وأبيه عثمان (عن) موسى…، اهـ.
5 – إذا كان الراوي المختلف عليه واسع الحديث، فتحمل رواية الثقة عنه، ورواية من هو أوثق منه على الصحة؛ لأنَّ الشيخ المكثر؛ يُتَوقَّع في حقّه أن يكون قد حفظ الحديث على أكثر من وجه، وحدث بعض تلاميذه بهذا، والبعض الآخر بذاك، وليس ذلك لكل ثقة، إنّما هذا في حق المشاهير الأثبات.
وبنحو ذلك قال ابن رجب، في «شرح علل الترمذي» (2/838).
قلت:
ومن الأمثلة على ذلك:
· ما جاء في «العلل» للرازي (2/50/1634): سألت أبي عن حديث اختلف على أبي إسحاق الهمداني: رواه زهير عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود، وروى الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله أنّه قال: «من قرأ القرآن؛ فليتعلم الفرائض…»؛ وذكر الحديث، فسمعت أبي يقول: كلاهما صحيح، كان أبو إسحاق واسع الحديث، اهـ.
وجاء في «فتح الباري» (13/15) الحديث (7061) ذكر الحافظ أنَّ يونس بن يزيد وشعيب بن أبي حمزة والليث وابن أخي الزهري رووا الحديث عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبي هريرة، وخالفهم معمر، فرواه عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبي هريرة، وخالفهم معمر، فرواه عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، وصنيع البخاري يقتضي أنَّ الطريقين صحيحان؛ فإنَّه وصل طريق معمر هنا، ووصل طريق شعيب في كتاب «الأدب»، وكأنَّه رأى أنَّ ذلك لا يقدح؛ لأنَّ الزهري صاحب حديث، فيكون الحديث عنده عن شيخين، ولا يلزم من ذلك اطراده في كل من اخُتِلف عليه في شيخه، إلا أن يكون مثل الزهري في كثرة الحديث والشيوخ، ولولا ذلك لكانت رواية يونس ومن تابعه أرجح، وليست رواية معمر مدفوعة عن الصحة لما ذكرته اهـ وانظر (هدي الساري» (ص:381) الفصل الثامن ك/ الفتن، الحديث الثاني بعد المائة.
6 – إذا احتف حديث الثقة بقرائن خارجية تدل على أنَّه محفوظ، وإن خالفمنهو أوثق منه، ومن هذه القرائن أن يذكر أحد الرواة في رواية الثقة المخالف قصة، فمن ذلك ما جاء في «العلل» للرازي (1/402/1203): سألت أبي عن حديث رواه أشعث بن عبدالملك عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة، «أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن التبتل» ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة «أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن التبتل» قلت: أيّهما أصح؟ قال أبي: قتادة أحفظ من أشعث، وأحسب الحديثين صحيحين؛ لأنَّ لسعد بن هشام قصة في سؤاله عائشة عن ترك النكاح – يعني: التبتل -، اهـ.
فلولا أن لسعد بن هشام قصة في هذا الباب مع عائشة، لرُجّحت رواية قتادة، وكان الحديث من مسند سمرة، لا من مسند عائشة، والله أعلم.
وذِكْر القصة في الحديث يدل على ضبط الراوي، ففي «هدي الساري» (ص: 363) الحديث الثاني والأربعون… وفيه: وفي السياق قصة تدل على أن العوام – أي ابن حوشب – حفظه، فإن فيه: اصطحب يزيد بن أبي كبشة وأبو بردة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة: أفطر، فإني سمعت أبا موسى مراراً يقول…؛ فذكره – أي: ذكر حديث: «إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً» – وقد قال أحمد بن حنبل: إذا كان في الحديث قصة، دل على أنَّ راويه حفظه، والله أعلم، اهـ.
(تنبيه):
لا يلزم مما ذكرتُ أن تكون هذه الحالات مطردة في قبولها والاعتماد عليها، فمامنحالة إلا وقد تخلَّف الحكم بالصحة مع وجود نحوها؛ وذلك لأنَّ الأئمة لهم فهم ثاقب ودراية تامة، وينظرون لكل حديث حسب ما يحتف بهمنقرائن، ولا يلزم من قبولهم لحديث ما، لأمر ما، أنَّهم يقبلون كل حديث توفر فيه هذا الأمر، كما لا يخفى على المشتغلين بهذا العلم الشريف، والله أعلم.
(تنبيه آخر): سيأتي – إن شاء الله تعالى – تفصيل القول في حكم زيادة الثقة في السؤال (217).